الموسوعة العقدية

الْمَبحَثُ السَّابعُ والأربَعونَ: الفُتوحاتُ والحُروبُ

ومِن ذلك قِتالُ التُّرْكِ.
عَن عَمْرِو بنِ تَغلِبَ رَضِيَ الله عَنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ من أشراطِ السَّاعةِ أن تُقاتِلوا قَومًا يَنتَعِلونَ نِعالَ الشَّعرِ، وإنَّ من أشراطِ السَّاعةِ أن تُقاتِلوا قَومًا عِراضَ الوُجوه، كأنَّ وُجوهَهم الْمَجانُّ الْمُطْرَقةُ )) [2301] أخرجه البخاري (2927). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تُقاتِلوا التُّرْكَ صِغارَ الأعيُنِ، حُمرَ الوُجوهِ، ذُلْفَ الأنوفِ، كأنَّ وُجوهَهم الْمَجَانُّ الْمُطْرَقةُ، ولا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى تُقاتِلوا قَومًا نِعالُهم الشَّعرُ )) [2302] أخرجه البخاري (2928) واللَّفظُ له، ومسلم (2912) .
قال النَّوَويُّ: (أمَّا ((الْمَجَانُّ)) فبِفَتحِ الْميمِ وتَشديدِ النُّونِ جَمعُ مِجَنٍّ بكَسرِ الْميمِ، وهو التُّرسُ، وأمَّا ((الْمُطْرَقةُ)) فبِإسكانِ الطَّاءِ وتَخفيفِ الرَّاءِ، هذا هو الفَصيحُ الْمَشهورُ في الرِّوايةِ، وفي كُتُبِ اللُّغةِ والغَريبِ: وحُكِيَ فتحُ الطَّاءِ وتَشديدُ الرَّاءِ، والمَعروفُ الأوَّلُ. قال العُلَماءُ: هيَ الَّتي أُلبِسَتِ العَقِبَ وأُطرِقَتْ به طاقةً فوقَ طاقةٍ قالوا: ومَعناه تَشبيهُ وُجوهِ التُّركِ في عِرَضِها وتَنَوُّرِ وجَناتِها بالترسةِ الْمُطْرَقةِ. قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ذُلْفَ الأنفِ))... وهو بضَمِّ الذَّالِ وإسكانِ اللَّامِ، جَمعُ أذلَفَ كأحمَرَ وحُمْرٍ، ومَعناه: فطسُ الأنوفِ قِصارُها مَعَ انبِطاحٍ، وقيلٍ؛ هو غِلَظٌ في أرنَبةِ الأنفِ، وقيلَ: تَطامُنٌ فيها، وكُلُّه مُتَقارِبٌ. قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَلبَسُونَ الشَّعرَ ويَمشونَ في الشَّعرِ)) مَعناه: يَنتَعِلونَ الشَّعرَ كما صَرَّحَ به في الرِّوايةِ الأخرى: ((نِعالُهم الشَّعرُ))، وقَد وُجِدوا في زَمانِنا هَكَذا، وفي الرِّوايةِ الأخرى: ((حَمْر الوُجوه)) أي: بِيضُ الوُجوهِ، مَشوبةٌ بحُمرةٍ، وفي هَذِه الرِّوايةِ: ((صِغَار الأعيُنِ))، وهَذِه كُلُّها مُعجِزاتٌ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقَد وُجِدَ قِتالُ هَؤُلاءِ التُّركِ بجَميعِ صِفاتِهم الَّتي ذَكَرَها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صِغارُ الأعيُنِ، حُمرُ الوُجوهِ، ذُلْفُ الأنفِ، عِراضُ الوُجوهِ، كأنَّ وُجوهَهم الْمَجَانُّ الْمُطْرَقةُ، يَنتَعِلونَ الشَّعرَ، فوُجِدوا بهَذِه الصِّفاتِ كُلِّها في زَمانِنا، وقاتَلَهم الْمُسلِمونَ مَرَّاتٍ، وقِتالُهم الآنَ [2303] أي: في زَمَنِه في القَرْنِ السَّابِعِ الهِجريِّ. ومِنَ المعارِكِ المشهورةِ التي قاتل المُسلِمون فيها التَّتارَ مَعرَكةُ عَينِ جالُوت سنةَ 658هـ. ، ونَسألُ اللهَ الكَريمَ إحسانَ العاقِبةِ للمُسْلِمينَ في أمرِهم وأمرِ غَيرِهم وسائِرِ أحوالِهم، وإدامةَ اللُّطفِ بهم والحِمايةِ، وصَلَّى اللهُ على رَسولِه الذي لا يَنطِقُ عَنِ الهوى، إنْ هو إلَّا وحيٌ يُوحى) [2304] يُنظر: ((شرح مسلم)) (18/ 36-38). .
قال السُّدِّيُّ: (التُّركُ سَرِيَّةٌ مَن يَأجُوجَ ومَأجوجَ، خَرَجَت فضَربَ ذو القَرنينِ السَّدَّ، فبَقيَت خارِجَه، فجَميعُ التُّركِ مِنهم) [2305] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/ 214). .
وعَن قَتادةَ: (أنَّهم اثنَتانِ وعِشرونَ قَبيلةً، بنى ذو القَرنين السَّدَّ على إحدى وعِشرينَ قَبيلةً، فبَقيَت قَبيلةٌ واحِدةٌ فهمُ التُّركُ، سُمُّوا التُّركَ؛ لأنَّهم تُرِكوا خارِجينَ) [2306] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/ 214). .
ومِن ذلك فتحُ الْمَدينةِ الَّتي جانِبٌ مِنها في البَرِّ وجانِبٌ مِنها في البَحرِ فتحًا بدونِ قِتالٍ.
عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((سَمِعتُم بمَدينةٍ جانِبٌ مِنها في البَرِّ وجانِبٌ مِنها في البَحرِ؟)) قالوا: نَعَم يا رَسولَ الله! قال: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَغزوَها سَبعونَ ألفًا من بني إسحاقَ. فإذا جاؤوها نَزَلوا. فلَم يُقاتِلوا بسِلاحٍ ولَم يَرمُوا بسَهمٍ. قالوا: لا إلَهَ إلَّا اللهُ واللهُ أكبَرُ. فيَسقُطُ أحَدُ جانِبَيها)). قال ثورٌ (أحَدُ رُواةِ الحَديثِ): لا أعلَمُه إلَّا قال: الذي في البَحرِ. ((ثُمَّ يَقولوا الثَّانيةَ: لا إلَه إلَّا الله والله أكبَرُ. فيَسقُطُ جانِبُها الآخَرُ. ثُمَّ يَقولوا الثَّالِثةَ: لا إلَه إلَّا اللهُ واللهُ أكبَرُ. فيُفَرَّجُ لَهم. فيَدخُلوها فيَغنَموا. فبينَما هم يَقتَسِمونَ الغَنائِمَ، إذ جاءَهم الصَّريخُ فقال: إنَّ الدَّجَّالَ قَد خَرَجَ. فيَتركونَ كُلَّ شَيءٍ ويَرجِعونَ )) [2307] أخرجه مسلم (2920). .
على أنَّه في تَحديدِ هَذِه الْمَدينةِ خِلافٌ؛ فقال بَعضُهم: هيَ مَدينةُ القُسطنطينيَّة [2308] قال ياقوت: (كانت رومية دار ملك الروم، وكان بها منهم تسعة عشر ملكًا... ثم ملك أيضًا برومية قسطنطين الأكبر، ثم انتقل إلى بزنطية وبنى عليها سورًا وسمَّاها قسطنطينية، وهي دار ملكهم إلى اليوم، واسمها إصطنبول، وهي دار ملك الروم، بينها وبين بلاد المسلمين البحر المالح، عمَّرها ملِكٌ من ملوك الروم يقال له قسطنطين، فسُمِّيت باسمه، والحكايات عن عِظَمِها وحُسْنِها كثيرة، ولها خليج من البحر يطيفُ بها من وجهينِ ممَّا يلي الشرق والشمال، وجانباها الغربي والجنوبي في البر). ((معجم البلدان)) (4/347). .
قال النَّوَويُّ: (وهَذِه الْمَدينةُ هيَ القُسطنطينيَّةُ) [2309] يُنظر: ((شرح مسلم)) (18/ 45). .
قال السَّخاويُّ في أشراطِ السَّاعةِ: (وفَتحُ قُسطُنطينيَّة بضَمِّ أوَّلِها وثالِثِها، وهيَ من أعظَمِ مَدائِنِ الرُّومِ، ففي صَحيحِ مُسْلِمٍ مَرفوعًا: ((أسمِعتُم بمَدينةٍ جانِبٌ مِنها في البَرِّ وجانِبٌ مِنها في البَحرِ؟ قالوا: نَعَم يا رَسولَ الله، قال: لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَغزوَها سَبعونَ ألفًا من بني إسحاقَ، فإذا جاؤوها نَزَلوا فلَم يُقاتِلوا بسِلاحٍ ولَم يَرموا بسَهمٍ، قالوا: لا إلَه إلَّا الله والله أكبَرُ، فيَسقُطُ أحَدُ جانِبَيها الذي في البَحرِ، ثُمَّ يَقولوا الثَّانيةَ: لا إلَه إلَّا الله والله أكبَرُ فيَسقُطُ جانِبُها الآخَرُ، ثُمَّ يَقولوا الثَّالِثةَ: لا إلَه إلَّا الله والله أكبَرُ فيُفَرَّجُ لَهم فيَنظُرونَها فيَغنَموا، فبينَما هم يَقتَسِمونَ الغَنائِمَ إذ جاءَهم الصَّريخُ، فقال: إنَّ الدَّجَّالَ قَد خَرجَ، فيَترُكونَ كُلَّ شَيءٍ ويَرجِعونَ)). فهَذِه الْمَدينةُ هيَ الَّتي عَيَّناها) [2310] يُنظر: ((القناعة فيما يحسن الإحاطة به من أشراط الساعة)) (ص: 116). .
واستبعد بعضُهم ذلك
قال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ عَنِ القُسطنطَينيَّةِ: (يَنبَغي أن يُبحَثَ عَن صِفَتِها، هَل تُوافِقُ ما وصفَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هَذِه الْمَدينةِ أم لا؟ وأمَّا ما ذَكرَه مُسْلِمٌ في الأمِّ من حَديثِ القُسطنطينيَّةِ فهو ما تَقَدَّمَ في حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه، الذي قال في أوَّلِه: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَنزِلَ الرُّومُ بالأعماقِ، أو بدابِقَ قال فيه: فيُقاتِلُهم الْمُسلِمونَ فيَنهَزِمُ ثُلثٌ، ويُقتَلُ ثُلثٌ، ويَفتَحُ الثُّلثُ القُسطنطينيَّةَ، فبينَما هم يَقسِمونَ الغِنائِمَ، قَد عَلَّقوا سُيوفَهم بالزَّيتونِ إذ صاحَ فيهم الشَّيطانُ: إنَّ الْمَسيحَ قَد خَلَفَكم في أهليكم )) [2311] أخرجه مسلم (2897) . وظاهِرُ هذا يَدُلُّ على أنَّ القُسطنطينيَّةَ إنَّما تُفتَحُ بالقِتالِ، وهذا الحَديثُ يَدُلُّ على أنَّها تُفتَحُ بالتَّهليلِ والتَّكبيرِ، فقَولُ بَعضِهم فيه بُعدٌ، والحاصِلُ: أنَّ القُسطنطينيَّةَ لا بُدَّ من فتحِها، وأنَّ فتحَها من أشراطِ السَّاعةِ على ما شَهِدَت به أخبارٌ كثيرةٌ) [2312] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 249). قال عمر الأشقر: (ذهب العلماء إلى أن هذه المدينة هي القسطنطينية، وإن لم يُسَمِّها الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد خطر ببالي أنَّ هذه المدينة قد تكون البندقيَّةَ في إيطاليا، فإنَّ جزءًا كبيرًا من بيوتها مبنيٌّ في داخل البحر، وجزء في البر، وقد نظرت إلى المدينتين خلال زيارتي لكل واحدة منهما فرأيتُ البندقية أقرَبَ إلى المراد بالحديث، والله أعلم) ((القيامة الصغرى)) (ص: 230). .
وقال القُرطُبيُّ: (لَعَلُّ فتحَ الْمَهديِّ يَكونُ لَها مَرَّتين؛ مَرَّةً بالقِتالِ، ومَرَّةً بالتَّكبيرِ) [2313] يُنظر: ((التذكرة)) (2/ 335). .
وفَتحُ القُسطنطَينيَّةِ بالقِتالِ قَد وقَعَ على يَدِ السُّلطانِ مُحمد الفاتِحِ عام 857هـ الموافق 1453م، وأمَّا فتحُها بدونِ قِتالٍ فلَم يَقَع بَعدُ [2314] يُنظر: ((إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة)) لحمود التويجري (1/ 403). .
وقَد أشَكلَ قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الحَديثِ: ((يَغزُوها سَبعونَ ألفًا من بَني إسحاقَ)) والرُّومُ من بني إسحاقَ، فكَيفَ يَكونُ فتحُ تِلكَ الْمَدينةِ على أيديهم؟
قال عياضٌ: (قَولُه في الْمَدينةِ الَّتى جانِبٌ مِنها في البَحرِ يَغَزوها سَبعونَ ألفًا من بني إسحاقَ. كذا في سائِرِ الأصولِ. قال بَعضُهم: الْمَعروفُ الْمَحفوظُ من بني إسماعيلَ، وهو الذي يَدُلُّ عليه الحَديثُ وسياقُه؛ لأنَّه إنَّما يَعني العَرَبَ والمُسْلِمينَ) [2315] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (8/ 464). .
وقال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (قَولُه: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَغزوَها سَبعونَ ألفًا من بني إسحاقَ)) هَكَذا صَحَّتِ الرِّوايةُ عِندَ الجَميعِ، وفي الأمَّهاتِ. قال القاضي أبو الفَضلِ: قال بَعضُهم: الْمَعروفُ الْمَحفوظُ: من بني إسماعيلَ، وهو الذي يَدُلُّ عليه الحَديثُ وسياقُه؛ لأنَّه إنَّما يَعني به: العَرَبَ والمُسْلِمينَ... قُلتُ: وهذا فيه بُعدٌ من جِهةِ اتِّفاقِ الرُّواةِ والأمَّهاتِ على بني إسحاقَ، فإذَنِ الْمَعروفُ خِلافُ ما قال هذا القائِلُ) [2316] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 248). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (إنَّ الْمُستَوردَ القُرشيَّ قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((تَقومُ السَّاعةُ والرُّومُ أكثَرُ النَّاسِ)). قال: فبَلَغَ ذلك عَمْرَو بن العاصِ، فقال: ما هَذِه الأحاديثُ الَّتي تُذكَرُ عَنكَ أنَّكَ تَقولُها عَن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال لَه الْمُستَوردُ: قُلتُ الذي سَمِعتُ من رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال: فقال عَمْرٌو: لَئِن قُلتَ ذلك إنَّهم لأحلَمُ النَّاسِ عِندَ فتنةٍ، وأصبَرَ النَّاسِ عِندَ مُصيبةٍ، وخَيرَ النَّاسِ لِمَساكينِهم وضُعَفائِهم [2317] أخرجه مسلم (2898). . وهذا يَدُلُّ على أنَّ الرُّومَ يُسلِمونَ في آخِرِ الزَّمانِ، ولَعَلَّ فتحَ القُسطنطَينيَّةِ يَكونُ على يَدَيْ طائِفةٍ مِنهم، كما نَطقَ به الحَديثُ الْمُتَقَدِّمُ أنَّه يَغَزوها سَبعونَ ألفًا من بني إسحاقَ، والرُّومُ من سُلالةِ العيصِ بن إسحاقَ بن إبراهيمَ الخَليلِ، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فهم أولادُ عَمِّ بني إسرائيلَ، وهو يَعقوبُ بنُ إسحاقَ، فالرُّومُ يَكونونَ في آخِرِ الزَّمانِ خَيرًا من بني إسرائيلَ، فإنَّ الدَّجَّالَ يَتبَعُه سَبعونَ ألفًا من يَهودِ أصبَهانَ، فهم أنصارُ الدَّجَّالِ، وهَؤُلاءِ -أعني الرُّومَ- قَد مُدِحوا في هذا الحَديثِ، فلَعَلَّهم يُسلِمونَ على يَدَيِ الْمَسيحِ ابنِ مِريَم، والله أعلَمُ. على أنَّه قَد وقَعَ في بَعضِ الرِّواياتِ: «مِن بني إسماعيلَ». وقوى ذلك عياضٌ وغَيرُه. والله أعلَمُ) [2318] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (19/106). .
ويَدُلُّ أيضًا على أنَّ الرُّومَ يَدخُلونَ في الإسلامِ في آخِرِ الزَّمانِ: حَديثُ أبي هُرَيرةَ في قِتالِ الرُّومِ، وفيه: أنَّ الرُّومَ يَقولونَ للمُسْلِمينَ: ((خَلُّوا بينَنا وبينَ الذينَ سُبُوا مِنَّا نُقاتِلْهم، فيَقولُ الْمُسلِمونَ: لا واللهِ لا نُخَلِّي بينَكم وبينَ إخوانِنا )) [2319] أخرجه مسلم (2897) مُطَولًا. فالرُّومُ يَطلُبونَ مِنَ الْمُسلِمينَ أن يَتركوهم ليُقاتِلوا من سُبِيَ مِنهم لأنَّهم أسلَموا، فيَرفِضُ الْمُسلِمونَ ذلك، ويُبيِّنونَ للرُّومِ أنَّ من أسلَمَ مِنهم فهو من إخوانِنا لا نُسْلِمُه لأحَدٍ.
قال النَّوَويُّ: (إنَّهم سُبُوا أوَّلًا ثُمَّ سَبَوا الكُفَّارَ، وهذا مَوجودٌ في زَمانِنا، بَل مُعظَمُ عَساكِرِ الإسلامِ في بلادِ الشَّامِ ومِصرِ سُبُوا ثُمَّ همُ اليَومُ بحَمدِ الله يَسْبُونَ الكُفَّارَ، وقَد سَبَوهم في زَمانِنا مِرارًا كثيرةً، يَسبُونَ في الْمَرَّةِ الواحِدةِ مِنَ الكُفَّارِ ألوفًا، ولِلَّه الحَمدُ على إظهارِ الإسلامِ وإعزازِه) [2320] يُنظر: ((شرح مسلم)) (18/21).   .
ويُؤَيِّدُ كونَ هذا الجَيشِ من بني إسحاقَ أنَّ جَيشَ الرُّومِ يَبلُغُ عَدَدُهم قَريبًا من ألفِ ألفٍ، فيُقتَلُ بَعضُهم ويُسْلِمُ بَعضُهم، ويَكونُ من أسلَمَ مَعَ جَيشِ الْمُسْلِمينَ. والله أعلَمُ [2321] يُنظر: ((أشراط الساعة)) ليوسف الوابل (ص: 217). .
وعَن أنسِ بن مالِك رَضِيَ الله عَنه أنَّه قال: (فتحُ القُسطنطينيَّةِ مَعَ قيامِ السَّاعةِ) [2322] أخرجه الترمذي (2239)، والداني في ((السنن الواردة في الفتن)) (610). صحَّح إسنادَه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2239)، وقال الدارقطني في ((العلل)) (12/223): محفوظ. .
فالقُسطنطينيَّةُ لَم تُفتَح في عَصرِ الصَّحابةِ؛ فإنَّ مُعاويةَ رَضِيَ الله عَنه بَعثَ إليها ابنَه يَزيدَ في جيشٍ فيهم أبو أيوبَ الأنصاريُّ، ولَم يَتِمَّ لَهم فتحُها، ثُمَّ حاصَرَها مَسْلَمةُ بنُ عَبدِ الْمَلكِ ولَم تُفتَح أيضًا، ولَكِنَّه صالَحَ أهلَها على بناءِ مَسجِدٍ بها [2323] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (19/ 113). .
وفَتحُ المسلمين أيضًا للقُسطنطينيَّةِ كان بقِتالٍ [2324] يُنظر: ((أشراط الساعة)) ليوسف الوابل (ص: 217).
قال البَرزنجيُّ: (غايةُ ما ثَبَتَ بالأخبارِ الصَّحيحةِ الصَّريحةِ الكَثيرةِ الشَّهيرةِ الَّتي بَلَغَتِ التَّواتُرَ الْمَعنَويَّ وُجودُ الآياتِ العِظامِ الَّتي مِنها بَل أوَّلُها خُروجُ الْمَهديِّ، وأنَّه يَأتي في آخِرِ الزَّمانِ من ولَدِ فاطِمةَ رَضِيَ الله عَنها يَملَأُ الأرضَ عَدْلًا كما مُلِئَت ظُلْمًا، وأنَّه يُقاتِلُ الرُّومَ في الْمَلْحَمةِ ويَفتَحُ القُسطنطينيَّةَ، ويَخرُجُ الدَّجالُ في زَمَنِه، ويَنزِلُ عيسى عليه السَّلامُ ويُصَلِّي خَلْفَه) [2325] يُنظر: ((الإشاعة لأشراط الساعة)) (ص: 345). .
قال أحمَد شاكِر: (فتْحُ القُسطنطينيَّةِ الْمُبَشَّرُ به في الحَديثِ سَيَكونُ في مُستَقبَلٍ قَريبٍ أو بَعيدٍ يَعلَمُه الله عَزَّ وجَلَّ، وهو الفَتحُ الصَّحيحُ لَها حينَ يَعودُ الْمُسْلِمونَ إلى دينِهم الذي أعرَضوا عَنه، وأمَّا فتحُ التُّركِ الذي كان قَبلَ عَصرِنا هذا فإنَّه كان تَمهيدًا للفَتحِ الأعظَمِ. ثُمَّ هيَ قَد خَرَجَت بَعدَ ذلك من أيدي الْمُسْلِمينَ مُنذُ أعلَنَت حُكومَتُهم هناكَ أنَّها حُكومةٌ غَيرُ إسلاميَّةٍ وغَيرُ دينيَّةٍ وعاهَدَتِ الكُفَّارَ أعداءَ الإسلامِ، وحَكَمتْ أمَّتها بأحكامِ القَوانينِ الوَثنيَّةِ الكافِرةِ، وسَيَعودُ الفَتحُ الإسلاميُّ لَها إن شاءَ اللهُ، كما بَشَّرَ به رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [2326] يُنظر: ((عمدة التفسير)) (1/ 376). .
ومِن ذلك فتحُ بَيتِ الْمَقدِسِ:
عَن عَوفِ بن مالِكٍ رَضِيَ الله عَنه أنَّه قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اعْدُدْ سِتًّا بينَ يَدَيِ السَّاعةِ)) فذَكَرَ مِنها ((فتْح بَيتِ الْمَقدِسِ)) [2327] أخرجه البخاري (3176). .
قال العَينيُّ: (وهَذِه السِّتُّ الْمَذكورةُ ظَهَرَت، مِنها:... وفَتْح بَيتِ الْمَقدِسِ) [2328] يُنظر: ((عمدة القاري)) (15/ 100). .
وقَد تَمَّ فتحُ بَيتِ الْمَقدِسِ في عَهدِ عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنه سَنة خَمسَ عَشْرةَ مِنَ الهِجرةِ [2329] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) لابن جرير (3/ 607)، ((المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)) لابن الجوزي (4/193)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (9/ 655).    .
قال البَرزنجيُّ: (ومِنها: فتح بَيتِ الْمَقدِسِ:
عَن عَوفِ بن مالِكٍ رَضِيَ الله عَنه مَرفوعًا: ((اعدُدْ بينَ يَدَيِ السَّاعةِ سِتًّا: موتي، وفَتحَ بَيتِ الْمَقدِسِ... )).
وقَد فُتِحَ مَرَّتين: مَرَّةً في زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنه، ومَرَّةً في زَمَنِ الأكرادِ الأيوبيَّةِ، فتَحَه السُّلطانُ صَلاحُ الدِّين يوسُفُ بن أيوبَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ، وكان من أعظَمِ فُتوحِ الإسلامِ، ثُمَّ بَعدَ موتِه رَدَّه بَعضُ أولادِه إلى النَّصارى، ثُمَّ استَرَدَّه حَفيدُه داوُدُ الْمِلكُ النَّاصِرُ.
وأنشَدَ في ذلك بَعضُ الشُّعراءِ يُهَنِّيه:
الْمِسجِدُ الأقصى لَه عادة ... سارَت فصارَت مَثَلًا سائِرَا
إذا غَدا بالكُفرِ مُستَوطَنًا ... أن يَبعَثَ اللهُ لَه ناصِرَا
فناصِرٌ طَهَّرَه أوَّلًا ... وناصِرٌ طَهَّرَه آخِرَا) [2330] يُنظر: ((الإشاعة لأشراط الساعة)) (ص: 103). .
وسَيَكونُ هناكَ فتحٌ ثالِثٌ لبَيتِ الْمَقدِسِ بإذْنِ الله تعالى.
عَن عَبدِ الله بنَ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنهما أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((تُقاتِلونَ اليَهودَ حَتَّى يَختَبئَ أحَدُهم وراءَ الحَجَرِ، فيَقولُ: يا عَبدَ الله، هذا يَهوديٌّ ورائي، فاقتُلْه )) [2331] أخرجه البخاري (2925) واللَّفظُ له، ومسلم (2921). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يُقاتِلَ الْمُسلِمونَ اليَهودَ، فيَقتُلُهم الْمُسْلِمونَ حَتَّى يَختَبِئَ اليَهوديُّ من وراءِ الحَجَرِ والشَّجَرِ، فيَقولُ الحَجَرُ أوِ الشَّجَرُ: يا مُسْلِمُ يا عَبدَ اللهِ هذا يَهوديٌّ خَلفي، فتَعالَ فاقتُلْه، إلَّا الغَرقَدَ؛ فإنَّه من شَجَرِ اليَهودِ)) [2332] أخرجه البخاري (2926)، ومسلم (2922) واللَّفظُ له. .
قال ابنُ حَجَرٍ: (فيه إشارةٌ إلى بَقاءِ دينِ الإسلامِ إلى أن يَنزِلَ عيسى عليه السَّلامُ؛ فإنَّه الذي يُقاتِلُ الدَّجَّالَ، ويَستَأصِلُ اليَهودَ الذينَ هم تَبَعُ الدَّجَّالِ) [2333] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/ 103). .
قال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (هذا إنَّما يَكونُ -والله أعلَمُ- بَعدَ قَتْلِ الدَّجَّالِ؛ فإنَّ اليَهودَ هم أكثَرُ أتباعِه) [2334] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 251). .
وقال النَّوَويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إلَّا الغَرقَدَ؛ فإنَّه من شَجَرِ اليَهودِ))، والغَرقَدُ نَوعٌ من شَجَرِ الشَّوكِ مَعروفٌ ببَلادِ بَيتِ الْمَقدِسِ، وهُناكَ يَكونُ قَتْلُ الدَّجَّالِ واليَهودِ) [2335] يُنظر: ((شرح مسلم)) (18/ 45). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ في اليَهودِ: (هَم في الحَقيقةِ إنَّما يَنتَظِرونَ الْمَسيحَ الدَّجَّالَ، فإنَّه الذي يَتْبَعُه اليَهودُ، ويَخرُجُ مَعَه سَبعونَ ألفَ مُطيلسٍ من يَهودِ أصبَهانَ، ويَقتُلُهم الْمُسلِمونُ مَعَه حَتَّى يَقولَ الشَّجَرُ والحَجَرُ: يا مُسْلِمُ هذا يَهوديٌّ ورائي تَعالَ فاقتُلْه، كما ثَبَتَ ذلك في الصَّحيحِ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [2336] يُنظر: ((الجواب الصَّحيح)) (2/ 30). .
وقال ابنُ رَجَبٍ: (إنَّ الشَّامَ تَبقَى عامِرةً فيها أهلُها بَعدَ خَرابِ الْمَدينةِ، وبَعدَ خُروجِ الدَّجَّالِ، ونُزولِ عيسى بنِ مَريَم، وخُروجِ يَأجوجَ ومَأجوجَ، وبَعدَ ظُهورِ النَّارِ الَّتي هيَ من أوَّلِ أشراطِ السَّاعةِ، وبَعدَ بَعثِ الله الرِّيحَ الطَّيبةَ الَّتي تَقبِضُ أرواحَ الْمُؤمِنينَ) [2337] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/ 235). .
وقال ابنُ الْمُلقِّنِ: (الْمُرادُ بقَولِه: ((تُقاتِلونَ اليَهودَ)) إذا نَزلَ عيسى فإنَّ الْمُسلِمين مَعَه، واليَهودُ مَعَ الدَّجَّالِ، وفيه ظُهورُ الآياتِ بحُكمِ الجِهادِ وما شاكَلَه عِندَ نُزولِ عيسى الذي يَستَأصِلُ الدَّجَّالَ واليَهودَ مَعَه) [2338] يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصَّحيح)) (17/ 663). .
وقال ابنُ بازٍ عَن حَديثٍ: ((لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يُقاتِلَ الْمُسلِمونَ اليَهودَ، فيَقتُلُهم الْمُسْلِمونَ حَتَّى يَختَبِئَ اليَهوديُّ من وراءِ الحَجَرِ والشَّجَرِ ...)): (يُحتَمَلُ أن يَكونَ هذا بَعدَ وقتٍ يَتَحَسَّنُ فيه أحوالُ الْمُسْلِمينَ، ويَجتَمِعونَ على الحَقِّ والهُدى، فيُنصَرونَ عليهم، ويُحتَمَلُ أن يَكونَ هذا في وقتِ عيسى، كما هو مَعلومٌ؛ فإنَّه وقتُ عيسى يَقتُلُ اليَهودَ، ويَنصُرُ اللهُ عيسى والمُسْلِمينَ عليهم، ويَقتُلُ الدَّجَّالَ، هذا لا شَكَّ فيه، في وقتِ عيسى، لَكِن يُحتَمَلُ أن يَقَعَ قَبلَ عيسى، وأنَّ الْمُسْلِمينَ تَتَحَسَّنُ أحوالُهم، وتَستَقيمُ أمورُهم على شَريعةِ الله، ويَقودُهم أميرٌ صالِحٌ، أو إمامٌ صالِحٌ، يَقودُهم إلى الحَقِّ والهُدى، ويَستَقيمونَ على شَريعةِ الله، ثُمَّ يَتَوَجَّهونَ لقِتالِ اليَهودِ، فيُنصَرونَ عليهم، هذا كُلُّه مَحَلُّ احتِمالٍ، أمَّا في وقتِ عيسى فلا شَكَّ فيه أنَّه يَقتُلُهم، ويَنصُرُه الله عليهم، عليه السَّلامُ، مَعَ الْمُسْلِمينَ عِندَ قَتلِه للدَّجَّالِ) [2339] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (4/ 282). .

انظر أيضا: