الموسوعة العقدية

المَطلَبُ الثَّالِثُ: سَكَراتُ المَوتِ أمرٌ مَحتومٌ حُصولُه لِكُلِّ المَخلوقاتِ

كُلُّ المخلوقاتِ تجِدُ سَكَراتِ الموتِ، ويشهَدُ لهذا عمومُ قَولِه تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] ، وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ للمَوتِ سَكَراتٍ)) [1380] أخرجه البخاري (4449) من حَديثِ عائشة رَضِيَ اللهُ عنها. ، لكِنْ تختَلِفُ المخلوقاتُ في درجةِ إحساسِها بالسَّكَراتِ [1381] يُنظر: ((التذكرة)) (1/ 37). .
فالعَبدُ المؤمِنِ تخرُجُ رُوحُه بسُهولةٍ ويُسرٍ.
أمَّا الكافِرُ فإنَّ رُوحَه تخرُجُ بشِدَّةٍ وصُعوبةٍ يتعذَّبُ بها.
وهَذا في الجُملةِ وإلَّا فإنَّه قَد تَشتَدُّ السَّكَراتُ على بَعضِ الصَّالِحينَ؛ لِتَكفيرِ ذُنوبهم، ولِرَفعِ دَرَجاتِهم، كَما وقَعَ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَيثُ عانَى من شِدَّةِ سَكَراتِ المَوتِ لرَفعِ دَرَجاتِه، وزيادةِ حَسَناتِه [1382] أخرجه البخاري (4449) مُطَوَّلًا من حَديثِ عائشة رَضِيَ اللهُ عنها بلفظ: ((لا إلهَ إلا اللهُ، إنَّ للمَوتِ سكَرَاتٍ..)). .
قال ابنُ حَجَرٍ في شرحِ حَديثِ: ((لا إلَه إلَّا اللَّهُ، إنَّ لِلمَوتِ سَكَراتٍ )): (وفي الحَديثِ: أنَّ شِدَّةَ المَوتِ لا تَدُلُّ على نَقصٍ في المَرتَبةِ، بَل هيَ لِلمُؤمِنِ إمَّا زيادةٌ في حَسَناتِه، وإمَّا تَكفيرٌ لِسَيِّئاتِه) [1383] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/363). .
وقَد تَرجَمَ ابنُ ماجِهْ في سُنَنِه بعُنوانِ: (بابُ ما جاءَ في المُؤمنِ يُؤجَرُ في النَّزعِ)، وساقَ تَحتَه قَولَـه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المُؤمِنُ يَموتُ بعَرَقِ الجَبينِ )) [1384] أخرجه من طُرُقٍ: الترمذي (982)، والنسائي (1829)، وابن ماجه (1452)، وأحمد (22964) من حديثِ بُرَيدةَ بنِ الحصيبِ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابنُ حِبَّان في ((صحيحه)) (3011)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه))، والوادعي على شرط البخاري في ((الصحيح المسند)) (179)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22964)، وحسَّنه الترمذي، وقال الحاكم في ((المستدرك)) (1333): على شرط الشيخين. . كَما قَد جاءَ في حَديثٍ آخَرَ قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما يَجِدُ الشَّهيدُ من مَسِّ القَتْلِ إلَّا كَما يَجِدُ أحَدُكُم من مَسِّ القَرْصةِ )) [1385] أخرجه الترمذي (1668) واللَّفظُ له، والنسائي (3161)، وابن ماجه (2802) من حَديثِ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الترمذي، وابنُ حبان في ((صحيحه)) (4655)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2278)، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1452)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (15/99)، وجوَّده ابن باز في ((مسائله)) (270)، وقوَّاه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7953). .
وهَذا يَدُلُّ على أنَّ الأصلَ تَخفيفُ نَزعِ روحِ المُؤمِنِ، إلَّا أنَّها قَد تُشَدَّدُ على مَن أرادَ اللَّهُ سُبحانَه وتعالى مِنَ المُؤمِنينَ؛ تَكفيرًا لِسَيِّئاتِهم، أو رَفعًا لِدَرَجاتِهم.
قال القُرطبيُّ في مَعرِضِ حَديثِه عَن سَكَراتِ المَوتِ: (قال عُلَماؤُنا رَحمةُ اللهِ عليهم: فإذا كانَ هَذا الأمرُ قَد أصابَ الأنبياءَ والمُرَسَلِينَ والأولياءَ والمُتَّقينَ، فما لَنا عَن ذِكرِه مَشغولينَ؟! وعَن الاستِعدادِ لَه مُتَخَلِّفينِ؟! قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [الصافات: 67، 68]. قالوا: وما جَرَى على الأنبياءِ صَلَواتُ اللهِ عليهم أجمَعينَ من شَدائِدِ المَوتِ وسَكَراتِه، فلَه فائِدَتانِ:
إحداهما: أن يَعرِفَ الخَلقُ مِقدارَ ألمِ المَوتِ وأنَّه باطِنٌ، وقَد يَطَّلِعُ الإنسانُ على بَعضِ المَوتَى فلا يَرَى عليه حَرَكةً ولا قَلقًا، ويَرَى سُهولةَ خُروجِ رُوحِه، فيَغلِبُ على ظَنِّه سُهولةَ أمرِ المَوتِ، ولا يَعرِفُ ما المَيِّتُ فيه، فلَمَّا ذَكَرَ الأنبياءُ الصَّادِقونَ في خَبَرِهم شِدَّةَ ألَمِه مَعَ كَرامَتِهم على اللَّهِ تعالى، وتَهوينَه على بَعضِهم، قَطَعَ الخَلقُ بشِدَّةِ المَوتِ الَّذي يُعانيه ويُقاسيه المَيِّتُ مُطلَقًا لِإخبارِ الصَّادِقِينَ عَنه، ما خَلَا الشَّهيدَ قَتيلَ الكُفَّارِ...
الثَّانيةُ: رُبَّما خَطَرَ لِبَعضِ النَّاسِ أنَّ هَؤُلاءِ أحبابُ اللَّهِ وأنبياؤُه ورُسلُه، فكَيف يُقاسونَ هَذِه الشَّدائِدَ العَظيمةَ؟ وهو سُبحانَه قادِرٌ أن يُخَفِّفَ عَنهم أجمَعينَ.... فالجَوابُ: أنَّ ((أشَدَّ النَّاسِ بلاءً في الدُّنيا الأنبياءُ ثُمَّ الأمثَلُ فالأمثَلُ )) [1386] أخرجه الترمذي (2398)، وابن ماجه (4023)، وأحمد (1494) مُطَوَّلًا باختلافٍ يسيرٍ من حَديثِ سعد بن أبي وقَّاص رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الترمذي، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (7/146)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2398)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (7/5)، وحسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (377). ، كَما قال نَبِيُّنا عليه السَّلامُ... فأحَبَّ اللهُ أن يَبتَلِيَهم تَكميلًا لِفضائِلِهم لَدَيه، ورَفعةً لِدَرَجاتِهم عِندَه، ولَيسَ ذلك في حَقِّهم نَقصًا ولا عَذابًا، بَل هو.. كَمالُ رِفعةٍ، مَعَ رِضاهم بجَميلِ ما يُجري اللهُ عليهم، فأرادَ الحَقُّ سُبحانَه أن يَختِمَ لَهم بهَذِه الشَّدائِدِ، مَعَ إمكانِ التَّخفيفِ والتَّهوينِ عليهم؛ ليَرفعَ مَنازِلَهم، ويُعَظِّمَ أُجورَهم قَبلَ موتِهم) [1387] يُنظر: ((التذكرة)) (1/ 36). .

انظر أيضا: