موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالثُ: بَينَ مَقامِ النُّبوَّةِ ومَنزِلةِ الوِلايةِ


بَوَّبَ الشِّيعيُّ الحُرُّ العامِليُّ بابًا مُستَقِلًّا بعُنوانِ (الأئِمَّةُ الاثني عَشَرَ أفضَلُ من سائِرِ المَخلوقاتِ منَ الأنبياءِ والأوصياءِ السَّابقينَ والمَلائِكةِ وغَيرِهم، وأنَّ الأنبياءَ أفضَلُ منَ المَلائِكةِ)، ثمَّ أوردَ تَحتَه رِواياتٍ عَديدةً [132] ((الفصول المهمة في أصول الأئمة)) (ص: 152). .
وقال الخُمينيُّ: (إنَّ من ضَروريَّاتِ مَذهَبِنا أنَّ لأئِمَّتِنا مَقامًا لا يَبلُغُه مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبيٌّ مُرسَلٌ) [133] ((الحكومة الإسلامية)) (ص: 52). .
وأمَّا غُلاةُ الصُّوفيَّةِ فقال عَزيزُ الدِّينِ بنُ مُحَمَّدٍ النَّسَفيُّ: (إنَّ طائِفةً منَ الصُّوفيَّةِ ذَهَبَت إلى تَفضيلِ الوِلايةِ على النُّبوَّةِ، وقالوا: إنَّ النُّبوَّةَ باطِنُها الوِلايةُ، وأمَّا الوِلايةُ فباطِنُها عالمُ الإلهِ) [134] ((زبدة الحقائق)) للنسفي (ص: 59، 110). .
وقال أيضًا: (اعلَمْ أنَّ أهلَ الوَحدةِ فضَّلوا النَّبيَّ على الحَكيمِ، والوليَّ على النَّبيِّ؛ فإنَّ كُلَّ نَبيٍّ حَكيمٌ، وكُلَّ وليٍّ نَبيٌّ، وليس كُلُّ نَبيٍّ وَليًّا) [135] ((كشف الحقائق)) (ص: 102). .
وممَّا قاله بَعضُ الصُّوفيَّةِ والشِّيعةِ استِمرارُ النُّبوَّةِ وجَرَيانُها [136] يُنظر: ((فرق الشيعة)) للنوبختي (ص: 70) وما بعدها، ((المقالات والفرق)) للقمي (ص: 46، 54، 64). .
قال ابنُ عَرَبيٍّ: (ويَجمَعُ النُّبوَّةَ كُلَّها أمُّ الكِتابِ، ومِفتاحُها: بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ. فالنُّبوَّةُ ساريةٌ إلى يَومِ القيامةِ في الخَلْقِ. وإن كان التَّشريعُ قدِ انقَطَعَ، فالتَّشريعُ جُزءٌ من أجزاءِ النُّبوَّةِ، فإنَّه يَستَحيلُ أن يَنقَطِعَ خَبَرُ اللَّهِ وأخبارُه منَ العالَمِ؛ إذ لوِ انقَطَعَ لم يَبقَ للعالمِ غِذاءٌ يَتَغَذَّى به في بَقاءِ وجودِه: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109] ، وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان: 27] ، وقد أخبَرَ اللهُ أنَّه ما من شَيءٍ يُريدُ إيجادَه إلَّا يَقولُ له: كُنْ، فهذه كَلِماتُ اللهِ لا تَنقَطِعُ، وهي النِّداءُ العامُّ لجَميعِ المَوجوداتِ، فهذا جُزءٌ واحِدٌ من أجزاءِ النُّبوَّةِ لا يَنفَدُ، فأينَ أنتَ من باقي الأجزاءِ التي لها؟) [137] ((الفتوحات المكية)) (2/ 90). .
وهذا القَولُ شَجَّعَ بَعضَ المُتَنَبِّئينَ الكَذَّابينَ على ادِّعاءِ النُّبوَّةِ بَعدَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِثلُ الغُلامِ القاديانيِّ الذي استَشهَدَ على تَنَبُّئِه بكَلامِ ابنِ عَرَبيٍّ هذا [138] يُنظر: ((القاديانية دراسات وتحليل)) لظهير (ص: 286). .
وإن كان ابنُ عَرَبيٍّ قد بَيَّنَ مُرادَه في مَواضِعَ أخرى بأنَّه يَعني وُجودَ أناسٍ في زَمانِهم بمَنزِلةِ النَّبيِّ في زَمانِه فيَقومُ مَقامَ النَّبيِّ، لكِن ليس له حَقُّ التَّشريعِ، فقال: (ويَتَضَمَّنُ هذا البابُ المَسائِلَ التي لا يَعلمُها إلَّا الأكابرُ من عِبادِ اللهِ، الذينَ هم في زَمانِهم بمَنزِلةِ الأنبياءِ في زَمانِ النُّبوَّةِ، وهي النُّبوَّةُ العامَّةُ؛ فإنَّ النُّبوَّةَ التي انقَطَعَت بوُجودِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما هي نُبوَّةُ التَّشريعِ لا مَقامُها، فلا شَرعَ يَكونُ ناسِخًا لشَرعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يَزيدُ في حُكمِه شَرعًا آخَرَ، وهذا مَعنى قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الرِّسالةَ والنُّبوَّةَ انقَطَعَت، فلا رَسولَ بَعدي ولا نَبيَّ)) [139] أخرجه الترمذي (2272)، وأحمد (13824) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. حسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (90)، وصحَّح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (8390)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (90)، وشعيب الأرناؤوط على شرط مسلم في تخريج ((مسند أحمد)) (13824)، وقال التِّرمِذيُّ: حَسَنٌ غَريبٌ من هذا الوَجهِ. ، أي: لا نَبيَّ بَعدي يَكونُ على شَرعٍ يَكونُ مُخالفًا لشَرعي، بل إذا كان يَكونُ تَحتَ حُكمِ شَريعَتي... فهذا هو الذي انقَطَعَ وسُدَّ بابُه، لا مَقامُ النُّبوَّةِ) [140] ((الفتوحات المكية)) (2/ 3). .
وقال ابنُ عَرَبيٍّ كَذلك مُجيبًا على سُؤالِ التِّرمِذيِّ المُلقَّبِ بالحَكيمِ: أينَ مَقامُ الأنبياءِ من مَقامِ الأولياءِ؟ (وإن كان سُؤالُه عن مَقامِ الأنبياءِ منَ الأولياءِ، أي: أنبياءِ الأولياءِ -وهي النُّبوَّةُ التي قُلْنا: إنَّها لم تَنقَطِعْ، فإنَّها ليست نُبوَّةَ الشَّرائِعِ- وكَذلك في السُّؤالِ عن مَقامِ الرُّسُلِ الذينَ هم أنبياءُ، فلنَقُلْ في جَوابه: إنَّ أنبياءَ الأولياءِ مَقامُهم منَ الحَضَراتِ الإلهيَّةِ الفَردانيَّةِ، والاسمُ الإلهيُّ الذي تَعبَّدَهم "هو" الفَردُ، وهمُ المُسَمَّونَ: الأفرادَ.
فهذا هو مَقامُ نُبوَّةِ الوِلاية لا نُبوَّةِ الشَّرائِع. وأمَّا مَقامُ الرُّسُلِ الذينَ هم أنبياءُ، فهمُ الذينَ لهم خَصائِصُ على ما تَعَبَّدوا به أتباعَهم، كمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما قيل له: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب: 50] في النِّكاحِ بدونِ الهبةِ؛ فمنَ الرُّسُلِ مَن لهم خَصائِصُ على أمَّتِهم، ومنهم مَن لا يَختَصُّه اللهُ بشَيءٍ دونَ أمَّتِه، وكذلك الأولياءُ؛ فيهم أنبياءُ، أي: خُصُّوا بعِلمٍ لا يَحصُلُ إلَّا لنَبيٍّ، منَ العِلمِ الإلهيِّ. ويَكونُ حُكمُهم منَ اللهِ فيما أخبَرَهم به حُكمَ المَلائِكةِ؛ ولهذا قال تعالى في نَبيِّ الشَّرائِعِ: مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف: 68] ، أي: ما هو ذَوقُك يا موسى؟ مَعَ كَونِه كَليمَ اللهِ. فخَرقَ الخَضِرُ السَّفينةَ وقَتلَ الغُلامَ حُكمًا وأقامَ الجِدارَ عن حُكمِ الأمرِ الإلهيِّ، هذا كُلُّه كخَسفِ البلادِ على يَدَي جِبريلَ ومَن كان منَ المَلائِكةِ؛ ولهذا كان الأفرادُ منَ البَشَرِ بمَنزِلةِ المُهَيمِنِ منَ المَلائِكةِ، وأنبياؤُهم منهم بمَنزِلةِ الرُّسُلِ منَ الأنبياءِ) [141] ((الجواب المستقيم عما سأل عنه الترمذي الحكيم)) (سؤال رقم 180). .

انظر أيضا: