الموسوعة العقدية

المَبحَثُ الثَّالِثُ: عَدَدُ النَّفَخاتِ في الصُّورِ

قال اللهُ تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل: 87] .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] .
وقال اللهُ عَزَّ وجلَّ: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس: 48 - 53] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه قال: بينَما يَهوديٌّ يَعرِضُ سِلعَتَه أُعطِيَ بها شَيئًا كَرِهَه، فقال: لا والذي اصطَفى موسى على البَشَرِ، فسَمِعَه رَجُلٌ من الأنصارِ، فقامَ فلَطمَ وَجْهَه، وقال: تَقولُ: والذي اصطَفى موسى على البَشَرِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بينَ أظهُرِنا، فذَهَبَ إليه، فقال أبا القاسِمِ، إنَّ لي ذِمَّةً وعَهدًا، فما بالُ فُلانٍ لَطمَ وَجهي؟ فقال: لمَ لَطَمْتَ وَجْهَه؟ فذَكرَه، فغَضِبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى رُئِيَ في وَجهِه، ثُمَّ قال: ((لا تُفَضِّلوا بينَ أنبياءِ الله، فإنَّه يُنفَخُ في الصُّورِ، فيَصعَقُ مَن في السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ إلَّا من شاءَ اللهُ، ثُمَّ يُنفَخُ فيه أُخرى، فأكونُ أوَّلَ من بُعِثَ، فإذا موسى آخِذٌ بالعَرْشِ، فلا أدري أحُوسِبَ بصَعقَتِه يَومَ الطُّورِ أم بُعِثَ قَبْلِي؟ )) [3119] أخرجه البخاري (3414، 3415) واللَّفظُ له، ومسلم (2373). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما بينَ النَّفخَتينِ أربَعونَ. قالوا: يا أبا هُريرةَ أربَعونَ يَومًا؟ قال: أبيتُ، قالوا: أربَعونَ شَهرًا؟ قال: أبيتُ، قالوا: أربَعونَ سَنةً؟ قال: أبيتُ، ثُمَّ يُنزِلُ اللهُ من السَّماءِ ماءً فيَنبُتونَ كما يَنبُتُ البَقْلُ، قال: وليس من الإنسانِ شَيءٌ إلَّا يَبلى إلَّا عَظمًا واحِدًا، وهو عَجْبُ الذَّنَبِ، ومنه يُرَكَّبُ الخَلقُ يَومَ القيامةِ )) [3120] أخرجه البخاري (4814)، ومسلم (2955) واللَّفظُ له. .
فمِن أهلِ العِلمِ من رَجَّحَ أن تَكونَ النَّفخةُ نَفخَتينِ: نَفخةَ الصَّعقِ ونَفخةَ البَعثِ، وأنَّ نَفخةَ الصَّعقِ هيَ نَفخةُ الفَزَعِ.
قال القُرطُبيُّ: (الصَّحيحُ في النَّفخِ في الصُّورِ أنَّهما نَفخَتانِ لا ثَلاثٌ، وأنَّ نَفخةَ الفَزعِ إنَّما تَكونُ راجِعةً إلى نَفخةِ الصَّعقِ؛ لأنَّ الأمرينِ لا زَمانَ لهما، أي: فزِعوا فزعًا ماتوا منه، أو إلى نَفخةِ البَعثِ، وهو اختيارُ القُشيريِّ وغَيرِه، فإنَّه قال في كلامِه على هذه الآيةِ: والمُرادُ النَّفخةُ الثَّانيةُ، أي: يَحْيونَ فَزِعينَ يَقولونَ: مَن بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا، ويُعايِنونَ من الأمورِ ما يَهولُهم ويُفزِعُهم، وهذا النَّفخُ كصَوتِ البوقِ لتَجتَمِعَ الخَلقُ في أرضِ الجَزاءِ) [3121] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/240). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (قد ثَبَتَ في صَحيحِ مُسلِمٍ من حَديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو أنَّهما نَفخَتانِ، ولَفظُه في أثناءِ حَديثٍ مَرفوعٍ: ثُمَّ يُنفَخُ في الصُّورِ فلا يَسمَعُه أحَدٌ إلَّا أصغى لِيتًا ورَفعَ لِيتًا، ثُمَّ يُرسِلُ اللهُ مَطَرًا كأنَّه الطَّلُّ فتَنبُتُ منه أجسادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنفَخُ فيه أُخرى فإذا هم قيامٌ يَنظُرونَ . وأخرَجَ البيهَقيُّ بسَندٍ قَويٍّ عن ابنِ مَسعودٍ مَوقوفًا: ثُمَّ يَقومُ مَلَكُ الصُّورِ بينَ السَّماءِ والأرضِ فيَنفُخُ فيه -والصُّورُ قَرْنٌ- فلا يَبقى لله خَلقٌ في السَّمَواتِ ولا في الأرضِ إلَّا مات إلَّا من شاءَ رَبُّك، ثُمَّ يَكونُ بينَ النَّفخَتينِ ما شاءَ اللهُ أن يَكونَ) [3122] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/ 369). .
وقال أيضًا: (رَأيتُ في كلامِ ابنِ العَرَبيِّ أنَّها ثَلاثٌ: نَفخةُ الفَزعِ كما في النَّملِ، ونَفخةُ الصَّعقِ كما في الزُّمَرِ، ونَفخةُ البَعثِ، وهيَ المَذكورةُ في الزُّمَرِ أيضًا. قال القُرطُبيُّ: والصَّحيحُ أنَّهما نَفخَتانِ فقَط؛ لثُبوتِ الِاستِثناءِ بقَولِه تعالى: إلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ في كُلٍّ من الآيَتينِ، ولا يَلزَمُ من مُغايَرةِ الصَّعقِ للفَزعِ ألَّا يَحصُلا مَعًا من النَّفخةِ الأولى. ثُمَّ وَجَدْتُ مُستَنَدَ ابنِ العَرَبيِّ في حَديثِ الصُّورِ الطَّويلِ، فقال فيه: ((ثُمَّ يُنفَخُ في الصُّورِ ثَلاثَ نَفَخاتٍ: نَفخةَ الفَزعِ، ونَفخةَ الصَّعقِ، ونَفخةَ القيامِ لرَبِّ العالَمينَ)) أخرَجَه الطَّبري هَكَذا مُختَصَرًا. وقد ذَكَرتُ أنَّ سَندَه ضَعيفٌ ومُضطَرِبٌ [3123] أخرجه من طرُقٍ: ابن أبي الدنيا في ((الأهوال)) (55)، والطبري في ((التفسير)) (18/558)، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (17349) مطولًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. قال البخاري كما في ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (9/524): لم يصح، وقال الإمام أحمد كما في ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (9/524): رجاله لا يعرفون، وقال ابن حبان كما في ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (9/524): لست أعتمد على إسناده، وقال الدارقطني كما في ((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (9/524): إسناده لا يثبت، وضعف إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/377)، وقال الطبري: في إسناده نظر، وقال ابن كثير في ((التفسير)) (3/276): غريب جدا. . وقد ثَبَتَ في صَحيحِ مُسلِمٍ من حَديثِ عَبدِ الله بن عَمْرٍو أنَّهما نَفخَتانِ، ولَفظُه في أثناءِ حَديثٍ مَرفوعٍ: ((ثُمَّ يُنفَخُ في الصُّورِ فلا يَسمَعُه أحَدٌ إلَّا أصغى لِيتًا ورَفعَ لِيتًا، ثُمَّ يُرسِلُ اللهُ مَطَرًا كأنَّه الطَّلُّ فتَنبُتُ منه أجسادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنفَخُ فيه أُخرى فإذا هم قيامٌ يَنظُرونَ )) [3124] أخرجه مسلم (2940) مطولًا [3125] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/369). .
وقال ابنُ بازٍ: (الصَّوابُ أنَّها اثنَتانِ، هذا هو المَحفوظُ كما جاءَ في القُرآنِ الكَريمِ وفي الأحاديثِ الصَّحيحةِ، نَفخةُ الفَزعِ، وهيَ نَفخةُ الصَّعقِ والمَوتِ، والثَّانيةُ: نَفخةُ البَعثِ. فالأولى يُقالُ لها: نَفخةُ الفَزعِ، ويُقالُ لها: نَفخةُ الصَّعقِ، ويُقالُ لها: نَفخةُ المَوتِ، تُسَمَّى بأسماءٍ، وهيَ المَذكورةُ في قَولِه جَلَّ وعلا: فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَساءَلُونَ، وهيَ المَذكورةُ في قَولِه جَلَّ وعلا: وَيَوْمَ يُنْفَخُ في الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلُّ أَتَوهُ دَاخِرِينَ، وقال آخَرونَ: إنَّها ثَلاثٌ: نَفخةُ الفَزعِ يَفزَعُ النَّاسُ ولا يَموتونَ، ثُمَّ نَفخةُ الصَّعقِ والمَوتِ، ثُمَّ نَفخةُ البَعثِ. وجاءَ هذا في حَديثِ الصُّورِ من حَديثِ إسماعيلَ بنِ رافِعٍ الأنصاريِّ، ولَكِنَّه ضَعيفٌ، والصَّوابُ أنَّها نَفخَتانِ) [3126] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (4/ 328). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (هما نَفخَتانِ:
إحداهما: نَفخةُ الفَزعِ، يُنفَخُ فيه فيَفزَعُ النَّاسُ ويَصعَقونَ إلَّا من شاءَ الله.
والثَّانيةُ: نَفخةُ البَعثِ، يُنفَخُ فيه فيُبعَثونَ ويَقومونَ من قُبورِهم) [3127] يُنظر: ((شرح لمعة الاعتقاد)) (ص: 114). .
وقال أيضًا: (هَل هما نَفخَتانِ؟ فإذا جُمِعتْ إلى الثَّالِثةِ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ صارَت ثَلاثَ نَفَخاتٍ، أو أنَّ نَفخةَ الفَزعِ والصَّعقَ واحِدةٌ، وأنَّ النَّاسَ يَفزَعونَ أوَّلًا ثُمَّ يَموتونَ، أي: فَزَعٌ يَليه المَوتُ؛ لأنَّ الظَّاهرَ - واللهُ أعلَمُ- أنَّه إذا نُفِخَ يَكونُ صَوتٌ عَظيمٌ مُمتَدٌّ، فيَفزَعونَ ثُمَّ يَموتونَ، مِثلَ الصَّيحاتِ التي يُصاحُ بالمُجرمينَ كالتي أخَذَت ثَمودَ؟ هذه المَسألةُ اختَلَفَ فيها أهلُ العِلمِ؛ فمنهم مَن يَرى أنَّ النَّفَخاتِ ثَلاثٌ: نَفخةٌ يَفزَعُ النَّاسُ ويَتَأهَّبونَ ويَكونونَ على حَذَرٍ، ثُمَّ أخرى للصَّعقِ فيموتون، ثُمَّ ثالِثةٌ للبَعثِ.
وقيلَ: إنَّ نَفخةَ الفَزعِ بَعدَ نَفخةِ الصَّعقِ والبَعثِ، وإنَّهم يَصعَقونَ، قال تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزُّمَر: 68] ، ثُمَّ يُنفَخُ ثالِثةً فيَفزَعونَ إلى الدَّاعي، لَكِنَّ هذا القَولَ ضَعيفٌ، فالمَشهورُ القَولانِ السَّابِقانِ.
وهَل هيَ ثَلاثٌ: فَزَعٌ، ثُمَّ نَفخةٌ أخرى فيها الصَّعقُ، ثُمَّ نَفخةٌ ثالِثةٌ فيها البَعثُ، أو هما نَفخَتانِ: نَفخةٌ فيها فزعٌ وصَعْقٌ، ونَفخةٌ فيها البَعثُ؟
الأخيرُ هو الأقرَبُ؛ لأنَّ حَديثَ أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه يَدُلُّ على هذا، فإنَّه ذَكرَ النَّفخَتينِ، وذَكرَ أنَّ بينَهما أربَعينَ، قيلَ له: يَومٌ أو شَهرٌ أو سَنةٌ؟ قال: أَبَيتُ. ولَم يُبَيِّن لأنَّه لا يَعلَمُ؛ لأنَّه رَضِيَ الله عنه سَمِع من الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أربَعينَ، ولا يَعلَمُ هَل هيَ أربَعونَ يَومًا أو سَنةً أو شَهرًا) [3128] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النمل)) (ص: 486). .
ومن أهلِ العِلمِ من رَجَّحَ أنَّها ثَلاثُ نَفَخاتٍ: نَفخةُ الفَزعِ أوَّلًا وهيَ للأحياءِ الذينَ بَقُوا في آخِرِ ساعاتِ الدُّنيا، ثُمَّ نَفخةُ الصَّعقِ والمَوتِ، ثُمَّ نَفخةُ البَعثِ والقيامِ من القُبورِ لرَبِّ العالَمينَ، وهيَ لجَميعِ الخَلائِقِ.
قال ابنُ تَيميَّةَ: (القُرآنُ قد أخبَرَ بثَلاثِ نَفَخاتٍ: نَفخةُ الفَزعِ ذَكرَها في سورةِ النَّملِ في قَولِه: وَيَوْمَ يُنفَخُ في الصُّورِ ففَزِعَ من في السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ إلَّا من شاءَ اللهُ، ونَفخةُ الصَّعقِ والقيامِ ذَكرَهما في قَولِه: وَنُفِخَ في الصُّورِ فصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ إلَّا من شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فيه أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) [3129] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (16/ 35). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (وفي حَديثِ ((الصُّورِ)) أنَّ إسرافيلَ هو الذي يَنفُخُ فيه بأمرِ الله تعالى، فيَنفُخُ فيه أوَّلًا نَفخةَ الفَزعِ ويُطوِّلُها، وذلك في آخِرِ عُمرِ الدُّنيا، حينَ تَقومُ السَّاعةُ على شِرارِ النَّاسِ من الأحياءِ، فيَفزَعُ من في السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ إلَّا من شاءَ اللهُ، وهمُ الشُّهداءُ، فإنَّهم أحياءٌ عِندَ رَبهم يُرزَقونَ... ثُمَّ بَعدَ ذلك نَفخةَ الصَّعقِ، وهو المَوتُ. ثُمَّ بَعدَ ذلك نَفخةَ القيامِ لرَبِّ العالَمينَ، وهو النُّشورُ من القُبورِ لجَميعِ الخَلائِقِ) [3130] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 216). .
وقال السَّفارينيُّ: (اعلَمْ أنَّ النَّفخَ في الصُّورِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ:
نَفخةُ الفَزعِ، وهيَ التي يَتَغَيَّرُ بها هذا العالَمُ، ويَفسُدُ نِظامُه، وهيَ المُشارُ إليها في قَولِه تعالى وما يَنظُرُ هؤلاءِ إلَّا صيحةً واحِدةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ [ص: 15] أي: من رُجوعٍ ومَرَدٍّ...
«النَّفخةُ الثَّانيةُ»: نَفخةُ الصَّعقِ، وفيها هَلاكُ كُلِّ شَيءٍ، قال تعالى: ونُفِخَ في الصُّورِ فصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ إلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ [الزُّمَر: 68] وقد فُسِّرَ الصَّعقُ بالمَوتِ...
«النَّفخةُ الثَّالِثةُ»: نَفخةُ البَعثِ والنُّشورِ، وقد جاءَ في الكِتابِ العَزيزِ آياتٌ تَدُلُّ عليها، وأخبارٌ تُشيرُ إليها، كقَولِه تعالى: ونُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] ، وقَولِه: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرونَ [الزُّمَر: 68] ، فَإِذَا نُقِرَ في النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَومٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيرُ يَسِيرٍ [المُدَّثِر: 8 - 10] قال الكَلبيُّ وغَيرُه: هيَ نَفخةُ البَعثِ، والنَّاقورُ فاعولٌ مِنَ النَّقرِ، وقَولُه تعالى: واستَمِعْ يَومَ يُنَادِ المَنادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالحَقِّ [ق: 41 - 42] الآية) [3131] يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) (2/ 161-164). .
وقال الشَّوكانيُّ: (النَّفَخاتُ في الصُّورِ ثَلاثٌ: نَفخةُ الفَزعِ، والثَّانيةُ: نَفخةُ الصَّعقِ، والثَّالِثةُ: نَفخةُ البَعثِ. وقيلَ: إنَّها نَفخَتانِ، وإنَّ نَفخةَ الفَزعِ إمَّا أن تَكونَ راجِعةً إلى نَفخةِ الصَّعقِ، أو إلى نَفخةِ البَعثِ، واختارَ هذا القُشيريُّ والقُرطُبيُّ وغَيرُهما) [3132] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/ 178). .
ومنهم من رَجَّحَ أنَّ النَّفَخاتِ أربَعٌ:
اثنَتانِ قَبلَ يَومِ القيامةِ، واثنَتانِ في يَومِ القيامةِ.
فأمَّا النَّفخَتانِ قَبلَ يَومِ القيامةِ فهما نَفخةٌ للمَوتِ ونَفخةٌ للبَعثِ. قيلَ هما المَذكورَتانِ في سورةِ يَس.
وأمَّا النَّفخَتانِ في يَومِ القيامةِ فنَفخةُ الفَزَعِ والصَّعقِ التي يُغشى فيها الخَلائِقُ -ولا يَموتونَ- إلَّا من شاءَ اللهُ، ثُمَّ نَفخةٌ أُخرى لقيامِهم وإفاقَتِهم.
قال البِقاعي: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي: القَرنِ العاطِفِ للأشياءِ المُقَبِلِ بها نَحوَ صَوتِه المُميلِ لها عن أحوالِها، العالي عليها في ذلك اليَومِ بَعدَ بَعثِ الخَلائِقِ، وهيَ النَّفخةُ الأولى بَعدَ البَعثِ التي هيَ بَعدَ نَفخَتَي المَوتِ والبَعثِ المَذكورَتينِ في سورةِ يَس، والمُرادُ بها -واللهُ أعلَمُ- إلقاءُ الرُّعبِ والمَخافةِ والهَولِ في القُلوبِ إظهارًا للعَظَمةِ وتَردِّيًا بالكِبرياءِ والعِزِّ في عِزَّةِ يَومِ المَحْشَرِ؛ ليَكونَ أوَّلَ ما يَفجَؤُهم يَومَ الدِّينِ ما لا يَحتَمِلُه القَوِيُّ، ولا تُطيقُه الأحلامُ والنُّهى، كما كان آخِرَ ما فجَأهم في يَومِ الدُّنيا وإنِ افتَرَقا في التَّأثيرِ، فإنَّ تلك أثَّرَتِ المَوتَ، وهذه أثَّرَتِ الغَشْيَ؛ لأنَّه لا مَوتَ بَعدَ البَعثِ، وهيَ الثَّالِثةُ من النَّفَخاتِ فصَعِقَ أي مَغشِيًا عليه مَنْ فِي السَّمَواتِ ولَمَّا كان المَقامُ التَّهويلَ، وكان التَّصريحُ أهولَ؛ أعادَ الفاعِلَ بلَفظِه، فقال: ومَنْ في الأَرْضِ. ولَمَّا كان منهم من لا يَصعَقُ ليَعرِفَ دائِمًا أنَّه في كُلِّ فِعلٍ من أفعالِه مُختارٌ قادِرٌ جَبَّارٌ، استَثناه فقال: إلَّا مَن شاءَ الله أي: الذي له مَجامِعُ العَظَمةِ ومَعاقِدُ العِزِّ، فيَجعَلُ الشَّيءَ الواحِدَ هلاكًا لقَومٍ دونَ قَومٍ، وصَعقًا لقَومٍ دونَ قَومٍ، يَجعَلُ ذلك الذي كان به الهَلاكُ به الحَياةَ، وذلك الذي كان به الغَشْيُ به الإفاقةَ وإن كان بالنِّسبةِ إليهم على حَدٍّ سَواءٍ، إعلامًا بأنَّ الفاعِلَ لما يُريدُ لا الأثَر، قيلَ: المُستَثنَونَ الشُّهداءُ، وقيل: غَيرُهم ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى أي: نَفخةً ثانيةً مِن هذه، وهيَ رابِعةٌ من النَّفخةِ المُميتةِ، ودَلَّ على سُرعةِ تَأثيرِها بالفَجاءةِ في قَولِه: فَإِذَا هُمْ قِيامٌ أي: قائِمونَ كُلُّهم يَنْظُرُونَ أي: يُقبِلونَ أبصارَهم أو يَنتَظِرونَ ما يَأتي بَعدَ ذلك من أمثالِه من دَلائِلِ العَظمةِ، وهاتانِ النَّفخَتانِ هما المُرادَتانِ في حَديثِ تَخاصُمِ اليَهودِ مَعَ المُسلِمِ الذي لَطَمَ وَجْهَه، وفي آخِرِه: (يَصعَقُ النَّاسُ يَومَ القيامةِ فأكونُ أوَّلَ مَن يُفيقُ، فإذا موسى باطِشٌ بجانِبِ العَرْشِ، فلا أدري أفاقَ قَبلي أو جُوزِيَ بصَعقةِ الطُّورِ) [3133] أخرجه البخاري (4638)، ومسلم (2374) مطولًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وقد أخرجه البُخاريُّ في الخُصوماتِ في مَوضِعينِ، وفي أحاديثِ الأنبياءِ في مَوضِعينِ، وفي الرِّقاقِ وفي التَّوحيدِ، ومُسلِمٌ في الفَضائِلِ، وأبو داوُدَ في السُّنَّةِ، والنَّسائيُّ في التَّفسيرِ والنُّعوتِ، وبِتَفصيلِ رِواياتِه وجَمعِ ألفاظِها يُعلَمُ أنَّ ما ذَكَرتُه هو المَرادُ... فتَحَرَّرَ من هذا أنَّ الصَّعقَ يُطلَقُ على المَوتِ فجأةً، وعلى الغَشْيِ كذلك، وأنَّ الإفاقةَ لا تَكونُ إلَّا عن غَشْيٍ لا عن مَوتٍ، فعُلِمَ أنَّ الصَّعقةَ في هذه الآيةِ إنَّما هيَ غَشْيٌ؛ لأنَّ الثَّانيةَ عنها إفاقةٌ، وأيضًا فمِنَ الأمرِ المُحَقَّقِ أنَّه لا يَموتُ أحَدٌ من أهلِ البَرزخِ، فكَيفَ بالأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ؟ فالصَّوابُ حَملُ الصَّعقةِ المَذكورةِ في الحَديثِ على الغَشْيِ أو ما يُشبِهُه، ويُؤَيِّدُه التَّجويزُ لأن تَكونَ صَعقةُ الطُّورِ جَزاءً عنها، وعلى تَقديرِ أن تَكونَ غَشْيًا إن قُلْنا إنَّه يَكونُ بنَفخةِ الإماتةِ يَلزَمُ عليه أن لا يَكونَ للغَشْيِ ولا لعَدَمِه مَدخَلٌ في الشَّكِّ في أنَّ موسى عليه السَّلامُ أفاقَ قَبلُ أو لَم يَحصُلْ له غَشْيٌ أصلًا؛ لأنَّ الذي يَكونُ به بطشُه بالعَرْشِ -وهو برُوحِه وجَسَدِه- إنَّما هو البَعثُ من المَوتِ لا الإفاقةُ من الغَشْيِ ولا عَدَمُ الغَشْيِ قَبلَ البَعثِ، فالذي يوَضِّحُ الأمرَ ولا يَدَعُ فيه لَبسًا أن يَكونَ ذلك بَعدَ البَعثِ، وتَكونَ حينَئِذٍ النَّفَخاتُ أربَعًا: الأُولى لإماتةِ الأحياءِ. الثَّانيةُ لإحياءِ جَميعِ المَوتى. وهاتانِ هما المَذكورَتانِ في سورةِ يَس؛ ولِذلك لَمَّا ذَكرَهما صَرَّحَ في أمرِهما بما لا يُحتَمَلُ غَيرُه مَا يَنظُرونَ إلَّا صيحةً واحِدةً تَأخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَستَطِيعونَ تَوصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ونُفِخَ في الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ.
الثَّالِثةُ لابتِدائِهم بَعدَ البَعثِ بالهولِ الشَّديدِ، والحالُ يَقتَضيه؛ لأنَّ ذلك اليَومَ يَومُ الأهوالِ والإرعابِ والإرهابِ، وإظهارِ العَظمةِ والجَلالِ لتَقطيعِ الأسبابِ، والذي يَدُلُّ عليه في هذا الحَديثِ قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في كثيرٍ من رِواياتِه: «فإنَّ النَّاسَ يَصعَقونَ يَومَ القيامةِ»؛ فإنَّ يَومَ القيامةِ اسمٌ للوَقتِ الذي أوَّلُه البَعثُ وآخِرُه تَكامُلُ دُخولِ كُلِّ فريقٍ إلى دارِه ومَحَلِّ استِقرارِه، وأمَّا صَعقةُ المَوتِ فإنَّها في دارِ الدُّنيا وهيَ للإنامةِ لا للإقامةِ، ويُضعِفُ حَملَه على ما قَبلَ البَعثِ الرِّواياتُ الصَّحيحةُ الجازِمةُ بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوَّلُ مَن تَنشَقُّ عنه الأرضُ [3134] أخرجه البخاري (2412) مطولًا من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه بلفظ: ((.. فأكون أول من تنشقُّ عنه الأرضُ..)). ، وما حَكاه الكرمانيُّ من الإجماعِ على ذلك ولا فخرَ فيه إلَّا بحُصولِ البَعثِ لا بإظهارِ الجَسَدِ من غَيرِ بَعثٍ، فهذا الجَزمُ يُنافي ذلك الشَّكَّ، فإذا كان المُرادُ بما في الحَديثِ الغَشْيَ كانت نَفخةً أخرى للإيقاظِ منه، وهاتانِ المُرادَتانِ بما في هذه السُّورةِ كما في رِوايةِ السُّورةِ كما في رِوايةِ التِّرمذيِّ وما في النَّملِ؛ ولِذلك عَبَّر عنها بالفَزَعِ، ويُؤَيِّدُ ذلك التَّعبيرُ في رِوايةِ البُخاريِّ في التَّفسيرِ بالنَّفخةِ الآخِرةِ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أوتيَ جَوامِعَ الكَلِمِ، واختُصِرَ له الكَلامُ اختِصارًا، ولَو أنَّهما نَفخَتانِ فقَط كان التَّعبيرُ بالآخِرةِ قاصِرًا عَمَّا تُفيدُه الثَّانيةُ مَعَ المُساواةِ في عِدَّةِ الحُروفِ، وهو مِمَّا لا يُظَنُّ ببَليغٍ، فكَيفَ بأبلَغِ الخَلقِ المُؤَيَّدِ برُوحِ القُدسِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكانَ العُدولُ عن الثَّانيةِ إلى الآخِرةِ مُفيدًا أنَّها أربَعٌ، ولَعَلَّ ذلك مَعنى أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر: 11] ، وسُمِّيَت إماتةً لشِدَّةِ الغَشيِ بها لعِظَمِ أمرِها ومَعنى زَلزَلةِ السَّاعةِ التي تُسكِرُ، ويُؤَيِّدُه التَّعبيرُ عن القيامِ منها بالإفاقةِ لا بالبَعثِ، ولا يُعكِّرُ على هذا شَيءٌ إلَّا رِوايةُ البُخاريِّ في الخُصوماتِ: ((فأكونُ أوَّلَ مَن تَنشَقُّ عنه الأرضُ فإذا أنا بموسى)) إلى آخِرِه، فالظَّاهرُ أنَّ راويَها وَهِمَ، أو رَوى بالمَعنى فما وَفى بالغَرَضِ، والرَّاجِحُ رِواياتُ من قالوا: ((فأكونُ أوَّلَ مَن يُفيقُ)) بالكَثرةِ وبِزَوالِ الإشكالِ، هذا ما كان ظَهرَ لي في النَّظَرِ في المَعنى وتَطبيقِ الآياتِ والأحاديثِ عليه، ثُمَّ رَأيتُ شَيخنا حافِظَ عَصرِه أحمَدَ بنَ عليِّ بنِ حَجَرٍ الكنانيَّ العَسْقَلانيَّ المِصريَّ رَحِمَه الله نَقلَ ما جَمَعتُ به بينَ الرِّواياتِ في كِتابِ الأنبياءِ من شَرحِه للبُخاريِّ عن القاضي عياضٍ، فقال: وقال عياضٌ: يُحتَمَلُ أن يَكونَ المُرادُ صَعقةَ فَزَعٍ بَعدَ البَعثِ حينَ تَنشَقُّ السَّماءُ والأرضُ. وأقَرَّه على ذلك، ثُمَّ نَقلَ عن ابنِ حَزْمٍ عَينَ ما قُلتُه في النَّفَخاتِ، فقال ما نَصُّه: تَكميلُ: زَعَم ابنُ حَزْمٍ أنَّ النَّفَخاتِ يَومَ القيامةِ أربَعٌ: الأُولى نَفخةُ إماتةٍ يَموتُ فيها من بَقي في الأرضِ حَيًّا، ثانيها: نَفخةُ إحياءٍ فيَقومُ كُلُّ مَيتٍ، والثَّالِثةُ: نَفخةُ فَزَعٍ وصَعقٍ يُفيقونَ منها كالمَغشيِّ عليهم، لا يَموتُ منها أحَدٌ، والرَّابِعةُ: إفاقةٌ من ذلك الغَشيِ) [3135] يُنظر: ((نظم الدرر)) (16/551، 558- 561). ويُنظر: ((نظم الدرر)) (14/222). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (زَعَم ابنُ حَزْمٍ أنَّ النَّفَخاتِ يَومَ القيامةِ أربَعٌ: الأُولى نَفخةُ إماتةٍ يَموتُ فيها من بَقي في الأرضِ حَيًّا، والثانية: نَفخةُ إحياءٍ فيَقومُ كُلُّ مَيتٍ، ويُنشَرونَ من القُبورِ ويُجمَعونَ للحِسابِ، والثَّالِثةُ: نَفخةُ فَزعٍ وصَعْقٍ يُفيقونَ منها كالمَغشيِّ عليه لا يَموتُ منها أحَدٌ، والرَّابِعةُ: نَفخةُ إفاقةٍ من ذلك الغَشْيِ. وهذا الذي ذَكرَه من كونِ الثِّنْتَينِ أربَعًا ليس بواضِحٍ، بَل هما نَفخَتانِ فقَط، ووَقَعَ التَّغايُرُ في كُلِّ واحِدةٍ منهما باعتِبارِ مَن يَستَمِعُها؛ فالأولى يَموتُ بها كُلُّ من كان حَيًّا ويُغشى على من لَم يَمُتْ مِمَّنِ استَثنى اللهُ، والثَّانيةُ يَعيشُ بها من مات ويُفيقُ بها من غُشِيَ عليه. واللهُ أعلَمُ) [3136] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/ 446). .
وقد ذَهَبَ بَعضُ العُلَماءِ إلى أنَّ هناك نَفخةَ صَعقٍ خاصَّةً في يَومِ القيامةِ غَيرَ نَفخةِ الصَّعقِ التي تَكونُ قَبلَ البَعثِ، وفيها يُغشى على الخَلائِقِ بسَبَبِ مَجيءِ الرَّبِ سُبحانَه لفَصلِ القَضاءِ.
وأمَّا القَولُ بأنَّ وُجودَ نَفخةٍ للصَّعقِ بَعدَ البَعثِ يَأباه قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنا أوَّلُ مَن تَنشَقُّ عنه الأرضُ فأرفَعُ رَأسي...)) [3137] أخرجه البزار (9621) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه ولفظه: ((أنا أوَّلُ من تنشقُّ عنه الأرضُ، فأرفع رأسي، فإذا موسى بن عمران، فلا أدري أهو ممن استثنى اللهُ أو رفع رأسَه قبلي)). والحديث أصله في الصحيح، أخرجه البخاري (4813) عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إني أولُ من يرفع رأسَه بعد النفخةِ الآخِرةِ، فإذا أنا بموسى متعلِّقٌ بالعرشِ، فلا أدري أكذلك كان أم بعد النفخةِ)). وفي لفظ: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((.. فأكون أوَّلَ من يُفيقُ، فإذا موسى باطِشٌ جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صَعِقَ فأفاق قبلي، أو كان ممَّن استثنى الله)). أخرجه البخاري (2411) واللَّفظُ له، ومسلم (2373). ، فإنَّ العُلَماءَ قد أجابوا عنه وعن الحَديثِ الآخَرِ المُعارِضِ له، وهو قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ النَّاسَ يَصعَقونَ يَومَ القيامةِ فأكونُ أوَّلَ مَن يُفيقُ، فإذا موسى آخِذٌ بقائِمةِ العَرْشِ فلا أدري أفاقَ قَبلي أم جُوزِيَ بصَعقةِ يَومِ الطُّورِ)) [3138] أخرجه البخاري (3398)، ومسلم (2374) باختلافٍ يسيرٍ .
قال ابنُ أبي العِزِّ في جَوابِ هذا الإشكالِ: (لا ريبَ أنَّ هذا اللفظَ قد ورَدَ هَكَذا، ومنه نَشَأ الإشكالُ. ولَكِنَّه دَخلَ فيه على الرَّاوي حَديثٌ في حَديثٍ، فرَكَّبَ بينَ اللفظينِ، فجاءَ هذانِ الحَديثانِ هَكَذا: أحَدُهما: ((إنَّ النَّاسَ يَصعَقونَ يَومَ القيامةِ، فأكونُ أوَّلَ مَن يُفيقُ))، كما تَقَدَّم، والثَّاني: ((أنا أوَّلُ مَن تَنشَقُّ عنه الأرضُ يَومَ القيامةِ))، فدَخلَ على الرَّاوي هذا الحَديثُ في الآخَرِ. ومِمَّن نَبَّه على هذا أبو الحَجَّاجِ المِزِّي، وبَعدَه الشَّيخُ شَمسُ الدِّينِ بنُ القَيِّمِ، وشَيخُنا الشَّيخُ عِمادُ الدِّين ابنُ كثيرٍ، رَحمِهمُ اللهُ.
وكَذلك اشتَبَهَ على بَعضِ الرُّواةِ، فقال: فلا أدري أفاقَ قَبلي أم كان مِمَّنِ استَثنى اللهُ عزَّ وجَلَّ؟ والمَحفوظُ الذي تَواطَأت عليه الرِّواياتُ الصَّحيحةُ هو الأوَّلُ، وعليه المَعنى الصَّحيحُ؛ فإنَّ الصَّعقَ يَومَ القيامةِ لتَجلِّي اللهِ لعِبادِه إذا جاءَ لفَصلِ القَضاءِ، فموسى عليه السَّلامُ إن كان لَم يَصعَق مَعَهم، فيَكونُ قد جَوزِيَ بصَعقةِ يَومِ تَجلَّى رَبُّه للجَبَلِ فجَعلَه دَكًّا، فجُعِلَت صَعقةُ هذا التَّجلِّي عِوَضًا عن صَعقةِ الخَلائِقِ لتَجَلِّي الرَّبِّ يَومَ القيامةِ. فتَأمَّلْ هذا المَعنى العَظيمَ ولا تُهمِلْه) [3139] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/603). .
وقال أيضًا: (صَعْقُ الأرواحِ عِندَ النَّفخِ في الصُّورِ لا يَلزَمُ منه موتُها؛ فإنَّ النَّاسَ يَصعَقونَ يَومَ القيامةِ إذا جاءَ اللهُ لفَصلِ القَضاءِ، وأشرَقَتِ الأرضُ بنُورِه، وليس ذلك بمَوتٍ... وكَذلك صَعقُ موسى عليه السَّلامُ لَم يَكُن مَوتًا) [3140] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/571). .
وأقرَبُ هذه الأقوالِ للصَّوابِ أنَّهما نَفخَتانِ، وأبعَدُهما عن الصَّوابِ أنَّها أربَعٌ. والله أعلَمُ

انظر أيضا: