العنصر الثالث العمل بالجوارح
تدخل أعمال الجوارح عند السلف في مسمى الإيمان دخولاً أولياً وذلك عند إطلاق لفظ الإيمان أو تجريده. وليس المقصود هنا ذكر عمل معين، وإنما المقصود أن الاسم إذا أطلق في الكتاب والسنة أو ذكر مجرداً دخلت فيه الأعمال بالضرورة ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 111، 112). . وقد حكى غير واحد الإجماع على ذلك ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 292). .
يقول الإمام الشافعي - رضي الله عنه – في كتابه (الأم) في باب النية في الصلاة: (وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم، ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر) اهـ ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 197). .
وروى أبو عمر الطلمنكي بإسناده المعروف عن موسى بن هارون الحمال قال: (أملى علينا إسحاق بن راهويه أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، لا شك أن ذلك كما وصفنا، وإنما عقلنا هذا بالروايات الصحيحة والآثار العامة المحكمة، وآحاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين، وهلم جرا على ذلك، وكذلك بعد التابعين من أهل العلم، على شيء واحد لا يختلفون فيه، وكذلك في عهد الأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالعراق، ومالك بن أنس بالحجاز، ومعمر باليمن، على ما فسرنا وبينا، أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 292، 293). .
ويقول أبو عمر بن عبدالبر في التمهيد: (وأجمع أهل الفقه والحديث أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان...) ((التمهيد)) (9/238).
وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر، منهم مالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي، والطبري، ومن سلك سبيلهم، فقالوا: (الإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، مع الإخلاص بالنية الصادقة. قالوا: وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي) اهـ ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 313، 314). .
ويقول البدر العيني: (والفرقة الرابعة قالوا: إن الإيمان فعل القلب واللسان مع سائر الجوارح، وهم أصحاب الحديث ومالك والشافعي وأحمد والأوزاعي... وما ذهب إليه السلف وأهل الأثر أن الإيمان عبارة عن مجموع ثلاثة أشياء: التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان) اهـ ((عمدة القاري)) (1/103). .
ويقول صاحب (معارج القبول): (اعلم يا أخي – وفقني الله وإياك والمسلمين – بأن الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لأهل سمواته وأرضه، وأمر ألا يعبد إلا به، ولا يقبل من أحد سواه، ولا يرغب عنه إلا من سفه نفسه، ولا أحسن ديناً ممن التزمه واتبعه هو: قول أي: بالقلب واللسان، وعمل أي: بالقلب واللسان والجوارح.
فهذه أربعة أشياء جامعة لأمور دين الإسلام:
الأول: قول القلب، وهو تصديقه وإيقانه...
الثاني: قول اللسان، وهو النطق بالشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بلوازمهما...
الثالث: عمل القلب، وهو النية والإخلاص والمحبة والانقياد والإقبال على الله – عز وجل – والتوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه...
الرابع: عمل اللسان والجوارح، فعمل اللسان ما لا يؤدي إلا به كتلاوة القرآن وسائر الأذكار من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والدعاء والاستغفار وغير ذلك، وعمل الجوارح ما لا يؤدي إلا بها مثل القيام والركوع والسجود والمشي في مرضاة الله كنقل الخطا إلى المساجد وإلى الحج، والجهاد في سبيل الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما يشمله حديث شعب الإيمان الحديث رواه البخاري (9)، ومسلم (162). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. اهـ ((معارج القبول)) (4/15 - 18). .
ويقول الإمام محمد بن نصر المروزي: (الإيمان أن تؤمن بالله: فأن توحده وتصدق به بالقلب واللسان، وتخضع له ولأمره بإعطاء العزم للأداء لما أمر، مجانباً للاستنكاف والاستكبار والمعاندة، فإذا فعلت ذلك، لزمت محآبه صلى الله عليه وسلم واجتنبت مساخطه...
وإيمانك بمحمد صلى الله عليه وسلم: إقرارك به وتصديقك إياه واتباعك ما جاء به، فإذا اتبعت ما جاء به، أديت الفرائض، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في الخيرات) اهـ ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 296 – 297). .
ويعرف الإمام ابن القيم الإيمان فيقول: (هو حقيقة مركبة من:
معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً.
والتصديق به عقداً.
والإقرار به نطقاً.
والانقياد له محبة وخضوعاً.
والعمل به باطناً وظاهراً وتنفيذه، والدعوة إليه بحسب الإمكان) اهـ ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 107). .
وهكذا نرى أن جماهير السلف وأئمة أهل السنة والجماعة قد أدخلوا أعمال الجوارح في مسمى الإيمان ابتداءً، وذلك باعتباره أحد العناصر التي يتركب منها الإيمان إلى جانب اعتقاد القلب وإقرار اللسان، بحيث يشملها جميعاً لفظ الإيمان عند إطلاقه أو تجريده.
غير أن تعبيرات السلف والأئمة عن نفس هذه الحقائق قد اختلفت من إمام لآخر، وذلك بحسب المقام الذي يتكلم فيه كل منهم، أو بحسب حال السائل، أو ظروف الفتوى، أو إدراك المستمع لهذه الحقائق كلها أو بعضها.حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لمحمد عبد الهادي المصري – ص 38