الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الرَّابِعُ: مَتى يُقتَصُّ للمُؤمِنينَ بَعضِهم من بَعضٍ؟

عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا خَلَصَ المُؤمِنونَ من النَّارِ، حُبِسوا بقَنطَرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيَتَقاصُّونَ مَظالِمَ كانت بينَهم في الدُّنيا، حَتَّى إذا نُقُّوا وهُذِّبُوا، أُذِنَ لهم بدُخولِ الجَنةِ، فوالذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيدِه، لأحَدُهم بمَسكَنِه في الجَنَّةِ أدَلُّ بمَنزِلِه كان في الدُّنيا )) [3816] أخرجه البخاري (2440). .
قال القُرطُبيُّ: (اعلَمْ -رَحِمَك اللهُ- أنَّ في الآخِرةِ صِراطينِ: أحَدُهما مَجازٌ لأهلِ المَحْشَرِ كُلِّهم ثَقيلِهم وخَفيفِهم، إلَّا من دَخلَ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ، أو مَن يَلتَقِطُه عُنُقُ النَّارِ، فإذا خَلَصَ من خَلصَ من هذا الصِّراطِ الأكبَرِ الذي ذَكَرناه، ولا يَخلُصُ منه إلَّا المُؤمِنونَ الذينَ عِلمَ اللهُ منهم أنَّ القِصاصَ لا يَستَنفِدُ حَسَناتِهم، حُبِسوا على آخَرَ خاصٍّ لهم، ولا يَرجِعُ إلى النَّارِ مِن هؤلاء أحَدٌ إنْ شاءَ اللهُ؛ لأنَّهم قد عَبَروا الصِّراطَ الأوَّلَ المَضروبَ على مَتنِ جَهنَّمَ، الذي يَسقُطُ فيها من أوبَقَه ذَنْبُه، وأربى على الحَسَناتِ بالقِصاصِ جُرْمُه... مَعنى ((يَخْلُصُ المُؤمِنونَ من النَّارِ)) أي: يَخلُصونَ من الصِّراطِ المَضروبِ على النَّارِ. ودَلَّ هذا الحَديثُ على أنَّ المُؤمِنينَ في الآخِرةِ مُختَلِفو الحالِ) [3817] يُنظر: ((التذكرة)) (2/ 36). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (هذا القِصاصُ غَيرُ القِصاصِ الأوَّلِ الذي في عَرَصاتِ القيامةِ؛ لأنَّ هذا قِصاصٌ أخَصُّ؛ لأجلِ أن يَذهَبَ الغِلُّ والحِقدُ والبَغضاءُ التي في قُلوبِ النَّاسِ، فيَكون هذا بمَنزِلةِ التَّنقيةِ والتَّطهيرِ؛ وذلك لأنَّ ما في القُلوبِ لا يَزولُ بمُجَرَّدِ القِصاصِ.
فهذه القَنطَرةُ التي بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ؛ لأجلِ تَنقيةِ ما في القُلوبِ، حَتَّى يَدخُلوا الجَنَّةَ وليس في قُلوبِهم غِلٌّ، كما قال اللهُ تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر: 47] ) [3818] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/ 163). .
وقال أيضًا: (إذا عَبَروا على الصِّراطِ وُقِفوا على قَنطَرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيُقتَصُّ من بَعضِهم لبَعضٍ، وهذا القِصاصُ غَيرُ القِصاصِ الذي يَكونُ في عَرَصاتِ يَومَ القيامةِ، هذا القِصاصُ -والله أعلَمُ- يُرادُ به أن تَتَخَلَّى القُلوبُ من الأضغانِ والأحقادِ والغِلِّ، حَتَّى يَدخُلوا الجَنَّةَ وهم على أكملِ حالٍ، وذلك أنَّ الإنسانَ وإنِ اقتُصَّ له مِمَّنِ اعتَدى عليه، فلا بُدَّ أن يَبقى في قَلبِه شَيءٌ من الغِلِّ والحِقدِ على الذي اعتَدى عليه، ولَكِنَّ أهلَ الجَنةِ لا يَدخُلونَ الجَنةَ حَتَّى يُقتَصَّ لهمُ اقتِصاصًا كامِلًا، فيَدخُلونَها على أحسَنِ وجهٍ، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهم في دُخولِ الجَنةِ) [3819] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (1/ 470). .

انظر أيضا: