الموسوعة الفقهية

المطلب السابع: حُكمُ الصَّلاةِ في جوفِ الكعبةِ أو فَوقَها


الفَرْعُ الأول: الصَّلاةُ في جوفِ الكعبةِ
تجوزُ الصَّلاةُ في جوفِ الكعبةِ؛ الفريضةُ والنافلةُ سواءٌ، وهذا مذهبُ الحنفيَّة [1525] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/250)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/121). ، والشافعيَّة [1526]  ((المجموع)) للنووي (3/194)، وينظر: ((الشرح الكبير)) للرافعي (3/220). ، وهو قولٌ للمالكيَّة ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/166). ، وروايةٌ عن الحنابلة [1528] ((الإنصاف)) للمرداوي (1/349). ، واختاره ابنُ حزمٍ قال ابنُ حزمٍ: (مسألة: والصلاة جائزةٌ على ظهر الكعبة، وعلى أبي قُبَيس، وعلى كلِّ سقف بمكَّةَ، وإنْ كان أعلى من الكعبة، وفي جوف الكعبة أينما شئتَ منها، الفريضة والنافلة سواءٌ) ((المحلى)) (2/398). ، وصوَّبه ابنُ عبد البرِّ قال ابنُ عبد البَرِّ: «والصَّواب من القول في هذا الباب عندي قولُ مَن أجاز الصلاة كلَّها في الكعبة إذا استقبل شيئًا منها؛ لأنَّه قد فعَل ما أمر به ولم يأتِ ما نهي عنه؛ لأنَّ استدبارها هاهنا ليس بضدِّ استقبالها؛ لأنَّه ثابتٌ معه في بعضها يثبت مع ضدِّه ومعلوم أنَّ المأمور باستقبال الكعبة لم يُؤمَر باستقبال جميعها، وإنما توجه الخطاب إليه باستقبال بعضها، والمصلِّي في جوفها قد استقبل جهةً منها وقطعةً وناحيةً، فهو مستقبلٌ لها بذلك، وقد ثبت عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه صلَّى فيها ركعتين وهو المبيِّن عن الله مرادَه، وكل موضع يجوزُ فيه صلاةُ النافلة جازتْ فيه صلاةُ الفريضة قياسًا ونظرًا» ((التمهيد)) (15/319 - 320). ، ونُسِب إلى جمهورِ العُلماءِ [1531] قال الكاسانيُّ: (فأمَّا إذا صلَّوا في جوف الكعبة، فالصلاة في جوف الكعبة جائزةٌ عند عامَّة العلماء؛ نافلة كانت أو مكتوبة، وقال مالك: لا يجوز أداءُ المكتوبة في جوف الكعبة) ((بدائع الصنائع)) (1/121). وقال النوويُّ: (يجوزُ عندنا أن يُصلِّي في الكعبة الفرضَ والنفل، وبه قال أبو حنيفة، والثوريُّ، وجمهور العلماء) ((المجموع)) (3/194). ، وهو قولُ ابن باز قال ابن باز: (الصلاة في الكعبة جائزةٌ، بل مشروعة، فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى في الكعبة لَمَّا فتَح مكة، دخَلَها وصلَّى فيها ركعتين، وكبَّر ودعا في نواحيها عليه الصَّلاة والسَّلام، وجعل بينه وبين الجدار القريب منها حين صلَّى ثلاثةَ أذرع عليه الصلاة والسلام، وقال لعائشة في حجَّة الوداع لَمَّا أرادت الصلاة في الكعبة: «صلِّي في الحِجر؛ فإنه من البيت»، لكن ذهب بعضُ أهل العلم إلى أنه لا يُصلي فيها الفريضة، بل تُصلى في خارجها؛ لأنَّها هي القبلة فتُصلي الفريضة في خارجها، وأما النافلة فلا بأس؛ لأنَّ الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى فيها النافلة، ولم يصلِّ فيها الفريضة. والصواب: أنه لو صلَّى فيها الفريضة أجزأه وصحَّت، لكن الأفضل والأَوْلى: أن تكون الفريضة خارجَ الكعبة؛ خروجًا من الخلاف، وتأسيًا بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه صلَّى بالناس الفريضةَ خارج الكعبة، وتكون الكعبة أمامَ المصلِّي في جميع الجهات الأربع في النافلة والفريضة، وعليه أن يُصلي مع الناس الفريضةَ، ولا يُصلِّي وحده) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (10/422). ، وابنِ عُثَيمين [1533] قال ابنُ عُثَيمين: (فالصَّحيح في هذه المسألة: أنَّ الصلاة في الكعبة صحيحةٌ فرضًا ونَفْلًا) ((الشرح الممتع)) (2/258).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكِتاب
قال الله تعالى: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
في قوله: طَهِّرَا بَيْتِيَ دليلٌ على جوازِ الصَّلاة فيه؛ إذ لا معنى لتطهيرِ المكانِ لأجْلِ الصَّلاة، وهي لا تجوزُ في ذلِك المكانِ [1534] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/250).
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخَل الكعبةَ وأسامةُ بنُ زيد، وبلالٌ، وعثمانُ بنُ طَلحةَ الحَجَبيُّ فأَغْلقَها عليه، ومكَث فيها، فسألتُ بلالًا حين خرَج: ما صنَعَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: جعَل عمودًا عن يسارِه، وعمودًا عن يمينِه، وثلاثةَ أعمدةٍ وراءَه، وكان البيتُ يومئذٍ على سِتَّة أعمدة، ثم صلَّى )) رواه البخاري (505)، ومسلم (1329).
2- عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُعطيتُ خمسًا لم يُعطهنَّ أحدٌ قبلي: نُصرتُ بالرعبِ مسيرةَ شَهر، وجُعِلتْ لي الأرضُ مسجدًا وطَهورًا؛ فأيُّما رجلٍ مِن أمَّتي أدركَتْه الصَّلاةُ فليصلِّ... )) [1536] رواه البخاري (335)، ومسلم (521).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ باطنَ الكعبةِ أطيبُ الأرضِ وأفضلُها؛ فهي أفضلُ المساجدِ وأَوْلاها بصلاةِ الفرضِ والنافلةِ [1537] ((المحلى)) لابن حزم (2/400).
3- عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: ((قلتُ: يا رسولَ الله، أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرض أوَّلُ؟ قال: المسجدُ الحرامُ، قال: قلتُ: ثم أيُّ؟ قال: المسجدُ الأقصى، قلتُ: كم كان بينهما؟ قال: أَرْبَعُونَ سَنةً، ثم أينما أدركتْك الصَّلاةُ بعدُ فَصلِّهْ؛ فإنَّ الفضلَ فيه )) رواه البخاري (3366)، ومسلم (520).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ هذا نصٌّ جليٌّ في أنَّ الكعبةَ مسجدٌ، وما عَلِم أحدٌ مسجدًا تحرُم فيه صلاةُ الفرضِ [1539] ((المحلى)) لابن حزم (2/401).
4- عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عَنْه: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((صلاةٌ في مَسجِدي هذا خيرٌ من ألْفِ صلاةٍ فيما سواه، إلَّا المسجدَ الحرامَ )) [1540] رواه البخاري (1190)، ومسلم (1394).
ثالثًا: أنَّ الواجب استقبالُ شطرِه لا استيعابُه، وقد وُجِد ذلك فيمَن صلَّى فيها [1541] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/250).
رابعًا: أنَّه صلَّى متوجهًا إلى بعضِ أجزاء الكعبة، فتصحُّ صلاتُه، كالنافلةِ، وكما لو توجَّه إليها من خارجٍ ((الشرح الكبير)) للرافعي (3/220).
الفَرْعُ الثاني: الصَّلاةُ على ظَهرِ الكعبةِ
الصَّلاةُ على ظهرِ الكعبةِ صحيحةٌ، وهو مذهبُ الحنفيَّة [1543] )، إلَّا أنَّهم قالوا: تكره؛ لِمَا فيه من ترك التعظيم. ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/250)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/121). ، والشافعيَّة [1544] إلَّا أنَّهم اشترطوا أن تكون بين يديه سترةٌ متَّصلة بها. ((المجموع)) للنووي (3/197)، وينظر: ((البيان)) للعمراني (2/137). ، وروايةٌ عند الحنابلة [1545] ((الإنصاف)) للمرداوي (1/349). ، وهو قولُ محمَّد بن عبد الحَكمِ من المالكيَّة [1546] ((شرح التلقين)) للمازري (1/485). ومذهبُ الظاهريَّة [1547] نسَبه النوويُّ إلى داود الظاهري، يُنظر: ((المجموع)) للنووي (3/199). وقال ابنُ حزمٍ: (مسألة: والصلاة جائزةٌ على ظهر الكَعبة، وعلى أبي قُبَيس، وعلى كلِّ سقف بمكَّةَ، وإنْ كان أعلى من الكعبة، وفي جوفِ الكعبة أينما شئتَ منها، الفريضةُ والنافلة سواءٌ) ((المحلى)) (2/398). ، واختيارُ ابنِ باز قال ابن باز: (أمَّا سطحُها فلا بأس أن يُصلِّيَها فيه، لكن ينبغي ألَّا يفعلَ ذلك؛ لأنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما فعَل ذلك ولا أصحابُه، ولأنَّ في الصعود على ظهرها خَطرًا؛ ربما سقط، وربما جرَى عليه شيءٌ يسوءُه، فينبغي له ألَّا يصعد إلى سطحها، ولا يُصلي في سطحها، لكن لو صلَّى نافلةً صحَّت إلى أيِّ جهة؛ لأنَّ الاعتمادَ على الهواء لا على الجُدران، فالقبلة هي هواءُ الكعبة، لا محل الكعبة، فلو أنَّه لو قدَّر اللهُ هُدِّمت صحَّتْ صلاةُ النَّاسِ إلى جِهة هوائِها إلى محلِّها، فلو صلَّى فوق السطح صحَّت صلاتُه، ولكنْ لا ينبغي له أن يفعل ذلك؛ لعدم فِعل النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والأخيارِ ذلك) ((الموقع الرسمي لابن باز)). ، وابنِ عُثَيمين [1549]- يُنظر: ((الشرح الممتع)) (2/258).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ القبلةَ هي البُقعة، والهواء إلى عَنانِ السماءِ دون البِناءِ؛ فالبناءُ لا حُرمةَ له لنفْسِه، بدليل أنَّه لو نُقِل إلى عرصةٍ أُخرى وصُلِّي إليه لا يجوز، بل كانتْ حُرمتُه لاتِّصالِه بالعَرْصَةِ المحترمةِ ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/121)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي، مع ((حاشية الشلبي)) (1/250).
ثانيًا: أنَّه مَن صلَّى على جبلِ أبي قُبَيسٍ جازتْ صلاتُه بالإجماعِ ولا بناءَ بين يديه مِن الكَعبةِ [1551] ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/121).

انظر أيضا: