الموسوعة العقدية

الفَرعُ الثاني: خصائِصُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ

1- أنَّه خليلُ الرَّحمنِ ولم يُشارِكْه في الخُلَّةِ إلَّا مُحَمَّدٌ، صلَّى اللهُ عليهما وسلَّم.
قال اللهُ تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125] .
قال السمعاني: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا يعني: حبيبًا، لا خَلَل في حُبِّه، والخُلَّةُ: صَفاوةُ المودَّةِ، فمعناه: أنَّه اتخذه حبيبًا، وجعَلَه صَفِيَّه، وخاصَّ نَفْسِه، كما يَكونُ الحبيبُ مع الحبيبِ، قال الشَّاعِرُ:
قد تخَلَّلْتَ مَسلَكَ الرُّوحِ مِنِّي  وبذا سُمِّيَ الخَليلُ خَليلَا) [544] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (1/ 484). .
2- جعله اللهُ عَزَّ وجَلَّ إمامًا للنَّاسِ يَقتَدون به ويَهتَدون بهَدْيِه.
قال اللهُ سُبحانَه: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة: 124] .
قال السَّعْديُّ: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا أي: يَقتَدُون بك في الهُدى، ويمشُون خَلْفَك إلى سعادتِهم الأبَدِيَّةِ، ويحصُلُ لك الثناءُ الدَّائِمُ، والأجرُ الجَزيلُ، والتعظيمُ من كُلِّ أحَدٍ.
وهذه -لعَمْرُ اللهِ- أفضَلُ دَرَجةٍ تنافس فيها المتنافِسون، وأعلى مقامٍ شَمَّر إليه العاملون، وأكمَلُ حالةٍ حَصَّلها أولو العَزمِ مِنَ المُرْسَلين وأتباعِهم من كُلِّ صِدِّيقٍ مُتَّبِعٍ لهم، داعٍ إلى اللهِ وإلى سَبيلِه) [545] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 65). .
وقال اللهُ تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120] .
قال ابنُ تَيمِيَّةَ: (إبراهيمُ الخَليلُ إمامُ الحُنَفاءِ المُخلَصينَ؛ حيثُ بُعِث وقد طَبَّق الأرضَ دِينُ المُشرِكين. قال اللهُ تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا... وقال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ والأُمَّةُ هو مُعَلِّمُ الخَيرِ الذي يُؤتَمُّ به، كما أنَّ القُدوةَ الذي يُقتَدَى به) [546] يُنظر: ((العبودية)) (ص: 105). .
3- أجرى اللهُ على يديه بناءَ بَيتِه الذي جعله قيامًا للنَّاسِ ومَثابةً وأمنًا، وعَهِدَ اللهُ إليه ولابنِه تبعًا له تطهيرَ البيتِ للطَّائِفين والعاكِفين والرُّكَّعِ السُّجُودِ. وأمر سُبحانَه المُؤمِنين باتخاذِ مَقامِه مُصَلًّى.
قال اللهُ تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125] .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 127] .
قال ابنُ كثيرٍ: (قال اللهُ تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 26، 27]، وقال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 96، 97].
وقال تعالى: ... وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ... [البقرة: 127] .
يذكُرُ تعالى عن عَبْدِه ورَسولِه وصَفِيِّه وخليلِه؛ إمامِ الحُنَفاءِ، ووالِدِ الأنبياءِ، عليه أفضَلُ صَلاةٍ وتسليمٍ- أنَّه بنى البيتَ العتيقَ الذي هو أوَّلُ مَسجدٍ وُضِعَ لعُمومِ النَّاسِ يَعبُدون اللهَ فيه، وبَوَّأه اللهُ مَكانَه، أي أرشده إليه ودَلَّه عليه، وقد رُوِّينا عن أميرِ المُؤمِنين عليِّ بنِ أبي طالبٍ وغيرِه أنَّه أرشد إليه بوَحيٍ من اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وقد قَدَّمنا في صفةِ خَلْقِ السَّمَواتِ أنَّ الكعبةَ بحِيالِ البَيتِ المعمورِ بحيث أنَّه لو سقط لسقَطَ عليها... والمقصودُ: أنَّ الخليلَ بنى أشرَفَ المساجِدِ في أشرَفِ البِقاعِ في وادٍ غيرِ ذي زرعٍ، ودعا لأهلِها بالبركةِ، وأن يُرزَقوا من الثَّمَراتِ، مع قِلَّةِ المياهِ، وعَدَمِ الأشجارِ والزُّروعِ والثِّمارِ، وأن يجعَلَه حَرَمًا محرَّمًا وأَمنًا محتَّمًا؛ فاستجاب اللهُ -وله الحَمدُ- له مسألتَه، ولبَّى دَعوتَه وأتاه طِلبَتَه، فقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] ، وقال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص: 57] ... ولهذا استحقَّ إبراهيمُ الخَليلُ عليه السَّلامُ -إذ كان بانيَ كعبةِ أهلِ الأرضِ- أن يَكونَ مَنصِبُه ومحَلُّه ومَوضِعُه في منازِلِ السَّمَواتِ، ورَفيعِ الدَّرَجاتِ عند البَيتِ المعمورِ الذي هو كعبةُ أهلِ السَّماءِ السَّابعةِ، المبارَكِ المبرورِ الذي يدخُلُه كُلَّ يَومٍ سبعون ألفًا مِنَ الملائكةِ يتعَبَّدون فيه، ثُمَّ لا يعودون إليه إلى يومِ البَعثِ والنُّشورِ) [547] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (1/ 377-381). .
4- حَصَر اللهُ النُّبُوَّةَ والكِتابَ مِن بَعْدِه في ذرِّيَّتِه عليه السَّلامُ.
قال اللهُ تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 27] .
قال السمعاني: (قَولُه تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ يقال: إنَّ اللهَ تعالى لم يَبعَثْ نَبِيًّا بعد إبراهيمَ إلَّا مِن نَسْلِه) [548] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/ 177). .
قال السَّعْديُّ: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فلم يأتِ بَعْدَه نَبيٌّ إلَّا من ذُرِّيَّتِه، ولا نزل كِتابٌ إلَّا على ذُرِّيَّتِه، حتى خُتِموا بالنَّبِيِّ مُحَمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعليهم أجمعينَ.
وهذا من أعظَمِ المناقِبِ والمفاخِرِ؛ أن تكونَ مَوادُّ الهدايةِ والرَّحمةِ والسَّعادةِ والفلاحِ في ذُرِّيَّتِه، وعلى أيديهم اهتدى المُهتَدون، وآمن المُؤمِنون، وصَلَح الصَّالِحون) [549] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 630). .
5- أوَّلُ من يُكسى يومَ القيامةِ.
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قام فينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خطيبًا بموعظةٍ، فقال: ((يا أيُّها النَّاسُ، إنَّكم تُحشَرون إلى اللهِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ألَا وإنَّ أوَّلَ الخَلائِقِ يُكسى يومَ القيامةِ إبراهيمُ عليه السَّلامُ)) [550] أخرجه البخاري (3349)، ومسلم (2860) واللَّفظُ له. .
قال ابنُ حَجَرٍ: (يقالُ: إنَّ الحِكمةَ في خُصوصيَّةِ إبراهيمَ بذلك؛ لكَونِه ألقيَ في النَّارِ عُريانًا. وقيل: لأنَّه أوَّلُ من لَبِسَ السَّراويلَ، ولا يلزَمُ من خصوصِيَّتِه عليه السَّلامُ بذلك تفضيلَه على نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ المفضولَ قد يمتاز بشيءٍ يُخَصُّ به ولا يلزمُ منه الفضيلةُ المُطْلَقةُ، ويمكِنُ أن يقالَ: لا يدخُلُ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ذلك على القَولِ بأنَّ المتكَلِّمَ لا يدخُلُ في عُمومِ خِطابِه. وسيأتي مزيدٌ لهذا في أواخرِ الرِّقاقِ، وقد ثبت لإبراهيمَ عليه السَّلامُ أُولَياتٌ أُخرى كثيرةٌ؛ منها: أوَّلُ من ضاف الضَّيفَ، وقَصَّ الشَّارِبَ، واختَتَنَ، ورأى الشَّيبَ، وغيرُ ذلك) [551] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/ 390). .
6- جُمِعَ له بين الصِّدِّيقيَّةِ والنُّبُوَّةِ.
قال اللهُ تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا [مريم: 41] .
قال السمعاني: (قَولُه تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا الصِّدِّيقُ هو: الكثيرُ الصِّدْقِ، القائِمُ عليه. ويقالُ: مَن صَدَّق اللهَ في وحدانِيَّتِه، وصَدَّق أنبياءَه ورُسُلَه، وصَدَّق بالبَعثِ، وقام بالأوامِرِ فعَمِلَ بها؛ فهو صِدِّيقٌ. وقَولُه: نَبِيًّا النَّبِيُّ هو: العالي في الرُّتبةِ بإرسالِ اللهِ إيَّاه، وإقامةِ الدَّليلِ على صِدْقِه) [552] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/ 294). .
وقال السَّعْديُّ: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا جمع اللهُ له بين الصِّدِّيقيَّةِ والنُّبُوَّةِ.
فالصِّدِّيقُ: كثيرُ الصِّدْقِ، فهو الصَّادِقُ في أقوالِه وأفعالِه وأحوالِه، المُصَدِّقُ بكُلِّ ما أُمِرَ بالتصديقِ به، وذلك يستلزِمُ العِلْمَ العَظيمَ الواصِلَ إلى القَلبِ، المؤثِّرَ فيه، الموجِبَ لليقينِ والعَمَلِ الصَّالحِ الكامِلِ، وإبراهيمُ عليه السَّلامُ هو أفضَلُ الأنبياءِ كُلِّهم بعد مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو الأبُ الثَّالِثُ للطَّوائِفِ الفاضِلةِ، وهو الذي جعل اللهُ في ذُرِّيَّتِه النُّبُوَّةَ والكِتابَ، وهو الذي دعا الخَلْقَ إلى اللهِ، وصبر على ما ناله من العذابِ العظيمِ، فدعا القريبَ والبعيدَ، واجتهد في دعوةِ أبيه مهما أمكنَه) [553] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 494). .
وقال ابنُ عاشورٍ: (الصِّدِّيقُ -بتشديدِ الدَّالِ- صيغةُ مُبالغةٍ في الاتِّصافِ، مِثلُ المَلِكِ الضِّلِّيلِ؛ لَقَبِ امرئِ القَيسِ، وقَولِهم: رَجُلٌ مِسِّيكٌ، أي: شحيحٌ... وُصِفَ إبراهيمُ بالصِّدِّيق؛ لفَرطِ صِدْقِه في امتثالِ ما يُكَلِّفُه اللهُ تعالى، لا يَصُدُّه عن ذلك ما قد يَكونُ عُذراً للمُكَلَّفِ، مِثلُ مُبادرتِه إلى محاولةِ ذَبحِ وَلَدِه حين أمره اللهُ بذلك في وَحيِ الرُّؤيا، فالصِّدْقُ هنا بمعنى بلوغِ نهايةِ الصِّفةِ في الموصوفِ بها... وتأكيدُ هذا الخبرِ بحَرفِ التوكيدِ وبإقحامِ فِعلِ الكَونِ للاهتمامِ بتحقيقِه زيادةً في الثَّناءِ عليه...
والنَّبِيءُ: فَعِيلٌ بمعنى مفعولٍ، من أنبَأَه بالخَبَرِ. والمرادُ هنا أنَّه مُنَبَّأٌ مِن جانبِ اللهِ تعالى بالوَحيِ. والأكثَرُ أن يَكونَ النَّبِيءُ مُرْسَلًا للتبليغِ) [554] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/ 112). .

انظر أيضا: