الموسوعة الفقهية

المبحث الثاني: التَّراخي في القَضاءِ


المطلب الأول: حُكمُ تأخيرِ قَضاءِ رمضانَ إلى ما قبل دخولِ رمضانَ آخَرَ
يجوز قضاءُ الصَّومِ على التَّراخي لكنَّ المسارعةَ إلى القضاء أوْلى؛ لقوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ [آل عمران:133] ؛ وقوله سبحانه: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [المؤمنون:61] . في أي وقتٍ من السَّنَة، بشَرْطِ ألَّا يأتيَ رمضانُ آخَرُ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ قال ابنُ حجر: (ظاهِرُ صنيعِ البخاري يقتضي جوازَ التراخي والتفريقِ؛ لِمَا أودعه في الترجمةِ من الآثار كعادته، وهو قولُ الجمهور) ((فتح الباري)) (4/189). : الحَنَفيَّة ((الهداية)) للمرغيناني (1/127)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/104)، ((فتح القدير)) للكمال بن الهمام (2/355). ، والمشهورُ مِن مَذهَبِ المالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (3/384)، وينظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (1/147). ، والشَّافِعيَّة قال النووي: (إذا لزمه قضاءُ رمضان أو بعضِه: فإن كان فواتُه بعُذرٍ؛ كحيض ونِفاسٍ، ومرضٍ وإغماءٍ وسَفَرٍ، ومن نسي النيَّةَ أو أكل معتقدًا أنه ليلٌ، فبان نهارًا، أو المرضِعُ والحامِلُ- فقضاؤه على التَّراخي بلا خلافٍ، ما لم يبلُغْ به رمضانَ المُستقبَل) ((المجموع)) للنووي (6/365). ، والحَنابِلة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/334).
الدَّليل منَ السُّنَّة:
عن أبي سَلَمةَ قال: سمعْتُ عائشة رَضِيَ اللهُ عنها تقول: ((كان يكونُ عليَّ الصَّومُ مِن رَمَضانَ، فما أستطيعُ أن أقضِيَه إلَّا في شعبانَ؛ الشُّغُلُ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو برَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) رواه البخاري (1950)، ومسلم (1146).
المطلب الثاني: تأخيرُ قضاءِ رَمَضانَ بغيرِ عُذرٍ حتى دخولِ رَمَضانَ آخَرَ
من أخَّرَ قضاءَ رَمَضانَ حتى دخَلَ رَمَضانُ آخرُ، فقد اختلف فيه أهلُ العِلمِ على قولينِ:
القول الأول: يلزَمُه القضاءُ مع الفِديةِ، وهي إطعامُ مِسكينٍ عن كلِّ يومٍ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: المالكِيَّة ((التمهيد)) لابن عبدِ البَرِّ (7/162)، ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص 84). ، والشَّافِعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/364). ، والحَنابِلة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/236)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/153). ، وهو قول طائفة من السلف قال ابنُ قدامة: (وبهذا قال ابنُ عباس وابن عمر وأبو هريرة ومجاهد وسعيد بن جبير ومالك والثوري والأوزاعي والشَّافعي وإسحاق) ((المغني)) (3/153).
 وذلك لِمَا أفتى به جماعةٌ من أصحابِ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
فعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّه قال في رجلٍ مَرِضَ في رمضانَ، ثم صَحَّ فلم يصُمْ، حتى أدركه رمضانُ آخَرُ، قال: يصومُ الذي أدركه ويُطعِمُ عن الأوَّلِ؛ لكُلِّ يَومٍ مُدًّا مِن حِنطةٍ، لكُلِّ مِسكينٍ، فإذا فَرَغَ من هذا صام الذي فَرَّط فيه)) رواه الدارقطني في ((السنن)) (2/421) وقال: إسناده صحيح موقوف.
كما رُوِيَ عن ابنِ عُمرَ وابنِ عبَّاسٍ أنهما قالا: ((أطعِمْ عن كلِّ يَومٍ مسكينًا)) ولم يُرْوَ عن غيرهم من الصحابة خلافُه ((المغني)) لابن قدامة (3/154).
القول الثاني: لا يلزَمُه إلا القضاءُ فقط، وهذا مذهَبُ الحَنَفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/307)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/104). ، وهو اختيارُ ابنِ حَزمٍ قال ابنُ حزم: (ومن كانت عليه أيامٌ من رَمضانَ فأخَّرَ قضاءَها عمدًا, أو لعذرٍ, أو لنسيانٍ، حتى جاء رمضانُ آخَرُ؛ فإنَّه يصومُ رمضان الذي ورَدَ عليه كما أمره الله تعالى، فإذا أفطَرَ في أوَّلِ شوال قضى الأيَّامَ التي كانت عليه، ولا مزيدَ, ولا إطعامَ عليه في ذلك، وكذلك لو أخَّرَها عدةَ سِنينَ، ولا فَرْقَ إلَّا أنَّه قد أساء في تأخيرِها عمدًا، سواءٌ أخَّرَها إلى رمضانَ، أو مقدار ما كان يُمكِنُه قضاؤُها من الأيام) ((المحلى)) (6/260). ، والشوكاني قال الشوكاني: (وقد بيَّنَّا أنَّه لم يثبت في ذلك عن النبيِّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم شَيءٌ... وذَهابُ الجمهورِ إلى قَولٍ، لا يدلُّ على أنَّه الحَقُّ، والبراءةُ الأصليَّةُ قاضيةٌ بِعَدمِ وُجوبِ الاشتغالِ بالأحكامِ التكليفيَّةِ، حتى يقومَ الدَّليلُ النَّاقِلُ عنها، ولا دليلَ هاهنا، فالظَّاهِرُ عَدَمُ الوُجوبِ) ((نيل الأوطار)) (4/235). ، وابنِ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (إذا ترك الإنسانُ قَضاءَ رَمَضانَ إلى رمضانَ الثاني بلا عُذرٍ، فهو آثمٌ، وعليه أن يقضِيَ ما فاته، ولا إطعام عليه، على القَولِ الصَّحيحِ) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (19/385). ، وهو قولُ بعضِ السَّلَفِ نقل ابنُ المُنذِر هذا القول عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي. ((الإشراف)) (3/147, 148).
الدَّليل من الكتاب:
عمومُ قَولِه تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184]
وجه الدلالة:
أنَّ الله سبحانه وتعالى قد قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وعُمومُه يَشمَلُ ما قضاه قبل رَمَضانَ الثَّاني أو بَعْدَه، ولم يذكُرِ اللهُ تعالى الإطعامَ؛ ولذا فلا يجِبُ عليه إلَّا القَضاءُ فقط ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عُثيمين (212/25).
المطلب الثالث: حكمُ صيامِ التطوُّعِ قبل قضاءِ صِيامِ الفَرضِ
 لا يجِبُ منهم مَن قال بالجوازِ، ومنهم مَن قال بالكراهةِ. أن يقضِيَ المرءُ ما عليه قبل صَومِ التطوُّعِ، إنْ كان الوَقتُ متَّسِعًا، وهذا مذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّة قال ابنُ عابدين: (ولو كان الوجوبُ على الفور لكُرِهَ؛ لأنَّه يكون تأخيرًا للواجِبِ عن وقته الضَّيِّق) ((حاشية ابن عابدين)) (2/423). ، والمالكيَّة ((حاشية الدسوقي)) (1/518). ، والشَّافِعيَّة ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/445). ، وهو روايةٌ عن أحمد قال ابنُ قدامة: (وروي عن أحمد أنَّه يجوزُ له التطوُّعُ؛ لأنها عبادةٌ تتعَلَّقُ بوقتٍ موسَّعٍ) ((المغني)) (3/154 - 155). ؛ وذلك لأنَّ وقتَ القَضاءِ مُوسَّعٌ وليس مُضَيَّقًا ((المصدر السابق)) (3/155).

انظر أيضا: