الموسوعة الفقهية

المبحث الثَّاني: حُكْمُ الاستطاعَةِ


المَطْلَب الأوَّل: اشتراطُ الاستطاعَةِ في وُجوبِ الحَجِّ
الاستطاعَةُ شرطٌ في وجوبِ الحَجِّ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ:
1- قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/386). [آل عمران: 97]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ اللهَ تعالى خصَّ المستطيعَ بالإيجابِ عليه، فيختَصُّ بالوجوبِ، وغيرُ المُستطيعِ لا يَجِبُ عليه ((المغني)) لابن قُدامة (3/214)، ((المبدع شرح المقنع)) لابن مفلح (3/33).
2- قال اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286]
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ حَزْمٍ قال ابنُ حزم: (اتَّفقوا أنَّ الحرَّ المسلم, العاقل, البالغ, الصحيح الجسم, واليدين, والبصر, والرِّجْلين, الذي يجد زادًا وراحلةً وشيئًا يتخلَّف لأهله مدةَ مُضِيِّه وليس في طريقه بحرٌ ولا خوفٌ، ولا منعه أبواه أو أحدهما؛ فإنَّ الحَجَّ عليه فرْض). ((مراتب الإجماع)) (ص: 41). ، وابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة: (أجمعت الأمَّةُ على وجوب الحَجِّ على المستطيعِ في العمر مرةً واحدةً). ((المغني)) (3/213). وقال أيضًا: (جملةُ ذلك أنَّ الحَجَّ إنما يجب بخمس شرائط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعَة، لا نعلمُ في هذا كلِّه اختلافًا). ((المغني)) (3/213). ، والقُرطبيُّ قال القرطبي: (الحَجُّ إنما فَرْضُه على المستطيع إجماعًا)، ((تفسير القرطبي)) (4/150). ، والنَّوَوِيُّ قال النووي: (الاستطاعةُ شَرْطٌ لوجوبِ الحَجِّ بإجماعِ المسلمين). ((المجموع)) (7/63).
ثالثًا: انتفاءُ تكليفِ ما لا يُطاقُ شَرْعًا وعَقْلًا ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/386).
المَطْلَب الثَّاني: هل الاستطاعَةُ شَرْطُ إجزاءٍ في الحَجِّ؟
الاستطاعة ليسَتْ شَرْطَ إجزاءٍ في الحَجِّ، فإذا تجشَّمَ غيرُ المستطيعِ المشَقَّة، فحجَّ بغيرِ زادٍ ولا راحلةٍ، فإنَّ حَجَّه يقعُ صحيحًا مُجْزئًا عن حَجِّ الفريضةِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/335)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/459). ، والمالِكِيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (3/447، 448)، ((الشرح الكبير)) للشيخ الدردير و((حاشية الدسوقي)) (2/5). ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/20). ، والحَنابِلَة ((شرح منتهي الإرادات)) للبهوتي (1/ 512)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/214).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ خَلْقًا من الصَّحابَة رَضِيَ اللهُ عنهم حَجُّوا ولا شيءَ لهم، ولم يُؤْمَرْ أحدٌ منهم بالإعادَةِ ((المبدع شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/33).
ثانيًا: أنَّ الاستطاعَةَ إنَّما شُرِطَتْ للوصولِ إلى الحَجِّ، فإذا وَصَل وفَعَل أجزَأَه ((المبدع شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/33).
ثالثًا: أنَّ سُقوطَ الوُجوبِ عن غَيْرِ المستطيعِ إنَّما كان لدَفْعِ الحَرَجِ، فإذا تحمَّلَه وقع عن حَجَّةِ الإِسْلامِ، كما لو تكَلَّفَ القيامَ في الصَّلاةِ والصيامِ مَنْ يسقُطُ عنه، وكما لو تكَلَّفَ المريضُ حضورَ الجُمُعةِ، أو الغنيُّ خطَرَ الطَّريقِ، وحَجَّ، فإنَّه يُجْزِئُ عنهم جميعًا ((المغني)) لابن قُدامة (3/214)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/391).
المَطْلَبُ الثَّالِث: إِذْنُ الوَالِدَيْنِ في حَجِّ الفَريضَةِ
ليس للوالدينِ مَنْعُ الولَدِ المُكَلَّف من الحَجِّ الواجِبِ، ولا تحليلُه من إحرامِه، وليس للوَلَدِ طاعَتُهما في تَرْكِه، وإن كان يُستَحَبُّ له استئذانُهما؛ نصَّ على هذا فُقَهاءُ الحَنَفيَّةِ ((حاشية ابن عابدين)) (2/456)، ((الفتاوى الهندية)) (1/ 220) واشترطوا عدم حاجة أحد الوالدين إلى خدمة الولد. , والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (8/349)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/537). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/386)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/459). ، وهو أحَدُ القَوْلينِ للمالِكِيَّة نص المالِكِيَّة أن للأبوين منع الولد من تعجيل الفرض. ((الذخيرة)) للقرافي (3/183)، ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 94).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15]
وجه الدَّلالَةِ:
دلَّ قَوْلُه: فَلَا تُطِعْهُمَا على أنَّ طاعَةَ الوَالِدَينِ لازِمَةٌ ما لم يكُنْ فيها تَرْكُ طاعَةِ اللهِ ((تفسير الرازي)) (25/120).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، قال: ((لا طاعَةَ في مَعْصِيَةِ اللهِ, إنَّما الطَّاعَةُ في المعروفِ )) رواه البخاري (7257)، ومسلم (1840).
2- عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((سألْتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ العَمَلِ أفضَلُ؟ قال: الصَّلاةُ على مِيقاتِها، قُلْتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: ثُمَّ بِرُّ الوالدَينِ، قُلْتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: الجهادُ في سبيلِ اللهِ )) رواه البخاري (2782) واللفظ له، ومسلم (85).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ فيه تقديمَ الصَّلاةِ على ميقاتِها على بِرِّ الوالِدَينِ، فدلَّ على أنَّ فرائِضَ الأعيانِ التي هي من حقوقِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ تُقَدَّمُ على فروضِ الأعيانِ التي هي من حقوقِ العِبادِ، فيُقَدَّمُ حَجُّ الفريضةِ على بِرِّ الوالدَينِ ((فتح الباري)) لابن رجب (3/46، 47).
ثالثًا: أنها قربة لا مخالفة عليه فيها فلا يجوز لهما منعه أو تحليله منها كالصوم ((المجموع)) للنووي (8/348).
رابعًا: أنها فرض عين فلم يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/385).
خامسًا: أنَّ طاعَةَ الوالِدَينِ إنَّما تَلْزَمُ في غير المعصِيَةِ ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/386).
المَطْلَبُ الرَّابِعُ: إذْنُ الوالِدَينِ في حَجِّ النَّافِلَة
للأبوينِ مَنْعُ وَلَدَيْهما مِن حَجِّ التطَوُّعِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/332)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/456). ، والمالِكِيَّة ((الكافي)) لابن عبد البر (1/357)، ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/183)، ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 94). ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (8/348)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/537). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/284)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/459).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّه يلزَمُ طاعَةُ الوالدَينِ في غيرِ معصيَةٍ, ولو كانا فاسقَيْنِ؛ لعمومِ الأوامِرِ بِبِرِّهِما والإحسانِ إليهما ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/386).
ثانيًا: أنَّ للوالدينِ مَنْعَه من الجهادِ، وهو مِن فُروضِ الكِفاياتِ، فالتَّطَوُّعُ أَوْلى ((المغني)) لابن قُدامة (3/459).
المَطْلَبُ الخامِسُ: إذْنُ صاحِبِ العَمَلِ
من أراد حَجَّ الفريضَةِ وكان بينه وبين غَيْرِه عَقْدٌ يُلْزِمُه بالعَمَلِ في أيَّامِ الحَجِّ أو بَعْضِها، فإنَّه يستأذِنُ منه, فإنْ أَذِنَ له وإلَّا وجب عليه الوَفاءُ بالعَقْدِ، وهذه فتوى ابنِ باز قال ابنُ باز جوابًا على سؤالٍ: (إذا كنتَ عاملًا ولم يأذَنوا لك فلا تُحْرِمْ، أمَّا إذا سمحوا لك بالإحرامِ فلا بأس، أما إذا كنت عاملًا عند أحدٍ تشتغِلُ عنده فليس لك الحَجُّ بغير إِذْنِهم؛ لأنَّك مربوطٌ بعَمَلِهم مستأجَرٌ, فعليك أن تُكْمِلَ ما بينك وبينهم, فالمسلمونَ على شروطهم... أمَّا كونُك تحُجُّ وهم ما أذنوا لك فهذا يُعتَبَر معصِيَةً، وإن كنت حَجَجْتَ صَحَّ الحَجُّ، لكنَّك عَصَيْتَ ربَّك في هذا؛ لأنَّك ضَيَّعْتَ بعضَ حَقِّهِم) ((فتاوى ابن باز)) (17/122-123). , وابنِ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين جوابًا على سؤالٍ: (لا يجوز الحَجُّ إلا بإِذْنِ مَرْجِعِك, فإنَّ الإنسانَ الموَظَّفَ ملتَزِمٌ بأداء وظيفته حسَبَما يُوجَّه إليه... فالعقد الذي جرى بين الموَظَّف وموظِّفِه عهدٌ يجب الوفاء به حسَبَما يقتضي العقدُ. أمَّا أن يتغيَّبَ الموظَّفُ ويؤدي الفريضةَ، وهو مطالَبٌ بالعمل ليس عنده إجازةٌ، فإنَّ هذا مُحَرَّمٌ) ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عُثيمين)) (21/60)، ويُنْظَر: (21/61). ، واللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ جاء في فتوى اللَّجْنَة الدَّائِمَة في جوابها على أحَدِ السَّائلينَ: (إذا كان الواقِعُ ما ذُكِرَ فلا يجوز لك أن تسافِرَ عن المكان الذي وُكِّلَ إليك العَمَلُ فيه لحجٍّ أو عُمْرَةٍ أو غيرهما إلَّا بإِذْنِ مَرْجِعِك، وأنت والحالُ ما ذَكَرْتَ معذورٌ في تأخيرِ ذلك حتى تَجِدَ الفُرْصَةَ) ((فتاوى اللَّجْنَة الدَّائِمَة- المجموعة الأولى)) (11/117).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
1- قَوْلُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ [المائدة: 1]
2- قَوْلُه تعالى: وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا [الإسراء: 34]
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
قوله صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((المُسْلِمونَ على شُروطِهم )) أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغةِ الجزم قبل حديث (2274)، وأخرجه موصولًا أبو داود (3594)، والحاكم (2309) واللَّفْظُ لهما من حديثِ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه. قال النووي في ((المجموع)) (9/367): إسنادُه حَسَنٌ أو صحيح، وحسن إسناده ابن الملقن في ((خلاصة البدر المنير)) (2/69)، وذكر ابنُ حجر في ((تغليق التعليق)) (3/281) أنَّ فيه كثير بن زيد أسلمي: حديثُه حسَنٌ في الجملة. وقد اعتضد بمجيئه من طريقٍ أخرى، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3594): حسنٌ صحيحٌ.
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ العقْدَ الذي جرى بين الموَظَّف ومُوَظِّفِه عَهْدٌ يجِبُ الوفاءُ بِشُروطِه حَسَبَما يقتضي العَقْدُ ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عُثيمين)) (21/60)، ((فتاوى ابن باز)) (17/122- 123).

انظر أيضا: