الموسوعة العقدية

المَطْلَبُ الثَّالِثُ: من الأمورِ التي تفَرَّد بها الأنبياءُ: تخييرُهم عند موتِهم بين البقاءِ في الدُّنيا والانتقالِ إلى الدَّارِ الآخِرةِ

عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((ما من نَبيٍّ يمرَضُ إلَّا خُيِّرَ بين الدُّنيا والآخرةِ، وكان في شكواه الذي قُبِضَ فيه أخذَتْه بحَّةٌ شديدةٌ، فسَمِعْتُه يقولُ: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69] فعَلِمتُ أنَّه خُيِّرَ)) [846] رواه البخاري (4586) واللَّفظُ له، ومسلم (2444). .
وعنها رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقُولُ وَهْوَ صَحِيحٌ: لَنْ يُقْبَضَ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى. قُلْتُ: إِذًا لَا يَخْتَارُنَا وَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِى كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهْوَ صَحِيحٌ. قَالَتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى )) [847] رواه البخاري (6348) واللَّفظُ له، ومسلم (2444). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطبيُّ: (تخييرُ اللهِ للأنبياءِ عند الموتِ مبالغةٌ في إكرامِهم وفي ترفيعِ مَراتِبِهم عندَ اللهِ تعالى، ولِيَستخرِجَ منهم شِدَّةَ شَوقِهم، ومحبَّتَهم له تعالى ولِما عندَه) [848] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 328). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (من خصائِصِ الأنبياءِ أنَّه لا يُقبَضُ نَبيٌّ حتى يخيَّرَ بين البقاءِ في الدُّنيا وبين الموتِ) [849] يُنظر: ((فتح الباري)) (10/ 131). .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: ((أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ! قَالَ: ارْجِعْ إليه فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ: أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ. قَالَ: فَالآنَ )) [850] أخرجه مطولاً البخاري (1339) واللفظ له، ومسلم (2372). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطبيُّ: (فالآنَ: ظَرفُ زَمانٍ غيرُ مُتمَكِّنٍ، وهو اسمٌ لزَمانِ الحالِ الذي يَكونُ المتكَلِّمُ عليها، وهو الزَّمانُ الفاصِلُ بين الماضي والمستقبَلِ، وهذا يدُلُّ على: أنَّ موسى لِما خَيَّرَه اللهُ بين الحياةِ والموتِ، اختار الموتَ شوقًا للقاءِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، واستعجالًا لِما له عندَ اللهِ من الثوابِ والخيرِ، واستراحةً من الدُّنيا المكَدَّرةِ، وهذا كما خُيِّر نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند موتِه، فقال: اللَّهُمَّ الرَّفيقَ الأعلى) [851] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 222). .

انظر أيضا: