الموسوعة الفقهية

الفصل الأوَّل: النِّيابةُ عن الحَيِّ


المبحث الأوَّل: النيابةُ في الفَرضِ عن القادِرِ
القادِرُ على الحجِّ لا يجوزُ أن يَستَنيبَ مَن يحُجُّ عنه حجَّةَ الفريضةِ قال المواق: (قال سند: اتَّفَقَ أرباب المذاهب أنَّ الصَّحيحَ لا تجوز استنابَتُه في فَرْضِ الحجِّ) ((التاج والإكليل)) (3/2).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97]
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ المُنذِرِ قال ابنُ المنذر: (أجمعوا أنَّ مَن عليه حجَّةُ الإسلام، وهو قادِرٌ؛ لا يُجزئ إلَّا أن يحُجَّ بنَفْسِه، ولا يُجْزِئ أن يحُجَّ عنه غيرُه) ((الإجماع)) (ص: 59)، وينظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/180). ، وابنُ قُدامة قال ابن قُدامة: (لا يجوزُ أن يستنيبَ مَن يقدِرُ على الحجِّ بنَفْسِه في الحجِّ الواجِبِ إجماعًا) ((المغني)) (3/223). ، وابنُ حَجَرٍ قال ابن حجر: (اتَّفقَ من أجاز النيابةَ في الحجِّ على أنَّها لا تُجزئ في الفَرْضِ إلَّا عن موتٍ أو عَضبٍ، فلا يدخُلُ المريضُ؛ لأنَّه يُرجى بُرْؤُه، ولا المجنونُ؛ لأنَّه تُرجى إفاقَتُه، ولا المحبوسُ؛ لأنَّه يُرجى خلاصُه، ولا الفقيرُ؛ لأنَّه يُمكِن استغناؤُه، والله أعلم) ((فتح الباري)) (4/70).
ثالثًا: أنَّ على القادِرِ الحَجَّ ببَدَنِه، فلا يَنتَقِلُ الفَرضُ إلى غيره إلَّا فيما ورَدَتْ فيه الرُّخصةُ، وهو: إذا عجَزَ عنه، أو كان مَيِّتًا، وبَقِيَ فيما سواهما على الأصلِ، فلا تجوزُ النِّيابةُ عنه فيه ((المجموع)) للنووي (7/112).
المبحث الثاني: النيابةُ في الفَرْضِ عن غيرِ القادِرِ:  
يجِبُ على من أعجَزَه كِبَرٌ، أو مَرَضٌ لا يُرجى بُرْؤُه يُشتَرَط أن يكون العذرُ مُستمِرًّا، كالهَرَم، أو مرضٍ مُزمنٍ، فلا يدخُلُ المريضُ؛ لأنَّه يُرجَى بُرؤُه، ولا المجنونُ؛ لأنه ترُجى إفاقَتُه، ولا المحبوسُ؛ لأنَّه يُرجى خلاصُه، ولا الفقير؛ لأنَّه يُمكِنُ استغناؤه. ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/179). ((فتح الباري)) لابن حجر (4/70). أن يُقيمَ من يحُجُّ عنه؛ إن كان له مالٌ، وهذا مَذهَبُ الشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (7/94)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/469). ، والحَنابِلَة ((شرح منتهي الإرادات)) للبهوتي (1/ 519)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/222)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/31). ، وهو روايةٌ عن أبي حنيفةَ ((المبسوط)) للسرخسي (4/275). ، وقولُ صاحِبَيه ((تبيين الحقائق)) و((حاشية الشلبي)) (2/85)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/416). ، وقولُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ منهم علي بن أبي طالب والحسن البصري والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وابن المبارك وأحمد وإسحاق. ((المجموع)) للنووي (7/100)، ((تفسير القرطبي)) 4/151. ، واختارَه الكمالُ ابنُ الهُمامِ ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/416). ، وابنُ حزمٍ قال ابن حزم: (مَن لا مالَ له، ولا قوةَ جِسْمٍ إلَّا أنَّه يجِدُ مَن يحجُّ عنه بلا أجرةٍ، أو بأجرةٍ يقدِرُ عليها- فوَجَدْنا اللغةَ التي بها نزلَ القرآنُ وبها خاطَبَنا اللهُ تعالى في كلِّ ما ألزَمَنا إيَّاه؛ لا خلافَ بين أحدٍ مِن أهلِها في أنَّه يقالُ: الخليفةُ مُستطيعٌ لفتحِ بلدِ كذا, ولنَصْبِ المنجنيقِ عليه، وإن كان مريضًا مُثْبَتًا؛ لأنه مستطيعٌ لذلك بأمرِه وطاعةِ النَّاسِ له, وكان ذلك داخلًا في نصِّ الآيةِ) ((المحلى)) (7/56). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (العاجِزُ لكِبَرِ سِنٍّ أو مرضٍ لا يُرجى بُرؤُه؛ فإنَّه يلزَمُه أن يُنيبَ مَن يؤدِّي عنه الحجَّ المفروضَ والعمرةَ والمفروضةَ، إذا كان يستطيعُ ذلك بمالِه؛ لعمومِ قَولِ اللهِ سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا **آل عمران: 97** ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/122). ، وابنُ عُثيمين قال ابن عُثيمين: (إن كان الإنسانُ قادرًا بمالِه دونَ بَدَنِه، فإنَّه ينيبُ مَن يحُجُّ عنه؛ لحديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ امرأةً خثعميَّةً سألتِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ أبي أدرَكَتْه فريضةُ اللهِ على عبادِه في الحجِّ، شيخًا كبيرًا لا يَثْبُتُ على الراحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: (نعم)، وذلك في حجَّةِ الوداعِ، ففي قولها: أدرَكَتْه فريضةُ اللهِ على عبادِه في الحجِّ، وإقرارِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك؛ دليلٌ على أنَّ مَن كان قادرًا بمالِه دون بَدَنِه، فإنَّه يجب عليه أن يُقيمَ مَن يحُجُّ عنه) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (21/15).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال الله تعالى:وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97]
وَجهُ الدَّلالةِ:
دلَّتِ الآيةُ على أنَّ مَنِ استطاعَ الحَجَّ ببَدَنِه ومالِه؛ فقد وجَبَ الحجُّ في حقِّه، فإن كان عاجزًا عن الحجِّ ببَدَنِه، مستطيعًا بمالِه، فإنَّه يلزَمُه أن يقيمَ غيرَه مَقامَه ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/359).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّة
عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، أنَّه قال: ((كان الفضلُ بنُ عبَّاسٍ رديفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم، فجاءتْه امرأةٌ مِن خَثعَم تستَفتيه، فجعل الفَضلُ ينظُرُ إليها وتنظُرُ إليه، فجعل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصرِفُ وَجهَ الفَضلِ إلى الشِّقِّ الآخَرِ، قالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّ فريضةَ اللهِ على عبادِه في الحَجِّ، أدرَكَت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيعُ أن يثبُتَ على الرَّاحلةِ، أفأحُجُّ عنه؟ قال: نعم، وذلك في حجَّةِ الوداعِ )) رواه البخاري (1513)، ومسلم (1334) واللفظ له.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقرَّ المرأةَ على وَصْفِ الحجِّ عن أبيها بأنَّه فريضةٌ، مع عَجزِه عنه ببَدَنِه، ولو لم يجِبْ عليه لم يُقِرَّها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه لا يُمكِنُ أن يُقِرَّ على خطأٍ، فدلَّ على أنَّ العاجِزَ ببَدَنِه القادِرَ بمالِه؛ يجب عليه أن يُنيبَ ((المحلى)) لابن حزم (7/57)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/11).
ثالثًا: أنَّ هذه عبادةٌ تَجِبُ بإفسادِها الكفَّارةُ، فجاز أن يقومَ غيرُ فِعْلِه فيها مَقامَ فِعْلِه، كالصَّومِ إذا عَجَزَ عنه افتدى ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (3/145)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/222).
المبحث الثالث: إذا استنابَ للفريضةِ ثمَّ بَرِئَ:
مَنِ استناب للحَجِّ ثم بَرِئَ قبل المَوتِ، فلِأهْلِ العِلْمِ فيه قولانِ:
القول الأوّل: مَنِ استناب للحَجِّ ثم بَرِئَ قبل المَوتِ يُجْزِئُ عنه، ويَسقُطُ عنه الفَرْضُ، وهذا مذهَبُ الحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي(3/287)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/391). ، والظَّاهِريَّة قال ابن حزم: (قال أصحابُنا: ليس عليه أن يحُجَّ بعدُ). ((المحلى)) (7/62) وقال أيضًا: (إذا أمَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالحجِّ عمَّنْ لا يستطيعُ الحجَّ راكبًا ولا ماشيًا، وأخبر أنَّه دَينُ الله يُقضَى عنه؛ فقد تأدَّى الدَّينُ بلا شكٍّ وأجزأ عنه؛ سَقَطَ وتأدَّى، فلا يجوز أن يعودَ فَرْضُه بذلك؛ إلَّا بنصٍّ، ولا نصَّ هاهنا أصلًا بعودَتِه- ولو كان ذلك عائدًا لبَيَّنَ عليه السلامُ ذلك؛ إذ قد يقوى الشَّيخُ فيُطيقُ الرُّكوبَ؛ فإذ لم يخبِرِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، فلا يجوزُ عودة الفرض عليه بعد صحَّةِ تأدِّيه عنه) ((المحلى)) (7/62). ، وبه قال إسحاقُ بنُ رَاهَوَيه ((المجموع)) للنووي (7/102)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/222).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ المُنيبَ أتى بما أُمِرَ به مِن إقامَةِ غيرِه مَقامَه، ومَن أتى بما أُمِرَ به بَرِئَتْ ذِمَّتُه، وخرجَ مِن العُهدةِ، كما لو لم يَبْرَأ ((المغني)) لابن قُدامة (3/222)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/391).
ثانيًا: أنَّه فَعَلَ عبادةً في وقتِ وُجوبِها يَظُنُّ أنَّها الواجبةُ عليه، فتُجْزِئُه، ولو تبَيَّنَ بعد ذلك أنَّ الواجِبَ كان غيرَها ((قواعد ابن رجب)) (ص: 7).
ثالثًا: أنَّ إيجابَ الحجِّ عليه يُفضي إلى إيجابِ حَجَّتينِ عليه، ولم يوجِبِ اللهُ عليه إلَّا حجَّةً واحدةً ((المغني)) لابن قُدامة (3/222)، ((فتح الباري)) لابن حجر (4/70).
رابعًا: القياسُ على المتمَتِّعِ إذا شَرَعَ في الصَّومِ ثم قَدَرَ على الهَديِ؛ فإنَّه يُجْزِئ عنه ((المغني)) لابن قُدامة (3/222)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/391).
القول الثاني: لا يُجْزِئُه عن حَجِّ الفريضةِ، وعليه الحجُّ بنَفْسِه لم يُذكَرْ قولُ المالكيَّة في الخلافِ في المسألة؛ لأنَّ المسألةَ لا تُتصَوَّرُ عندهم؛ بسبَبِ أنَّ العاجِزَ عندهم لا فريضةَ عليه. ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/3)، وينظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/69). ، وهذا مذهَبُ الحَنَفيَّة ((البناية شرح الهداية)) للعيني (4/ 471)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (3/146)، ((مجمع الأنهر)) لشيخي زاده (1/455). ، والشَّافعيَّة في الأصَحِّ ((روضة الطالبين)) للنووي (3/13، 14)، ((المجموع)) للنووي (7/102). ، واختارَه ابنُ المنذِرِ ((المغني)) لابن قُدامة (3/222).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ هذا الحجَّ بدَلُ إياسٍ، فإذا بَرَأَ تَبَيَّنَ أنَّه لم يكن مأيوسًا منه، فلَزِمَه الأصلُ ((المغني)) لابن قُدامة (3/222).
ثانيًا: قياسًا على الآيِسَةِ من الحيضِ إذا اعتَدَّتْ بالشُّهورِ ثم حاضَتْ، لا يُجْزِئُها تلك العِدَّةُ ((المغني)) لابن قُدامة (3/222).
ثالثًا: أنَّ جوازَ الحَجِّ عن الغَيرِ ثَبَتَ بخلافِ القياسِ؛ لضرورةِ العجزِ الذي لا يُرجَى زَوالُه، فيتقيَّدُ الجوازُ به ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (2/335).

انظر أيضا: