الموسوعة العقدية

الْمَطْلَبُ الرَّابِعُ: أوَّلُ أعمالِه بَعدَ نُزولِه

أوَّلُ عَمَلٍ يَقومُ به بَعدَ نُزولِه قَتْلُ الْمَسيحِ الدَّجَّالِ.
عَنِ النَّواسِ بن سَمعانَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فَيَنْزِلُ عِنْدَ المَنَارَةِ البَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ علَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وإذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ منه جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فلا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حتَّى يُدْرِكَهُ ببَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلهُ )) [2784] أخرجه مسلم (2937) مُطَولًا. .
قال علي القاري: ( ((فيَطلُبُه)) أي: يَطلُبُ عيسى عليه الصَّلاةُ والسُّلامُ الدَّجَّالَ ((حَتَّى يُدرِكَه ببابِ لُدٍّ)): بضَمِّ لامٍ وتَشديدِ دالٍ، مَصروفٌ: اسمُ جَبَلٍ بالشَّامِ، وقيلَ: قَريَةٌ من قُرى بَيتِ الْمَقدِسِ) [2785] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (8/ 3462). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (إنَّ الله تعالى يُنزِلُ عيسى بنَ مَريَم رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنزِلُ يَدَاه على أجنِحةِ مَلَكَينِ؛ لأنَّ الْمَلائِكةَ أُولو أجنِحةٍ، يَنزِلانِ به مِنَ السَّماءِ؛ لأنَّ عيسى الآنَ حيٌّ في السَّماءِ، يَنزِلُ عِندَ قيامِ السَّاعةِ ليَقتُلَ الدَّجَّالَ، يَنزِلُ وكَأنَّه -والله أعلَمُ- قَدِ اغتَسَلَ بماءٍ طَيِّبٍ، إذا طَأطَأ رَأسَه قَطرَ ماءً، وإذا رَفعَه تَحدَّرَ مِنه مِثلُ الجُمَانِ، فيُحتَمَلُ أنَّ هذا ماءٌ ويُحتَمَلُ أنَّه عَرَقٌ، واللهُ أعلَمُ، ثُمَّ إنَّه يَطلُبُه أي: يَطلُبُ الدَّجَّالَ الخَبيثَ الْماكِرَ الأعورَ، فلا يَحِلُّ لكافِرٍ يَجِدُ ريحَ عيسى إلَّا ماتَ -سُبْحانَ اللهِ- نَفَسُ عيسى يَقتُلُ الكافِرَ ونَفَسُه يَنتَهي حَيثُ يَنتَهي طَرْفُه! وهذا أيضًا من آياتِ اللهِ، يَعني: أنفاسُنا نَحنُ لا تَعدو إلَّا شِبرًا أو نَحوَه، لَكِن نَفَسُ عيسى يَنتَهي حَيثُ يَنتَهي طَرْفُه، ومَعنى ذلك أنَّه يَقتُلُ أناسًا كثيرين مِنَ الكُفَّارِ؛ لأنَّ هذا النَّفسَ يَطيرُ في الهَواءِ ولا يَحِلُّ لكافِرٍ يَجِدُ نَفَسَه إلَّا مات. يَنزِلُ عِندَ الْمَنارةِ البَيضاءِ شَرقِيَّ دِمَشْقَ، هَكَذا وصَفَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهيَ لا بُدَّ أن توجَدَ عِندَ نُزولِ عيسى بنِ مَريَم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَبلُغُ الدَّجَّالَ فيُدرِكُه عِندَ بابِ اللُّدِّ واللُّدِّ الآنَ في فِلسطين استَعمَرَها اليَهودُ عليهم لعائِنُ الله إلى يَومِ القيامةِ... يُدرِكُ عيسى الْمَسيحَ الدَّجَّالَ فيَقتُلُه هناكَ، وبِهذا انتَهى الْمَسيحُ الدَّجَّالُ، وبَقيَ الْمَسيحُ رَسولُ الله عيسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واللهُ الْموَفِّقُ، ثُمَّ يَأتي عيسى بنُ مَريَم قَومًا قَد عَصَمَهم الله عَزَّ وجَلَّ من فتنةِ الدَّجَّالِ، فيَمسَحُ على وُجوهِهم ويُبَشِّرُهم بمَنازِلِهم في الجَنةِ) [2786] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (6/ 614). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَنزِلَ الرُّومَ بالأعماقِ، أو بدابِقَ [2787] قال النووي: (الأعماقُ ودابق موضعان بالشَّامِ بقُربِ حَلَب). ((شرح مسلم)) (18/ 21). فيَخرُجُ إليهم جَيشٌ مِنَ الْمَدينةِ، من خيارِ أهلِ الأرضِ يومَئِذٍ، فإذا تَصافُّوا قالتِ الرُّومُ: خَلُّوا بينَنا وبينَ الذينَ سُبُوا مِنَّا نُقاتِلْهم. فيَقولُ الْمُسلِمونَ: لا، واللهِ لا نُخَلِّي بينَكم وبينَ إخوانِنا. فيُقاتِلونَهم، فيَنهَزِمُ ثُلثٌ لا يَتوبُ الله عليهم أبَدًا، ويُقتَلُ ثُلثُهم أفضَل الشُّهداءِ عِندَ الله، ويَفتَتِحُ الثُّلثُ لا يُفتَنونَ أبَدًا، فيَفتَتِحونَ قُسطنطينيَّةَ [2788] قال ياقوت: (كانت رومية دار ملك الروم، وكان بها منهم تسعة عشر ملكًا... ثم ملك أيضًا برومية قسطنطين الأكبر، ثم انتقل إلى بزنطية وبنى عليها سورًا وسمَّاها قسطنطينية، وهي دار ملكهم إلى اليوم، واسمها إصطنبول، وهي دار ملك الروم، بينها وبين بلاد المسلمين البحرُ المالح، عمَّرها ملكٌ من ملوك الروم يقال له قُسطنطين فسُمِّيت باسمه، والحكايات عن عِظَمِها وحُسْنِها كثيرةٌ، ولها خليج من البحر يطيف بها من وجهين ممَّا يلي الشرق والشمال، وجانباها الغربي والجنوبي في البر). ((معجم البلدان)) (4/347). ، فبينَما هم يَقتَسِمونَ الغَنائِمَ قَد عَلَّقوا سُيوفَهم بالزَّيتون إذ صاحَ فيهم الشَّيطانُ: إنَّ الْمَسيحَ قَد خَلَفَكم في أهْلِيكم، فيَخرُجونَ. وذلك باطِلٌ، فإذا جاؤوا الشَّأمَ خَرجَ، فبينَما هم يُعِدُّونَ للقِتالِ يُسَوُّونَ الصُّفوفَ إذ أقيمَتِ الصَّلاةُ، فيَنزِلُ عيسى بنُ مَريَم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأَمَّهم، فإذا رَآه عَدوُّ اللهِ ذابَ كما يَذوبُ الْمِلحُ في الْماءِ، فلَو تَركَه لانذابَ حَتَّى يَهلِكَ، ولَكِن يَقتُلُه اللهُ بيدِه، فيُريهم دَمَه في حَرْبَتِه )) [2789] أخرجه مسلم (2897). .
بوَّبَ أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ لهذا الحَديثِ فقال: (بابٌ لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تُفتَحَ قُسطنطينيَّةُ، وتَكونَ مَلْحَمةٌ عَظيمةٌ، ويَخرُجُ الدَّجَّالُ ويَقتُلُه عيسى بنُ مَريَم) [2790] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 231). .
وقال ابنُ الْملكِ الكرمانيُّ الحَنفيُّ: ( ((فإذا رَآه عَدُوُّ الله ذابَ كما يَذوبُ الْمِلحُ في الْماءِ، فلَو تَركَه)) أي: لَو تَرَكَ عيسى عليه السَّلامُ الدَّجَّالَ ولَم يَقتُلْه. ((لانذابَ حَتَّى يَهلِكَ)) أي: بالكُلِّيةِ، ((ولَكِن يَقتُلُه اللهُ بيدِه)) أي: عيسى عليه السَّلامُ، ((فيُريهم)) أي: عيسى عليه السَّلامُ الْمُسْلِمينَ أوِ الكافِرين ((دَمَه في حَرْبَتِه)) [2791] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (5/ 523). .
وفي زَمانِه يَخرُجُ يَأجوجُ ومَأجوجُ فيُهلِكُهم اللهُ ببَرَكةِ دُعائِه [2792] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (19/ 230). .
عَنِ النَّواسِ بن سَمعانَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال عَن عيسى عليه السَّلامُ بَعدَ قَتلِه الْمَسيحَ الدَّجَّالَ: ((ثُمَّ يَأْتي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ منه، فَيَمْسَحُ عن وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بدَرَجَاتِهِمْ في الجَنَّةِ، فَبيْنَما هو كَذلكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إلى عِيسَى: إنِّي قدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لا يَدَانِ [2793] قال أبو العباس القرطبي: (أي: لا قُدرةَ لأحدٍ على قتال يأجوجَ ومأجوجَ). ((المفهم)) (7/ 285). لأَحَدٍ بقِتَالِهم، فَحَرِّزْ عِبَادِي إلى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ من كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ علَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ ما فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فيَقولونَ: لقَدْ كانَ بهذِه مَرَّةً مَاءٌ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، حتَّى يَكونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا من مِئَةِ دِينَارٍ لأَحَدِكُمُ اليَومَ! فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فيُرْسِلُ اللَّهُ عليهمُ النَّغَفَ [2794] قال أبو العباس القرطبي: (هي دودٌ يكونُ في أنوفِ الإبِلِ والغَنَمِ، وهي وإن كانت محتَقَرة، فإتلافُها شديدٌ). ((المفهم)) (7/ 285). في رِقَابِهِمْ، فيُصْبِحُونَ فَرْسَى [2795] قال أبو العباس القرطبي: (أي: هَلْكى قَتْلى). ((المفهم)) (7/ 285). كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إلى الأرْضِ، فلا يَجِدُونَ في الأرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلأَهُ زَهَمُهم [2796] قال أبو العباس القرطبي: (الزَّهَمُ، بفتح الهاء: النَّتْنُ والرَّائحة الكريهة). ((المفهم)) (7/ 285). وَنَتْنُهم، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إلى اللهِ، فيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ البُخْتِ [2797] قال أبو العباس القرطبي: (البُخْتُ: إبِلٌ غلاظُ الأعناقِ، عِظامُ الأسنامِ). ((المفهم)) (7/ 285). فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ )) [2798] أخرجه مسلم (2937) مُطَولًا. .
ويَكونُ عيسى عليه الصَّلاةُ والسُّلامُ حاكِمًا بشَريعةِ الإسلامِ
وممَّا يَدُلُّ على حُكمِ عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالشَّريعةِ الإسلاميَّةِ أنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ في كتابِه أنَّه يُعَلِّمُ عيسى الكِتابَ والحِكمةَ والتَّوراةَ والإنجيلَ، وذلك حين بُشِّرَت به مريمُ عليها السَّلامُ قَبْلَ وِلادتِه. وذلك في قَولِ اللهِ تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران: 48] .
فقد وَرَد عن بَعْضِ السَّلَفِ في تفسيرِ هذه الآيةِ أنَّ المرادَ بالكِتابِ: القُرآنُ، وأنَّ المرادَ بالحِكمةِ: السُّنَّةُ.
عن الحَسَنِ البَصْريِّ أنَّه قال في قَولِ اللهِ تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ: (الكِتابُ: القُرآنُ، والحِكمةُ: السُّنَّةُ) [2799] يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/653). .
قال ابنُ أبي حاتِمٍ: (ورُوِيَ عن أبي مالِكٍ، ومقاتِلِ بنِ حَيَّانَ، وقتادةَ نحوُ ذلك) [2800] يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/654). ويُنظر: ((تفسير ابن المنذر)) (1/ 206). .
وعَن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ الله عَنه قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لا تَزالُ طائِفةٌ من أمَّتي يُقاتِلونَ على الحَقِّ ظاهِرينَ إلى يَومِ القيامةِ -قال- فيَنزِلُ عيسى بنُ مَريَمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَقولُ أميرُهم: تَعالَ صَلِّ لَنا. فيَقولُ: لا. إنَّ بَعضَكم على بَعضٍ أُمراءُ. تَكرمةَ اللهِ هَذِه الأمَّةَ )) [2801] أخرجه مسلم (156). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كيفَ أنتم إذا نَزَلَ فيكم ابنُ مَريَمَ فأمَّكُم مِنكم؟ )).
قال ابنُ أبي ذِئْبٍ أحَدُ رواةِ الحَديثِ للوَليدِ بن مُسْلِمٍ: تَدري ما أمَّكُم مِنكم؟ قال: تُخبِرُني، قال: فأمَّكُم بكِتابِ رَبِّكم تَبارَكَ وتعالى وسُنَّةِ نَبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [2802] أخرجه مسلم (155). .
قال عياضٌ: (قَولُه: ((وإمامُكم مِنكم))، وفي الحَديثِ الآخَرِ: ((فأمَّكُم مِنكم)) فسَّرَه في الكِتابِ ابنُ أبي ذِئْبٍ فقالَ: فأمَّكُم بكِتابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبيِّكم. وهذا كلامٌ حَسَنٌ؛ لأنَّ عيسى لَيسَ يَأتي لأهلِ الأرضِ رَسولًا ولا نَبيًّا مَبعوثًا، ولا بشَريعةٍ جَديدةٍ؛ لأنَّ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاتَمُ النَّبِيِّينَ، وشَريعَتُه ناسِخةٌ لجَميعِ الشَّرائِعِ راسِخةٌ إلى يَومِ القيامةِ، وإنَّما يَحكُمُ عيسى بها. وأمَّا قَولُه: ((إمامُكم مِنكم)) فهو مُفَسَّرٌ أيضًا في الحَديثِ من رِوايةِ جابِر في الأمِّ؛ حَيثُ قال: ((فيَنزِلُ عيسى، فيَقولُ أميرُهم: تَعالَ فَصَلِّ لَنا، فيَقولُ: لا، إنَّ بَعضَكم على بَعضٍ أُمراءُ، تَكرمةً مِنَ الله لهَذِه الأمَّةِ)) [2803] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (1/ 473). .
وقال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (عيسى عليه السَّلامُ لا يَأتي لأهلِ الأرضِ بشَريعةٍ أخرى، وإنَّما يَأتي مُقَرِّرًا لهَذِه الشَّريعةِ، ومُجَدِّدًا لَها؛ لأنَّ هَذِه الشَّريعةَ آخِرُ الشَّرائِعِ، ومُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم آخِرُ الرُّسُلِ. ويَدُلُّ على هذا دِلالةً واضِحةً قَولُ الأميرِ لعيسى: تَعالَ صَلِّ لَنا، فيَقولُ: لا، إنَّ بَعضَكم على بَعضٍ أُمَراءُ؛ تَكرِمةَ اللهِ هَذِه الأمَّةَ. وتَكَرِمةَ: مَنصوبٌ على أنَّه مَفعولٌ من أجلِه) [2804] يُنظر: ((المفهم)) (1/ 371). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَقومُ الساعةُ حتى ينزِلِ فيكمُ ابنُ مَريمَ حَكمًا مُقْسطًا، فَيَكْسِرَ الصَّليبَ، ويَقتُلَ الخِنزيرَ، ويضَعَ الجِزْيةَ، ويَفيضَ الْمالُ، حَتَّى لا يَقبَلَه أحَدٌ (( [2805] أخرجه البخاري (2476) واللَّفظُ له، ومسلم (55). .
قال النَّوَويُّ: ( ((حَكَمًا)) أي: يَنزِلُ حاكِمًا بهَذِه الشَّريعةِ لا يَنزِلُ نَبيًّا برِسالةٍ مُستَقِلَّةٍ وشَريعةٍ ناسِخةٍ، بَل هو حاكِمٌ من حُكَّامِ هَذِه الأمَّةِ، والمُقْسِطُ العادِلُ، يُقالُ: أقسَطَ يُقْسِطُ إقساطًا، فهو مُقْسِطٌ: إذا عَدَلَ، والقِسطُ بكَسرِ القافِ العَدْلُ، وقَسَطَ يَقْسُطُ قَسْطًا -بفَتحِ القافِ- فهو قاسِطٌ إذا جارَ، وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ((فيَكسِر الصَّليبَ)) مَعناه يَكسِرُه حَقيقةً ويُبْطِلُ ما يَزعُمُه النَّصارى من تَعظيمِه، وفيه دَليلٌ على تَغييرِ الْمُنكَراتِ وآلاتِ الباطِلِ، وقَتْلُ الخِنزيرِ من هذا القَبيلِ، وفيه دَليلٌ للمُختارِ من مَذهَبِنا ومَذهَبِ الجُمهورِ أنَّا اذا وجَدْنا الخِنزيرَ في دارِ الكُفرِ أو غَيرِها وتَمَكَّنَّا من قَتلِه قَتَلْناه، وإبطالٌ لقَولِ من شَذَّ من أصحابِنا وغَيرِهم، فقال: يُترَكُ إذا لَم يَكُن فيه ضَراوةٌ، وأمَّا قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ويَضَع الجِزْيةَ)) فالصَّوابُ في مَعناه أنَّه لا يَقبَلُها ولا يَقبَلُ مِنَ الكُفَّارِ إلَّا الإسلامَ، ومَن بَذلَ مِنهم الجِزْيةَ لَم يَكُفَّ عَنه بها، بَل لا يَقبَلُ إلَّا الإسلامَ أوِ القَتْلَ، هَكَذا قاله الإمامُ أبو سُليمانَ الخَطابي وغَيرُه مِنَ العُلَماءِ رَحمَهم الله تعالى، وحَكى القاضي عياضٌ رَحِمَه اللهُ عَن بَعضِ العُلَماءِ مَعنى هذا، ثُمَّ قال: وقَد يَكونُ فيضُ الْمالِ هنا من وَضعِ الجِزْيةِ، وهو ضَربُها على جَميعِ الكَفَرةِ؛ فإنَّه لا يُقاتِلُه أحَدٌ فتَضَعَ الحَربُ أوزارَها، وانقيادُ جَميعِ النَّاسِ لَه إمَّا بالإسلامِ وإمَّا بإلقاءِ يَدٍ، فيَضَعُ عليه الجِزْيةَ ويَضرِبُها، وهذا كلامُ القاضي، ولَيسَ بمَقبولٍ، والصَّوابُ ما قَدَّمْناه، وهو أنَّه لا يَقبَلُ مِنه إلَّا الإسلامَ) [2806] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/ 190). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (نَحنُ مَأمورون بالإيمانِ بالمَسيحِ ابنِ مَريَم وطاعَتِه إن أدرَكْناه، وإن كان لا يَأمُرُنا إلَّا بشَريعةِ مُحَمَّدٍ) [2807] يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 452). .
وقال السَّعديُّ: (إنَّه تَكاثَرَتِ الأحاديثُ الصَّحيحةُ في نُزولِه عليه السَّلامُ في آخِرِ هَذِه الأمَّةِ، يَقتُلُ الدَّجَّالُ، ويَضَعُ الجِزْيةَ، ويُؤمِنُ به أهلُ الكِتابِ مَعَ الْمُؤمِنينَ) [2808] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 214). .
وقال الشِّنقيطيُّ: (إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد تَواتَرت عَنه الأحاديثُ بأنَّ عيسى حيٌّ الآنَ، وأنَّه سَيَنزِلُ في آخِرِ الزَّمانِ حَكَمًا مُقْسِطًا، ولا يُنكِرُ تَواتُرَ السُّنةِ بذلك إلَّا مُكابِرٌ) [2809] يُنظر: ((أضواء البيان)) (7/ 130). .
وقال ابنُ بازٍ: (إنَّ الْمَسيحَ عليه السَّلامُ لَم يَنزِلْ إلى وقَتِنا هذا، وسَوفَ يَنزِلُ في مُستَقبَلِ الزَّمانِ، كما أخبَرَ بذلك رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم...يَنزِلُ في آخِرِ الزَّمانِ حَكَمًا مُقْسِطًا فيَقتُلُ مَسيحَ الضَّلالةِ ويَكسِرُ الصَّليبَ ويَقتُلُ الخِنزيرَ ويَضَعُ الجِزْيةَ ولا يَقبَلُ إلَّا الإسلامَ، وهيَ أحاديثُ مُتَواتِرةٌ مَقطوعٌ بصِحَّتِها عَن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَد أجمَعَ عُلَماءُ الإسلامِ على تَلقّيها بالقَبولِ والإيمانِ بما دَلَّت عليه، وذَكروها في كُتُبِ العَقائِدِ، فمَن أنكَرَها مُتَعَلِّقًا بأنَّها أخبارُ آحادٍ لا تُفيدُ القَطْعَ، أو أوَّلَها على أنَّ الْمُرادَ بذلك تَمسُّكُ النَّاسِ في آخِرِ الزَّمانِ بأخلاقِ الْمَسيحِ عليه السَّلامُ مِنَ الرَّحمةِ والعَطفِ، وأخذُ النَّاسِ برُوحِ الشَّريعةِ ومَقاصِدِها ولُبابِها لا بظَواهِرِها، فقَولُه ظاهِرُ البُطلانِ مُخالِفٌ لِما عليه أئِمَّةُ الإسلامِ، بَل هو صَريحٌ في رَدِّ النُّصوصِ الثَّابِتةِ الْمُتَواتِرةِ، وجِنايةٌ على الشَّريعةِ الغَرَّاءِ، وجُرأةٌ شَنيعةٌ على الإسلامِ وأخبارِ الْمَعصومِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتَحكيمٌ للظَّنِّ والهوى، وخُروجٌ عَن جادَّةِ الحَقِّ والهَدى، لا يُقْدِمُ عليه من لَه قَدَمٌ راسِخٌ في عِلمِ الشَّريعةِ، وإيمانٌ صادِقٌ بمَن جاءَ بها، وتَعظيمٌ لأحكامِها ونُصوصِها، والقَولُ بأنَّ أحاديثَ الْمَسيحِ أخبارُ آحادٍ لا تُفيدُ القَطْعَ قَولٌ ظاهِرُ الفَسادِ؛ لأنَّها أحاديثُ كثيرةٌ مُخرَّجةٌ في الصِّحاحِ والسُّننَ والمَسانيدِ، مُتَنَوِّعةُ الأسانيدِ والطُّرُقِ، مُتَعَدِّدةُ الْمَخارِجِ قَد تَوافَرَت فيها شُروطُ التَّواتُرِ) [2810] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/ 431). .

انظر أيضا: