الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الأوَّلُ: كيفيَّةُ الِاقتِصاصِ يَومَ القيامةِ

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن كانت له مَظلَمةٌ لأحَدٍ من عِرْضِه أو شَيءٍ فليَتَحَلَّلْه منه اليَومَ، قَبلَ أن لا يَكونَ دينارٌ ولا دِرهَمٌ، إن كان له عَمَلٌ صالِحٌ أُخِذَ منه بقَدرِ مَظلَمَتِه، وإن لَم تَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ من سَيِّئاتِ صاحِبِه فحُمِلَ عليه )) [3792] أخرجه البخاري (2449). .
قال الخَطَّابيُّ: (مَعنى أخذِ الحَسَناتِ والسَّيئاتِ، أن يَجعَلَ ثَوابَ الحَسَناتِ لصاحِبِ المَظلَمةِ، ويَجعَلَ عُقوبةَ السَّيِّئاتِ على الظَّالِمِ بَدَلَ حَقِّه) [3793] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (2/ 1217). .
وقال الطِّيبيُّ: (والمُرادُ من ((اليَومِ)) أيَّامُ الدُّنيا لمُقابَلَتِه بقَولِه: ((قَبلَ أن لا يَكونَ دينارٌ ولا دِرهمٌ)) وهو مُعَبَّرٌ عن يَومِ القيامةِ) [3794] يُنظر: ((شرح المشكاة)) (10/ 3254). .
وقال ابنُ بازٍ: (إن لَم يَتَمَكَّن من تَحَلُّلِه من العِرْضِ فليَدْعُ له وليستَغفِرْ له، المَقصودُ التَّحذيرُ من الظُّلمِ، والتَّحَلُّلُ قَبلَ أن يَموتَ) [3795] يُنظر: ((الحلل الإبريزية)) (2/ 335(. .
وهذا الذي يَأخُذُ النَّاسُ حَسَناتِه، ثُمَّ يُقذَفونَ فوقَ ظَهرِه بسَيِّئاتِهم، هو المُفلِسُ، كما سَمَّاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أتَدرونَ ما المُفلِسُ؟)) قالوا: المُفلِسُ فينا من لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقال: ((إنَّ المُفْلِسَ من أمَّتي يَأتي يَومَ القيامةِ بصَلاةٍ وصيامٍ وزَكاةٍ، ويَأتي قد شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأكَلَ مالَ هذا، وسَفَك دَمَ هذا، وضَربَ هذا، فيُعطى هذا من حَسَناتِه، وهذا من حَسَناتِه، فإنْ فَنِيَت حَسَناتُه قَبلَ أن يُقضى ما عليه أُخِذَ من خَطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرحَ في النَّارِ )) [3796] أخرجه مسلم (2581). .
قال ابنُ عُثَيمين: (عِندَه ثَروةٌ من الحَسَناتِ لَكِنَّه يَأتي وقد شَتمَ هذا، وضَربَ هذا، وأخذَ مالَ هذا، وسَفَك دَمَ هذا، أي: اعتَدى على النَّاسِ بأنواعِ الِاعتِداءِ، والنَّاسُ يُريدونَ أخذَ حَقِّهم، ما لا يَأخُذونَه في الدُّنيا يَأخُذونَه في الآخِرةِ، فيُقتَصُّ لهم منه؛ فيَأخُذُ هذا من حَسَناتِه، وهذا من حَسَناتِه، وهذا من حَسَناتِه بالعَدْلِ والقِصاصِ بالحَقِّ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُه أُخِذَ من سَيئاتِهم فطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ، والعياذُ بالله. تَنقَضي حَسَناتُه، ثَوابُ الصَّلاةِ يَنتَهي، وثَوابُ الزَّكاةِ يَنتَهي، وثَوابُ الصِّيامِ يَنتَهي، كُلُّ ما عِندَه من حَسَناتٍ يَنتَهي، فيُؤخَذُ من سَيئاتِهم ويُطرَحُ عليه، ثُمَّ يُطرَحُ في النَّارِ، والعياذُ بالله! وصَدقَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ هذا هو المُفلِسُ حَقًّا، أمَّا مُفلِسُ الدُّنيا فإنَّ الدُّنيا تَأتي وتَذهَبُ، رَبَّما يَكونُ الإنسانُ فقيرًا فيُمسي غَنيًّا، أو بالعَكسِ، لَكِنَّ الإفلاسَ كُلَّ الإفلاسِ أن يُفلِسَ الإنسانُ من حَسَناتِه التي تَعِبَ عليها، وكانت أمامَه يَومَ القيامةِ يُشاهِدُها، ثُمَّ تُؤخَذُ منه لفُلانٍ وفُلانٍ. وفي هذا تَحذيرٌ من العُدوانِ على الخَلقِ، وأنَّه يَجِبُ على الإنسانِ أن يُؤَدِّيَ ما للنَّاسِ في حَياتِه قَبلَ مماتِه، حَتَّى يَكونَ القِصاصُ في الدُّنيا مِمَّا يَستَطيعُ، أمَّا في الآخِرةِ فليس هناك دِرهمٌ ولا دينارٌ حَتى يَفدِيَ نَفسَه، ليس فيه إلَّا الحَسَناتُ) [3797] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (2/ 528). .
والمَدِينُ الذي مات، ولِلنَّاسِ في ذِمَّتِه أموالٌ يَأخُذُ أصحابُ الأموالِ من حَسَناتِه بمِقدارِ ما لهم عِندَه.
وإذا كانت بينَ العِبادِ مَظالِمُ مُتَبادَلةٌ اقتُصَّ لبَعضِهم من بَعضٍ، فإنْ تَساوى ظُلمُ كُلِّ واحِدٍ منهما للآخَرِ، كان كفافًا لا له ولا عليه، وإن بَقيَ لبَعضِهم حُقوقٌ عِندَ الآخَرينَ أخذَها.

انظر أيضا: