الموسوعة الفقهية

المطلبُ الثَّامِنُ: الاحتسابُ


الفَرْعُ الأول: أَخْذُ الأُجْرة
استحبَّ أهلُ العلم أن يكونَ المؤذِّنُ محتَسِبًا لا يأخُذُ على أذانِه أجرًا قال الترمذيُّ: (والعملُ على هذا عندَ أهلِ العلمِ: كرِهوا أن يأخذَ المؤذِّنُ على الأذانِ أجرًا، واستحبُّوا للمؤذِّن أن يحتسبَ في أذانِه). ((سنن الترمذي)) (1/410)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/152)، ((حاشية ابن عابدين)) (1/393)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/232)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (2/15)، ((فتح العزيز بشرح الوجيز)) للرافعي (3/196)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/139). ، واختلفوا في حكم أَخْذِ الأَجرِ على الأذانِ على أقوالٍ، أقواها قولان:
القول الأوّل: يَحْرُمُ أَخْذُ الأُجرةِ على الأذانِ، وهذا مذهبُ الحنابلة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/132)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/301). ، وقولُ أبي حنيفةَ ومتقدِّمي الحنفيَّة ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/247)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/152). ، وقولٌ للمالكية ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/116) ، ووجهٌ عند الشَّافعيَّة ((فتح العزيز)) للرافعي (3/198). ، واختاره ابنُ المنذرِ قال ابنُ المنذر: (لا يجوزُ للمؤذِّن أخْذُ الأجر على أذانه؛ لحديثِ عُثمان، فإنْ أخَذ مؤذِّن على أذانه أجرًا لم يَسَعْه ذلك؛ لأنَّ السُّنَّة منعَتْ منه، فإنْ صلَّوا بأذانِ مَن أخَذ على أذانه أجرًا، فصلاتهم مجزية؛ لأنَّ الصلاة غيرُ الأذان). ((الأوسط)) (3/64). ، وابنُ حزمٍ قال ابنُ حزم: (لا تجوزُ الأجرةُ على الأذان، فإن فعل ولم يؤذِّن إلَّا للأجرة لم يُجْز أذانُه، ولا أجزأتِ الصلاة به - وجائزٌ أن يُعطى على سبيل البِر، وأن يَرزقَه الإمامُ كذلك). ((المحلى)) (2/182). ، وابنُ عُثَيمين قال ابنُ عثيمين: (لا يجوزُ أخْذ الأجرة على الأذان؛ لأنَّه قُربة من القُرَب، وعِبادة من العبادات، والعبادات لا يجوزُ أخْذُ الأجرة عليها؛ لقوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ** أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ **هود: 15، 16**، ولأنَّه إذا أراد بالأذان الدُّنيا بطَل عملُه؛ فلم يكن أذانُه صحيحًا). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/163).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
عن عُثمانَ بنِ أبي العاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، اجعْلَني إمامَ قومي، قال: أنتَ إمامُهم، واقتدِ بضَعيفِهم، واتِّخذْ مؤذِّنًا لا يأخُذُ على الأذانِ أَجرًا )) رواه أبو داود (531)، والنسائي (2/23)، وأحمد (4/21) (16314) بلفظ: ((أضعفهم)) بدلًا من ((ضعيفهم)) احتجَّ به ابنُ حزم في ((المحلى)) (4/99)، وصحَّحه ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/106)، وقال أحمدُ شاكر في تحقيق ((المسند)) (3/145): إسنادُه في غاية الصحَّة. وصحَّح إسنادَه ابن باز في ((مجموع فتاواه)) (7/232)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (531)، والوادعيُّ على شَرْط مسلم في ((الصحيح المسند)) (928).
ثانيًا: لأنَّه استئجارٌ على الطاعةِ، وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ الإنسانَ في تحصيلِ الطاعةِ عاملٌ لنَفْسِه؛ فلا يجوزُ له أَخْذُ الأُجرَةِ عليه ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/152).
ثالثًا: لأنَّها قُرَبٌ يعودُ نَفعُها على آخِذِ الأُجرةِ، والعِوض والمعوَّض لا يَجتمعانِ لشخصٍ ((الذخيرة)) للقرافي (5/401).
القول الثاني: يجوزُ أخْذُ الأُجرةِ على الأذانِ، وهذا مذهبُ المالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/115)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/236). ، والشَّافعيَّة ((فتح العزيز)) للرافعي (3/198)، ((المجموع)) للنووي (3/127). ، وروايةٌ عن أحمدَ ((المغني)) لابن قدامة (1/301)، ، وهو قولُ داودَ الظاهري قال النوويُّ: (في جواز الاستئجار على الأذان ثلاثةُ أوجه، أصحُّها: يجوزُ للإمام مِن مال بيت المال، ومِن مال نفسِه، ولآحادِ الناس من أهلِ المحلَّة ومِن غيرهم من مالِ نفْسِه، ونقله القاضي أبو الطيِّب عن أبي عليٍّ الطبريِّ وعامَّةِ أصحابنا، وكذا نقلَه المتولي وصاحبُ الذخائر والعبدريُّ عن عامَّة أصحابنا، وصحَّحه القاضي أبو الطيِّب، والفوراني، وإمام الحرمين، وابن الصباغ، والمتولي، والغزالي في البسيط، وإلكيا الهراسي في كتابه الزوايا في الخلاف، والشاشي في المعتمَد، والرافعيُّ وآخرون، وقطَع به الغزالي في الخلاصة، والرُّوياني في الحلية، وهو مذهبُ مالكٍ وداودَ). ((المجموع)) (3/127).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
عن أبي مَحذورةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: ((خرجتُ في نفرٍ فكنَّا ببعضِ الطريق، فأذَّن مؤذِّنُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالصَّلاةِ عندَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَمِعْنا صوتَ المؤذِّن ونحن عنه متنكِّبون فصَرَخْنا نَحكيه نهزأُ به، فسمِعَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فأرسل إلينا قومًا فأقْعَدونا بين يديه، فقال: أيُّكم الذي سمعتُ صوتَه قد ارتَفع؟ فأشار إليَّ القومُ كلُّهم وصَدَقوا، فأرسل كلَّهم وحبَسني، وقال لي: قمْ فأذِّن. فقمتُ ولا شيء أكره إليَّ من أمْر رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا ممَّا يأمرُني به، فقمتُ بين يدَي رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأَلْقى عليَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التأذينَ هو بنفسِه، فقال: قل: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الله، أشهد أنْ لا إلهَ إلَّا الله، أشهد أنَّ محمدًا رسولُ الله، أشهدُ أنَّ محمدًا رسول الله، ثم قال لي: ارفعْ فمُدَّ صوتَك: أشهد أنْ لا إلهَ إلا الله، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الله، أشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله، أشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إلهَ إلَّا الله، ثم دَعاني حين قضيتُ التأذينَ فأعطاني صُرَّةً فيها شيء من فِضَّةٍ.. )) [417] رواه النسائي (2/5)، وابن حبان (4/574) (1680). وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/703)، وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2/5): حسنٌ صحيحٌ.
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَعطاه صُرَّةَ الفِضَّةِ أُجرةً على أذانِه ((تحفة الأحوذي)) (1/527).
ثانيًا: لأنَّه عملٌ معلومٌ يجوزُ أَخْذُ الرِّزقِ عليه؛ فيجوز أَخْذُ الأجرةِ عليه، كالأُجرَةِ على كِتابةِ المصاحِفِ ((فتح العزيز)) للرافعي (3/198).
الفَرْعُ الثاني: أخذُ الرِّزق من بيتِ المالِ
يجوزُ أخذُ الرزق الرِّزقُ عند الفقهاءِ هو ما يُفرَض في بيتِ المالِ بِقَدْرِ الحاجة والكفايَةِ. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (22/201). على الأذان من بيت المال مقابلَ الأذانِ، وهو مذهبُ الجمهورِ: المالكية ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/118)، وينظر: ((الذخيرة)) للقرافي (2/66). ، والشَّافعية ((المجموع)) للنووي (3/126) ((روضة الطالبين)) للنووي (1/205) ، والحنابلةِ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (1/276)، ((الإنصاف)) للمرداوي (1/290). ، وهو قولُ ابنِ حزمٍ الظاهريِّ ((المحلى)) لابن حزم (2/182). ، وحُكي الإجماعُ على ذلك قال القرافيُّ: (اتَّفق الجميعُ على جواز الرَّزْقة، وقد أَرْزق عمرُ بن الخطاب المؤذِّنين). ((الذخيرة)) (2/66). وقال ابن قدامة: (لا نعلم خِلافًا في جوازِ أخْذ الرِّزق عليه) ((المغني)) (1/301).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ ما يُؤخَذ من بيتِ المالِ ليس عِوَضًا وأُجرة، بل رِزقٌ للإعانةِ على الطاعة ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/409).
ثانيًا: لأنَّ بالمسلمين حاجةً إلى الأذان، وقدْ لا يوجد متطوِّع به، وإذا لم يُدفعِ الرِّزق فيه يُعطَّل ((المغني)) لابن قدامة (1/301).
ثالثًا: لأنَّ بيتَ المالِ مُعَدٌّ لمصالح المسلمينَ، ومنها الأذانُ ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (6/349)

انظر أيضا: