موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: الوِلايةُ الصُّوفيَّةُ وخَتْمُها


يُعَدُّ مَوضوعُ الوِلايةِ والأولياءِ مِن أهَمِّ المَواضيعِ في الفِكرِ الصُّوفيِّ، وله مِحوَريَّتُه في التَّصَوُّفِ؛ فالوِلايةُ عِندَهم لها مَعنًى خاصٌّ في الشَّكلِ والمَضمونِ والمَوضوعِ، ومِن ذلك تَقسيماتُهم لمَراتِبِ الوِلايةِ ووَظائِفِ كُلِّ رُتبةٍ مِنهم، وحُقوقِ الأولياءِ وأعمالِهم وتَصَرُّفاتِهم، ووَصفُهم بما لم يَرِدْ في الشَّرعِ، وغَيرُ ذلك مِنَ القَضايا التي نُسِجَ عليها بُنيانُ التَّصَوُّفِ[287] يُنظر لهذا المبحث: ((الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة)) لعبد الخالق (ص: 219- 267)، ((الصوفية نشأتها وتطورها)) للعبدة وعبد الحليم (ص: 65)، ((فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام)) لعواجي (3/ 1013، 1051- 1059)، ((بدع الاعتقاد وأخطارها على المجتمعات المعاصرة)) للناصر (ص: 226). .
أوَّلًا: الحَكيمُ التِّرمِذيُّ وخَتمُ الوِلايةِ:
أوَّلُ مَن ألَّف كتابًا مستقِلًّا في الوِلايةِ الصُّوفيَّةِ هو مُحَمَّدُ بنُ عَليِّ بنِ الحَسَنِ التِّرمِذيُّ، الذي يُسَمُّونَه الحَكيمَ، وهوَ غَيرُ التِّرمِذيِّ صاحِبِ السُّنَنِ المَشهورةِ بسُنَنِ التِّرمِذيِّ، وقَد نَشَأ الحَكيمُ في أواخِرِ القَرنِ الثَّالِثِ الهِجريِّ، وكِتابُه يُسَمَّى (خاتَمَ الأولياءِ).
قال السُّلَميُّ: (هُجِرَ لتَصنيفِه كِتابَ "خَتمُ الوِلايةِ" و"عِلَلُ الشَّريعةِ" وليس فيه ما يوجِبُ ذلك، ولَكِن لبُعدِ فَهْمِهم عنه) [288] ((طبقات الصوفية)) (ص: 217 - 220). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (مِنَ الأنواعِ التي في دَعواهم أنَّ خاتَمَ الأولياءِ أفضَلُ مِن خاتَمِ الأنبياءِ مِن بَعضِ الوُجوهِ؛ فإنَّ هذا لم يَقلُه أبو عَبدِ اللَّهِ الحَكيمُ التِّرمِذيُّ ولا غَيرُه مِنَ المَشايِخِ المَعروفينَ، بَلِ الرَّجُلُ أجَلُّ قَدرًا وأعظَمُ إيمانًا مِن أن يَفتَريَ هذا الكُفرَ الصَّريحَ، ولَكِنْ أخطَأ شِبرًا ففَرَّعوا على خَطَئِه ما صارَ كُفرًا) [289] ((مجموع الفتاوى)) (2/ 231). .
ويُعتَبَرُ الحَكيمُ التِّرمِذيُّ أوَّلَ مَن أظهَرَ فِكرةَ خاتَمِ الأولياءِ، ومِمَّا قاله في هذا الكِتابِ: (ما صِفةُ ذلك الوَليِّ الذي له إمامةُ الوِلايةِ ورياسَتُها وخَتمُ الوِلايةِ؟ قال: ذلك مِنَ الأنبياءِ قَريبٌ، يَكادُ يَلحَقُهم. قال: فأينَ مَقامُه؟ قال: في أعلى مَنازِلِ الأولياءِ، في مِلكِ الفَردانيَّةِ، وقَدِ انفَرَدَ في وحدانيَّتِه ومُناجاتِه كِفاحًا في مَجالِسِ المَلِكِ، وهَداياه مِن خَزائِنِ السَّعيِ. قال: وما خَزائِنُ السَّعيِ؟ قال: إنَّما هي خَزائِنُ ثَلاثٌ: خَزائِنُ المِنَنِ للأولياءِ، وخَزائِنُ السَّعيِ لهذا الإمامِ القائِدِ، وخَزائِنُ القُربِ للأنبياءِ عليهم السَّلامُ، فهذا خاتَمُ الأولياءِ مَقامُه مِن خَزائِنِ المِنَنِ، ومُتَناوَلُه مِن خَزائِنِ القُربِ؛ فهوَ في السَّعيِ أبدًا، فمرتَبَتُه هَهنا، ومُتَناوَلُه مِن خَزائِنِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، قد انكَشَفَ له الغِطاءُ عن مَقامِ الأولياءِ ومَراتِبهم وعَطاياهم وتُحَفِهم) [290] ((ختم الأولياء)) (ص: 386). .
ومِن كَلامِه في هذا الشَّأنِ أيضًا: (فهذه الطَّبَقةُ التي يَكبُرُ في صُدورِهم بُلوغُ الأولياءِ هذا المَحَلَّ مِن رَبِّهم، فيَدفَعونَ هذا لجَهلِهم، لا يَعلَمونَ أنَّ للَّهِ عِبادًا أُغرِقوا في بَحرِ جودِه، فجادَ عليهم بكَشفِ الغِطاءِ عن قُلوبِهم عن عَجائِبَ، وأطلَعَهم مِن مُلكِه ما نَسُوا في جَنبِه كُلَّ مَذكورٍ، حَتَّى تَنعَّموا به في حُجُبِه الرَّبَّانيَّةِ) [291] ((ختم الأولياء)) (ص: 386). .
وعابَ التِّرمِذيُّ أيضًا على مَن يَعيبُ على المُتَصَوِّفةِ هذه الدَّعاوى، فيُسَمّيهم عُلَماءَ حَطَّامينَ، أي أهلَ دُنيا، وتارةً بلعامين؛ نِسبةً إلى بلعامَ بنِ باعوراءَ اليَهوديِّ الذي يَذكُرُ المُفَسِّرونَ أنَّ اللهَ أنزَلَ في شَأنِه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف: 175] .
ثانيًا: ابنُ عَرَبيٍّ وخَتمُ الوِلايةِ:
قال ابنُ عَرَبيٍّ: (كما أنَّ اللهَ خَتَمَ بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نُبوَّةَ الشَّرائِعِ، كذلك خَتَمَ اللهُ بالخَتمِ المُحَمَّديِّ الوِلايةَ التي تَحصُلُ مِنَ الإرثِ المُحَمَّديِّ لا التي تَحصُلُ مِن سائِرِ الأنبياءِ) [292] ((الفتوحات)) (2/ 49). .
وقال أيضًا: (ومِنهم -يَعني الأولياءَ- الخَتمُ، وهوَ واحِدٌ لا في كُلِّ زَمانٍ، بَل واحِدٌ في العالَمِ يَختِمُ اللهُ به الوِلايةَ المُحَمَّديَّةَ، فلا يَكونُ في الأولياءِ المحمَّديِّين أكبَرُ مِنه) [293] ((الفتوحات)) (2/ 9). .
وقال ابنُ عَرَبيٍّ أيضًا: (ولمَّا مَثَّلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النُّبوَّةَ بالحائِطِ مِنَ اللَّبِنِ، وقَد كَمَلَ سِوى مَوضِعِ لَبِنةٍ، فكانَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تلك اللَّبِنةَ [294] لفظُه: عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ مَثَلي ومَثَلَ الأنبياءِ مِن قَبلي كمَثَلِ رَجُلٍ بَنى بَيتًا فأحسَنه وأجمَله إلَّا مَوضِعَ لَبِنةٍ مِن زاويةٍ، فجَعَلَ النَّاسُ يَطوفونَ به ويَعجَبونَ له ويَقولونَ: هَلَّا وُضِعَت هذه اللَّبِنةُ! قال: فأنا اللَّبِنةُ، وأنا خاتَمُ النَّبيِّينَ)). أخرجه البخاري (3535) واللفظ له، ومسلم (2286) ، غَيرَ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَراها إلَّا كما قال: لبِنةٌ واحِدةٌ. وأمَّا خاتَمُ الأولياءِ فلا بُدَّ له مِن هذه الرُّؤيا، فيَرى ما مَثَّلَه به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَرى في الحائِطِ مَوضِعَ لبِنَتَينِ مِن ذَهَبٍ وفِضَّةٍ، فيَرى اللَّبِنَتَينِ اللَّتَينِ تَنقُصُ الحائِطُ عنهما وتَكمُلُ بهما، لبِنةً مِن ذَهَبٍ ولَبِنةً مِن فِضَّةٍ، فلا بُدَّ أن يَرى نَفسَه تَنطَبِعُ في مَوضِعِ تَينِك اللَّبِنَتَينِ، فيَكونُ خاتَمُ الأولياءِ تَيْنِك اللَّبِنَتَينِ، فيُكمِلُ الحائِطَ. والسَّبَبُ الموجِبُ لكَونِه رَآها لبِنتَينِ أنَّه تابِعٌ لشَرعِ خاتَمِ الرُّسُلِ في الظَّاهِرِ، وهو مَوضِعُ اللَّبِنةِ الفِضِّيَّةِ، وهو ظاهِرُه وما يَتبَعُه فيه مِنَ الأحكامِ، كما هو آخِذٌ عنِ اللهِ في السِّرِّ ما هو بالصُّورةِ الظَّاهِرةِ مُتَّبِعٌ فيه؛ لأنَّه يرى الأمرَ على ما هو عليه فلا بُدَّ أن يَراه هكذا، وهو مَوضِعُ اللَّبِنةِ الذَّهَبيَّةِ في الباطِنِ، فإنَّه آخِذٌ مِنَ المَعدِنِ الذي يَأخُذُ مِنه المَلَكُ، الذي يوحى به إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [295] يُنظر: ((فصوص الحكم)) -‌الفص ‌الشيسي- عن ((الفكر الصوفي)) لعبد الخالق (ص: 255)، ((شرح فصوص الحكم)) للعفيف التلمساني (ص: 77). .
والذينَ جاؤوا بَعدَ ابنِ عَرَبيٍّ مِنَ المُتَصَوِّفةِ السَّائِرينَ في هذا الدَّربِ رَدَّدوا هذه الفِكرةَ في كُتُبِهم. وبَعضُ مَشايِخِهم زَعَمَ لنَفسِه هذه الوِلايةَ الكُبرى.
قال ابنُ تيميَّةَ عن خَتمِ الوِلايةِ: (قد انتَحَلَه طائِفةٌ، كُلٌّ مِنهم يَدَّعي أنَّه خاتَمُ الأولياءِ، كابنِ حَمَويٍّ، وابنِ عَرَبيٍّ، وبَعضِ الشُّيوخِ الضَّالِّينَ بدِمَشقَ وغَيرِها، وكُلٌّ مِنهم يَدَّعي أنَّه أفضَلُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بَعضِ الوُجوهِ) [296] ((مجموع الفتاوى)) (11/444). .
وقال أيضًا عنِ ابنِ عَرَبيٍّ في هذه المَسألةِ: (بَنَوا الأمرَ على أنَّ الوَليَّ يَأخُذُ عنِ اللهِ بلا وَساطةٍ، والنَّبيُّ يَأخُذُ بوَساطةِ المَلَكِ؛ ولِهذا صارَ خاتَمُ الأولياءِ أفضَلَ عِندَهم مِن هذه الجِهةِ، وهذا باطِلٌ وكَذِبٌ؛ فإنَّ الوَليَّ لا يَأخُذُ عنِ اللهِ إلَّا بوَساطةِ الرَّسولِ إليه، وإذا كان مُحَدَّثًا [297] يُشيرُ ابنُ تيميَّةَ بقَولِه (محَدَّثًا) إلى حَديثِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنَّه كان يَقولُ: ((قد كان يَكونُ في الأُمَمِ قَبلكُم مُحَدَّثونَ، فإن يَكُنْ في أُمَّتي مِنهم واحِدٌ، فإنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ مِنهم))، قال ابنُ وَهبٍ: تَفسيرُ مُحَدَّثونَ، أي: مُلْهَمونَ. أخرجه مسلم (2398). قد أُلقيَ إليه شَيءٌ، وجَبَ عليه أن يَزِنَه بما جاءَ الرَّسولُ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ) [298] ((مجموع الفتاوى)) (2/ 227). .
ثالثًا: مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيُّ وخَتمُ الوِلايةِ:
مِمَّنِ ادَّعى خَتمَ الوِلايةِ لنَفسِه مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيُّ السُّودانيُّ [299] يُنظر: الطَّريقةُ الخَتميَّةُ، من هذه الموسوعةِ. ، الذي كان يَقولُ عن نَفسِه (مَن رَآني ومَن رَأى مَن رَآني إلى خَمسةٍ لم تَمَسَّه النَّارُ! ولا حَرَجَ على ذلك؛ فإنَّ اللهَ يَختَصُّ برَحمَتِه مَن يَشاءُ) [300] ((تاج التفاسير)) (ص: 4). .
وسَمَّى نَفسَه الخَتمَ، أو خاتَمَ الأولياءِ، وجَعلَ هذا الِاسمَ أيضًا عَلَمًا على طَريقَتِه الصُّوفيَّةِ؛ حَيثُ سَمَّاها (الخَتميَّةَ) أي خاتِمةَ الطُّرُقِ جميعًا! ومِمَّا يَدَّعيه في تَفضيلِ نَفسِه ما قاله عِندَ قَولِ اللهِ تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام 122]: (ولمَّا وصَلتُ في التَّفسيرِ إلى هذا المَوضِعِ رَأيتُ في تلك اللَّيلةِ المُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَحفِلٍ مِنَ الرُّسُلِ الكِرامِ، ويَقولُ لي: الأنبياءُ مِن نوري، وطارَت نُقطةُ نورٍ مِنه فتُخلَقُ مِنها صورةُ سَيِّدِنا إسماعيلَ الذَّبيحِ، فقال لي: هكذا خُلِقوا مِن نوري، والأولياءُ مِن نورِ الخَتمِ، ثُمَّ رَأيتُه تلك اللَّيلةَ عن يَمينِه جِبريلُ، وعن يَدِه اليُسرى ميكائيلُ، وأمامَه الصِّدِّيقُ، وخَلفَه الإمامُ عَليٌّ، فقال لي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ أن دَنَوتُ مِنه وقَبَّلتُ جَبهَتَه الكَريمةَ: ما قامَ بأمرِ اللَّهِ والمُؤمِنينَ أحَدٌ بَعدي مِثلَك، شَكَرَ اللهُ سَعيَك! فقُلتُ له: كَيفَ يا رَسولَ اللهِ؟ فقال: تَعِبتَ في المُؤمِنينَ ونَصَحتَهم، ما تَعِبَ فيهم أحَدٌ بَعدي مِثلَك، فقُلتُ له: أأرضاك ذلك؟ قال: أرضاني وأرضى اللهَ مِن فوقِ سَبعِ سَماواتِه وعَرشِه وحُجُبِه، ثُمَّ نادى رَضوانَ، فقال: يا رِضوانُ: عَمِّرْ جِنانًا ومَساكِنَ لابني مُحَمَّد عُثمان وأبنائِه وصَحبِه وأتباعِه، وأتباعِ أتباعِه إلى يَومِ القيامةِ! ثُمَّ قال: يا مالِكُ، فحَضَرَ، فقال: عَمِّرْ في النَّارِ مَواضِعَ لأعداءِ مُحَمَّد عُثمان إلى يَومِ القيامةِ) [301] ((تاج التفاسير)) (ص: 137). .
وفي هذه الرُّؤيا المَزعومةِ أباطيلُ وضَلالاتٌ؛ فالأنبياءُ لم يُخلَقوا مِن نورِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما زَعَمَ في رُؤياه، بل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَشَرٌ كسائِرِ النَّاسِ في البَشَريَّةِ؛ لقَولِ اللهِ تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110]؛ فليس مخلوقًا مِن نورٍ كما زَعَموا، وهذا تَقَوُّلٌ على اللهِ تعالى، وتَقَوُّلٌ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَّا الحَديثُ المَوضوعُ المَكذوبُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والذي فيه أنَّ جابرًا سَألَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أوَّلُ ما خَلق اللهُ؟ فقال: (نورُ نَبيِّك يا جابِرُ) [302] أخرجه عبد الرزاق كما في ((كشف الخفاء)) للعجلوني (1/265) باختلافٍ يسيرٍ. قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/820): باطلٌ. فهوَ حَديثٌ مَوضوعٌ مُخالِفٌ لِما صَحَّ عنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن حَديثِ ابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ ((أوَّلُ شَيءٍ خَلَقَه اللهُ سُبحانَه وتعالى هو القَلَمُ، فقال له: اكتُبْ. قال: وما أكتُبُ؟ قال: اكتُبْ ما كان وما يَكونُ إلى يَومِ القيامةِ)) [303] أخرجه الطبراني في ((مسند الشاميين)) (1572) باختلافٍ يسيرٍ. والحَديثُ رُويَ عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضيَ اللهُ عنه مرفوعًا، بلَفظِ: ((إنَّ أوَّلَ ما خَلق اللهُ القَلَمُ، ثُمَّ قال: اكتُبْ، فجَرى في تلك السَّاعةِ بما هو كائِنٌ إلى يَومِ القيامةِ)). أخرجه من طرقٍ: أبو داود (4700)، والترمذي (3319)، وأحمد (22705) واللفظ له. صحَّحه الطبري في ((تاريخ الطبري)) (1/32)، وابن العربي في ((أحكام القرآن)) (2/335)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3319)، والوادعي في ((أحاديث معلة)) (203)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22705). .
وأمَّا قَولُه: إنَّ الأولياءَ قد خُلِقوا مِن نورِ الخَتمِ، يَعني: مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيَّ، فهذا كَذِبٌ أيضًا. وما الأولياءُ والأنبياءُ إلَّا بَشَرٌ فضَّلَهم اللهُ تعالى بعِبادَتِه وطاعَتِه والإيمانِ به.
وأمَّا الِادِّعاءُ بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أمَرَ رِضوانَ أن يَبنيَ لمُحَمَّد عُثمان وأتباعِه وذُرِّيَّتِه وأهلِ بَيتِه.. إلخ، فهذا شَيءٌ لمَّ يَدَّعِه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لنَفسِه حَتَّى يَدَّعيَه لغَيرِه!
وأمَّا أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأمُرُ مالِكًا خازِنَ النَّارِ أن يُعَمِّرَ مَساكِنَ لأعداءِ مُحَمَّد عُثمان إلى يَومِ القيامةِ، فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَأمُرُ مَلائِكةَ اللهِ مِن عِندِ نَفسِه، بل قال له سُبحانَه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران: 128] .
وتعالى اللهُ عَمَّا يَفتَريه عليه المُفتَرونَ، وهؤلاء يَصدُقُ فيهم قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن تَحلَّم بحُلمٍ لم يَرَه، كُلِّفَ أن يَعقِدَ بَينَ شَعيرَتَينِ، وليس بفاعِلٍ)) [304] أخرجه البخاري (7042) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. أي: أنَّ مَن قال: رَأيتُ في النَّومِ كَذا وكَذا وليس بذلك، فهذا قد رَأى في عَينِه ما لم تَرَيا، وإن كان رَأى حقًّا فإنَّما ذلك مِنَ الشَّيطانِ حتمًا؛ لأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَأتي بَعدَ مَماتِه بما يُخالِفُ شَريعَتَه.
رابعًا: أحمَد التِّيجانيُّ وخَتمُ الوِلايةِ:
مِمَّنِ ادَّعى لنَفسِه خَتمَ الوِلايةِ أيضًا أحمَد التِّيجانيُّ الفاسيُّ [305] يُنظرُ: الطَّريقةُ التِّجانيَّةُ، من هذه الموسوعةِ. .
قال الفوتيُّ في كِتابِه (رِماحُ حِزبِ الرَّحيمِ على نُحورِ حِزبِ الشَّيطانِ الرَّجيمِ): (شَيخُنا التِّيجانيُّ وُلِدَ عامَ خَمسينَ ومِائةٍ وألفٍ، ووَقع له الإذنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقَظةً لا منامًا بتَربيةِ الخَلقِ على العُمومِ والإطلاقِ سَنةَ ألفٍ ومِائةٍ وسِتٍّ وتِسعينَ، قال: أخبَرَني سَيِّدي مُحَمَّد الغالي أنَّ الشَّيخَ عاشَ وهوَ في مَرتَبةِ الخَتميَّةِ ثَلاثينَ سَنةً، وإذا تَأمَّلتَ هذا عَلِمتَ أنَّ الخَتميَّةَ لم تَثبُتْ لأحَدٍ قبلَ شَيخِنا، وأنَّ أحدًا ما ادَّعاها وثَبَتَ على ادِّعائِها لنَفسِه، وأمَّا شَيخُنا وسَيِّدُنا ووَسيلَتُنا إلى رَبِّنا: سَيِّد أحمَد بنُ مُحَمَّد الشَّريفُ الحَسَنيُّ التِّيجانيُّ قال: أخبَرَني سَيِّدُ الوُجودِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنِّي أنا القُطبُ المَكتومُ مِنه إليَّ مُشافَهةً، يَقَظةً لا منامًا، فقيلَ له: ما مَعنى المَكتومِ؟ فقال: هو الذي كَتَمَه اللهُ تعالى عن جَميعِ خَلقِه حَتَّى المَلائِكةِ والنَّبيِّينَ إلَّا سَيِّدَ الوُجودِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه عَلِمَ به وبحالِه، وهو الذي حازَ كُلَّ ما عِندَ الأولياءِ مِنَ الكَمالاتِ الإلَهيَّةِ، واحتَوى على جَميعِها، وأكبَرُ مِن هذا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ للَّهِ ثَلاثَمِائةِ خُلُقٍ، مَن تَخلَّق بواحِدٍ مِنها أدخَلَه اللهُ الجَنَّةَ، وما اجتَمَعَت في نَبيٍّ ولا وليٍّ إلَّا في سَيِّدِ الوُجودِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [306] ليس بحديثٍ. ، وأمَّا الأقطابُ الذينَ بَعدَه حَتَّى الحُجَّةِ العُظمى ابنِ عَرَبيٍّ الحاتِميِّ، فإنَّما يَعلَمونَ ظَواهِرَها فقَط، ويُسَمَّونَ المحَمَّديِّين، وبه خَتم اللهُ الأقطابَ المُجتَمِعةَ فيهم الأخلاقُ والإلَهيَّةُ، وهذه الأخلاقُ لا يعرِفُها إلَّا مَن ذاقَها، ولا تُدرَكُ بالوَصفِ ولا يُعرَفُ ما فيها إلَّا بالذَّوقِ، وقال: إنَّ الفَيوضَ التي تَفيضُ مِن ذاتِ سَيِّدِ الوُجودِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَتَلَقَّاها ذاتُ الأنبياءِ، وكُلُّ ما فاضَ وبَرَزَ مِن ذاتِ الأنبياءِ تَتَلَقَّاه ذاتي، ومِنِّي يَتَفَرَّقُ على جَميعِ الخَلائِقِ مِن نَشأةِ العالَمِ إلى النَّفخِ في الصُّورِ، وخُصِصتُ بعُلومٍ بَيني وبَينَه مِنه إليَّ مُشافَهةً لا يَعلَمُها إلَّا اللهُ عزَّ وجَلَّ بلا واسِطةٍ، قال: أنا سَيِّدُ الأولياءِ كما كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَيِّدَ الأنبياءِ) [307] يُنظر: ((الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية)) للهلالي (ص: 32- 34). .

انظر أيضا: