الموسوعة الفقهية

المبحث الثَّاني: التيمُّم عن الحدَث الأكبر


 المطلب الأول: مشروعيَّةُ التيمُّم عن الحَدَث الأكبرِ
يُشرَع التيمُّمُ عن الحدَث الأكبَرِ، كالجَنابة، والحَيضِ والنِّفاس، إذا لم يجِدِ الماءَ، أو عند عدم القُدرةِ على استعمالِه، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/154)، ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (1/127). ، والمالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/509)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/190). ، والشافعيَّة ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/87)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (1/264). ، والحنابلة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/96)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (1/205). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال ابن حزم: (أمَّا كونُ عَمَلِ التيمُّم للجنابة وللحَيضِ وللنِّفاس، ولسائِر ما ذكرْنا- كصِفَتِه لرَفع الحدَث؛ فإجماعٌ لا خلاف فيه مِن كلِّ مَن يقولُ بشيءٍ من هذه الأغسال وبالتيمُّم لها). ((المحلى)) (1/368). وقال ابن عبدِ البَرِّ: (أجمَعَ العُلَماءُ بالأمصار بالمشرِق والمَغرِب- فيما علمتُ- أنَّ التيمُّمَ بالصَّعيد عند عدمِ الماء طَهورُ كلِّ مسلمٍ؛ مريضٍ، أو مسافرٍ، وسواءٌ كان جُنبًا أو على غيرِ وضوءٍ، ولا يختلفونَ في ذلك). ((الاستذكار)) (1/303). وقال ابن العربي في باب التيمُّم للجنب إذا لم يجِدِ الماء: (حديث عمَّار في الصحيحِ أيضًا، قال لعُمر: ((أمَا تذكُرُ يا أميرَ المؤمنين، إذ كنتُ أنا وأنتَ في سريَّة فاجتنبْنا؛ فأمَّا أنا فتمعَّكْتُ التُّرابَ، وسألْنا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّما يكفيكَ هكذا، وضرَبَ الأرض بيديه، فمَسح بهما وجهَه وكفَّيه؟ فقال له عمَرُ: لا، فقال له: إن شئتَ أنْ لا أذكُر ذلك فعلتُ، فقال: بل نُولِّيكَ من ذلك ما تَوَلَّيتَه))، وهذا نصٌّ، قال بعضهم- وقد حكَى عن عبد الله بن مسعود أنَّه لا يجوز-: وانعقد الإجماعُ بعدَ ذلك على جوازِه بهذه النُّصوص) ((عارضة الأحوذي)) (1/192). وقال النوويُّ: (أجمَعَ العُلَماءُ على جواز التيمُّم عن الحدَث الأصغر، وكذلك أجمع أهلُ هذه الأعصار ومَن قبلَهم على جوازه للجُنُب، والحائض والنُّفَساء، ولم يخالِفْ فيه أحدٌ من الخَلَف، ولا أحدٌ من السَّلف، إلَّا ما جاء عن عُمرَ بن الخطَّاب وعبدِ الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنهما، وحُكي مثلُه عن إبراهيم النَّخَعي الإمام التابعيِّ، وقيل: إنَّ عمر وعبد الله رجعَا عنه، وقد جاءت بجوازه للجنُب الأحاديثُ الصَّحيحةُ المشهورة). ((شرح النووي على مسلم)) (4/57). وقال الشنقيطيُّ: (لم يخالف أحدٌ من جميع المسلمين في التيمُّم، عن الحدَث الأصغرِ، وكذلك عن الحدَث الأكبر، إلَّا ما رُوي عن عمر، وابن مسعود، وإبراهيم النَّخعي من التَّابعين؛ أنَّهم منعوه عن الحدَث الأكبَرِ. ونقل النووي في ((شرح المهذب)) عن ابن الصبَّاغ وغيره القولَ برجوع عمر، وعبد الله بن مسعود عن ذلك). ((أضواء البيان)) (1/358).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قولُ الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: 6]
وجه الدَّلالة:
أنَّه ذكَرَ التيمُّمَ بعد ذِكر الحدَثِ الأكبَرِ، وهو مُلامسةُ النِّساء، والملامسةُ في الآية كنايةٌ عن الجِماعِ، فدلَّ على أنَّ التيمُّم طهارةٌ مِن الحدَث الأكبَرِ لِمَن لم يجِدِ الماء، أو عَدِمَ القُدرةَ على استعمالِه.
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن عِمران بن حُصَين رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى رجلًا معتزلًا لم يُصَلِّ مع القوم، فقال: يا فلانُ، ما منعك أن تُصلِّي مع القومِ؟ فقال: أصابَتْني جَنابةٌ ولا ماء، فقال: عليك بالصَّعيدِ؛ فإنَّه يكفيكَ )) رواه البخاري (348)، واللفظ له، ومسلم (682).
 المطلب الثاني: وطءُ فاقِدِ الماءِ
مَن كان على طهارةٍ مائيَّة ولم يجِدِ الماء، فإنَّه يُباحُ له الوطءُ، ويتيمَّم بعد ذلك، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (1/109، 110)، وينظر: ((المبسوط)) للشيباني (1/113، 114). ، والمالكيَّة وإنْ كان يُكرَه عندهم على المعتمَد. ((التاج والإكليل)) للمواق (1/359)، ((الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي)) (1/161). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/209)، وينظر: ((الأم)) للشافعي (1/61)، ((شرح النووي على مسلم)) (4/57). ، والحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/192)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/203). ، وهو قَولُ الظَّاهرية ((المحلى)) لابن حزم (1/365-366). وبه قال بعضُ السَّلَفِ قال النوويُّ: (حكَى ابن المُنذِر جوازَ الجِماع عن ابن عبَّاس، وجابرِ بن زيد، والحسن البصريِّ، وقتادة، والثوريِّ، والأوزاعيِّ، وأصحاب الرَّأي، وأحمد، وإسحاق، واختاره ابنُ المُنذِر). ((المجموع)) (2/209).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
1- قول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6]
وجه الدَّلالة:
أنَّ اللهَ تعالى سمَّى التيمُّمَ طُهرًا، فإذا عَدِمَ المجامِع الماءَ، تيمَّم ويكونُ طاهرًا به ((المحلى)) (1/365).
2- قال الله تعالى: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 222-223]
وجه الدَّلالة:
أنَّ اللهَ تعالى حضَّ على مُباضعةِ الرَّجلِ امرأتَه، وصحَّ أنَّه مأجورٌ في ذلك، وما خصَّ اللهُ تعالى بذلك مَن حُكمُه التيمُّم ممَّن حُكمُه الغُسلُ أو الوضوءُ، وإذا كان الأمرُ كذلك، فلا يُمنَع ولا يُكرَه إلَّا بدليلٍ ((المحلى)) لابن حزم (1/365، 366)، ((المجموع)) للنووي (2/209).
ثانيًا: أنَّ الله تعالى شرَع الماءَ طَهورًا في حالِ وُجودِه، والترابَ في حال عَدَمِه، ولا فضلَ لأحدِ العمَلين على الآخَرِ، وليس أحدُهما بأطهرَ من الآخَر، ولا بأتمَّ صلاةً، فصحَّ أنَّ لكلِّ واحدٍ حُكمَه؛ فلا معنى لمنعِ مَن حُكمُه التيمُّم، من الوطءِ، كما لا معنى لمنع مَن حُكمُه الغُسلُ، من الوطء، وكلُّ ذلك في النصِّ سواءٌ، ليس أحدُهما أصلًا، والثاني فرعًا، بل هما في القرآنِ سواءٌ ((المحلى)) لابن حزم (1/366)، ((حاشية ابن عابدين)) (1/232).
ثالثًا: أنَّه كما يجوزُ له اكتسابُ سببِ الحدَثِ في حالِ عَدَمِ الماء، فكذلك اكتسابُ سبَبِ الجَنابة ((المبسوط)) للسرخسي (1/110).
رابعًا: أنَّ في منع النَّفسِ بعد غلبة الشَّبَقِ، بعضَ الحرَجِ، وما شُرع التيمُّمُ إلَّا لدَفعِ الحَرَجِ ((المبسوط)) للسرخسي (1/110).
 المطلب الثالث: اغتسالُ الجُنُبِ إذا وجَد الماءَ
إذا صلَّى الجنُب بالتيمُّم، ثمَّ وجَدَ الماءَ، فقد وجَب عليه الغُسلُ.
الدَّليل من الإجماع:
نقَل الإجماعَ على ذلك: ابن عبدِ البَرِّ قال ابن عبدِ البَرِّ: (الإجماعُ على أنَّ الجُنب إذا صلَّى بالتيمُّم ثمَّ وجد الماءَ، لزِمه الغُسل) ((الاستذكار)) (1/318). ، والنوويُّ قال النوويُّ: (وإذا صلَّى الجنُب بالتيمُّم ثمَّ وجد الماء، وجب عليه الاغتسالُ بإجماع العلماء، إلَّا ما حُكي عن أبي سَلمة بن عبد الرَّحمن الإمام التابعي أنَّه قال: لا يلزَمُه، وهو مذهب متروكٌ بإجماعِ مَن قبله ومَن بَعدَه، وبالأحاديث الصَّحيحة المشهورةِ في أمرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للجُنُبِ بغَسلِ بَدَنِه إذا وجَدَ الماء) ((شرح النووي على مسلم)) (4/57). ، والشوكانيُّ ((نيل الأوطار)) (1/320).

انظر أيضا: