موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالثُ: أشهَرُ دُعاةِ الدُّروزِ


تَرتَبطُ بدايةُ المَذهَبِ الدَّرْزيِّ بثَلاثةٍ مِنَ الدُّعاةِ، هم:
1- حَمزةُ بنُ عَليِّ بنِ أحمَدَ الزَّوزَنيُّ، ويُعرَفُ باللَّبَّادِ.
2- الحَسَنُ بنُ حَيدرةَ الفَرغانيُّ، المَعروفُ بالأخرَمِ أوِ الأجدَعِ.
3- مُحَمَّدُ بنُ إسماعيلَ (الدَّرْزيُّ)، المَعروفُ بأنوشتكين أو نشتكين.
والمُؤَرِّخونَ مُختَلِفونَ في تَرتيبِ أسبَقيَّتِهم في الدَّعوةِ الجَديدةِ، ومَعَ أنَّ اسمَ الدُّروزِ مُرتَبِطٌ باسمِ الدَّرْزيِّ، إلَّا أنَّ بَعضَهم يجعَلُ البدايةَ لحَمزةَ -وهو الأرجَحُ- والبَعضُ الآخَرُ يجعَلُها لمُحَمَّدِ بنِ إسماعيلَ الدَّرْزيِّ.
أمَّا الدُّروزُ فيعتَبرونَ حَمزةَ هو مُؤَسِّسَ المَذهَبِ وهو الإمامَ، وأنَّ الدَّرْزيَّ قد حادَ عن تَعاليمِ حَمزةَ، وأنَّه كان أحَدَ أتباعِه؛ مِمَّا جَعَلَ حَمزةَ يُهاجِمُه في كثيرٍ مِن رَسائِلِه؛ لذلك فإنَّ الدُّروزَ يكرَهونَ الدَّرْزيَّ هذا ويلعنونَه.
أمَّا الأخرَمُ فالأرجَحُ أنَّه كان داعيًا مِن دُعاةِ حَمزةَ في أوَّلِ ظُهورِه.
وقد وُلِدَ حَمزةُ في مَدينةِ (زَوْزَن) في خُراسانَ مَساءَ الخَميسِ في الثَّالثِ والعِشرينَ مِن رَبيعٍ الأوَّلِ سَنةَ 375هـ، وهو اليومُ الذي وُلِدَ فيه الحاكِمُ بمِصرَ، ولَعَلَّ ذلك هو السَّبَبُ في أنَّ الدُّروزَ يُقيمونَ الصَّلاةَ الأُسبوعيَّةَ مَساءَ كُلِّ خَميسٍ [3330] يُنظر: ((مذهب الدروز والتوحيد)) لعبد الله النجار (ص: 123). .
واختَلَف المُؤَرِّخونَ في زَمَنِ وُفودِه إلى مِصرَ؛ فالبَعضُ منهم يجعَلُه متقدِّمًا في سَنةِ 395هـ؛ حَيثُ كان عُمُرُه عِشرينَ عامًا [3331] يُنظر: ((أضواء على العقيدة الدرزية)) لأحمد الفوزان (ص: 28). .
وغالبيَّةُ المُؤَرِّخينَ تَجعَلُ مَوعِدَ قُدومِه حَوالَي سَنةَ 405هـ أو قَبلَها بقَليلٍ [3332] يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (ص: 310)، ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) لعنان (ص: 113)، ((القاموس الإسلامي)) لأحمد عطية (2/ 156). .
وانتَظَمَ حَمزةُ بَينَ الدُّعاةِ الإسماعيليِّينَ الذين كانت تَغصُّ بهمُ القاهرةُ يومئِذٍ، ورَجَّحَ الدُّكتورُ مُحَمَّد كامِل حُسَين أنَّه لم يكُنْ مِنَ الدُّعاةِ، بل كان يُؤَدِّي عملًا في القَصرِ، وكان على اتِّصالٍ دائِمٍ بالحاكِمِ، فقال: (يغلِبُ على ظَنِّي أنَّ حَمزةَ كان أحَدَ الخَدَمِ الخُصوصيِّينَ للحاكِمِ، وكان خادِمًا ذكيًّا لَبِقًا ذا حيلةٍ ودَهاءٍ وخَيالٍ خِصبٍ، وكان بحُكمِ عَمَلِه في القَصرِ يستَمِعُ إلى مَجالِسِ الحِكمةِ التَّأويليَّةِ، فوعاها وحَفِظَ منها كثيرًا، ورُبَّما قَرَأ كُتُبَ الدَّعوةِ التي كانت بالقَصرِ فأفادَته في تَلوينِ عَقليَّتِه وتَوجيهِ أفكارِه إلى ما يُرضي طُموحَه ويُحَقِّقُ آمالَه، وظَلَّ هذه السَّنَواتِ يُهَيِّئُ نَفسَه لذلك) [3333] ((طائفة الدروز)) (ص: 76). .
ومِمَّا يُؤَكِّدُ هذا الرَّأيَ رَكاكةُ ألفاظِه في رَسائِلِه؛ إذ كما قال الدُّكتورُ مُحَمَّد كامِل حُسَين: (لم يكُنْ مِنَ الكُتَّابِ؛ لأنَّ أُسلوبَه في رَسائِلِه وكُتُبِه ليس به هذا الإشراقُ، وتلك الدِّيباجةُ، وهذه الرَّصانةُ، التي عُرِفت عن كُتَّابِ الفاطِميِّينَ ودُعاتِهم) [3334] ((طائفة الدروز)) (ص: 76). .
لذلك، وكما قال الدَّرْزيُّ عَبدُ اللَّهِ النَّجَّارُ: (تَنُمُّ مِن تَعابيرِه كلماتٌ فارِسيَّةٌ دَخيلةٌ على أُسلوبِ الإنشاءِ العَرَبيِّ) [3335] ((مذهب الدروز والتوحيد)) (ص: 123، 124). .
ومِمَّا قيلَ في شَأنِ حَمزةَ: (كان حَمزةُ في الحَقيقةِ داهيةً دهياءَ مُتَعَمِّقًا في المَباحِثِ الدِّينيَّةِ القديمةِ، وإنَّ العَقائِدَ التي نادى بها تَدُلُّ تَمامًا على أنَّها ذاتُ العَقائِدِ التي كان يُنادي بها المُقنَّعُ الخُراسانيُّ [3336] هو عَطاءٌ الخُراسانيُّ المَعروفُ بالمُقنَّعِ الخُراسانيِّ، مُشَعوِذٌ مَشهورٌ، كان مِن أهلِ مَروٍ، وادَّعى الرُّبوبيَّةَ زاعِمًا أنَّها انتَقَلَت إليه مِن أبي مُسلمٍ الخُراسانيِّ، كان مُشَوَّه الخَلقِ، فاتَّخَذَ وجهًا مِن ذَهَبٍ تَقَنَّعَ به، ثُمَّ قَتَلَ نَفسَه وأهلَ بَيتِه بالسُّمِّ سنةَ 163هـ. يُنظر: ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (3/ 263)، ((الأعلام)) للزركلي (4/235). ؛ هذا اليهوديُّ الذي هاجَ في خُراسانَ سَنةَ 160هـ) [3337] ((أميرة بابلية لدى الدروز)) لباولا هنري بوردو (ص: 26 - 28). .
وسُرعانَ ما أصبَحَت لحَمزةَ حُظوةٌ عِندَ الحاكِمِ، بَعدَ ما أظهَرَه مِن إخلاصٍ، واستَطاعَ بحُنكتِه ودَهائِه أن يجمَعَ حَولَه بَعضَ الدُّعاةِ ويتَّفِقوا سِرًّا على الدَّعوةِ إلى تَأليهِ الحاكِمِ بأمرِ اللَّهِ، ومِن هؤلاء كان مُحَمَّدُ بنُ إسماعيلَ الدَّرْزيُّ.
ويَظهَرُ أنَّ حَمزةَ بنَ عَليٍّ، وكما يتَّضِحُ في رَسائِلِه، قدِ اتَّفقَ مَعَ دُعاتِه ألَّا يجهَرَ أحَدُهم أو يكشِفَ عن مَضمونِ المَذهَبِ الجَديدِ، إلَّا بَعدَ تَلَقِّي الأوامِرِ منه نَفسِه، ولَكِنَّ الدَّرْزيَّ تَسرَّع في الكشفِ عن أسرارِ الدَّعوةِ الجَديدةِ سَنةَ 407هـ؛ مِمَّا أثارَ النَّاسَ، وحَمَلَ حَمزةَ على الكشفِ عن دَعوتِه سَنةَ 408هـ.
قال حَمزةُ في (رِسالة الغايةِ والنَّصيحةِ) موضِّحًا هذا الأمرَ: (وغِطريسُ هو نشتكين الدَّرْزيُّ الذي تَغَطرَسَ على الكشفِ بلا عِلمٍ ولا يقينٍ، وهو الضِّدُّ الذي سَمِعتُم بأنَّه يظهَرُ مِن تَحتِ ثَوبِ الإمامِ، ويدَّعي مَنزِلَتَه... وكذلك الدَّرْزيُّ كان مِن جُملةِ المُستَجيبينَ حتَّى تَغَطرَسَ وتَجبَّر وخَرَجَ مِن تَحتِ الثَّوبِ، والثَّوبُ هو الدَّاعي والسُّترةُ التي أمَرَه بها إمامُه حَمزةُ بنُ عَليِّ بنِ أحمَدَ الهادي إلى تَوحيدِ مَولانا جلَّ ذِكرُه سُبحانَه وتعالى) [3338] ((رسالة الغاية والنصيحة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/ 92). .
ومَهما يكُنْ فإنَّ الدُّعاةَ إلى المَذهَبِ الجَديدِ ظَلُّوا في سَترِهم مُدَّةً طَويلةً يعمَلونَ في الخَفاءِ، ويدعونَ النَّاس سِرًّا لمَبادِئِهم وتَعاليمِهم، حتَّى قامَ الدَّرْزيُّ وأعلَنَ الدَّعوةَ سَنةَ 407هـ، والذي كما يُقالُ: فتَحَ سجِلًّا في مَساجِدِ القاهرةِ تُكتَبُ فيه أسماءُ المُؤمِنينَ بأُلوهيَّةِ الحاكِم، فاكتَتَبَ مِن أهلِ القاهرةِ سَبعةَ عَشَرَ ألفًا كُلُّهم يخشَونَ بَطشَ الحاكِمِ [3339] يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (7/305). ويُنظر فيه أيضًا: (6/35). .
ويبدو أنَّ هذا الأمرَ قد أحرَجَ حَمزةَ؛ مِمَّا حَمَله على الجَهرِ بدَعوتِه الجَديدةِ سَنةَ 408هـ، فثارَ النَّاسُ على هؤلاء الدُّعاةِ ثَورةً شَديدةً ساعَدَهم فيها الجُندُ الأتراكُ؛ مِمَّا جَعَلَ الدَّرْزيَّ -على أرجَحِ الرِّواياتِ- يختَفي في قَصرِ الحاكِمِ؛ حَيثُ عَمِلَ على تَهريبِه بَعدَ ذلك إلى وادي التَّيمِ في بلادِ الشَّامِ، والذي كان يقطُنُ به التَّنوخيُّون، الذين كانوا يدينونَ بالولاءِ للعُبَيديِّينَ؛ حَيثُ عَمِلَ هناك على بَثِّ آرائِه ومُعتَقداتِه بَينَهم، فانضَمُّوا إليه وآمَنوا بدَعوتِه.
وبسَبَبِ شِدَّةِ الثَّورةِ التي قامَ بها أهلُ مِصرَ على دُعاةِ حَمزةَ وأتباعِه، اختَفى حَمزةُ أيضًا سَنةَ 409هـ، واعتَبَرَها سَنةَ اختِفاءٍ وغَيبةٍ.
ووصَف حَمزةُ سَنةَ 409هـ بأنَّها: (سَنةُ المِحنةِ والامتِحانِ والعَذابِ، وأنَّ القَصدَ مِنَ الغَيبةِ أن يمتَحِنَ الخَلقَ بغَيبَتِه، والمِحنةُ هي غيابُه الذي عاقَبَهم فيه) [3340] يُنظر: ((مذهب الدروز والتوحيد)) لعبد الله النجار (ص: 115). .
ويبدو أنَّ غَيبَتَه في هذه السَّنةِ كانتِ استِعدادًا للظُّهورِ بقوَّةٍ جَديدةٍ للتَّنظيمِ بَعدَ ثَورةِ النَّاسِ عليه في العامِ الفائِتِ [3341] يُنظر: ((مذهب الدروز والتوحيد)) لعبد الله النجار (ص: 124). .
ويتَبَيَّنُ مِن رَسائِلِ حَمزةَ أنَّه في خِلالِ هذه الفترةِ جَعَلَ مَقَرَّه السِّرِّيَّ خارِجَ القاهرةِ في مَسجِدِ (تِبْر)، ولَكِنَّ خُصومَه هاجَموا مَقَرَّه وأحرَقوا بابَ المَسجِدِ، ثُمَّ وجَدوا داخِلَ المَسجِدِ بابًا مِنَ الحَجَرِ لا تَعمَلُ فيه النَّارُ ويصعُبُ نَقبُ جِدارِه [3342] يُنظر: ((الحركات الباطنية في الإسلام)) لمصطفى غالب (ص: 249). .
ومِمَّا تَقدَّم يتَّضِحُ بدايةُ الخِلافِ بَينَ حَمزةَ والدَّرْزيِّ، والظَّاهرُ أنَّ هذا الخِلافَ قد تَفاقَمَ بَعدَ هروبِ الدَّرْزيِّ إلى الشَّامِ؛ حَيثُ دَعا هناك إلى آراءٍ جَديدةٍ خالَف بها آراءَ حَمزةَ، وسَمَّى نَفسَه بـ (سَيفِ الإيمانِ) و (سَيِّدِ الهادينَ) [3343] يُنظر: ((بنو معروف الدروز)) لسعيد الصغير (ص: 236). .
ولَعَلَّ هذه الاختِلافاتِ لم تَكُنْ بتلك الأهَمِّيَّةِ، وإنَّما جَوهَرُ الخِلافِ -كما يُفهَمُ مِن كِتاباتِ حَمزةَ- كان (بسَبَبِ رِئاسةِ الدَّعوةِ الجَديدةِ، وهذا الأمرُ أغضَبَ حَمزةَ، وجَعَله يعزِلُ الدَّرْزيَّ مِن مَنصِبِه في الشَّامِ، ويُؤَلِّبُ عليه أتباعَه في الشَّامِ، فقَتَلوه سَنةَ 411هـ) [3344] يُنظر: ((بنو معروف الدروز)) لسعيد الصغير (ص : 236). .
قال حَمزةُ بنُ عَليٍّ: (وكذلك الدَّرْزيّ سَمَّى رُوحَه في الأوَّلِ سَيفَ الإيمانِ، فلَمَّا أنكرتُ عليه ذلك وبَيَّنتُ له أنَّ هذا الاسمَ مُحالٌ وكَذِبٌ؛ لأنَّ الإيمانَ لا يحتاجُ إلى سَيفٍ يُعينُه، بَل المُؤمِنونَ مُحتاجونَ إلى قوَّةِ السَّيفِ وإعزازِه، فلم يرجِعْ عن ذلك الاسمِ وزادَ عِصيانُه، وأظهَرَ فِعلَ الضِّدِّيَّةِ في شَأنِه، وتَسَمَّى باسِمِ الشِّركِ، وقال: أنا سَيِّدُ الهادينَ، يعني أنا خَيرٌ مِن إمامي الهادي) [3345] ((رسالة الغاية والنصيحة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/92، 93). .
وكانت مُدَّةُ ظُهورِ حَمزةَ ثَلاثَ سَنَواتٍ، هي: 408هـ، 410هـ، 411هـ. وأمَّا سَنةُ 409هـ فإنَّها كانت سَنةَ غَيبةٍ له. وكذلك اختَفى بَعدَ سَنةِ 411هـ، وهي السَّنةُ التي قُتِلَ فيها الحاكِمُ، ومَرَّت سَنَواتٌ مِنَ الكِتمانِ أيضًا لم يظهَرْ فيها، فقد طورِدَ مِن قِبَلِ الظَّاهرِ بنِ الحاكِمِ والمَلكِ الجَديدِ؛ مِمَّا اضطَرَّه إلى الرَّحيلِ إلى بلادِ الشَّامِ [3346] يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (2/310). . وبَقي حَمزةُ مُختَفيًا حتَّى أُزيحَ السِّتارُ قليلًا عن نَشاطِه برَسائِلَ أُرسِلَت إلى سِواه وذُكِرَ فيها، أو وُجِّهَت إليه، بَعدَ قُرابةِ عِشرينَ سَنةً مِن غيابِه، منها رِسالةُ المواجَهةِ التي يتَبَيَّنُ منها أنَّ حَمزةَ كان لا يزالُ على اتِّصالٍ سِرِّيٍّ بدُعاتِه، وعلى الخُصوصِ المُقتَني بَهاءِ الدِّينِ [3347] يُنظر: ((مذهب الدروز والتوحيد)) للنجار (ص: 125). .
أمَّا غَيبةُ حَمزةَ الثَّانيةُ، وهي الأخيرةُ، فإنَّ رِسالةَ بَهاءِ الدِّينِ في رِسالةِ السَّفَرِ والتي يطلُبُ فيها مِنَ المُؤمِنينَ الإيمانَ برُجوعِ حَمزةَ، وإلى طاعةِ وَليِّ الحَقِّ الإمامِ المُنتَظَرِ، والتي كُتِبَت في السَّنةِ الثَّانيةِ والعِشرينَ مِن سِني حَمزةَ، أي سَنةَ 430ه، توضِّحُ أنَّ حَمزةَ قدِ اختَفى أو ماتَ سَنةَ 430هـ [3348] يُنظر: ((مذهب الدروز والتوحيد)) للنجار (ص: 120 - 126). . مَعَ أنَّ هناك مَن يقولُ: إنَّه ماتَ سَنةَ 422هـ [3349] يُنظر: ((القاموس الإسلامي)) لأحمد عطية (2/156). .
وأمَّا مَكانةُ حَمزةَ عِندَ الدُّروزِ فهو الإعظامُ والإجلالُ؛ فالحَديثُ عنه مَقرونٌ دائِمًا عِندَهم بذلك التَّقديرِ سَواءٌ كان في مَجرى حَديثِ لِسانٍ أو على مَسرى صَفحةٍ مِن كِتابٍ مَطبوعٍ، أو ورَقةٍ مِن سِفرٍ مَخطوطٍ [3350] يُنظر: ((إسلام بلا مذاهب)) للشكعة (ص: 273). .
وهو عِندَهم -كما سَمَّى نَفسَه في رَسائِلِه- الإمامُ، وقائِمُ الزَّمانِ، وهادي المُستَجيبينَ، المُنتَقِمُ مِنَ المُشرِكينَ، وعِلَّةُ العِلَلِ، والعَقلُ الكُلِّيُّ، والإرادةُ، والقَلَمُ، والطُّورُ، والكِتابُ المَسطورُ، وهو أيضًا المَسيحُ الحَقُّ، إلى غَيرِ ذلك مِنَ الأسماءِ والألقابِ التي أطلَقَها على نَفسِه.
وحَمزةُ يفتَتِحُ رَسائِلَه غالبًا بهذه الدِّيباجةِ؛ ففي رِسالةِ البَلاغِ والنِّهايةِ: (تَأليفُ عَبدِ مَولانا جلَّ ذِكرُه، هادي المُستَجيبينَ، المُنتَقِمُ مِنَ المُشرِكينَ بسَيفِ مَولانا جلَّ ذِكرُه) [3351] ((رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (ص: 73). .
وفي الرِّسالةِ المَوسومةِ بسَبَبِ الأسبابِ، قال عن نَفسِه: (عِلَّةُ العِلَل، وهو العَقلُ الكُلِّيُّ، وهو القَلَمُ، وهو القافُ، وهو القَضاءُ، وهو الألفُ بالابتِداءِ، وهو الألفُ بالانتِهاءِ... وهو سُبحانَه مُنَزَّهٌ عنِ الكُلِّ، وجَميعُ ما في القُرآنِ والصُّحُفِ، وما تَرَكه على قَلبي مِنَ البَيانِ والأسماءِ الرَّفيعةِ فهو يقَعُ على عَبدِه الإمامِ) [3352] ((الرسالة الموسومة بسبب الأسباب)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (ص: 157- 159). .
وفي هذه الرِّسالةِ ينفي حَمزةُ عن نَفسِه بأنَّه اختَرَعَ هذا الأمرَ مِن عِندِ نَفسِه فقال: (وهاهنا بابٌ ثانٍ مَذمومٌ، أعاذَك المَولى سُبحانَه منه، وذلك قَولُ مَن يقولُ مِن كافَّةِ النَّاسِ بأنِّي اختَرَعتُ هذا الأمرَ مِن رُوحي، ووضَعتُ العِلمَ مِن ذاتي وقوَّتي، ومَولانا جَلَّت قُدرَتُه لا يعلَمُ بذلك ولا يرضاه... وأنا أُعيذُك مِن ذلك وجَميعَ الموحِّدينَ المُخلِصينَ) [3353] ((الرسالة الموسومة بسبب الأسباب)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (ص: 152). .
والمُقتَني بَهاءُ الدِّينِ خاطَبَ حَمزةَ في (رِسالةِ المواجَهةِ) بقَولِه: (فما كان يا مَولاي في هذه الصَّحائِف والمُراسَلاتِ والكُتُبِ والمُلَطِّفاتِ التي سَيَّرَها العَبدُ مِن خِطابٍ جَزلٍ، ومَنطِقٍ صائِبٍ، وقَولٍ فَصلٍ، فهو مِن منَّةِ إمامِ العَصرِ، ومُؤادِ [3354] هكذا وردت في المخطوط ولعل الصحيح (ومراد). قائِمِ الزَّمانِ، وما كان فيها مِن خَطأٍ وخَطَلٍ فهو مَنسوبٌ إلى العَبدِ الأصغَرِ، المَلهوفِ الظَّمآنِ، يتَوسَّلُ في تَقصيرِه إلى لُطفِ مَولاه) [3355] ((رسالة المواجهة)) عن ((الحركات الباطنية)) للخطيب (ص: 266). .
وفي كِتابِ النُّقَطِ والدَّوائِر -وهو مِن كُتُبِ الدُّروزِ الدِّينيَّةِ ولا يُعرَفُ مُؤَلِّفُه- وصفَ كاتِبُه حَمزةَ بهذه الأوصافِ، فقال: (فهو صَلَواتُ اللَّهِ عليه النُّورُ الكُلِّيُّ، والجَوهَرُ الأزَليُّ، والعُنصُرُ الأوَّليُّ، والأصلُ الجَليُّ، والجِنسُ العَليُّ، فيه بَدَأتِ الأنوارُ، ومنه بَرَزَتِ الجَواهِرُ، وعنه ظَهَرَتِ العناصِرُ، ومنه تَفرَّعَتِ الأُصولُ، وبه تَنَوَّعَتِ الأجناسُ... فهو الإمامُ، والدَّليلُ على عِبادةِ اللَّهِ، والدَّاعي إلى تَوحيدِ اللَّهِ، والنَّاطِقُ بحَقِّ اللَّهِ، والبُرهانُ على اللَّهِ، والرَّسولُ الذي أرسَله اللَّهُ بالهدى ودينِ الحَقِّ ليُظهِرَه على الدِّينِ كُلِّه ولَو كرِهَ المُشرِكونَ) [3356] كتاب ((النقط والدوائر)) (ص: 9- 12). .
وقال كمال جُنبُلاط في مُقدِّمَتِه لكِتابِ (أضواءٌ على مَسلَكِ التَّوحيدِ): (يجِبُ أنَّ يبقى أبناءُ التَّوحيدِ مُحافِظينَ على هذا التَّكريسِ والتَّهَيُّؤِ التَّقليديِّ والاجتِباءِ الإنسانيِّ لفِكرةِ الوِلايةِ؛ لأنَّه في النِّهايةِ وفي الحَقيقةِ لا وِلايةَ على الموحِّدينَ ولا على الأنامِ كافَّةً، إلَّا للعَقلِ الأرفعِ، صَلَواتُ المُهَيمِنِ عليه) [3357] ((أضواء على مسلك التوحيد)) لسامي مكارم (ص: 20). .
وقال الدَّرْزيُّ سامي مَكارِم: (وهذا المُعتَقَدُ التَّوحيديُّ يعتَمِدُ العَقلَ في استِكشافاتِه، ولا يُرادُ بالعَقلِ الأدنى، أي البشريِّ أوِ الدُّنيويِّ إن صَحَّ التَّعبيرُ، بَل العَقلُ الأرفَعُ أوِ الكُلِّيُّ الذي هو المُبدِعُ الأوَّلُ، أبدَع مِنَ النُّورِ الشَّعشَعانيِّ المَحضِ صورةً صافيةً كامِلةً، فتَضَمَّن في سِرِّه مَعنى ما كان وما يكونُ دَفعةً واحِدةً بدونِ زَمانٍ، فكان قوَّةً كامِلةً وفعلًا تامًّا، وكان عِلَّةَ العِلَلِ وأصلَ الوُجودِ وغايتَه مَعًا) [3358] ((أضواء على مسلك التوحيد)) (ص: 81). .
مِمَّا سَبَقَ يتَبَيَّنُ أنَّ الإيمانَ بإمامةِ حَمزةَ -وأنَّه المُبدِعُ الأوَّلُ وغَيرُ ذلك- هو مِن أهَمِّ مُعتَقَداتِ الدُّروزِ، وأصلٌ عَظيمٌ مِن أُصولِهم؛ لأنَّه أوَّلُ الحُدودِ الخَمسةِ الذين يعتَقِدونَ بهم، وهو أيضًا في نَظَرِهم نَبيُّ الحاكِمِ.
وفي شِعرٍ مَخطوطٍ لدَرزيٍّ يُسَمَّى بـ (الشَّيخِ أبي عُبَيدٍ) يقولُ فيه:
ألَا صَلُّوا على قَلَمِ القَضايا
رَسولِ اللَّهِ أفضَلِ مَن أجابا
رَسولِ اللَّهِ حَمزةَ يا خَليلي
فأولى مَن أتانا بالكِتابا [3359] مخطوط في جامعة شيكاغو (رقم 3737) أُخذت عن نسخة الجامعة الأردنية شريط (رقم 29). .
وبحَسَبِ عَقيدةِ التَّناسُخِ والأدوارِ عِندَ الدُّروزِ فقد ظَهَرَ حَمزةُ في الأدوارِ الكُبرى، والأدوارِ الصُّغرى بأسماءٍ مُختَلفةٍ: فهو شطنيل في دَورِ آدَمَ، وفيثاغورسُ في دَورِ نوحٍ، وداودُ في دَورِ إبراهيمَ، وشُعَيبٌ في دَورِ موسى، واليسوعُ في دَورِ عيسى، وسَلمانُ الفارِسيُّ في دَورِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [3360] يُنظر: ((مذهب الدروز والتوحيد)) للنجار (ص: 123). ، وهو الذي أملى القُرآنَ على مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وأمَّا الدَّاعي الثَّاني، وهو: الحَسَنُ بنُ حَيدةَ الفَرغانيُّ [3361] نسبةً إلى فَراغانَ، بالفتحِ: مدينةٌ واسعةٌ بما وراءَ النَّهرِ متاخِمةٌ لتُركستانَ. يُنظر: ((معجم البلدان)) للحموي (4/ 253). الأخرَمُ، فهذا الدَّاعي لا يُعرَفُ عنه إلَّا الشَّيءُ القَليلُ؛ ذلك أنَّه ظَهَرَ بمَدينةِ القاهرةِ عَقِبَ ظُهورِ حَمزةَ بقَليلٍ، وكما يقولُ ابنُ العِمادِ أنَّه ظَهَرَ في الثَّاني مِن رَمَضانَ سَنةَ 409هـ [3362] يُنظر: ((شذرات الذهب)) (3 / 194). .
وقد دَعا إلى مِثلِ ما دَعا إليه حَمزةُ مِنَ التَّناسُخِ والحُلولِ، وأُلوهيَّةِ الحاكِمِ، وذاعَت دَعوتُه بسُرعةٍ في جَماعةٍ مِنَ المُغامِرينَ والمُرتَزَقةِ، فاستَدعاه الحاكِمُ وخَلَعَ عليه وأركبَه فرَسًا مُطهمًا، وسَيَّره في مَوكِبِه [3363] يُنظر: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) لعنان (ص: 115). . غَيرَ أنَّه لم تَمضِ على ذلك أيَّامٌ قَلائِلُ حتَّى وثَبَ عليه رَجُلٌ مِن أهلِ السُّنَّةِ وقَتَله وقَتَلَ مَعَه ثَلاثةَ رِجالٍ مِن أتباعِه، فغَضِبَ الحاكِمُ وأمَرَ بإعدامِ قاتِلِه، ودُفِنَ الأخرَمُ على نَفقةِ القَصرِ في حَفلٍ رَسميٍّ، كما أنَّ جُمهورَ أهلِ السُّنَّةِ احتَفلوا بمَأتَمِ القاتِلِ ودَفنوه مُكرَّمًا [3364] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 78). .
هذا موجَزُ ما ذَكرَه المُؤَرِّخونَ عن هذا الدَّاعيةِ، والظَّاهرُ مِن رَسائِلِ حَمزةَ أنَّه لم يكُنْ ضِدَّ الأخرَمِ، كما كان ضِدَّ الدَّرْزيِّ، على أنَّ (الرِّسالة الواعِظة) لأحمَد حَميد الدِّين الكَرمانيِّ تُفيدُ بَعضَ الشَّيءِ عن مُهمَّةِ الأخرَمِ، وهي رِسالةٌ موجَّهةٌ إلى الأخرَمِ رَدًّا على رُقعةٍ بَعث بها إليه؛ حَيثُ يتَّضِحُ من هذه الرِّسالةِ أنَّ الأخرَمَ هو الذي كان يقودُ حَرَكةَ الدِّعايةِ للمَذهَبِ الجَديدِ، وأنَّه هو الذي كان يبعَثُ بالرِّقاعِ إلى النَّاسِ يدعوهم فيها إلى عَقيدَتِه الجَديدةِ، وكان يطلُبُ مِنَ العُلَماءِ وكِبارِ الدُّعاةِ أجوِبةً، فكتَبَ إليه الكَرمانيُّ (الرِّسالة الواعِظة).
وأوَّلُ ما يراه الكَرمانيُّ في رُقعةِ الأخرَمِ أنَّها خاليةٌ مِنَ البَسمَلةِ، ومِنَ الصَّلاةِ على النَّبيِّ، وعلى الأئِمَّةِ مِن ذُرِّيَّتِه، وأضاف الكَرمانيُّ قائلًا: (ولا تَخلو أن تَكونَ في تَظاهُرِك بولاءِ أميرِ المُؤمِنينَ عليه السَّلامُ إمَّا مُتَّبِعًا له أو غَيرَ مُتَّبعٍ، فإن كُنتَ مُتَّبِعًا فبمُخالَفتِك إيَّاه فيما أمَرَك به مِنَ السِّجِلَّاتِ المُكرَّمةِ مِنَ السَّلامِ عليه في جَميعِ المُكاتَباتِ، وقُعودِك عنِ الاقتِداءِ فيما يفعَلُه مِن تَصديرِ سِجِلَّاتِه وجَميعِ مُكاتَباتِه وخُطَبِه ببسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، والاستِفتاحِ به، والصَّلاةِ على سَيِّدِ المُرسَلينَ وخاتَمِ النَّبيِّينَ والتَّبَرُّكِ بها، قد كفرتَ). ومِنَ الأفكارِ التي قالها الأخرَمُ في رُقعَتِه للكَرمانيِّ: (مَن عَرَف مِنكم إمامَ زَمانِه حَيًّا فهو أفضَلُ مِمَّن مَضى مِنَ الأُمَمِ مِن نَبيٍّ أو وصيٍّ أو إمامٍ... وأنَّ مَن عَبدَ اللَّهَ مِن جَميعِ المَخلوقينَ، فعِبادَتُه لشَخصٍ واحِدٍ لا رُوحَ فيه). ويتَساءَلُ عن مَعنى الآيةِ الكريمةِ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [الإنسان: 18] ، وعن: الإسلامِ وشَرائِطِه، وعن: الذي يُتَقَرَّبُ به إلى المَعبودِ، وهَل الشَّريعةُ مُحدَثةٌ أم قديمةٌ مَعَ الدَّهرِ؟ وما النَّفسُ؟ وما العَقلُ؟ ثُمَّ ينتَهي به القَولُ إلى أنَّ الشَّريعةَ والتَّنزيلَ والتَّأويلَ خُرافاتٌ وقُشورٌ وحَشوٌ ولا تَتَعَلَّقُ بها نَجاةٌ، وأنَّ النَّاسَ لا يوجِّهونَ وُجوهَهم إلى القِبلةِ؛ لأنَّها حائِطٌ، وأنَّ المَعبودَ هو الحاكِمُ [3365] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 79). .
وهذا يدُلُّ على أنَّ الأخرَمَ كان مِن مُؤَسِّسي هذه الدَّعوةِ، وكان لسانَ دَعايتِها، ولا تُدرى تَمامًا مَرتَبَتُه بَينَ الحُدودِ؛ لأنَّه قُتِلَ قَبلَ أن يتَبَلورَ مَركزُ الحُدودِ ومَراتِبُهم.
أمَّا الدَّاعيةُ الآخَرُ، والذي يُنسَبُ إليه اسمُ الدُّروزِ، فهو: مُحَمَّدُ بنُ إسماعيلَ الدَّرْزيُّ. وعلى الأرجَحِ أنَّه مِن أصلٍ تُركيٍّ، وذَكرَ المُؤَرِّخونَ أنَّه وفدَ على مِصرَ سَنةَ 407هـ، فخَدَم الحاكِمَ وتَقرَّب إليه، ولَكِنَّ الذي رَجَّحَه بَعضُ الباحِثينَ المُعاصِرينَ أنَّ الدَّرْزيَّ كان قَبلَ هذا التَّاريخِ في مِصرَ واتَّصَل بحَمزةَ بنِ عَليٍّ مُدَّةً طَويلةً قَبلَ إظهارِ الدَّعوةِ، وعَمِلا مَعًا في رَسمِ خُطَطِها [3366] يُنظر: ((طائفة الدروز)) لمحمد كامل حسين (ص: 79). .
وصَرَّحَ حَمزةُ في (رِسالةِ الغايةِ والنَّصيحةِ) بأنَّ الدَّرْزيَّ كان يضرِبُ الدَّنانيرَ والدَّراهِمَ، وهذا يُؤَكِّدُ أنَّ الدَّرْزيَّ كان قَريبًا مِن حَمزةَ والحاكِمِ.
ولا شَكَّ أنَّه كان مِن أقوى رُسُلِ حَمزةَ وأشَدِّهم عَزمًا وجُرأةً، وكان يسيرُ على طَريقةِ حَمزةَ في الدَّعوةِ، ومِنَ الغَريبِ أنَّ حَمزةَ في إحدى رَسائِله يتَّهمُ الدَّرْزيَّ بأنَّه لا يُقِرُّ إلَّا بإنسانيَّةِ الحاكِمِ بأمرِ اللَّهِ دونَ أُلوهيَّتِه، مُستَنِدًا في هذا إلى أنَّ الدَّرْزيَّ يقولُ: إنَّ روحَ آدَمَ انتَقَلَت إلى عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، ثُمَّ انتَقَلَت روحُ عليٍّ إلى الحاكِمِ، وعليٌّ هو الأساسُ، والأساسُ هو مُجَرَّدُ إمامٍ، وليس إلهًا [3367] يُنظر: ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (ص: 595). .
أمَّا عن مَصيرِ الدَّرْزيِّ بَعدَ كشفِه عن هذا المَذهَبِ فيختَلفُ المُؤَرِّخونَ فيه؛ فمنهم مَن يقولُ بقَتلِه في ذلك الوقتِ على يدِ الأتراكِ. ومنهم مَن يُرَجِّحُ أنَّه لم يُقتَلْ في هذا الظَّرفِ، ولَكِنَّه اختَفى في القَصرِ أيَّامًا بحِمايةِ الحاكِمِ حتَّى هَدَأتِ العاصِفةُ وسَكن الجُندُ، ثُمَّ دَبَّرَ الحاكِمُ له سَبيلَ الفِرارِ، وأعانَه بالمالِ، فسارَ إلى الشَّامِ ونَزَلَ ببَعضِ قُرى بانياسَ في سوريا وأذاعَ في النَّاسِ دَعوتَه، فكانت أصلَ مَذهَبِ الدُّروزِ الذي سُمِّي باسمِه، وحاولَ هناك أن ينقَلبَ على حَمزةَ ويدَّعيَ الإمامةَ والرِّئاسةَ له، فقُتِلَ بتَحريضٍ مِن حَمزةَ سَنةَ 411هـ، والأرجَحُ أنَّ هذا هو السَّبَبُ في غَضَبِ حَمزةَ عليه.
ويُفهَمُ مِن رَسائِلِ حَمزةَ بأنَّ الدَّرْزيَّ لم يكُنْ وحيدًا، بَل كان مَعَه دُعاةٌ آخَرونَ أمثالُ البرذعيِّ، وعَليِّ بنِ أحمَدَ الحبالِ؛ فقد ذَكرَ ذلك في (رِسالةِ الغايةِ والنَّصيحةِ)، فقال: (وفِرعَونُ البرذعيُّ، وهامانُ عَليُّ بنُ الحبالِ؛ لأنَّ فِرعَون كان داعيَ وقتِه، فلَمَّا أبطَأ النَّاطِقُ قال: «أنا رَبُّكمُ الأعلى» يعني إمامَكمُ الأعظَمَ، وهامانُ الذي فتَحَ له بابَ المَعصيةِ) [3368] ((رسالة الغاية والنصيحة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/93). .
وقال أيضًا: (وما مِنكم أحَدٌ إلَّا وقد نَصَحتُه بحَسبِ الهدايةِ إلى دَعوتِه؛ فمِنكم مَنِ استَجابَ، ونَكثَ مِثلَ عَليِّ بنِ أحمَدَ الحبالِ الذي كان مَأذونًا لي، وعلى يدِه استَجابَ نشتكين الدَّرْزيُّ) [3369] ((رسالة الصبحة الكائنة)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/203). .
وقال أيضًا: (وأَمَّا البرذعيُّ فأنا أرسَلتُ إليه ودَعَوتُه إلى تَوحيدِ مَولانا جلَّ ذِكرُه، فلَمَّا أرسَلَ إليه الدَّرْزيُّ رَسولَه ومَعَه ثَلاثةُ دَنانيرَ وأوعَدَه بالمَركوبِ والخِلَعِ، فمَضى إلى عِندِه وفتَحَ له أبوابَ البَلايا والكُفرِ، أمَّا أصحابُه كُلُّهم فمَكتوبةٌ عِندي عليهم وثائِقُ بالشُّهودِ العادِلةِ؛ لئلَّا يُراجِعوا عَمَّا سَمِعوه مِنِّي أبَدًا) [3370] ((رسالة الرضا والتسليم)) ضمن ((رسائل الحكمة)) (1/181). .
ومِن خِلالِ هذه الرِّسالةِ يتَبَيَّنُ أنَّ حَمزةَ عِندَما عَرَضَ على البرذعيِّ أمرَ الاستِجابةِ إلى دَعوتِه شَرطَ عليه أن يأتيَه بتَوقيعِ الحاكِمِ، وهذا يعني أنَّ الحاكِمَ كان يعلَمُ بدَعوةِ حَمزةَ، وكان على اتِّصالٍ وثيقٍ به [3371] يُنظر: ((الحركات الباطنية في الإسلام)) لغالب (ص: 243). .
وفي خِتامِ الحَديثِ عن دُعاةِ الدُّروزِ لا بُدَّ مِنَ التَّعَرُّضِ قليلًا لاثنَينِ مِن حُدودِهمُ الخَمسةِ وأكابرِ دُعاتِهم، وهما:
إسماعيلُ بنُ حامِدٍ التَّميميُّ، صِهرُ حَمزةَ، والذي يليه في مَرتَبةِ الحُدودِ، ويُلَقَّبُ بالنَّفسِ، وذي مِصةٍ، والمَشيئةِ، وإدريسِ زَمانِه، وأخنوخِ أوانِه.
والدَّاعيةُ الثَّاني هو: بَهاءُ الدِّينِ عَليِّ بنِ أحمَدَ السَّموقيُّ، المَعروفُ بالضَّيفِ، وهو الحَدُّ الخامِسُ مِنَ الحُدودِ، ومَرتَبَتُه الجَناحُ الأيسَرُ، أوِ التَّالي.
أمَّا التَّميميُّ فلا شَكَّ أنَّه مِنَ الحُدودِ الكِبارِ -عِندَ الدُّروزِ- الذين قامَ المَذهَبُ على أكتافِهم، وتُؤَكِّدُ النُّصوصُ التَّاريخيَّةُ أنَّ حَمزةَ كان يعتَمِدُ على صِهرِه وساعِدِه الأيمَنِ الذي يُنَفِّذُ بدِقَّةٍ ونَشاطٍ أصعَبَ المُهمَّاتِ وأشَدَّها خَطَرًا [3372] يُنظر: ((الحركات الباطنية في الإسلام)) لغالب (ص: 251). .
وقد كتَبَ التَّميميُّ عِدَّةَ رَسائِلَ مِن مَجموعِ رَسائِلِ الدُّروزِ؛ منها: رِسالةٌ في تَقسيمِ العُلومِ، والزِّنادُ، والشَّمعةُ، والرُّشدُ والهدايةُ، وله أيضًا شِعرٌ يُمَجِّدُ فيه الحاكِمَ اسمُه (شِعرُ النَّفسِ). ومَعَ ذلك لا يوجَدُ في كُتُبِ التَّاريخِ ورَسائِلِ الدُّروزِ لهذا الدَّاعيةِ ذِكرٌ بَعدَ غيابِ حَمزةَ سَنةَ 411هـ.
وأمَّا الدَّاعيةُ الآخَرُ بَهاءُ الدِّينِ فقد كان له أكبَرُ الأثَرِ في انتِشارِ مَذهَبِ الدُّروزِ وقيامِه بَعدَ غيابِ حَمزةَ سَنةَ 411هـ؛ وذلك لأنَّ مَرتَبَتَه في الدَّعوةِ هي مَرتَبةُ الجَناحِ الأيسَرِ أوِ التَّالي، ومَن يشغَلُ هذه المَرتَبةَ يكونُ لسانَ الدَّعوةِ، وله مِنَ الحُدودِ: الجِدُّ، والفتحُ، والخَيالُ.
وقدِ استَمَرَّ بَهاءُ الدِّينِ يحمِلُ أعباءَ الدَّعوةِ إلى مَذهَبِه، فكتَبَ الرَّسائِلَ إلى المُلوكِ والأُمَراءِ يدعوهم إلى الدُّخولِ في مَذهَبِه، كما كتَبَ إلى الذين خَرَجوا عنِ المَذهَبِ بَعدَ أن كانوا مِن دُعاتِه، أمثالِ الدَّاعي (سِكين) الذي ادَّعى أنَّه الإلهُ المَعبودُ، وأنَّه الحاكِمُ بأمرِ اللَّهِ.
ومِمَّا يُذكَرُ أنَّ الكثيرَ مِن رَسائِل الدُّروزِ قد كتَبَها بَهاءُ الدِّينِ، ومِن هذه الرَّسائِل: (رسالةُ التَّنبيهِ والتَّأنيبِ والتَّوبيخِ)، و(رِسالةُ التَّعنيفِ والتَّهجينِ)، و(رِسالةُ القُسطَنطينيَّةِ)، وغَيرُ ذلك مِن رَسائِلَ كثيرةٍ كتَبَها، وأغلَبُها في الرَّدِّ على الآراءِ الجَديدةِ التي حاولَ الخارِجونَ عليه أن يبُثُّوها؛ لذلك تَحمِلُ أكثَرُ العناوينِ مِن رَسائِلِه التَّأنيبَ والتَّوبيخَ والتَّعنيفَ.
ولمَّا شَعَرَ بَهاءُ الدِّينِ باضطِرابِ الأحوالِ بَعدَ أن كثُرَتِ الآراءُ الدَّخيلةُ في المَذهَبِ أخَذَ يُهَدِّدُ أتباعَه باعتِزالِ الدَّعوةِ، وبالفِعلِ اعتَزَلها سَنةَ 434هـ، بَعدَ أن أقفَلَ بابَ الاجتِهادِ حِرصًا على الأُصولِ والأحكامِ التي وضَعَها حَمزةُ، والتَّميميُّ، وما وضَعَه هو نَفسُه [3373] ((الحركات الباطنية في الإسلام)) لمصطفى غالب (ص: 252). .
أولئك هم دُعاةُ الدُّروزِ، وعلى أيديهم قامَ المَذهَبُ. ولا شَكَّ أنَّ حَمزةَ كان إمامَهم وداعيتَهمُ الأكبَرَ، وكان طُموحُه كبيرًا، وكان بَهاءُ الدِّينِ بالفِعلِ مُتَمِّمًا حَقيقيًّا لما بَدَأه حَمزةُ، ولَولا بَهاءٌ هذا لانقَرَضَ المَذهَبُ بَعدَ غيابِ حَمزةَ.

انظر أيضا: