الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الثَّاني: الشُّفْعةُ للجارِ إذا كانَ بَيْنَهما حَقٌّ مُشْتَركٌ


يَثبُتُ حَقُّ الشُّفْعةِ للجارِ إذا كانَ بَيْنَهما حَقٌّ مُشْتَركٌ مِن حُقوقِ المِلْكِ [35] تَثبُتُ الشُّفْعةُ للجارِ على جارِه إذا كانَ بَيْنَهما حَقٌّ مُشْتَركٌ؛ كأنْ تكونَ طَريقُهم واحِدةً، أو الماءُ الَّذي يُسْقى به الزَّرْعُ واحِدًا، أو أيُّ شيءٍ اشْتَركا فيه مِن حَقِّ المِلْكِ. وأمَّا إذا لم يكنْ بَيْنَهما حَقٌّ مُشْتَركٌ فلا تَثبُتُ الشُّفْعةُ. ، ولا يَثبُتُ إذا لم يكُنْ بَيْنَهما حَقٌّ مُشْتَركٌ [36] أجازَ الحَنَفِيَّةُ حَقَّ الشُّفْعةِ للجارِ المُلاصِقِ، وتَثبُتُ عنْدَهم على التَّرْتيبِ؛ فيُقدَّمُ الشَّريكُ في نَفْسِ المَبيعِ، ثُمَّ الشَّريكُ في المَرافِقِ، ثُمَّ الجارُ المُلاصِقُ. ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/143). ، وهي رِوايةٌ عن أحْمَدَ [37] ((الفروع)) لمحمد بن مفلح (7/270)، ((المبدع)) لبرهان الدِّين ابن مفلح (5/136، 137). ، وهو قَوْلُ ابنِ حَزْمٍ [38] قالَ ابنُ حَزْمٍ: (الشُّفْعةُ واجِبةٌ وإن كانَتِ الأجْزاءُ مَقْسومةً، إذا كانَ الطَّريقُ إليها واحِدًا مُتَمَلَّكًا نافِذًا أو غَيْرَ نافِذٍ لهم، فإن قُسِمَ الطَّريقُ أو كانَ نافِذًا غَيْرَ مُتَمَلَّكٍ لهم، فلا شُفْعةَ حينَئذٍ كانَ مُلاصِقًا أو لم يكُنْ). ((المحلى)) (8/28). ، واخْتِيارُ ابنِ تَيْمِيَّةَ [39] قالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (وقد تَنازَعَ النَّاسُ في شُفْعةِ الجارِ على ثَلاثةِ أقْوالٍ، أَعدَلُها هذا القَوْلُ: أنَّه إن كانَ شَريكًا في حُقوقِ المِلْكِ ثَبتَتْ له الشُّفْعةُ وإلَّا فلا). ((مجموع الفتاوى)) (30/383)، وقالَ بُرْهانُ الدِّينِ ابنُ مُفْلِحٍ: (وعنه أنَّها تَثبُتُ للجارِ، حكاه القاضي يَعْقوبُ في التَّبْصِرةِ، وصَحَّحَها ابنُ الصَّيْرفيِّ، والحارِثيُّ، وكَذا اخْتارَه الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ معَ الشَّرِكةِ في الطَّريقِ). ((المبدع)) (5/136، 137). ، وابنِ القَيِّمِ [40] قالَ ابنُ القَيِّمِ: (الصَّوابُ القَوْلُ الوَسَطُ الجامِعُ بَيْنَ الأَدِلَّةِ الَّذي لا يُحتَمَلُ سِواه، وهو قَوْلُ البَصْريِّينَ وغَيْرِهم مِن فُقَهاءِ الحَديثِ: أنَّه إن كانَ بَيْنَ الجارَينِ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ مِن حُقوقِ الأمْلاكِ مِن طَريقٍ أو ماءٍ أو نَحْوِ ذلك، ثَبَتَتِ الشُّفْعةُ، وإن لم يكنْ بَيْنَهما حَقٌّ مُشْتَرَكٌ البَتَّةَ، بلْ كانَ كلُّ واحِدٍ مِنهما مُتَميِّزًا مِلْكُه وحُقوقُ مِلْكِه، فلا شُفْعةَ، وهذا الَّذي نَصَّ عليه أحْمَدُ في رِوايةِ أبي طالِبٍ؛ فإنَّه سألَه عن الشُّفْعةِ لمَن هي؟ فقالَ: إذا كانَ طَريقُهما واحِدًا، فإذا صُرِّفَتِ الطُّرُقُ وعُرِفَتِ الحُدودُ فلا شُفْعةَ، وهو قَوْلُ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزيزِ، وقَوْلُ القاضِيَينِ: سِوارِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ، وعُبَيْدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ العَنْبَريِّ). ((إعلام الموقعين)) (2/167). وقالَ: (والقِياسُ الصَّحيحُ يَقْتَضي هذا القَوْلَ؛ فإنَّ الاشْتِراكَ في حُقوقِ المِلْكِ شَقيقُ الاشْتِراكِ في المِلْكِ، والضَّرَرُ الحاصِلُ بالشَّرِكةِ فيها كالضَّرَرِ الحاصِلِ بالشَّرِكةِ في المِلْكِ أو أَقرَبُ إليه، ورَفْعُه مَصْلحةٌ للشَّريكِ مِن غَيْرِ مَضرَّةٍ على البائِعِ ولا على المُشْتَري؛ فالمَعْنى الَّذي وَجَبَتْ لأجْلِه شُفْعةُ الخُلْطةِ في المِلْكِ مَوْجودٌ في الخُلْطةِ في حُقوقِه؛ فهذا المَذهَبُ أَوسَطُ المَذاهِبِ، وأَجمَعُها للأدِلَّةِ، وأَقرَبُها إلى العَدْلِ). ((إعلام الموقعين)) (2/168). ، وابنِ بازٍ [41] قالَ ابنُ بازٍ: (وهكذا الجارُ له شُفْعةٌ إذا كانَتْ له شَرِكةٌ: «الجارُ أَحَقُّ بسَقَبِه» يَعْني: بقُرْبِه، إذا كانَتْ له شَرِكةٌ، يَعْني: طَريقُهما واحِدٌ، ومَصيرُهما واحِدٌ، أو الأرْضُ مُشْترَكةٌ؛ فله الشُّفْعةُ ... فإذا كانَ بَيْنَهما شيءٌ مُشْترَكٌ: طَريقٌ، أو مَسِيرٌ، فهو أَحَقُّ، أمَّا إذا كانَ لا، ما بَيْنَهما شيءٌ، فليس له الشُّفْعةُ). ((الموقع الرسمي للشيخ ابن باز)). ، وابنِ عُثَيْمينَ [42] قالَ ابنُ عُثَيْمينَ: (وهذا هو القَوْلُ الرَّاجِحُ؛ أنَّ الجارَ له الشُّفْعةُ في حالٍ، وليس له الشُّفْعةُ في حالٍ، فإذا كانَتِ الطَّريقُ واحِدةً، أو الماءُ الَّذي يُسْقى به الزَّرْعُ واحِدًا، أو أيُّ شيءٍ اشْتَرَكا فيه مِن حَقِّ المِلْكِ؛ فإنَّ الشُّفْعةَ ثابِتةٌ، وإذا لم يكنْ بَيْنَهما حَقٌّ مُشْتَرَكٌ فلا شُفْعةَ، هذا هو القَوْلُ الرَّاجِحُ في ثُبوتِ الشُّفْعةِ للجارِ، وعليه يُحمَلُ حَديثُ: «الجارُ أَحَقُّ بسَقَبِه») ((الشرح الممتع)) (10/245). .
الأَدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِن السُّنَّةِ
1- عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قالَ: ((قَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالشُّفْعةِ في كلِّ ما لم يُقسَمْ، فإذا وَقَعَتِ الحُدودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فلا شُفْعةَ)) [43] أخرجه البخاريُّ (2257) واللَّفْظ له، ومُسلِمٌ (1608) مُطَوَّلًا. .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
يُفهَمُ مِن قَوْلِه: ((فإذا وَقَعَتِ الحُدودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فلا شُفْعةَ)) أنَّهما لو اقْتَسَما وبَقِيَ الطَّريقُ واحِدًا لم يُصَرَّفْ، فالشُّفْعةُ باقِيةٌ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ الجارَ له حَقُّ الشُّفْعةِ إذا كانَ بَيْنَهما حَقٌّ مُشْتَركٌ [44] يُنظَرُ: ((الشرح الممتع)) لابن عُثَيْمينَ (10/245). .
2- عن عَمْرِو بنِ الشَّريدِ قالَ: ((وَقَفْتُ على سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ، فجاءَ المِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمةَ، فوَضَعَ يَدَه على إحْدى مَنكِبَيَّ، إذ جاءَ أبو رافِعٍ مَوْلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: يا سَعْدُ، ابْتَعْ مِنِّي بَيْتَيَّ في دارِك، فقالَ سَعْدٌ: واللهِ ما أبْتاعُهما. فقالَ المِسْوَرُ: واللهِ لتَبْتاعَنَّهما. فقالَ سَعْدٌ: واللهِ لا أَزيدُك على أرْبَعةِ آلافٍ مُنَجَّمةً أو مُقَطَّعةً. قالَ أبو رافِعٍ: لقد أُعْطيْتُ بها خَمْسَمِئةِ دينارٍ، ولولا أنِّي سَمِعْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقَوْلُ: الجارُ أَحَقُّ بسَقَبِه [45] السَّقَبُ: القُرْبُ والمُلاصَقةُ. يُنظَرُ: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/438)، ((نخب الأفكار)) للعيني (15/203). ، ما أَعْطَيْتُكها بأرْبَعةِ آلافٍ، وأنا أُعْطى بها خَمْسَمِئةِ دينارٍ، فأَعْطاها إيَّاه)) [46] أخرجه البخاريُّ (2258). .
وَجْهُ الدَّلالةِ:
الحَديثُ فيه دَلالةٌ على حَقِّ الشُّفْعةِ للجارِ في حالةِ الشَّرِكةِ في الطَّريقِ؛ فإنَّ البَيْتَينِ كانا في نَفْسِ دارِ سَعْدٍ، والطَّريقُ واحِدٌ [47] ((إعلام الموقعين)) لابن القَيِّمِ (2/168). .
ثانِيًا: لأنَّه اتِّصالُ مِلْكٍ يَدومُ ويَتَأبَّدُ، فتَثبُتُ فيه كالشَّرِكةِ [48] ((المبدع)) لبرهان الدِّين ابن مفلح (5/137). .
ثالِثًا: لأنَّ الاشْتِراكَ في حُقوقِ المِلْكِ شَقيقُ الاشْتِراكِ في المِلْكِ، والضَّرَرُ الحاصِلُ بالشَّرِكةِ فيها كالضَّرَرِ الحاصِلِ بالشَّرِكةِ في المِلْكِ أو أَقرَبُ إليه، ورَفْعُه مَصْلحةٌ للشَّريكِ مِن غَيْرِ مَضرَّةٍ على البائِعِ ولا على المُشْتَري؛ فالمَعْنى الَّذي وَجَبَتْ لأجْلِه شُفْعةُ الخُلْطةِ في المِلْكِ مَوْجودٌ في الخُلْطةِ في حُقوقِه [49] ((إعلام الموقعين)) لابن القَيِّمِ (4/101). .

انظر أيضا: