موسوعة التفسير

سورةُ الأعلَى
الآيات (16-19)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ

غريب الكلمات:

تُؤْثِرُونَ: أي: تُقَدِّمونَ وتَختارونَ، وأصلُ (أثر) هنا: يدُلُّ على تقديمِ الشَّيءِ [145] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/53)، ((تفسير ابن كثير)) (8/382)، ((تفسير السعدي)) (ص: 921). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: ولَكِنَّكم لا تَقومونَ بالذِّكرِ وأداءِ الصَّلاةِ؛ لأنَّكم تُقدِّمونَ مَتاعَ الحياةِ الدُّنيا على ثوابِ الآخِرةِ، وثوابُ اللهِ في الآخِرةِ أفضَلُ وأدوَمُ لكم مِن مَتاعِ الدُّنيا ولَذَّاتِها الفانيةِ.
ثمَّ يختمُ اللهُ تعالى السُّورةَ الكريمةَ فيقولُ: إنَّ ما أخبَرَ اللهُ تعالى به في قَولِه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى مَذكورٌ في الصُّحُفِ الماضيةِ؛ صُحُفِ إبراهيمَ ومُوسى عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ.

تفسير الآيات:

بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16).
أي: ولَكِنَّكم لا تَقومونَ بالذِّكرِ وأداءِ الصَّلاةِ؛ لأنَّكم تُقدِّمونَ مَتاعَ الحياةِ الدُّنيا على ثوابِ الآخِرةِ، فتَنشغِلونَ بأُمورِ دُنياكم عن أمورِ دِينِكم [146] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/322)، ((تفسير ابن كثير)) (8/382)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/405)، ((تفسير السعدي)) (ص: 921)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/290). قال ابنُ عطيَّة: (أخبَرَ تعالى النَّاسَ أنَّهم يُؤْثِرونَ الحياةَ الدُّنيا؛ فالكافِرُ يُؤثِرُها إيثارَ كُفرٍ، يرى أنْ لا آخِرةَ، والمؤمِنُ يُؤثِرُها إيثارَ مَعصيةٍ وغَلَبةَ نَفْسٍ إلَّا مَن عَصَمَ اللهُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/470). .
كما قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ [آل عمران: 14] .
وقال سُبحانَه: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر: 1] .
وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17).
أي: وثوابُ اللهِ في الآخِرةِ أفضَلُ وأدوَمُ لكم مِن مَتاعِ الدُّنيا ولَذَّاتِها القليلةِ الفانيةِ؛ فنَعيمُ الجنَّةِ كامِلٌ لا نَقْصَ فيه، وأبَدِيٌّ لا يَنتهي [147] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/322)، ((الوسيط)) للواحدي (4/472)، ((تفسير ابن كثير)) (8/382)، ((تفسير السعدي)) (ص: 921). .
كما قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ [القصص: 60] .
وقال جَلَّ شأنُه: إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر: 39] .
وعن المُسْتَوْرِدِ بنِ شَدَّادٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((واللهِ ما الدُّنيا في الآخِرةِ إلَّا مِثلُ ما يجعَلُ أحَدُكم إِصْبَعَه هذه -وأشار بالسَّبَّابةِ- في اليَمِّ، فلْيَنظُرْ بِمَ تَرجِعُ ؟!)) [148] رواه مسلم (2858). .
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18).
أي: إنَّ ما أخبَرَ اللهُ تعالى به في قَولِه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى مذكورٌ في الصُّحُفِ الماضيةِ [149] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/325)، ((الوسيط)) للواحدي (4/472)، ((تفسير ابن عطية)) (5/471)، ((تفسير القرطبي)) (20/24)، ((تفسير ابن كثير)) (8/383)، ((تفسير السعدي)) (ص: 921)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/291، 292). وممَّن اختار القولَ المذكورَ في المرادِ بقولِه تعالى: إِنَّ هَذَا: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والواحدي، والبغوي، والزمخشري، والرَّسْعَني، والخازن، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/325)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/316)، ((الوسيط)) للواحدي (4/472)، ((تفسير البغوي)) (5/243)، ((تفسير الزمخشري)) (4/741)، ((تفسير الرسعني)) (8/595)، ((تفسير الخازن)) (4/419)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/291). قال ابنُ كثيرٍ بعدَ أن ذكَرَ اختيارَ ابنِ جريرٍ: (وهذا اختيارٌ حسَنٌ قويٌّ، وقد رُويَ عن قَتادةَ وابنِ زَيدٍ نحوُه، واللهُ أعلَمُ). ((تفسير ابن كثير)) (8/383). وقيل: المرادُ بقولِه تعالى: إِنَّ هَذَا: أي: الَّذي ذُكِر في هذه السُّورةِ. وممَّن اختار هذا القولَ: السمرقنديُّ، والثعلبي، والسمعاني. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/572)، ((تفسير الثعلبي)) (10/186)، ((تفسير السمعاني)) (6/211). قال الرَّسْعَني: (وقيل: إنَّه إشارةٌ إلى ما في السُّورةِ كلِّها، وهو قولُ جماعةٍ؛ منهم: أبو العاليةِ). ((تفسير الرسعني)) (8/595). قال البِقاعي: (إِنَّ هَذَا أي: الوَعظَ العَظيمَ بالتَّسبيحِ الَّذي ذُكِرَ في هذه السُّورةِ وما تأثَّرَ عنه مِن التَّزكيةِ بالذِّكرِ الموجبِ للصَّلاةِ، والإعراضِ عن الدُّنيا والإقبالِ على الآخِرةِ؛ لأنَّه جامِعٌ لكُلِّ خَيرٍ، وهو ثابتٌ في كُلِّ شريعةٍ؛ لأنَّه المقصودُ بالحُكمِ، فهو لا يَقبَلُ النَّسْخَ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى). ((نظم الدرر)) (21/407). وقيل: قولُه: إِنَّ هَذَا إشارةٌ إلى قولِه تعالى: وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وقيل: إشارةٌ إلى القرآنِ، فالآيةُ كقولِه تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] . يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/ 137)، ((تفسير الألوسي)) (15/323). .
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ذلك عامًّا خَصَّ مِن بَينِه -تعظيمًا لقَدْرِ هذه الموعِظةِ- أعظَمَ الأنبياءِ الأقدَمِينَ [150] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/407). .
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19).
أي: وتلك الصُّحُفُ هي المنَزَّلةُ على إبراهيمَ ومُوسى عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ [151] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/325)، ((الوسيط)) للواحدي (4/472)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 170). قال السعدي: (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى اللَّذَينِ هما أشرَفُ المرسَلِينَ سِوى النَّبيِّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير السعدي)) (ص: 921). .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا اعلَمْ أنَّ للمؤمنينَ حظًّا مِن هذه المَوعظةِ على طُولِ الدَّهرِ، وذلك حظٌّ مُناسِبٌ لمِقدارِ ما يُفرِّطُ فيه أحدُهم ممَّا يُنجِيه في الآخرةِ إيثارًا لِما يَجْتنيهِ مِن مَنافعِ الدُّنيا الَّتي تَجُرُّ إليه تَبِعةً في الآخرةِ على حسَبِ ما جاءتْ به الشَّريعةُ، فأمَّا الاستكثارُ مِن مَنافعِ الدُّنيا مع عدَمِ إهمالِ أسبابِ النَّجاةِ في الآخرةِ، فذلك مَيدانٌ للهِمَمِ، وليس ذلك بمَحلِّ ذمٍّ؛ قال تعالَى: وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/290). [القصص: 77] .
2- في قَولِه تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى الإشارةُ إلى مَدْحِ الزُّهدِ في الدُّنيا، وذَمِّ الرَّغبةِ فيها [153] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/177). .
3- أنَّ عَمَلَ الآخرةِ لا يَصِحُّ أنْ يكونَ وَسيلةً لعَمَلِ الدُّنيا؛ فإنَّ عَمَلَ الآخرةِ أشرفُ وأعلى مِن أنْ يكونَ وسيلةً لعَمَلِ الدُّنيا الَّذي هو أدنى؛ قال اللهُ تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [154] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (5/354). !
4- في قَولِه تعالى: وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إشارةٌ إلى التَّرغيبِ في الآخِرةِ وفي ثَوابِ اللهِ تعالى [155] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/137). ، فالآخِرةُ خَيرٌ مِنَ الدُّنيا في كُلِّ وَصفٍ مَطلوبٍ، وَأَبْقَى؛ لكَونِها دارَ خُلدٍ وبَقاءٍ وصَفاءٍ، والدُّنيا دارُ فَناءٍ، فالمؤمِنُ العاقِلُ لا يختارُ الأردَأَ على الأجوَدِ، ولا يبيعُ لذَّةَ ساعةٍ بتَرحةِ الأبدِ؛ فحُبُّ الدُّنيا وإيثارُها على الآخِرةِ رأسُ كُلِّ خَطيئةٍ [156] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 921). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إيثارُ الدُّنيا على الآخِرةِ إمَّا مِن فسادٍ في الإيمانِ، وإمَّا مِن فَسادٍ في العَقلِ، وما أكثَرَ ما يكونُ منهما؛ ولهذا نبَذَها رَسولُ اللهِ وراءَ ظَهْرِه هو وأصحابُه، وصَرَفوا عنها قُلوبَهم، واطَّرَحوها ولم يألَفوها، وهَجَروها ولم يَميلوا إليها، وعَدُّوها سجنًا لا جنَّةً، فزَهِدوا فيها حقيقةَ الزُّهدِ، ولو أرادوها لَنالوا منها كُلَّ محبوبٍ، ولَوَصَلوا منها إلى كلِّ مَرغوبٍ؛ فقد عُرِضَت عليه صلَّى الله عليه وسلَّم مفاتيحُ كُنوزِها فردَّها، وفاضت على أصحابِه فآثَروا بها، ولم يَبيعوا حَظَّهم مِن الآخِرةِ بها، وعَلِموا أنَّها مَعْبَرٌ ومَمَرٌّ، لا دارُ مُقامٍ ومُستَقَرٍّ، وأنَّها دارُ عُبورٍ لا دارُ سُرورٍ، وأنَّها سحابةُ صَيفٍ تَنقشِعُ عن قليلٍ، وخيالُ طَيفٍ ما استتَمَّ الزِّيارةَ حتَّى آذَنَ بالرَّحيلِ، قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((ما لي وللدُّنيا؟! ما أنا والدُّنيا؟ إنَّما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا كراكِبٍ ظلَّ تحتَ شَجرةٍ، ثمَّ راح وتَرَكها)) [157] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 94، 95). والحديث أخرجه الترمذيُّ (2377)، وابنُ ماجه (4109)، وأحمدُ (3709) واللَّفظُ له مِن حديثِ عبدِالله بنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه. قال الترمذيُّ: (حسَنٌ صحيحٌ)، وصحَّحه ابنُ القيِّم في ((عدة الصابرين)) (1/299)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4109)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6/242)، وصحَّح إسنادَه ابنُ تيميَّةَ في ((الجواب الصحيح)) (5/480)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (5/264). .
2- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا في قَولِه تعالى: الدُّنْيَا دُنُوُّ الدُّنيا مرتبةً ودَناءَتُها؛ فهي وإنْ كانت حياةً لكِنَّها دُنيا، ويَستلزِمُ ذلك الثَّناءَ على الآخرةِ؛ لأنَّ وَصْفَ الضَّرَّةِ بالعَيبِ يدُلُّ على وَصْفِ ضَرَّتِها بالكَمالِ [158] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 49). .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى نَصٌّ على أنَّ في القرآنِ مِمَّا في الصُّحُفِ الأُولى، وقد جاء ما يدُلُّ أنَّ معانيَ أُخرى كذلك في صُحُفِ إبراهيمَ وموسى، كما في سورةِ «النَّجمِ» في قَولِه تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [159] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/507). [النجم: 36 - 40] .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
- قولُه: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (بَلْ) هنا عاطفةٌ جُملةً عطْفًا صُوريًّا؛ فيَجوزُ أنْ تكونَ لمُجرَّدِ الانتقالِ مِن ذِكرِ المُنتفِعينَ بالذِّكرى والمُتجنِّبينَ لها، إلى ذِكرِ سَببِ إعراضِ المُتجنِّبينَ -وهم الأشْقَونَ- بأنَّ السَّببَ إيثارُهم الحياةَ الدُّنيا، وذلك على قِراءةِ يُؤثِرونَ ظاهرٌ، وأمَّا على قِراءةِ تُؤْثِرُونَ [160] قرأ أبو عَمرٍو يُؤْثِرُونَ، وقرأ الباقونَ: تُؤْثِرُونَ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/400). فهو إضرابٌ عن حِكايةِ أحوالِ الفَريقينِ بالانتقالِ إلى تَوبيخِ أحَدِ الفريقينِ، وهو الفريقُ الأشْقى، فالخِطابُ مُوجَّهٌ إليهم على طَريقةِ الالتِفاتِ؛ لتَجديدِ نَشاطِ السَّامعِ؛ لكيْ لا تَنقضيَ السُّورةُ كلُّها في الإخبارِ عنهم بطَريقِ الغَيبةِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ الإضرابُ إبطالًا لِما تَضمَّنَه قولُه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] مِن التَّعريضِ للَّذين شَقُوا بتَحريضِهِم على طلَبِ الفلاحِ لأنفُسِهم؛ ليَلتحِقوا بالَّذين يَخشَون ويَتزَكَّون؛ ليَبطُلَ أنْ يَكونوا مَظِنَّةَ تَحصيلِ الفلاحِ، والمعْنى: أنَّهم بُعداءُ عن أنْ يُظَنَّ بهم التَّنافسُ في طلَبِ الفَلاحِ؛ لأنَّهم يُؤثِرون الحياةَ الدُّنيا؛ فالمعْنى: بلْ أنتم تُؤثِرون مَنافِعَ الدُّنيا على حُظوظِ الآخِرةِ، وهذا كما يقولُ النَّاصحُ شَخصًا يظُنُّ أنَّه لا يَنتَصِحُ: لقد نَصَحْتُك، وما أظُنُّك تَفعَلُ [161] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/402)، ((تفسير أبي السعود)) (9/146)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/289)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/453). .
وقيل: قولُه: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فيه الْتفاتٌ في قولِه: تُؤْثِرُونَ -إذا كان الخِطابُ مُوجَّهًا إلى الكفَّارِ- لتَشديدِ التَّوبيخِ، وإذا كان مُوجَّهًا لهم وللمُسلمينَ؛ ففي حقِّ الكفَرةِ لتَشديدِ التَّوبيخِ، وفي حَقِّ المسلمينَ لتَشديدِ العِتابِ [162] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/306)، ((تفسير أبي السعود)) (9/146)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/289). .
- والإيثارُ: اختيارُ شَيءٍ مِن بيْنِ مُتعدِّدٍ، والمعْنى: تُؤثِرون الحياةَ الدُّنيا بعِنايَتِكم واهتِمامِكُم. ولم يُذكَرِ المُؤثَرُ عليه؛ لأنَّ الحياةَ الدُّنيا تدُلُّ عليه، أي: لا تَتأمَّلون فيما عَدا حَياتَكم هذه، ولا تَتأمَّلون في حياةٍ ثانيةٍ؛ فالمشرِكون لا يُؤمِنون بالآخِرةِ، وإذا ذُكِّروا بالحياةِ الآخِرةِ وأُخبِروا بها، لم يُعِيروا سَمْعَهم ذلك، وجَعَلوا ذلك مِن الكلامِ الباطلِ، وهذا مَورِدُ التَّوبيخِ [163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/290). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- قوله: وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى حالٌ مِن فاعِلِ تُؤْثِرُونَ مؤكِّدةٌ للتَّوبيخِ والعِتابِ، أي: تُؤثِرونَها على الآخِرةِ، والحالُ أنَّ الآخِرةَ خَيرٌ في نَفْسِها؛ لِما أنَّ نَعيمَها مع كَونِه في غايةِ ما يكونُ مِنَ اللَّذَّةِ خالِصٌ عن شائِبةِ الغائِلةِ، أبَدِيٌّ لا انْصِرامَ له، وعدَمُ التَّعرُّضِ لبَيانِ تَكدُّرِ نَعيمِ الدُّنيا بالمُنغِّصاتِ وانقِطاعِه عمَّا قَليلٍ؛ لِغايةِ ظُهورِه [164] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/147)، ((تفسير الألوسي)) (15/323). .
- وفي قَولِه: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى احتباكٌ [165] الاحْتِبَاك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ ذِكرُ الإيثارِ والدُّنُوِّ أوَّلًا يدُلُّ على التَّركِ والعلوِّ ثانيًا، وذِكرُ الخَيرِ والبقاءِ ثانيًا يدُلُّ على ضِدِّهما أوَّلًا [166] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/406). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى تَذييلٌ للكلامِ، وتَنويهٌ به بأنَّه مِن الكلامِ النَّافعِ الثَّابتِ في كُتُبِ إبراهيمَ ومُوسى عليهما السَّلامُ، قُصِدَ به الإبلاغُ للمشرِكينَ الَّذين كانوا يَعرِفون رِسالةَ إبراهيمَ ورِسالةَ مُوسى؛ ولذلك أُكِّدَ هذا الخبَرُ بحرْفِ (إنَّ) ولامِ الابتداءِ؛ لأنَّه مَسوقٌ إلى المُنكِرين [167] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/290). .
- ووَجْهُ جمْعِ الصُّحفِ أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ كانتْ له صُحفٌ، وأنَّ مُوسى عليه السَّلامُ كانت له صُحفٌ كَثيرةٌ، وهي مَجموعُ صُحفِ أسفارِ التَّوراةِ [168] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/291). .
- جاء نظْمُ الكلامِ في قولِه: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى على أُسلوبِ الإجمالِ والتَّفصيلِ؛ ليَكونَ لهذا الخبَرِ مَزيدُ تَقريرٍ في أذهانِ النَّاسِ؛ فقولُه: صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى بدَلٌ مِن الصُّحُفِ الْأُولَى [169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/291). . وفي إبهامِها ووصْفِها بالقِدَمِ، ثمَّ بَيانِها وتَفسيرِها مِن تَفخيمِ شَأنِها؛ ما لا يَخْفى [170] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/147). .