موسوعة الأديان

المطلب الرابع: البشارة بالملكوت:


ومن الألقاب التي أعطيت للدين الجديد وأتباعه في (الكتاب المقدس) ( الملكوت ) أو (ملكوت السماوات)، الذي أنبأ المسيح عن انتقاله عن أمة اليهود إلى أمة أخرى، فقال: ( إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ) (متى 21/43).
هذا الملكوت تقاطرت الأنبياء على البشارة به ( كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا، ومن ذلك الوقت يبشر بملكوت الله، وكل واحد يغتصب نفسه إليه ) (لوقا 16/16-17).
والملكوت قد بشر باقتراب عصره النبي يوحنا المعمدان، يقول متى: ( جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية قائلاً: توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات ) (متى 3/1 - 2).وتحدث المعمدان عن الملكوت القادم فقال لليهود متوعداً: ( يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي... والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار، أنا أعمدكم بماء التوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار، الذي رفشه في يده، وسينقي بيدره ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ. حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليتعمد منه....)(متى 3/1 - 13) يعلق الأب متى المسكين - على هذه الفقرة التي تشير إلى قوة صاحب الملكوت القادم -  فيقول بأن المعمدان وتلاميذه (خاب أملهم فيه [ المسيح] ؛ لأنهم انتظروه يحمل بيده مذراته - رفشه - ليجمع التبن للحريق، فإذا به وديع متواضع، لا يسمع أحد صوته في الشارع، محب للخطاة، ويأكل ويشرب مع العشارين، ويغفر للزناة.. فإن كان المسيح هكذا لطيفاً مع الخطاة يصنع الآيات والمعجزات وحسب؛ فقد أخطأ المعمدان في حساباته وأوصافه عن مسيا الآتي الأقوى منه، ومعروف كيف أن المعمدان كان شخصية حديدية نارية أرعب الكتبة والفريسيين... فنظر وإذا المسيح أهدأ من نسيم الصباح(. ((الإنجيل بحسب القديس متى)) ( ص381) الأب متى المسكين.
ولنتوقف سريعاً مع الصفات التي ذكرها يوحنا المعمدان لصاحب الملكوت.
 فأولها: أنه يأتي بعده، فلا يمكن أن يكون هذا الآتي بعده هو المسيح الذي أتى في أيام يوحنا المعمدان.
وثانيها: أنه قوي، وقوته تفوق قوة يوحنا المعمدان، ومثل هذا الوصف لا ينطبق على المسيح الذي يزعم النصارى مصرعه على الصليب قريباً مما جرى ليوحنا المعمدان، وأنَّى هذا من غلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على سائر أعدائه  ؟ ثم بلغ من القوة أنه طهَّر الأرض من رجس الوثنية بالروح والنار أي: بدعوته العظيمة وقوته القاهرة، وكل ما تقدَّم لا ينطبق على أحد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد وفاة يوحنا المعمدان جدَّد يسوع البشارة باقتراب الملكوت، ( ابتدأ يسوع يكرز ويقول: توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات ) (متى 4/17)، ( وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت ) (متى 4/23)، ( كان يسير في مدينة وقرية يكرز ويبشر بملكوت الله، ومعه الاثنا عشر) (لوقا 8/1).
وقد اعتبر المسيح عليه السلام البشارة بالملكوت مهمته الأولى، بل الوحيدة، فقال: ( فقال لهم: إنه ينبغي لي أن أبشر المدن الأخر أيضاً بملكوت الله؛ لأني لهذا قد أرسلت) (لوقا 4/34).
وأمر تلاميذه بأن يبشروا باقتراب الملكوت فقال: ( اكرزوا قائلين: إنه قد اقترب ملكوت السماوات ) (متى 10/7).
ثم علم المسيح تلاميذه أن يقولوا في صلاتهم تلك العبارة التي ما يزال النصارى يرددونها إلى اليوم ( أبانا الذي في السماوات.. ليأت ملكوتك ) (لوقا 10/2).
ومن خلال هذا كله نستطيع أن نقول بأن رسالة عيسى كانت بشارة بالملكوت الذي بشَّر به يوحنا المعمدان، ووصفا بعض ما يكتنفه، وهذا الملكوت هو بعد المسيح في أمة تعمل أثماره، ولا تضيعه كما أضاعه اليهود.
فما هو هذا الملكوت ؟
يجيب النصارى بأن الملكوت (شيوع الملة المسيحية في جميع العالم وإحاطتها كل الدنيا بعد نزول المسيح)، وفسَّره آخرون بأنه انتصار الكنيسة على الملحدين، وفسَّره آخرون بأنه البشارة بالخلاص بدم المسيح، يقول القمص تادرس يعقوب ملطي في تفسيره لإنجيل متى: (فإن الملكوت الذي أعلنه السيد المسيح هو )بشارة الملكوت( أو )إنجيل الملكوت(... تعبر عن أخبار الخلاص المفرحة التي قدَّمها لنا الله في ابنه يسوع).
ويعجب المسلمون لانصراف النصارى عن معنى الملكوت، وتعلقهم بما لا طائل وراءه، فلقد انتصرت الكنيسة، وحكمت أوربا قروناً عدة، ولم نر ما يستحق أن يكون أمراً يبشر به المعمدان والمسيح والتلاميذ.
وكذلك فإن أخبار الخلاص المزعوم لا يمكن أن تكون هي البشارة التي كان المسيح يطوف مبشِّراً بها في المدن والقرى، فأقرب تلاميذه لم يفهموا هذا المعنى، ومنهم التلميذان المنطلقان لعمواس بعد حادثة الصلب، فقد كانا يبكيان لفوات الخلاص بموت المسيح ( فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين... كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه، ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل، ولكن مع هذا كله اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك) ( لوقا 24/17-21). لقد جهل التلميذان موضوع الخلاص بموت المسيح، فهما يبحثان عن خلاص آخر، وهو الخلاص الدنيوي الذي ينتظره بنو إسرائيل.
وأيضاً جهلت الجموع المؤمنة التي شهدت الصلب أن الصلب هو البشارة المفرحة التي كان يبشر بها المسيح فرجعوا وهم يبكون وينوحون ( وكل الجموع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر لما أبصروا ما كان، رجعوا وهم يقرعون صدورهم )( لوقا 23/48- 49).
ولا يمكن أن يكون الملكوت الموعود هو الخلاص بدم المسيح؛ لأن  النصوص ذكرت أموراً تحدث قبل مجيء الملكوت، فهي علامات تتحقق قبل حلول الملكوت، ومن بينها قيام أمة جديدة ومملكة جديدة، وهو ما لم يتحقق قبل انتشار المسيحية في العالم، ولا حين صلب المسيح ، يقول متى: (فسألوه قائلين: يا معلّم متى يكون هذا ؟ وما هي العلامة عندما يصير هذا ؟
فقال: انظروا لا تضلوا، فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين: إني أنا هو. والزمان قد قرب، فلا تذهبوا وراءهم، فإذا سمعتم بحروب وقلاقل فلا تجزعوا؛ لأنه لا بد أن يكون هذا أولاً، ولكن لا يكون المنتهى سريعاً.
ثم قال لهم: تقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة، وتكون زلازل عظيمة في أماكن ومجاعات وأوبئة، وتكون مخاوف وعلامات عظيمة من السماء.
وقال لهم مثلاً: انظروا إلى شجرة التين وكل الأشجار، متى أفرخت تنظرون وتعلمون من أنفسكم أن الصيف قد قرب، هكذا أنتم أيضاً، متى رأيتم هذه الأشياء صائرة، فاعلموا أن ملكوت الله قريب.
الحق أقول لكم: إنه لا يمضي هذا الجيل حتى يكون الكل، السماء والأرض تزولان، ولكن كلامي لا يزول، فاحترزوا لأنفسكم؛ لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسكر وهموم الحياة، فيصادفكم ذلك اليوم بغتة؛ لأنه كالفخ يأتي على جميع الجالسين على وجه كل الأرض، اسهروا إذاً وتضرَّعوا في كل حين، لكي تحسبوا أهلاً للنجاة من جميع هذا المزمع أن يكون، وتقفوا قدام ابن الإنسان) (لوقا 21/6-36).
وفي قوله:( وتقفوا قدام ابن الإنسان) ما يربط الملكوت بشخص ابن الإنسان القادم، فهو لا يتحدث عن انتشار المسيحية، بل يتحدث عن ظهور النبي الخاتم ابن الإنسان ويدعوهم للاستعداد للقائه.
فالملكوت هو أمة تعمل وفق إرادة ورضاء صاحب الملكوت جلَّ جلاله.
يقول (وليم باركلي) في تفسيره لسفر الأعمال: (الملكوت هو مجتمع على الأرض، تُنفَّذُ فيه إرادة الله تماماً كما في السماء).
وفي أحد تشبيهات المسيح للملكوت أبان لتلاميذه عن سبب انتقاله عن بني إسرائيل فقال: (اسمعوا مثلاً آخر، كان إنسان رب بيت، غرس كرماً، وأحاطه بسياج، وحفر فيه معصرة وبنى برجاً، وسلمه إلى كرامين وسافر.
ولما قرب وقت الإثمار أرسل عبيده إلى الكرامين؛ ليأخذ أثماره، فأخذ الكرامون عبيده، وجلدوا بعضاً وقتلوا بعضاً ورجموا بعضاً، ثم أرسل إليهم أيضاً عبيداً آخرين أكثر من الأولين، ففعلوا بهم كذلك.
فأخيراً أرسل إليهم ابنه قائلاً: يهابون ابني، وأما الكرامون فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم: هذا هو الوارث، هلموا نقتله ونأخذ ميراثه. فأخذوه وأخرجوه خارج الكرم، وقتلوه.
فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل بأولئك الكرامين ؟ قالوا له: أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً رديًّا، ويسلم الكرم إلى كرامين آخرين يعطون الأثمار في أوقاتها.
قال لهم يسوع: أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا، لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه.
ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون أمثاله عرفوا أنه تكلم عليهم ) (متى 21/33 - 45)، (وانظر لوقا 20/9 - 19)، فمن تراه تكون الأمة العظيمة التي إذا غزت أمة سحقتها، وإذا أرادتها أمة نكصت على عقبيها ؟ لا ريب أنها الأمة التي هزمت أعظم دولتين في عصرها: الروم والفرس، وانساحت في الأرض، وملكت خلال قرن واحد ما بين الصين وفرنسا، إنها أمة الإسلام.
ونبوءة متَّى السالفة تحيل على نبوءة في كتب الأنبياء، وهي ما جاء في مزامير داود عن الآتي باسم الرب (أحمدك؛ لأنك استجبت لي، وصرت لي خلاصاً، الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا، هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، نبتهج ونفرح فيه، آه يا رب خلّص، آه يا رب أنقذ، مبارك الآتي باسم الرب) (المزمور 118/21-25). وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً، فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان فيقولون: ألا وضعت هاهنا لبِنة، فيتم بنيانك  ؟، فقال صلى الله عليه وسلم: فكنت أنا اللبِنة)) رواه البخاري (3535)، ومسلم (2286) إنه الحجر الذي تمت به النبوات.
وقبل أن ننتقل إلى شرح النبوءة يحسن بنا أن ننوه إلى الخطأ الذي وقع فيه بطرس حين زعم أن المسيح هو الحجر الذي رفضه البناؤون، فقال: (يسوع الناصري الذي صلبتموه أنتم... هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناؤون، الذي صار رأس الزاوية، وليس بأحد غيره الخلاص؛ لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص) (أعمال 4/10-12)، مع أن الحجر الذي أخبر عنه داود ثم المسيح نبوة غالبة، وأمة ظافرة، وهذه النبوة ليست في بني إسرائيل، كما شهد المسيح عليه السلام.
ولبطرس عذر في خطئه، فهو إنسان عامي عديم العلم، كما شهد له أولئك الذين استمعوا لحديثه وتعجَّبوا من المعجزات التي صنعها، فقد قال في ذات السياق: ( فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا، ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان، تعجبوا ) ( أعمال 4/13 ).
وهذا المثل العجيب من المسيح (مثل الكرامين) يحكي تنكر اليهود لنعم الله واصطفائه لهم، بقتلهم أنبياءه وهجر شريعته، ويحكي انتقال الملكوت إلى أمة تقوم بأمر الله تعالى، وتقوى على أعدائها وتسحقهم.
وهذه الأمة مرذولة محتقرة (الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية)، لكن الله اختارها رغم عجب اليهود من تحول الملكوت إلى هذه الأمة المرذولة، لكنه قدر الله العظيم (من قبل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا)..
فمن تكون هذه الأمة المرذولة ؟ إنها أمة العرب، أبناء الجارية هاجر، التي يزدريها (الكتاب المقدس)، فقد قالت سارة: (اطرد هذه الجارية وابنها؛ لأن ابن الجارية لا يرث مع ابني إسحاق) (التكوين 21/10).
وقال بولس مفتخراً على العرب محتقراً لهم: ( ماذا يقول الكتاب ؟ اطرد الجارية وابنها؛ لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة، إذاً أيها الإخوة: لسنا أولاد جارية، بل أولاد الحرة) (غلاطية 4/30 - 31).
وقد ضرب المسيح المزيد من الأمثال للملكوت القادم، فبيَّن في مثل آخر أنه ليس في بني إسرائيل الأمة التي لم تستحق اصطفاء الله لها، يقول متى: (جعل يسوع يكلمهم أيضاً بأمثال قائلاً: يشبه ملكوت السموات إنساناً ملكاً صنع عرساً لابنه، وأرسل عبيده ليدعوا المدعوين إلى العرس، فلم يريدوا أن يأتوا، فأرسل أيضاً عبيداً آخرين قائلاً: قولوا للمدعوين: هو ذا غذائي أعددته، ثيراني ومسمناتي قد ذبحت، وكل شيء معدٌّ، تعالوا إلى العرس.
ولكنهم تهاونوا ومضوا، واحد إلى حقله، وآخر إلى تجارته، والباقون أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم.
فلما سمع الملك غضب وأرسل جنوده، وأهلك أولئك القاتلين وأحرق مدينتهم، ثم قال لعبيده: أما العرس فمستعد، وأما المدعوون فلم يكونوا مستحقين، فاذهبوا إلى مفارق الطرق، وكل من وجدتموه فادعوه إلى العرس.
 فخرج أولئك العبيد إلى الطرق، وجمعوا كل الذين وجدوهم أشراراً وصالحين، فامتلأ العرس من المتكئين، فلما دخل الملك لينظر المتكئين رأى هناك إنساناً لم يكن لابساً لباس العرس، فقال له: يا صاحب، كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس ؟ فسكت، حينئذ قال الملك للخدام: اربطوا رجليه ويديه وخذوه، واطرحوه في الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان؛ لأن كثيرين يدعون، وقليلين ينتخبون) (متى 22/1-14).
وفي مثل آخر بين لهم أنواع الناس في قبول الملكوت والإذعان له، ودعاهم لقبوله والإذعان له، فقال: (فكلمهم كثيراً بأمثال قائلاً: هو ذا الزارع قد خرج ليزرع، وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق، فجاءت الطيور وأكلته.
وسقط آخر على الأماكن المحجرة، حيث لم تكن له تربة كثيرة، فنبت حالاً؛ إذ لم يكن له عمق أرض، ولكن لما أشرقت الشمس احترق، وإذ لم يكن له أصل جف.
وسقط آخر على الشوك فطلع الشوك وخنقه.
وسقط آخر على الأرض الجيدة، فأعطى ثمراً، بعض مائة، وآخر ستين، وآخر ثلاثين، من له أذنان للسمع فليسمع...
فاسمعوا أنتم مثل الزارع، كل من يسمع كلمة الملكوت ولا يفهم، فيأتي الشرير ويخطف ما قد زرع في قلبه، هذا هو المزروع على الطريق.
والمزروع على الأماكن المحجرة هو الذي يسمع الكلمة وحالاً يقبلها بفرح، ولكن ليس له أصل في ذاته بل هو إلى حين، فإذا حدث ضيق أو اضطهاد من أجل الكلمة فحالاً يعثر.
والمزروع بين الشوك هو الذي يسمع الكلمة، وهم هذا العالم وغرور الغنى يخنقان الكلمة، فيصير بلا ثمر.
وأما المزروع على الأرض الجيدة فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم، وهو الذي يأتي بثمر فيصنع بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين) (متى 13/1-23).ويتطابق هذا المثل الإنجيلي مع المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لأحوال الناس مع دعوته، حيث قال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا، وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)) رواه البخاري (79).
وحدَّث المسيح تلاميذه عن انتشار الملكوت الذي هو أصغر البذور، لكنه أعظمها انتشاراً، يقول متَّى: (قدم لهم مثلاً آخر قائلاً: يشبه ملكوت السموات حبة خردل، أخذها إنسان، وزرعها في حقله، وهي أصغر جميع البذور، لكن متى نمت فهي أكبر البقول، وتصير شجرة، حتى إن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها.
قال لهم مثلاً آخر: يشبه ملكوت السموات خميرة أخذتها امرأة وخبَّأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع، هذا كله كلم به يسوع الجموع بأمثال، وبدون مثل لم يكن يكلمهم) (متى 13/31-34). (انظر مرقس 4/30-32).يقول الأنبا أثناسيوس في تفسيره لإنجيل متى: (وتكاد الأمثلة في هذا الإصحاح أن تصف الملكوت على الأرض من بدايته إلى نهاية العالم، ففي المثل الأول يزرع الملكوت في القلوب، وفي الثاني يحاربه الشيطان فيزرع فيه زواناً، ولكن لابد أن ينمو الملكوت منتشراً في العالم ويصير شجرة ضخمة (حبة الخردل)، على أن روح أبناء الملكوت لابد أن تكون هي الاندماج في العالم لتخليصه من الداخل كالخميرة) ((تفسير إنجيل متى)) ( ص211), الأنبا أثناسيوس  .
وفي نص آخر يتحدث عن هيمنة الشريعة الجديدة على سائر الشرائع السابقة ونسخها لها، فيقول: ( أيضاً يشبه ملكوت السموات كنزاً مخفيًّا في حقل وجده إنسان، فأخفاه، ومن فرحه مضى وباع كل ما كان له، واشترى ذلك الحقل.
أيضاً يشبه ملكوت السموات إنساناً تاجراً يطلب لآلئ حسنة، فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ما كان له، واشتراها) (متى 13/44-46).
وقد قال المسيح مبشراً بالقادم الذي ينسخ الشرائع بشريعته: (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل) (متى 5/17- 18)، فمن هو هذا الذي له الكل، إنه ذات النبي الذي يسميه بولس بالكامل، ومجيئه فقط يبطل الشريعة وينسخها (وأما النبوات فستبطل، والألسنة فستنتهي، والعلم فسيبطل؛ لأننا نعلم بعض العلم، ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض) (كورنثوس (1) 12/8-10).
وكما تحدث المسيح عن هذا النبي تحدث عن تأخر زمان ظهوره عن النبوات السابقة، لكن ذلك لن يمنع عظيم الأجر والثواب لأمته، فضرب هذا المثل وقال: ( فإن ملكوت السماوات يشبه رجلاً رب بيت خرج مع الصبح؛ ليستأجر فَعَلة لكرمه، فاتفق مع الفعلة على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه، ثم خرج نحو الساعة الثالثة، ورأى آخرين قياماً في السوق بطالين، فقال لهم: اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فأعطيكم ما يحق لكم، فمضوا.
وخرج أيضاً نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل ذلك.
ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قياماً بطالين، فقال لهم: لماذا وقفتم ههنا، كلَّ النهار بطالين ؟
قالوا له: لأنه لم يستأجرنا أحد. قال لهم: اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم فتأخذوا ما يحق لكم.
فلما كان المساء قال صاحب الكرم لوكيله: ادع الفعلة وأعطهم الأجرة مبتدئاً من الآخرين إلى الأولين.
فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا ديناراً ديناراً، فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر، فأخذوا هم أيضاً ديناراً ديناراً، وفيما هم يأخذون تذمَّروا على رب البيت قائلين: هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة، وقد ساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر.
فأجاب وقال لواحد منهم: يا صاحب، ما ظلمتك، أما اتفقت معي على دينار ؟ فخذ الذي لك واذهب، فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك. أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بمالي أم عينك شريرة لأني أنا صالح!
هكذا يكون الآخرون أولين، والأولون آخرين؛ لأن كثيرين يُدعَون، وقليلون ينتخبون ) (متى 20/1- 16). وهكذا فاز الآخرون بالأجر والثواب.فالآخرون هم الأولون السابقون، كما قال المسيح، وأكده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((نحن الآخرون السابقون)) رواه البخاري (238) ومسلم (855). وقوله: ((مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال: من يعمل لي غدوة إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط، فعملت النصارى، ثم قال من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين ؟ فأنتم هم. فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: مالنا أكثر عملاً وأقل عطاءً ؟ قال: هل نقصتكم من حقكم ؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء)) رواه البخاري (2268).

انظر أيضا: