الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الثَّاني: حُكْمُ تَصرُّفاتِ العامِلِ بَعْدَ عَزْلِه وقَبْلَ عِلْمِه بالعَزْلِ 


اخْتَلَفَ العُلَماءُ في حُكْمِ بُطْلانِ تَصرُّفاتِ العامِلِ بَعْدَ عَزْلِه وقَبْلَ عِلْمِه بالعَزْلِ، على قَوْلَينِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: تَبطُلُ تَصرُّفاتُ العامِلِ المُضارِبِ إذا عَزَلَه صاحِبُ المالِ، ولو لم يَعلَمْ بعَزْلِه، وهو مَذهَبُ الشَّافِعِيَّةِ [524] ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 137)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (5/338). ، والحَنابِلةِ [525] ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/518)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (3/532). ، وقَوْلٌ للمالِكيَّةِ اخْتارَه ابنُ عَبْدِ البَرِّ [526] ((الكافي)) لابن عبد البر (2/788)، ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (6/162)، ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (3/396). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّه رَفْعُ عَقْدٍ لم يَحْتَجْ للرِّضا فلم يَحْتَجْ للعِلمِ، كالطَّلاقِ [527] ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (5/338). .
ثانِيًا: قِياسًا على اتِّفاقِهم أنَّه لو وَكَّلَ وَكيلًا ببَيْعِ شيءٍ ثُمَّ باعَه المُوَكِّلُ؛ أنَّ ذلك خُروجٌ للوَكيلِ عن الوَكالةِ وعَزْلٌ وإن لم يَعلَمْ [528] ((الكافي)) لابن عبد البر (2/788). .
القَوْلُ الثَّاني: لا تَبطُلُ تَصرُّفاتُ العامِلِ المُضارِبِ إذا عَزَلَه صاحِبُ المالِ، ولم يَعلَمْ بعَزْلِه، وهو مَذهَبُ الحَنَفِيَّةِ [529] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/287). ، وقَوْلٌ للمالِكيَّةِ [530] رَجَّحَ هذا القَوْلَ الحَطَّابُ والدَّرْديرُ. ((الكافي)) لابن عبد البر (2/788)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (7/212)، ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (6/162)، ((الشرح الكبير)) للدردير (3/396). ، وقَوْلٌ عنْدَ الشَّافِعِيَّةِ [531] ((نهاية المحتاج)) للرملي (5/53). ، ورِوايةٌ عن أحْمَدَ [532] ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (4/334)، ((الإنصاف)) للمرداوي (5/275). صَوَّبَها المَرْداويُّ [533] قالَ المَرْداويُّ: (قَوْلُه: «وهلْ يَنْعزِلُ الوَكيلُ بالمَوْتِ والعَزْلِ قَبْلَ عِلمِه، على رِوايتَينِ»...، والرِّوايةُ الثَّانِيةُ: لا يَنْعزِلُ، نَصَّ عليها في رِوايةِ ابنِ مَنْصورٍ، وجَعْفَرِ بنِ مُحمَّدٍ، وأبي الحارِثِ. وصَحَّحَه في النَّظْمِ وقَدَّمَه في الرِّعايةِ الصُّغْرى والحاوِيَينِ. قُلْتُ: وهو الصَّوابُ). ((الإنصاف)) (5/275). ، وهو اخْتِيارُ ابنِ حَزْمٍ [534] قالَ ابنُ حَزْمٍ: (كُلُّ ما فَعَلَ ممَّا أمَرَه به المُوَكِّلُ مِن حينِ عَزْلِه إلى حينِ بُلوغِ الخَبَرِ إليه فهو نافِذٌ، طالَتِ المُدَّةُ بَيْنَ ذلك أو قَصُرَتْ، وهكذا القَوْلُ في عَزْلِ الإمامِ للأَميرِ وللوالي وللقاضي، وفي عَزْلِ هؤلاء لمَن جُعِلَ إليهم أن يُوَلُّوه، ولا فَرْقَ؛ لأنَّ عَزْلَه بغَيْرِ أن يُعلِمَه بَعْدَ أن وَلَّاه وأَطلَقَه على البَيْعِ، وعلى الابْتِياعِ، وعلى التَّذْكيةِ والقِصاصِ، والإنْكاحِ لمُسمَّاةٍ ومُسَمًّى: خَديعةٌ وغِشٌّ؛ قالَ اللهُ تَعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [البقرة: 9] . وقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَن غَشَّنا فليس مِنَّا»، فعَزْلُه له باطِلٌ، إلَّا أن يقولَ، أو يَكتُبَ إليه أو يوصيَ إليه: إذا بَلَغَك رَسولي فقدْ عَزَلْتُك، فهذا صَحيحٌ؛ لأنَّ له أن يَتَصرَّفَ في حُقوقِ نفْسِه كما يشاءُ، فإذا بَلَغَه فقدْ صَحَّ عَزْلُه). ((المحلى)) (7/93). ، وابنِ تَيْمَيَّةَ [535] قالَ بُرْهانُ الدِّينِ ابنُ مُفْلِحٍ: (وهلْ يَنْعزِلُ الوَكيلُ بالمَوْتِ والعَزْلِ قَبْلَ عِلمِه؟ على رِوايتَينِ ... والثَّانِيةُ: ونصَّ عليها في رِوايةِ ابنِ مَنْصورٍ وغَيْرِه: أنَّه لا يَنْعزِلُ اعْتِمادًا على أنَّ الحُكْمَ لا يَثبُتُ في حَقِّه قَبْلَ العِلمِ، كالأحْكامِ المُبْتَدَأةِ، ولقَوْلِه تَعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ [البقرة: 275] ، ويَنْبَني عليهما تَضْمينُه، واخْتارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أنَّه لا يَضمَنُ؛ لأنَّه لم يُفرِّطْ). ((المبدع)) (4/334). ، وابنِ عُثَيْمينَ [536] قالَ ابنُ عُثَيْمينَ: (القَوْلُ بعَزْلِ الوَكيلِ، هلْ يَنْعزِلُ قَبْلَ عِلمِه بالعَزْلِ أو لا يَنْعزِلُ إلَّا بَعْدَ عِلمِه؟ الصَّحيحُ: أنَّه لا يَنْعزِلُ إلَّا بَعْدَ عِلمِه؛ لأنَّ تَصرُّفَه مَبْنيٌّ على أصْلٍ، والأصْلُ بَقاءُ ما كانَ على ما كانَ، مِثالُه في الوَكيلِ: وَكَّلْتُك أن تَبيعَ هذا البَيْتَ، وبَقِيَ البَيْتُ معَك على أنَّك ستَبيعُه، ثُمَّ إنِّي عَزَلْتُك، وبَعْدَ أن عَزَلْتُك وأثْبَتُّ ذلك بشُهودٍ بِعْتَه أنت قَبْلَ أن تَعلَمَ بعَزْلي إيَّاك، فهلْ يَصِحُّ البَيْعُ؟ الصَّحيحُ: أنَّه يَصِحُّ البَيْعُ إذا ثَبَتَ أنَّ هذا الوَكيلَ لم يَعلَمْ). ((التعليق على الكافي)) (4/31). .
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ العَزْلَ خِطابٌ مُلزِمٌ مَقْصودٌ، وحُكْمُ الخِطابِ لا يَثبُتُ في حَقِّ المُخاطَبِ ما لم يَبْلُغْه كخِطابِ الشَّرْعِ [537] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/287). .
ثانِيًا: لأنَّ في عَزْلِه إضْرارًا به؛ لأنَّه قد يَتَصرَّفُ بَعْدَ العَزْلِ قَبْلَ أن يَبْلُغَه، فيَلزَمُه الضَّمانُ بذلك، والضَّرَرُ مَدْفوعٌ شَرْعًا [538] ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (4/287) ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامةَ (5/89). .
ثالِثًا: لأنَّ تَصرُّفَه مَبْنيٌّ على أصْلٍ، والأصْلُ بَقاءُ ما كانَ على ما كانَ [539] ((التعليق على الكافي)) لابن عُثَيْمينَ (4/31). .

انظر أيضا: