الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّل: الطَّهَارَةُ مِن الحَدَثِ


الفَرْعُ الأَوَّلُ: الطَّهارَةُ من الحَدَثِ الأَصْغَرِ والأكبر
الطَّهارةُ من الحَدَثِ الأصغرِ والأكبرِ شَرْطٌ في صِحَّةِ الصَّلاةِ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكِتاب
1- قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6]
2- قول الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6]
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تُقبَلُ صلاةُ مَن أَحدَثَ حتَّى يَتوضَّأَ )) رواه مسلم (225).
2- عن عبدِ اللهِ بن عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما، قال: إنِّي سمعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا تُقبَلُ صلاةٌ بغيرِ طُهورٍ، ولا صَدقةٌ من غُلولٍ )) رواه مسلم (224).
ثانيًا: من الإجماع
نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ المنذرِ قال ابنُ المنذر: (أجمَع أهلُ العلمِ على أنَّ الصلاةَ لا تُجزئُ إلَّا بطهارةٍ إذا وجد المرءُ إليها السَّبيلَ). ((الإجماع)) (ص: 33). ، وابنُ حَزمٍ [850] قال ابنُ حزمٍ: (الوضوءُ للصَّلاة فرضٌ، لا تُجزئ الصلاةُ إلَّا به لِمَن وجَد الماءَ؛ هذا إجماعٌ لا خِلافَ فيه من أحد). ((المحلى)) (1/90). وقال أيضًا: (وقدْ أجمع أهلُ الأرض قاطبةً من المسلمين على أنَّ صلاة التطوُّع لا تُجزئ إلَّا بطهارةٍ، من وُضوء، أو تيمُّم، أو غُسل ولا بدَّ). ((المحلى)) (1/92). ، وابنُ بَطَّالٍ [851] قال ابنُ بطَّال: (أجمعتِ الأمَّة على أنَّه لا تُجزئُ صلاةٌ إلَّا بطهارةٍ). ((شرح صحيح البخاري)) (1/218). ، والنوويُّ [852] قال النوويُّ: (وقوله: "هي شرطٌ في صحَّة الصلاة" هذا مُجمَع عليه، ولا تصحُّ صلاةٌ بغير طُهورٍ، إمَّا بالماءِ، وإمَّا بالتيمُّمِ بِشَرْطِه، سواءٌ صلاةُ الفَرْضِ والنفل وصلاةُ الجنازة، وسجودُ التلاوة والشكر، هذا مَذْهَبُنا، وبه قال العلماءُ كافَّة، ونقل أصحابنا عن الشعبيِّ ومحمد بن جرير جوازَ صلاةِ الجنازة للمُحْدِث؛ لأنَّها دعاءٌ، وهذا باطلٌ؛ فقد سمَّاها الله تعالى ورسوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلاة، ولا تُقبل صلاة بغير طهور). ((المجموع)) (3/131). ، والعراقيُّ قال العراقيُّ - في بابِ شُروطِ الصلاة بعد أن ذَكَر حديث ((لا يَقبَلُ اللهُ صلاةَ أحدِكم...)) -: (... فيه فوائد: الأولى: استدلَّ به العلماءُ على اشتراطِ الطَّهارةِ في صحَّة الصلاةِ، وهو مُجمَعٌ عليه؛ حكَى الإجماعَ في ذلك جماعةٌ من الأئمَّة). ((طرح التثريب)) (2/188).
الفَرعُ الثَّاني: صلاةُ المُحدِثِ ناسيًا
 مَن صلَّى بغيرِ طَهارةٍ ناسيًا أو جاهلًا بحدثه، فعَليه الإعادةُ.
الدَّليل من الإجماع:
نقَلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ عبد البَرِّ قال ابنُ عبد البَرِّ: (قد نزَعَ قومٌ في جوازِ بناء المحدِث على ما صلَّى قبل أن يُحدِث إذا توضَّأَ بهذا الحديثِ، ولا وجهَ لِمَا نزَعوا به في ذلك؛ لأنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَبنِ على تكبيره لِمَا بَيَّنَّا قبلُ في هذا الباب، ولو بنَى ما كان فيه حُجَّةٌ أيضًا؛ لإجماعهم على أنَّ ذلك غيرُ جائزٍ اليوم لأحدٍ، وأنه منسوخٌ بأنَّ ما عمِله المرءُ من صلاتِه وهو على غير طهارةٍ لا يُعتدُّ به؛ إذ لا صلاةَ إلَّا بطُهورٍ). ((التمهيد)) (1/188). ، والنوويُّ قال النوويُّ: (وأجمعوا على أنَّها لا تصحُّ منه «أي المحدث»، سواء إنْ كان عالِمًا بحدَثه، أو جاهلًا، أو ناسيًا، لكنَّه إن صلَّى جاهلًا أو ناسيًا، فلا إثمَ عليه). ((المجموع)) (2/67). ، وابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (مَن نسِي طهارةَ الحدَث، وصلَّى ناسيًا، فعليه أن يُعيدَ الصَّلاةَ بطهارة، بلا نِزاع). ((مجموع الفتاوى)) (22/99). ، وابنُ رجب قال ابنُ رجب: (وحكى ابن عبد البر عن قوم أنَّهم جوَّزوا البِناء على ما مضى من صلاته محدِثا ناسيًا، وأشار إلى أنَّه قولٌ مخالف للإجماع؛ فلا يُعتدُّ به، وليس في الحديث أنَّ النبيَّ بنى على ما مضى من تكبيرة الإحرام وهو ناسٍ لجَنابتِه، فإنْ قُدِّر أنَّ ذلك وقع فهو منسوخ؛ لإجماع الأمَّة على خِلافِه). ((فتح الباري)) (3/600). وقال أيضًا: (مَن صلَّى بغير طهارة ناسيًا، فإنَّ عليه الإعادةَ بالإجماع). ((فتح الباري)) (3/600).
الفرعُ الثَّالث: فاقدُ الطَّهورَينِ
مَن لم يَجِدْ ماءً ولا تُرابًا، أو مُنِعَ منهما لسببٍ مُعتَبَرٍ كأنْ يكون محبوسًا، أو مأسورًا على سرير، أو يكون مريضًا لا يستطيع استعمالَ الماء والتراب، وما أشبه ذلك. ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/487). ، صلَّى على حسَبِ حالِه، ولا إعادةَ عليه، وهذا مذهبُ الحنابلةِ ((الإنصاف)) للمرداوي (1/205)، وينظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (1/253). ، وهو قولُ أشهبَ من المالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/529)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/200). ، وقولٌ للشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/279، 280). ومذهبُ الشافعيَّة على الصحيح: أنَّه يصلي على حاله، إلَّا أنَّهم أوجبوا عليه الإعادة، يُنظر: ((المجموع)) للنووي (2/278)، ((الإقناع)) للشربيني (1/88). وهو قولُ أبي يوسف من الحنفيَّة، يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (1/209)، (المحيط البرهاني)) لابن مازة (1/149). ، وهو اختيارُ البخاريِّ في كتاب التيمم، باب إذا لم يجِد ماءً ولا ترابًا. وذكر فيه ما يدلُّ على أنَّ مَن لم يجد ماءً ولا ترابًا أنه يُصلِّي على حسب حاله. وينظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (2/29). ، وابنِ حزمٍ قال ابنُ حزمٍ: (من كان محبوسًا في حضر أو سفر بحيث لا يجد ترابًا ولا ماءً، أو كان مصلوبًا وجاءتِ الصلاةُ، فليصلِّ كما هو، وصلاته تامَّة ولا يُعيدها، سواء وَجَدَ الماءَ في الوقت أو لم يَجِدْه إلا بعدَ الوقت). ((المحلى)) (2/138). ، والنوويِّ قال النوويُّ: (نقَل إمامُ الحرمين والغزالي: أنَّ أبا حنيفةَ رحمه الله قال: كلُّ صلاة تفتقر إلى القضاء لا يجب فِعْلُها في الوقتِ، وأنَّ المُزَنيَّ رحمه الله قال: كلُّ صلاةٍ وجبت في الوقت، وإنْ كانت مع خلل لم يجب قضاؤُها، قالا: وهما قولان منقولانِ عن الشافعيِّ رحمه الله، وهذا الذى قاله المزنيُّ هو المختارُ؛ لأنَّه أدَّى وظيفةَ الوقت، وإنَّما يجب القضاء بأمر جديدٍ، ولم يثبت فيه شيءٌ، بل ثبت خلافُه، والله أعلم). ((المجموع)) (2/337، 338). ، وابنِ تَيميَّة ((مجموع الفتاوى)) (21/ 295)، ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص: 34). ، وابنِ عُثيمين ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/487) ، وبه صَدَرَتْ فتوى اللَّجنةِ الدَّائمة ((فتاوى اللَّجنة الدَّائمة - المجموعة الثانية)) (6/375).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكِتاب
1- قولُ اللهِ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]
2- وقوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286]
وجْه الدَّلالةِ من الآيتَينِ:
أنَّ الشَّارعَ أسقطَ عنَّا ما لا نَستطيعُ ممَّا أَمرَنا به، وأَبقَى علينا ما نستطيعُ ((المحلى)) لابن حزم (1/363).
3- قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام: 119]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ اللهَ تعالى حرَّم علينا ترْكَ الوضوءِ أو التيمُّمِ للصَّلاةِ، إلَّا أن نضطرَّ إليه، والممنوعُ من الماءِ والترابِ مضطرٌّ إلى ما حرّم عليه من ترْكِ التَّطهُّرِ بالماءِ أو الترابِ؛ فسقَط تحريمُ ذلك عليه، وهو قادرٌ على الصَّلاةِ بتوفيتِها أحكامَها، وبالإيمانِ، فبَقِيَ عليه ما قدَرَ عليه ((المحلى)) لابن حزم (1/363).
4- قوله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة: 6]
5- وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن أبي هُرَيرَةَ، عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((دَعُوني ما تَركتُكم؛ إنَّما هلَك مَن كان قَبلَكم بسؤالِهم واختلافِهم على أنبيائِهم، فإذا نَهيتُكم عن شيءٍ فاجتنِبوه، وإذا أمرتُكم بأمرٍ فأْتُوا منه ما استطعتُم )) رواه البخاري (7288) واللفظ له، ومسلم (1337).
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها: ((أنَّها استعارتْ من أسماءَ قلادةً فهلكتْ، فبَعثَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجلًا فوَجدَها، فأدركتْهم الصَّلاةُ وليس معهم ماءٌ فصَلَّوْا، فشَكَوْا ذلك إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأَنزلَ اللهُ آيةَ التيمُّمِ، فقال أُسيدُ بنُ حُضَيرٍ لعائشةَ: جزاكِ اللهُ خيرًا، فواللهِ ما نزَلَ بكِ أمرٌ تَكرهينَه إلَّا جعَلَ اللهُ ذلكِ لكِ وللمسلمينَ فيه خيرًا )) [871] رواه البخاري (336)، ومسلم (367).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ هؤلاءِ الذين بعَثَهمُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّوْا من غيرِ طهارةٍ لَمَّا فقَدُوا الماءَ، وأقرَّهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو كانتِ الإعادةُ واجبةً لبيَّنها لهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ، ولم يكُنْ وقتَها قدْ شُرِعَ التيمُّمُ، فيكون في حُكمِهم مَن فقَدَ الماءَ والترابَ ولهذه المناسبة ترجم البخاريُّ للحديث: "باب إذا لم يجد ماءً ولا ترابًا"، مع أنَّهم إنما فقدوا الماءَ فقط. ((فتح الباري)) (ص: 285)، ويُنظر: ((المحلى)) (رقم 246)، ((تفسير القرطبي)) (6/105)، ((المجموع)) للنووي (2/281).
3- عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وجُعِلتْ لي الأرضُ طيِّبةً طَهورًا ومسجدًا؛ فأيُّما رجلٍ أدركتْه الصَّلاةُ صلَّى حيثُ كان )) رواه البخاري (335)، مسلم (521).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قوله: ((أيُّما رجلٍ من أمَّتي أدركتْه الصَّلاةُ، فليصلِّ))، عامٌّ لا يخرُج عنه شيءٌ، فمَن استطاع التطهُّرَ بالماءِ فَعَل، ومَن استطاع التطهُّرَ بالتيمُّمِ فَعَل، ومَن لم يستطعْ صلَّى على حسَبِ حالِه؛ لأنَّه أتى بما قدَرَ عليه، فوجَب أن يَخرُجَ عن العُهدةِ ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (1/254)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/390).
ثالثًا: أنَّ ذلك ما يَقتضيه المحافظةُ على الوقتِ الذي هو أعظمُ شروطِ الصَّلاة، والذي مِن أجْلِه شُرِعَ التيمُّم ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/390).
رابعًا: أنَّ ما أوجبَه اللهُ تعالى ورسولُه، أو جعَلَه شرطًا للعِبادةِ، أو رُكنًا فيها، أو وقَف صِحَّتها عليه، هو مُقيَّدٌ بحالِ القُدرةِ؛ لأنَّها الحالُ التي يُؤمَرُ فيها به، وأمَّا في حالِ العجزِ، فغيرُ مقدورٍ ولا مأمورٍ؛ فلا تتوقَّفُ صِحَّةُ العبادةِ عليه ((حاشية ابن القيِّم على سنن أبي داود)) (1/89، 90).
خامسًا: أنَّ الطهارةَ شرطٌ؛ فلمْ تُؤخِّرِ الصَّلاةَ عند العجزِ، كسائرِ شروطِ الصَّلاة، كاستقبالِ القِبلةِ، وسَتْرِ العورةِ ((المجموع)) للنووي (2/281)، ((فتح الباري)) لابن رجب (2/29، 30).
سادسًا: أنَّ إيجابَ الإعادةِ يؤدِّي إلى إيجابِ نفْسِ الصَّلاةِ عن يومٍ واحدٍ مرَّتينِ [878] ((المجموع)) للنووي (2/281).

انظر أيضا: