الموسوعة الفقهية

المطلب الأوَّلُ: كيفيَّةُ النُّزولِ على الأرضِ


اختلَفَ العلماءُ في تقديمِ اليدينِ أو الرُّكبتينِ عند الهُوِيِّ إلى السُّجودِ، على قولينِ:
القولُ الأوَّلُ: يُسَنُّ وضعُ الرُّكبتينِ قبْلَ اليدينِ عند الهُوِيِّ إلى السُّجودِ، وهو مذهبُ الجمهور: الحنفيَّةِ ((تبيين الحقائق للزيلعي مع حاشية الشلبي)) (1/116)، ((شرح معاني الآثار)) للطحاوي (1/256). ، والشافعيَّةِ ((المجموع)) للنووي (3/421)، وينظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/125). ، والحنابلةِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/350)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/370). ، والعملُ عليه عند أكثرِ أهلِ العلمِ [2256] قال الترمذيُّ: (والعمل عليه عند أكثر أهل العلم: يرَوْن أن يضعَ الرجل ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه) ((سنن الترمذي)) (2/56). ، واختارَه ابنُ المُنذِرِ قال ابنُ المنذِر: (كان عمرُ بن الخطاب يضع ركبتيه قبل يديه، وبه قال النَّخَعي، ومسلم بن يَسار، وسفيان الثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وقالت طائفةٌ: يضَعُ يديه على الأرض إذا سجَد قبل ركبتيه، كذلك قال مالك، والأوزاعيُّ: أدركتُ الناس يضعون أيديَهم قبل رُكبهم، قال أبو بكر: وبالقول الأول أقولُ) ((الإشراف)) (2/30). وينظر: ((المجموع)) للنووي (3/421). ، وابنُ القيِّمِ قال ابنُ القيِّم: (كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يضَع ركبتيه قبل يديه، ثم يديه بعدهما، ثم جبهته وأنفه، هذا هو الصحيح الذي رواه شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حُجْرٍ: رأيت رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه، ولم يروَ في فعله ما يخالف ذلك، وأما حديث أبي هريرة يرفعه: "إذا سجد أحدكم، فلا يبرُكْ كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه"، فالحديث - والله أعلم - قد وقع فيه وهم من بعض الرواة؛ فإن أوله يخالف آخره؛ فإنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه، فقد برك كما يبرك البعير؛ فإن البعير إنما يضع يديه أولًا... وهذا هو الذي نهى عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفعَل خلافه، وكان أول ما يقع منه على الأرض الأقرب منها فالأقرب، وأول ما يرتفع عن الأرض منها الأعلى فالأعلى، وكان يضع ركبتيه أولًا، ثم يديه، ثم جبهته، وإذا رفَع، رفع رأسه أولًا، ثم يديه، ثم ركبتيه، وهذا عكس فعل البعير، وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى في الصلاة عن التشبُّه بالحيوانات؛ فنهى عن بُروكٍ كبروك البعير، والتفاتٍ كالتفات الثعلب، وافتراش كافتراش السبع، وإقعاء كإقعاء الكلب). ((زاد المعاد)) (1/224). ، وابنُ بازٍ قال ابن باز: (الأفضل: هو أن يقدم ركبتيه قبل يديه عند انحطاطه للسجود، وهذا هو الأفضل، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يقدم يديه، ولكن الأرجح أنه يقدم ركبتيه قبل يديه؛ لأنه ثبت من حديث وائل بن حُجْر عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أنه كان إذا سجد وضَع ركبتيه قبل يديه»، وجاء في حديث آخرَ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه قال: «لا يبرُكْ أحدُكم كما يبرك البعير، ولْيضَعْ يديه قبل ركبتيه»، فاحتجَّ به بعض أهل العلم وقال: يضع يديه قبل ركبتيه، وقال آخرون: بل يضَعُ ركبتيه قبل يديه، وهذا هو الذي يخالف به بروك البعير؛ لأن بروكَ البعير يبدأ باليدين، فإذا برك المؤمن على ركبتيه خالف البعير، وهذا هو الموافق لحديث وائل، وهذا هو الصواب: أن يسجد على ركبتيه أولًا، ثم يضع يديه على الأرض، ثم يضع جبهته وأنفه على الأرض، هذا هو المشروع، فإذا رفع رفع جبهته أولًا، ثم يديه، ثم ركبتيه، هذا هو المشروع الذي جاءت به السنَّة عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو الجامع بين الحديثين، وأما قوله في حديث أبي هريرة: «وليضع يديه قبل ركبتيه»، فالظاهر - والله أعلم - أنه وهمٌ من بعض الرواة، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله، وإنما الصواب: وليضع ركبتيه قبل يديه حتى يوافق آخرُ الحديث أولَه، وحتى يتفق مع حديث وائل بن حُجْرٍ وما جاء في معناه). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (11/61، 62). ، وابنُ عُثَيمين قال ابن عُثَيمين: (يكون السجودُ على الرُّكَبِ أولًا، ثم على الكفَّيْنِ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى أن يسجد على كَفَّيه، حيث قال: "إذا سجد أحدُكم فلا يبرُكْ كما يبرك البعير، وليضَعْ يديه قبل ركبتيه"، هذا لفظ الحديث، لكن سنتكلم عليه، فالجملةُ الأولى: "فلا يبرك كما يبرك البعيرُ" والنهي عن صفة السجودِ؛ لأنه أتى بالكاف الدالة على التشبيه، وليس نهيًا عن العضو الذي يسجُدُ عليه، فلو كان النهي هنا عن العضوِ الذي يسجد عليه لقال: (فلا يبرُك على ما يبرك عليه البعير)، وحينئذ نقول: لا تبرُكْ على الركبتين؛ لأن البعيرَ يبرك على ركبتيه، لكنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يقل: "لا يبرك على ما يبرك عليه"، لكن قال: "لا يبرك كما يبرك"؛ فالنهي عن الكيفيةِ والصفة، لا عن العضو الذي يسجد عليه؛ ولهذا جزَم ابن القيم رحمه الله في ((زاد المعاد)) بأن آخر الحديث منقلبٌ على الراوي، وآخر الحديث: (وليضع يديه قبل ركبتيه)، وقال: إن الصواب: "وليضَعْ ركبتيه قبل يديه"؛ لأنه لو وضع يديه قبل ركبتيه لبرَك كما يبرك البعير؛ فإن البعيرَ إذا برك يقدِّم يديه، ومن شهِد البعير عند البروك تبيَّن له هذا، فحينئذ يكون الصواب - إذا أردنا أن يتطابق آخر الحديث وأوله -: "وليضَعْ ركبتيه قبل يديه"؛ لأنه لو وضع اليدين قبل الركبتين - كما قلت - لبرَك كما يبرُك البعير، وحينئذ يكون أول الحديث وآخره متناقضين. وقد ألَّف بعض الإخوة رسالة سماها: (فتح المعبود في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود)، وأجاد فيه وأفاد، وعلى هذا، فإن السنَّة التي أمر بها الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في السجود أن يضع الإنسان ركبتيه قبل يديه). ((مجموع فتاوى ورسائل العُثَيمين)) (13/173، 174).
الدَّليل مِن الآثار:
عن إبراهيمَ، عن أصحابِ عبدِ اللهِ علقمةَ والأسودِ قالا: (حفِظْنا عن عمرَ في صلاتِه أنَّه خرَّ بعد ركوعِه على رُكبتَيْهِ كما يخِرُّ البعيرُ، ووضَع رُكبتَيْهِ قبْلَ يديه) رواه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1/256) (1419). صحح إسناده الألباني في ((أصل صفة الصلاة)) (2/717).
القول الثاني: السنَّةُ وضعُ اليدينِ قبْلَ الرُّكبتينِ عند الهُويِّ إلى السُّجودِ، وهو مذهبُ المالكيَّةِ ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/ 268)، وينظر: ((الذخيرة)) للقرافي (2/195)، ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 46). ، وروايةٌ عن أحمدَ ((الإنصاف)) للمرداوي (2/48)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (1/554). ، وقولُ الأوزاعيِّ ((فتح الباري)) لابن حجر (2/291). ، وأصحابِ الحديثِ قال الشَّوكانيُّ: (وروى الحازمي عن الأوزاعي أنه قال: أدركتُ الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم، قال ابن أبي داود: وهو قول أصحاب الحديث) ((نيل الأوطار)) (2/293)، وينظر: ((سبل السلام)) للصنعاني (1/187). ، والألبانيِّ قال الألبانيُّ: (وقد اختلَف أهل العلم في هذا الباب؛ فذهب بعضهم إلى أن وضع اليدين قبل الركبتين أولى، وبه قال مالك والأوزاعي، وقال: أدركتُ الناس يضعون أيديهم قبل رُكَبهم، وخالفهم في ذلك آخرون، ورأوا وضع الركبتين قبل اليدين أولى، ومنهم: عمر بن الخطاب، وبه قال سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة وأصحابه). قلت: وحجةُ هؤلاء ما سلف من الأحاديث، ولو صحت، لقلنا بجواز الأمرين؛ كما هو رواية عن مالك وأحمد - كما في "الفتح" -. وإذ لم تصحَّ، فالعمدةُ على ما ذهب إليه الأولون، وهو قول أصحاب الحديث - كما قال ابن أبي داود، ونقله في "الزاد") ((صفة صلاة النبي)) (2/719). وذهب ابن حزم إلى الوجوب فقال: (وفرضٌ على كل مصلٍّ أن يضعَ - إذا سجد - يديه على الأرض قبل ركبتيه ولا بد) ((المحلى)) (3/44).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الآثار
قال نافعٌ: كان ابنُ عُمَرَ يضَعُ يدَيْهِ قبْلَ رُكبتَيْهِ أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم قبل حديث (803)، وأخرجه موصولًا ابن خزيمة (627)، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1513)، والحاكم (821). صححه الألباني على شرط مسلم في ((إرواء الغليل)) (2/77).
ثانيًا: لأنَّ هذه الصِّفةَ أحسَنُ في الخشوعِ ((فتح الباري)) لابن حجر (2/291).
ثالثًا: لأنَّه بتقديمِهما يتجنَّبُ إيلامَ رُكبتَيْه إذا جثَا عليهما ((فتح الباري)) لابن حجر (2/291).

انظر أيضا: