الموسوعة العقدية

المَطلَبُ الأوَّلُ: ثُبوتُ نُزولِه

قال اللهُ تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ [الزخرف: 61] .
قال البَغَويُّ: (وَإِنَّهُ يَعني عيسى عليه السَّلامُ، لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ يَعني: نُزولُه من أشراطِ السَّاعةِ يُعلَمُ به قُربُها، وقَرَأ ابنُ عَبَّاسٍ وأبو هُرَيرةَ وقَتادةً: ((وإنَّه لَعَلَمٌ للسَّاعةِ)) -بفَتحِ اللَّامِ والعين- أي: أمارةٌ وعَلامةٌ) [2770] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/ 166). .
وقال السَّعديُّ: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ أي: وإنَّ عيسى عليه السَّلامُ لدَليلٌ على السَّاعةِ، وأنَّ القادِرَ على إيجادِه من أمٍّ بلا أبٍ قادِرٌ على بَعثِ الْمَوتى من قُبورِهم، أو إنَّ عيسى عليه السَّلامُ سَيَنزِلُ في آخِرِ الزَّمانِ، ويَكونُ نُزولُه عَلامةً من عَلاماتِ السَّاعةِ) [2771] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 768). .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء: 159] .
قال البَغَويُّ: (أي: وما مِن أهلِ الكِتابِ إلَّا ليُؤمِنَنَّ بعيسى عليه السَّلامُ، وهو قَولُ أكثَرِ الْمُفَسِّرين وأهلِ العِلمِ، وقَولُه قَبْلَ مَوْتِهِ اختَلَفوا في هَذِه الكِنايةِ، فقال عَكرِمةُ ومُجاهِدٌ والضَّحاكُ والسُّدِّيُّ: إنَّها كِنايةٌ عَنِ الكِتابي، ومَعناه: وما من أهلِ الكِتابِ أحَدٌ إلَّا ليُؤمِنَنَّ بِعيسى عليه السَّلامُ قَبلَ موتِه، إذا وقَعَ في اليَأسِ حينَ لا يَنفَعُه إيمانُه... وذَهَبَ قَومٌ إلى أنَّ الهاءَ في موتِه كِنايةٌ عَن عيسى عليه السَّلامُ، مَعناه: وإنْ من أهلِ الكِتابِ إلَّا ليُؤمِنَنَّ بعيسى قَبلَ مَوتِ عيسى عليه السَّلامُ، وذلك عِندَ نُزولِه مِنَ السَّماءِ في آخِرِ الزَّمانِ، فلا يَبقى أحَدٌ إلَّا آمَنَ به حَتَّى تَكونَ الْمِلَّةُ واحِدةً، مِلَّةُ الإسلامِ) [2772] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (1/ 719). .
وقال ابنُ كثيرٍ بَعدَ أن ساقَ أدِلَّةً كثيرةً في نُزولِ عيسى بن مَريَمَ عليه السَّلامُ: (فهَذِه أحاديثُ مُتَواتِرةٌ عَن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من رِوايةِ أبي هُرَيرةَ، وابنِ مَسعودٍ، وعُثمانَ بن أبي العاصِ، وأبي أُمامةَ، والنَّواسِ بن سَمعانَ، وعَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ، ومجمعِ بنِ جاريةَ وأبي سريحةَ وحُذَيفةَ بنِ أُسيدٍ، رَضِيَ الله عَنهم، وفيها دَلالةٌ على صِفةِ نُزولِه ومَكانِه، من أنَّه بالشَّامِ، بَل بدِمَشْقَ، عِندَ الْمَنارةِ الشَّرقيَّةِ، وأنَّ ذلك يَكونُ عِندَ إقامةِ الصَّلاةِ للصُّبحِ، وقَد بُنِيَت في هَذِه الأعصارِ في سَنةِ إحدى وأربَعينَ وسَبعِمِائةٍ مَنارةٌ للجامِعِ الأمويِّ بَيضاءٌ، من حِجارةٍ مَنحوتةٍ، عِوَضًا عَنِ الْمَنارةِ الَّتي هُدِمَت بسَبَبِ الحَريقِ الْمَنسوبِ إلى صَنيعِ النَّصارى -عليهم لعائِنُ اللهِ الْمُتَتابِعةُ إلى يَومِ القيامةِ- وكان أكثَرُ عِمارَتِها من أموالِهم، وقَويَتِ الظُّنونُ أنَّها هيَ الَّتي يَنزِلُ عليها الْمَسيحُ عيسى بنُ مَريَم... فلا يَقبَلُ إلَّا الإسلامَ، كما تَقَدَّم في الصَّحيحينِ [2773] أخرجه البخاري (2222)، ومسلم (155) بمعناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظه: ((..ويَقتلُ الخِنزيرَ ويَضَعُ الجِزيةَ ويَفيضُ المالُ حتى لا يقبَلَه أحدٌ)) قوله: "فيَضَع الجِزيةَ" أي: لا يقبَلُها ولا يقبَلُ من الكُفَّارِ إلا الإسلامَ. ، وهذا إخبارٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، وتَقريرٌ وتَشريعٌ وتَسويغٌ لَه على ذلك في ذلك الزَّمانِ؛ حَيثُ تَنزاحُ عِلَلُهم، وتَرتَفِعُ شُبَهُهم من أنفُسِهم؛ ولِهذا كُلُّهم يَدخُلونَ في دينِ الإسلامِ مُتابَعةً لعيسى عليه السَّلامُ، وعلى يَدَيه؛ ولِهذا قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء: 159] ) [2774] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 464). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((والذي نَفسي بيدِه، ليوشِكَنَّ أن يَنزِلَ فيكم ابنُ مَريَم حَكَمًا عَدلًا، فيَكسِرَ الصَّليبَ، ويَقتُلَ الخِنزيرَ، ويَضَعَ الجِزْيةَ، ويَفيضَ الْمالُ حَتَّى لا يَقبَلَه أحَدٌ، حَتَّى تَكونَ السَّجدةُ الواحِدةُ خَيرًا مِنَ الدُّنيا وما فيها»، ثُمَّ يَقولُ أبو هُرَيرةَ: واقرَؤوا إنْ شِئتُم: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء: 159] )) [2775] أخرجه البخاري (3448) واللَّفظُ له، ومسلم (155). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: ((والذي نَفسي بيَدِه)) فيه الحَلِفُ في الخَبَرِ مُبالَغةً في تَأكيدِه. قَولُه: ((لَيُوشِكَنَّ)) بكَسرِ الْمُعجَمةِ أي، ليَقْرُبَنَّ، أي: لا بُدَّ من ذلك سَريعًا. قَولُه: ((أن يَنزِلَ فيكم)) أي: في هَذِه الأمَّة، فإنَّه خِطَابٌ لبَعضِ الأمَّة مِمَّن لا يُدرِكُ نُزولَه. قَولُه: ((حَكَمًا)) أي: حاكِمًا، والمَعنى: أنَّه يَنزِلُ حاكِمًا بهَذِه الشَّريعةِ، فإنَّ هَذِه الشَّريعةَ باقيةٌ لا تُنسَخُ، بَل يَكونُ عيسى حاكِمًا من حُكَّامِ هَذِه الأمَّة... قَولُه: ((فيَكسِرَ الصَّليبُ ويَقتُلَ الخِنزيرَ)) أي: يُبْطِلَ دينَ النَّصرانيَّةِ بأن يَكسِرَ الصَّليبَ حَقيقةً ويُبْطِلَ ما تَزعُمُه النَّصارى من تَعظيمِه... قَولُه ((ويَضَعَ الحَربَ)) في رِوايةِ الكشميهنيِّ ((الجِزْيةَ)) والمَعنى: أنَّ الدِّينَ يَصيرُ واحِدًا فلا يَبقى أحَدٌ من أهلِ الذِّمَّةِ يُؤَدِّي الجِزْيةَ...قَولُه ((ويَفيضَ الْمالُ)) بفَتحِ أوَّلِه وكَسرِ الفاءِ وبِالضَّادِ الْمُعْجَمةِ، أي: يَكثُرَ، وفي رِوايةِ عَطاءِ بن ميناءَ الْمَذكورةِ: وليدعونَّ إلى الْمالِ فلا يَقبَلُه أحَدٌ. وسَبَبُ كثرَتِه نُزولُ البَرَكاتِ وتَوالي الخَيراتِ بسَبَبِ العَدْلِ وعَدَمِ الظُّلمِ، وحينَئِذٍ تُخرِجُ الأرضُ كُنوزَها وتَقِلُّ الرَّغَباتُ في اقتِناءِ الْمالِ لعِلمِهم بقُربِ السَّاعةِ. قَولُه: ((حَتَّى تَكونَ السَّجدةُ الواحِدةُ خَيرًا مِنَ الدُّنيا وما فيها)) أي: إنَّهم حينَئِذٍ لا يَتَقَرَّبونَ إلى الله إلَّا بالعِبادةِ لا بالتَّصَدُّقِ بالمالِ، وقيلَ: مَعناه أنَّ النَّاسَ يَرغَبونَ عَنِ الدُّنيا حَتَّى تَكونَ السَّجدةُ الواحِدةُ أحَبَّ إليهم مِنَ الدُّنيا وما فيها) [2776] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/ 491). .

انظر أيضا: