الموسوعة العقدية

الفَصْلُ الثَّاني: وجودُ اللهِ

إنَّ وجودَ الله عزَّ وجلَّ أمرٌ فِطْريٌّ، مغروزٌ في النَّفسِ البَشَريَّةِ.
- قال اللهُ تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا... [الأعراف: 172] .
أي: اذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حين استخرجَ ربُّك ذريَّةَ بني آدَمَ؛ بَعضَهم من ظهورِ بَعضٍ، وأخرَجَ جميعَ ذلك من صُلبِ آدَمَ؛ ليأخُذَ عليهم العَهدَ فقرَّرَهم على توحيدِه، فقال لهم: ألسْتُ أنا خالِقَكم ومَعبُودَكم؟ فقالوا: قد أقرَرْنا بذلك [296] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الأعراف)) (ص: 681). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَمَّا خلَقَ اللهُ آدمَ مَسحَ ظَهرَه، فسقَطَ مِن ظَهرِه كُلُّ نَسَمةٍ هو خالِقُها مِن ذُرِّيَّتِه إلى يومِ القيامةِ )) [297] أخرجه الترمذي (3076) واللفظ له، والبزار (8892)، والحاكم (3257). صححه الترمذي، وابن منده في ((الرد على الجهمية)) (79)، والحاكم على شرط مسلم. .
وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يقولُ اللهُ تعالى لأهوَنِ أهلِ النَّارِ عَذابًا يومَ القيامةِ: لو أنَّ لك ما في الأرضِ مِن شَيءٍ، أكنتَ تَفتَدِي به؟ فيقولُ: نعم، فيقولُ: أردتُ منك أهوَنَ من هذا وأنت في صُلبِ آدَمَ: ألَّا تُشرِكَ بي شيئًا، فأبيتَ إلَّا أن تُشرِكَ بي )) [298] أخرجه البخاري (6557)، ومسلم (2805). .
وقال ابنُ عاشور في تفسيرِ قَولِه تعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد: 20] : (المرادُ به الإيمانُ الذي أخذه اللهُ على الخَلْقِ، المشارُ إليه بقَولِه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ...، فذلك عَهْدُهم ربَّهم. وأيضًا بقَولِه: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي [يس: 60-61] ، وذلك عَهدُ اللهِ لهم بأن يعبُدوه ولا يعبُدوا غيره، فحصل العهدُ باعتبارِ إضافتِه إلى مفعولِه وإلى فاعِلِه. وذلك أمرٌ أودَعَه اللهُ في فِطرةِ البَشَرِ، فنشأ عليه أصلُهم وتقَلَّده ذُرِّيَّتُه، واستمَرَّ اعترافُهم لله بأنَّه خالقُهم. وذلك من آثارِ عَهدِ اللهِ. وطرأ عليهم بعد ذلك تحريفُ عَهدِهم، فأخذوا يتناسَون وتشتَبِهُ الأمورُ على بعضِهم، فطرأ عليهم الإشراكُ لتفريطِهم النَّظَرَ في دلائِلِ التوحيدِ، ولأنَّه بذلك العَهدِ قد أودع اللهُ في فطرةِ العُقولِ السَّليمةِ دلائِلَ الوحدانيَّةِ لِمن تأمَّل وأسلم للدَّليل،ِ ولكِنَّ المُشرِكين أعرضوا وكابروا ذلك العهدَ القائِمَ في الفطرةِ؛ فلا جَرَمَ أنْ كان الإشراكُ إبطالًا للعَهدِ ونقضًا له؛ ولذلك عُطِفت جملةُ: وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ على جملةِ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) [299] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/ 125). .
- وقال اللهُ سُبحانَه: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] .
قال ابنُ كثيرٍ: (هذا يحتَمِلُ شيئينِ: أحدُهما: أفي وجودِه شَكٌّ؟! فإنَّ الفِطَرَ شاهدةٌ بوُجودِه، ومجبولةٌ على الإقرارِ به؛ فإنَّ الاعترافَ به ضروريٌّ في الفِطَرِ السَّليمةِ... والمعنى الثَّاني: في قَولِهم: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ، أي: أفي إلهيَّتِه وتفرُّدِه بوُجوبِ العِبادةِ له شكٌّ؟! وهو الخالِقُ لجَميعِ الموجوداتِ، ولا يستحِقُّ العبادةَ إلَّا هو وَحدَه لا شَريكَ له؛ فإنَّ غالبَ الأمَم كانت مُقِرَّةً بالصَّانِعِ، ولكِنْ تعبُدُ معه غيرَه من الوَسائطِ التي يظنُّونها تنفَعُهم أو تقَرِّبُهم مِن اللهِ زُلفى) [300] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/482). .
وعن عِياضٍ المُجاشِعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال فيما يرويه عن ربِّه: ((إنِّي خَلقتُ عبادي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنَّهم أتَتْهم الشيَّاطينُ فاجتالَتْهم عن دينِهم، وحَرَّمَت عليهم ما أحلَلْتُ لهم، وأمرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنَزِّلْ به سُلْطانًا )) [301] أخرجه مسلم (2865). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما من مولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطرةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه، كما تُنتَجُ البهيمةُ بهَيمةً جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جَدْعاءَ؟ )) ثمَّ يقولُ أبو هُريرةَ: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30] [302] أخرجه البخاري (4775) ومسلم (2658). .
قال أبو الوليد الباجي: (الفِطرةُ في كلامِ العَرَبِ: الخِلْقةُ؛ يقال: فَطَر اللهُ الخَلْقَ، بمعنى: خلَقَهم، وهو في الشَّرعِ: الحالةُ التي خُلِقوا عليها من الإيمانِ والمعرفةِ والإقرارِ بالرُّبوبيَّةِ؛ فمعنى هذا الحديثِ: أنَّ كُلَّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ التي خُلِقَ عليها من الإيمانِ) [303])) يُنظر: ((المنتقى شرح الموطأ)) (2/33). .
وقال ابنُ الوزيرِ اليماني: (إنَّ اللهَ تعالى قد فَطَر الخَلْقَ على مَعرفتِه، كما قال تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30] ، وأوضح ذلك رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وزاده بيانًا بقَولِه: ((كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ))، واتَّفَق الكُلُّ على صحَّتِه، وهذه الفِطرةُ تقتضي الإيمانَ بنَفْسِها، وتُرجِّحُه على ما ينافيه... فمن قَبِلَها، ولم يُعارِضْها بما هو دُونهَا مِن شُبَهِ المُبطِلين، أثابه اللهُ الزِّيادةَ في إيمانِه، ومَن عصى بعِنادٍ أو تقليدٍ لأبَوَيه أو شُيوخِه، استحَقَّ العُقوبةَ، كما قال تعالى: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 110] ) [304] يُنظر: ((العواصم والقواصم)) (3/391). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (لا شَكَّ أنَّ الإقرارَ بالرُّبوبيَّةِ أمرٌ فِطْريٌّ، والشِّركَ حادِثٌ طارِئٌ، والأبناءُ تقَلَّدوه عن الآباءِ، فإذا احتجُّوا يومَ القيامةِ بأنَّ الآباءَ أشركوا ونحن جَرَينا على عادتِهم كما يجري النَّاسُ على عادةِ آبائِهم في المطاعِمِ والملابِسِ والمساكنِ،ِ يُقالُ لهم: أنتم كنتُم مُعترفينَ بالصَّانعِ، مُقِرِّين بأنَّ اللهَ رَبُّكم لا شَريكَ له، وقد شَهِدتُم بذلك على أنفُسِكم) [305] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/314). .
وقال ابنُ رجَبٍ: (العِبادُ وإن كانوا مَفطورينَ على مَعرِفةِ اللهِ ومحبَّته وتألُّهِه، فإنَّ كُلَّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ، وهي سلامةُ القَلبِ، وقَبولُه وإرادتُه للحَقِّ الذي هو الإسلامُ، وتهيُّؤُه له، لكِنَّهم محتاجون أشدَّ الحاجةِ إلى ما يَحمِلُ به قوَّتَهم العِلْميَّةَ والعَمَليَّةَ، وهو العلِمُ النَّافِعُ والعَمَلُ الصَّالِحُ، وبذلك يَصيرون مُسلِمينَ بالفِعلِ، بعد أن كانوا مُسلِمينَ بالقوَّةِ؛ فلذلك أرسل اللهُ الرُّسُلَ، وأنزل معهم الكُتُبَ؛ ليُرشِدوا الخَلْقَ إلى ما فيه سَعادتُهم وفَلاحُهم في دُنياهم وآخِرتِهم) [306] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (2/555). .
وقال علي القاري: (في فِطرةِ الخَلْقِ إثباتُ وُجودِ الباري... ولهذا لم يُبعَثِ الأنبياءُ إلَّا للتوحيدِ أي: توحيدِ العِبادةِ، لا لإثباتِ وُجودِ الصَّانِعِ) [307])) يُنظر: ((ضوء المعالي شرح منظومة بدء الأمالي)) (ص: 104). .
ووجودُ الله سُبحانَه ضَرورةٌ عقليَّةٌ، فلا يُمكِنُ لعَقلٍ سَليمٍ صَحيحٍ أن يُنكِرَ وُجودَه.
قال اللهُ تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35].
قال أبو الحَسَنِ الأشعريُّ: (إنَّ القُطنَ لا يجوزُ أن يتحَوَّلَ غَزلًا مفتولًا، ثمَّ ثوبًا منسوجًا بغيرِ ناسجٍ ولا صانعٍ ولا مُدَبِّرٍ، ومن اتَّخَذ قطنًا ثم انتظر أن يصيرَ غزلًا مفتولًا، ثم ثوبًا منسوجًا بغير صانعٍ ولا ناسجٍ، كان عن المعقولِ خارجًا، وفي الجَهلِ والجًا، وكذلك من قصد إلى بَرِّيَّة لم يجد فيها قصرًا مبنيًّا، فانتظر أن يتحوَّلَ الطِّينُ إلى الآجُرِّ، وينتَضِدَ بعضُه على بعضٍ بغيرِ صانعٍ ولا بانٍ، كان جاهلًا، وإذا كان تحوُّلُ النُّطفةِ عَلَقةً، ثمَّ مُضغةً، ثمَّ لحمًا ودمًا وعظمًا؛ أعظَمَ في الأعجوبةِ- كان أَولى أن يدُلُّ على صانعٍ صَنَع النُّطفةَ، ونقَلَها من حالٍ إلى حالٍ، وقد قال اللهُ تعالى: أَفَرَءَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * ءَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَه أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة: 58-59] ، فما استطاعوا أن يقولوا بحُجَّةٍ: إنَّهم يَخُلقون ما يُمْنُون، مع تمنِّيهم الوَلَدَ فلا يكونُ، ومع كراهيتِهم له فيكونُ، وقد قال اللهُ تعالى منبِّهًا لخَلْقِه على وحدانيَّتِه: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]، بَيَّن لهم عَجْزَهم وفَقْرَهم إلى صانِعٍ صَنَعَهم، ومُدَبِّرٍ دَبَّرَهم) [308])) يُنظر: ((اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع)) (ص: 18). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (قد عُلِمَ بضَرورةِ العَقلِ أنَّه لا بُدَّ مِن موجودٍ قديمٍ غنيٍّ عمَّا سواه؛ إذ نحن نشاهِدُ حُدوثَ المحدَثاتِ، كالحيوانِ والمعدِنِ والنَّباتِ، والحادِثُ ممكنٌ ليس بواجِبٍ ولا ممتَنِعٍ، وقد عُلِمَ بالاضطرارِ أنَّ المحدَثَ لا بدَّ له من محدِثٍ، والممكِنَ لا بدَّ له من واجبٍ، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35]، فإذا لم يكونوا خُلِقوا من غيرِ خالِقٍ، ولا هم الخالِقون لأنفُسِهم، تعيَّنَ أنَّ لهم خالقًا خلقَهم) [309] يُنظر: ((التدمرية)) (ص: 20). .
وقال ابنُ كثيرٍ في تفسيرِه لهذه الآيةِ الكريمةِ: (هذا المقامُ في إثباتِ الرُّبوبيَّةِ وتوحيدِ الأُلوهيَّةِ... أي: أَوُجِدُوا من غير مُوجِدٍ؟! أم هم أوجَدوا أنفُسَهم؟! أي: لا هذا ولا هذا، بل اللهُ هو الذي خلَقَهم وأنشَأَهم بعد أن لم يكونوا شيئًا مَذكورًا!) [310] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/437). .
وقال الكمالُ بنُ الهمامِ بعد أن ذَكَر جُملةً من الآياتِ في خَلْقِ الأرَضينَ والسَّمَاواتِ والإنسانِ والنَّباتِ: (فمن أدار نَظَرَه في عجائِبِ تلك المذكوراتِ اضطرَّه إلى الحُكمِ بأنَّ هذه الأمورَ مع هذا الترتيبِ المحكَمِ الغريبِ، لا يستغني كلٌّ عن صانعٍ أوجَدَه، وحكيمٍ رَتَّبه، وعلى هذا درَجَت كُلُّ العُقلاءِ إلَّا من لا عِبرةَ بمكابَرتِهم) [311])) يُنظر: ((المسايرة في علم الكلام والعقائد التوحيدية المنجية في الآخرة)) (ص: 7). .
وكونُ الخالِقِ والمَخلوقِ يَشتَرِكانِ في صِفةِ الوُجودِ لا يعني أنَّ صِفةَ وُجودِهما واحِدةٌ.
وجودُ الخالقِ غيرُ وجودِ المخلوقِ، فلكُلٍّ منهما ما يناسِبُه ويختَصُّ به، ومن ذلك أنَّ وجودَ اللهِ تعالى لم يسبِقْه عَدَمٌ، ولا يَلحَقُه زوالٌ، بخلافِ جمَيعِ المخلوقاتِ، فهي حادثةٌ بعد أن كانت عدَمًا، ثمَّ مَصيرُها في الدُّنيا إلى فَناءٍ.
قال اللهُ تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: أتت فاطمةُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تسألُه خادِمًا، فقال لها: ((قُولي: اللهمَّ رَبَّ السَّمَواتِ، وربَّ الأرضِ، ورَبَّ العَرْشِ العَظيمِ، ربَّنا ورَبَّ كُلِّ شَيءٍ، فالِقَ الحَبِّ والنَّوى، ومُنزِلَ التَّوراةِ والإنجيلِ والفُرقانِ، أعوذُ بك من شَرِّ كلِّ شَيءٍ أنت آخِذٌ بناصيتِه، اللهمَّ أنت الأوَّلُ فليس قَبْلَك شيءٌ، وأنت الآخِرُ فليس بَعْدَك شيءٌ، وأنت الظَّاهِرُ فليس فوقَك شيءٌ، وأنت الباطِنُ فليس دُونَك شيءٌ؛ اقْضِ عنَّا الدَّينَ، وأغنِنا مِنَ الفَقرِ )) [312] أخرجه مسلم (2713). .
قال ابنُ الوزيرِ اليماني عن صِفةِ الوُجودِ والحياةِ: (يُطلَقانِ على اللهِ تعالى على صِفةِ الكَمالِ الذي لا يَستلزِمُ صِفةَ نَقص،ٍ وعلى عِبادِه على وُجوهٍ تَستَلزِمُ جوازَ الفَناءِ والموتِ والمرَضِ، واعتراضَ الآفاتِ والعِلَلِ) [313] يُنظر: ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 277). .  
وقال ابنُ تيميَّةَ: (إذا كان من المعلومِ بالضَّرورةِ أنَّ في الوُجودِ ما هو قديمٌ واجبٌ بنَفْسِه، وما هو مُحدَثٌ مُمكِنٌ، يَقبلُ الوجودَ والعَدَمَ، فمعلومٌ أن هذا موجودٌ، وهذا موجودٌ، ولا يلزمُ من اتفاقِهما في مسمَّى «الوجودِ» أن يكونَ وجودُ هذا مِثلَ وُجودِ هذا، بل وجودُ هذا يخصُّه، ووجودُ هذا يخصُّه، واتفاقُهما في اسمٍ عامٍّ لا يقتضي تماثُلَهما في مُسَمَّى ذلك الاسمِ عند الإضافةِ والتَّقييدِ والتَّخصيصِ، ولا في غيرِه) [314] يُنظر: ((التدمرية)) (ص: 20). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (كلُّ من نفى صفةً من صِفاتِ اللهِ تعالى؛ لامتِناعِ مسمَّى ذلك في المخلوقِ؛ فإنَّه لا بدَّ أن يُثبِتَ شَيئًا لله تعالى على خِلافِ ما يَعهَدُه حتى في صفةِ الوُجودِ؛ فإنَّ وجودَ العَبدِ كما يليقُ به، ووجودَ الباري تعالى كما يليقُ به، فوجودُه تعالى يَستحيلُ عليه العَدَمُ، ووجودُ المخلوقِ لا يستحيلُ عليه العدَمُ، وما سمَّى به الرَّبُّ نَفْسَه وسمَّى به مخلوقاتِه، مِثلُ الحَيِّ والعَليمِ والقَديرِ، أو سمَّى به بَعضَ صِفاتِه، كالغَضَبِ والرِّضا، وسمَّى به بَعضَ صفاتِ عِبادِه؛ فنحن نعقِلُ بقُلوبِنا معانيَ هذه الأسماءِ في حقِّ اللهِ تعالى، وأنَّه حقٌّ ثابتٌ موجودٌ، ونعقِلُ أيضًا معانيَ هذه الأسماءِ في حقِّ المخلوقِ، ونَعقِلُ أنَّ بيْن المعنيينِ قَدْرًا مُشتَركًا) [315] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/686). .
وجاء في فتاوى اللَّجنةِ الدَّائِمةِ: (وجودُ الله معلومٌ من الدِّينِ بالضَّرورةِ، وهو صفةٌ للهِ بإجماعِ المسلِمينَ، بل صفةٌ لله عند جميعِ العُقَلاءِ حتى المشركينَ، لا ينازعُ في ذلك إلَّا ملحِدٌ دَهْريٌّ، ولا يَلزمُ من إثباتِ الوُجودِ صِفةً لله أن يكونَ له مُوجِدٌ؛ لأنَّ الوجودَ نَوعانِ:
الأوَّلُ: وجودٌ ذاتيٌّ، وهو ما كان وجودُه ثابتًا له في نَفْسِه، لا مكسوبًا له من غيرِه، وهذا هو وجودُ الله سُبحانَه وصفاتِه؛ فإنَّ وجودَه لم يسبِقْه عدَمٌ، ولا يلحَقُه عدَمٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] .
الثَّاني: وجودٌ حادثٍ، وهو ما كان حادِثًا بعد عَدَمٍ، فهذا الذي لا بدَّ له من مُوجِدٍ يُوجِدُه، وخالِقٍ يُحدِثُه، وهو اللهُ سُبحانَه، قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [الزمر: 62، 63]، وقال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ [الطور: 35، 36]، وعلى هذا يوصَفُ اللهُ تعالى بأنَّه موجودٌ، ويُخبَرُ عنه بذلك في الكلامِ، فيقال: اللهُ موجودٌ، وليس الوجودُ اسمًا بل صِفةٌ) [316] يُنظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (3/190). .   
ولمْ يُعرَفْ التَّظاهُرُ بإنكارِ وُجودِ اللهِ تَعالى في تاريخِ الأُممِ إلَّا عن شِرذِمةٍ قليلةٍ مُكابِرةٍ
قال الشهرستاني: (أمَّا تعطيلُ العالَمِ عن الصَّانِعِ العالِم القادِرِ الحَكيمِ، فلستُ أراها مَقالةً لأحدٍ، ولا أعرفُ عليها صاحِبَ مقالةٍ، إلَّا ما نُقِلَ عن شِرْذِمةٍ قليلةٍ مِن الدَّهريَّةِ أنَّهم قالوا: العالَمُ كان في الأزَلِ أجزاءً مَبثوثةً تتحَرَّكُ على غيرِ استقامةٍ، واصطكَّت اتِّفاقًا؛ فحصل العالَمُ بشَكْلِه الذي تراه عليه!!... ولستُ أرى صاحِبَ هذه المقالةِ مِمَّن يُنكِرُ الصَّانِعَ، بل هو مُعترِفٌ بالصَّانِعِ، لكِنَّه يُحيلُ سبَبَ وُجودِ العالَمِ على البَحثِ والاتِّفاقِ؛ احترازًا عن التَّعليلِ، فما عَدَدتُ هذه المسألةَ مِن النَّظَريَّاتِ التي يُقامُ عليها برهانٌ؛ فإنَّ الفِطَرَ السَّليمةَ الإنسانيَّةَ شَهِدَت بضَرورةِ فِطْرتِها وبَديهةِ فِكرتِها على صانعٍ حكيمٍ عالمٍ قَديرٍ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ، وإن هم غَفَلوا عن هذه الفِطْرةِ في حالِ السَّرَّاءِ فلا شَكَّ أنَّهم يلوذون إليه في حالِ الضَّرَّاءِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس: 22] ... ولهذا لم يَرِدِ التَّكليفُ بمَعرِفةِ وُجودِ الصَّانعِ، وإنَّما ورد بمَعرِفةِ التَّوحيدِ، ونَفْيِ الشَّريكِ) [317] يُنظر: ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: 74). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (أشهرُ من عُرِفَ تجاهُلُه وتظاهُرُه بإنكارِ الصَّانِعِ فِرعَونُ، وقد كان مُستيقِنًا في الباطِنِ، كما قال له موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102] ... أظهر خلافَ ما في نَفْسِه، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] ) [318] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (8/38، 440). .
وقد نشَأَت مُصطَلَحاتٌ وطُرُقٌ مُحدَثَةٌ في بابِ ثُبوتِ وُجودِ اللهِ تعالى أحدَثَتها بَعضُ الفِرَقِ المُبتَدِعةِ مِثْلُ الجَهْميَّةِ.
فقد حكى أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ مُجادَلةَ جماعةٍ مِنَ السُّمَنيَّةِ (الذين ينكِرون مِن العِلمِ ما سوى الحِسِّيَّاتِ) للجَهْمِ بنِ صَفوانَ، في وجودِ اللهِ تعالى، فسألُوه إن كان قد عَرَف اللهَ تعالى بشَيءٍ من الحواسِّ الخَمسِ، فتحيَّرَ الجَهمُ فلم يَدْرِ مَن يَعبُدُ أربعينَ يَومًا، ثمَّ استدرك حُجَّة مِثلَ حُجَّةِ زنادقةِ النَّصارى الذين يَزعُمونَ أنَّ الرُّوحَ الذي في عيسى هو رُوحُ اللهِ من ذاتِ اللهِ، فإذا أراد أن يُحدِثَ أمرًا دَخَل في بَعضِ خَلْقِه، فتكلَّم على لِسانِ خَلْقِه، فيأمُرُ بما يشاءُ، وينهى عمَّا يَشاءُ، وهو رُوحٌ غائبةٌ عن الأبصارِ، وتأوَّل بَعضَ آياتِ القُرآنِ، وكذَّب بأحاديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وزعم أن َّمن وصف اللهَ بشَيءٍ ممَّا وصَفَ به نفسَه في كتابِه أو حدَّث عنه رسولُه،  كان كافِرًا، وكان مِنَ المشَبِّهةِ، فأضلَّ بكلامِه بَشرًا كثيرًا [319] يُنظر: ((الرد على الجهمية والزنادقة)) (ص: 93)، ويُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (5/168). .
فهذه الموجاتُ الإلحاديَّةُ التي غَزَت العالَمَ الإسلاميَّ كانت من الأسبابِ التي فتحَت بابَ الجدَلِ في وُجودِ اللهِ تعالى، وفي أسمائِه وصِفاتِه، على الطَّريقةِ المُبتَدَعةِ المذمومةِ التي خالفَت مَنهَجَ الكِتابِ والسُّنَّةِ في تقريرِ هذه المسائِلِ بالطَّريقةِ الواضِحةِ الميسَّرةِ المقبولةِ.
قال ابنُ تيميَّةَ مُفَنِّدًا قَولَ من اشتَرَط النَّظَر والاستِدلالَ بالأقيِسَةِ العَقليَّةِ؛ لحُصولِ العِلمِ بالصَّانِعِ: (ليس هذا قولَ أحدٍ من سَلَفِ الأمَّة ولا أئمَّتِها، ولا قاله أحدٌ من الأنبياءِ والمرسَلينَ، ولا هو قَولُ كُلِّ المتكلِّمين، ولا غالِبِهم، بل هذا قولٌ مُحدَثٌ في الإسلامِ، ابتدعه متكَلِّمو المعتَزِلةِ، ونحوُهم من المتكلِّمين الذين اتَّفَق سَلَفُ الأُمَّة وأئمَّتُها على ذَمِّهم، وقد نازعهم في ذلك طوائِفُ من المتكَلِّمين من المُرجِئة، والشِّيعةِ، وغَيرِهم، وقالوا: بل الإقرارُ بالصَّانِعِ فِطْريٌّ ضَروريٌّ بَديهيٌّ، لا يجِبُ أن يتوقَّفَ على النَّظَرِ والاستِدلالِ، بل قد يقولون: يمتَنِعُ أن يحصُلَ بالقياسِ والنَّظَرِ، وهذا قولُ جماهيِر الفُقَهاءِ والصُّوفيَّةِ وأهلِ الحديثِ والعامَّةِ وغَيرِهم، بل قد اتَّفق سلَفُ الأُمَّة وأئمَّتُها على أنَّ مَعرِفةَ اللهِ والإقرارَ به لا تَقِفُ على هذه الطُّرُقِ التي يذكُرُها أهلُ طريقةِ النَّظَرِ) [320] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) (4/570). .

انظر أيضا: