الموسوعة الفقهية

المطلب الثاني: المِلْكُ التامُّ


الفرع الأوَّل: أنواعُ المِلْكِ
المِلْكُ قِسمانِ:
القسم الأوَّل: المِلْكُ التامُّ:
هو المملوكَ رقبةً ويدًا ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/9)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/263).
وقيل: هو عبارةٌ عمَّا كان بيَدِه ولم يتعلَّقْ به غيرُه؛ يتصرَّفُ فيه على حَسَبِ اختيارِه، وفوائِدُه حاصلةٌ له ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/170).
ومثاله: عامَّةُ الأملاكِ الواردةِ على الأعيانِ المملوكةِ بالأسبابِ المقتَضِيَة لها؛ مِنْ بَيعٍ وهِبةٍ وإرثٍ، وغيرِ ذلك ((أحكام الزَّكاة ومسائلها المعاصرة من خلال شرط الملك)) لصالح المسلم (ص 38، 39).
القسم الثاني: المِلْكُ النَّاقِصُ: وهو أنواع:
النوع الأوَّل: مِلْكُ الرَّقَبة دون مِلْك اليدِ، أي: مِلْكُ العينِ بدون منفعةٍ؛ مثل مَن أُوصِيَ له بشيءٍ، والمنفعةُ لشخصٍ آخَرَ.
النوع الثاني: مِلْكُ اليدِ دون مِلْكِ الرَّقبة، أي: مِلكُ المنفعةِ بدون مِلْك العينِ؛ مثل من أُوصِيَ له بالمنافِعِ، أو مَن وُقِفَ له منافِعُ الشَّيءِ وثَمَراتُه.
النوع الثالث: مِلْكُ الانتفاعِ المجرَّد، مِثل انتفاعِ المستأجِرِ بالعَينِ المستأجَرَةِ، ومنها مِلْكُ المُستعيرِ ((أحكام الزَّكاة ومسائلها المعاصرة من خلال شرط الملك)) لصالح المسلم (ص 36، 40).
الفرع الثاني: اشتراطُ المِلْك التامِّ في وجوبِ الزَّكاة
يُشتَرَط المِلْكُ التامُّ لمال الزَّكاة عمومًا، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّة الأربَعةِ: الحنفيَّة نصَّ بعضُ الحنفيَّة أنَّ المِلْك التامَّ سبب للزَّكاة وليس شرطًا لها. ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/9)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/259). ، والمالكيَّة ((شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني)) (2/ 251)، ويُنظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/743)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/179). ، والشافعيَّة ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/152)، ((الأم)) للشافعي (2/28). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/ 170)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/464)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (2/438). ، وهو قولُ أكثرِ أهلِ العِلم قال ابنُ قدامة: (وهو أنَّ الزَّكاة لا تجب إلا على حرٍّ مسلم تامِّ المِلك، وهو قولُ أكثرِ أهل العِلم، ولا نعلم فيه خلافًا إلَّا عن عطاء وأبي ثور؛ فإنهما قالا: على العبد زكاةُ ماله). ((المغني)) (2/464). قال ابنُ القاسم عند قول المؤلِّف:( (و) الرابع (استقرارُه) أي: تمام المِلك في الجملة) قال: (إجماعًا كسائِمةٍ وغلَّةِ أرضٍ، وشَجرٍ وُقِفَ على معيَّن، إن بلغت نِصابًا وليست مِلكًا تامًّا، فإنَّ معنى تمام المِلك ألَّا يتعلَّق به حقُّ غيرِه، بحيث يكون له التصرُّفُ فيه على حسَبِ اختياره، وفوائدُه عائدة عليه). ((حاشية الروض المربع)) (3/168).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [التوبة: 103]
وجه الدَّلالة:
قولُه: ((أموالهم)) فأضافها إلى أصحابِها، ولا يكون ذلك إلَّا إذا كانت مملوكةً لهم مِلكيَّةً تامَّةً.
ثانيًا: أنَّ بَذْلَ الزَّكاةِ فيه تمليكُ المالِ لمستحِقِّه مِنَ الفقراءِ وغيرِهم، فإذا لم يكُنْ صاحِبُ الزَّكاة مالكًا لهذا المالِ مِلكًا تامًّا، فإنَّه لن يستطيعَ تمليكَ غيرِه مِن مُستحقِّي الزَّكاةِ عند بذلها.
الفرع الثَّالث: زكاةُ المالِ غيرِ مقدورِ الانتفاعِ به مع قيامِ أصلِ المِلْك (المالُ الضِّمار)
المسألة الأولى: مِن صُوَرِ المالِ الضِّمارِ المالُ الضِّمارُ: هو الغائِبُ الذي لا يُرجى، فإذا رُجِيَ فليس بضِمارٍ؛ مِن أضْمَرْتَ الشَّيءَ، إذا غَيَّبْتَه، فهو فِعالٌ بمعنى فاعلٍ، أو مُفعَل. يُنظر: تاج العروس (12/ 404).
المال المفقود.
المال السَّاقط في البحر.
المال المغصوب.
المال الذي صادَره السُّلطان.
الدَّينُ المجحودُ إذا لم يكُنْ للمالك بيِّنةٌ وحال الحولُ، ثم صار له بيِّنةٌ بأن أقرَّ عند النَّاسِ.
المال المدفون في الصَّحَراء إذا خَفِيَ على المالِك مكانُه ((العناية شرح الهداية))) للبابرتي (2/ 164)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/9).
المسألة الثانية: حُكمُ زكاةِ المالِ الضِّمارِ بعد استلامِه
إذا استُلِمَ المالُ الضِّمارُ، فقد اختلفَ أهلُ العِلم في زكاتِه على أقوالٍ، أقواها قولانِ:
القول الأوّل: لا زكاةَ في المالِ الضِّمارِ إذا عاد إلى صاحِبِه، ويستأنِفُ به حولًا جديدًا من اليومِ الذي قبَضَه فيه، وهذا مذهَبُ أبي حنيفةَ ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/223). ، وروايةٌ عن أحمد ((المغني)) لابن قدامة (3/73)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/520، 521). ، وهو قولُ بعضِ السَّلفِ قال الزركشي: (وقد رُوِيَ عن عثمان وابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنْهُمَ أنهما قالا: لا زكاةَ في مال الضِّمار). ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/521). وقال الكمال بن الهمام: (لنا قولُ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه: لا زكاةَ في مالِ الضِّمار). ((فتح القدير)) (2/166). وقال ابنُ حزم: (وقد جاء عن عثمان، وابن عمر: إيجاب الزَّكاة في المقدور عليه، فدل (ذلك) على أنهما لا يريان الزَّكاة في غير المقدور عليه، ولا مخالف لهما من الصحابة رَضِيَ اللهُ عنهم). ((المحلى بالآثار)) (4/ 209). واختارَه ابنُ حزمٍ قال ابنُ حزم: (ومَن تلِف مالُه أو غُصِبَه أو حِيل بينه وبينه؛ فلا زكاة عليه فيه، أيَّ نوعٍ كان من أنواعِ المال، فإن رجع إليه يومًا ما استأنَفَ (به) حولًا من حينئذ، ولا زكاةَ (عليه) لِمَا خلا؛ فلو زكاه الغاصِبُ ضمِنَه كلَّه، وضمن ما أخرَجَ منه في الزَّكاة؛ لأنَّه لا خلاف بين الأمَّة كلِّها في أنَّ صاحِبَ المال إن أحب أن يؤدِّيَ الزَّكاة من نفس المال الذي وجبت فيه الزَّكاة لا من غيره؛ كان ذلك له، ولم يكلَّف الزَّكاة (من سواه) ما لم يبِعْه هو أو يُخرِجْه عن مِلْكه باختياره، فإنَّه حينئذ يكلَّفُ أداءَ الزَّكاة من عند نفسه، فسقط بهذا الإجماعِ تكليفُه أداءَ زكاةٍ مِن عندِ نفسِه؛ ثم لَمَّا صحَّ ذلك، وكان غيرَ قادر على أداء الزَّكاة مِن نفسِ المال المغصوب، أو المُتلَف، أو الممنوع منه- سقط عنه ما عجز عنه من ذلك، بخلاف ما هو قادِرٌ على إحضاره واستخراجِه مِن مَدْفَنِه هو أو وكيله، وما سقط ببرهان لم يعُدْ إلَّا بنصٍّ أو إجماعٍ، وقد كانت الكفَّار يُغِيرونَ على سَرْحِ المسلمين في حياةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فما كلَّف قطُّ أحدًا زكاةَ ما أخذه الكفَّار من ماله. وقد يُسرَق المالُ ويُغصَب فيفرَّق ولا يدري أحدٌ مكانه، فكان تكليفُ أداءِ الزَّكاة عنه من الحرج الذي قد أسقَطَه الله تعالى؛ إذ يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ **الحج: 78**). ((المحلى)) (4/208). ، وابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (لا تجِبُ في دَينٍ مؤجَّلٍ، أو على مُعسِرٍ أو مماطِلٍ أو جاحدٍ، ومغصوبٍ ومسروقٍ وضالٍّ، وما دفَنَه ونَسِيَه أو جَهِلَ عند من هو، ولو حصل في يده، وهو روايةٌ عن أحمد، واختارها وصحَّحها طائفةٌ من الصحابة وقولُ أبي حنيفة). ((الفتاوى الكبرى)) (5/369).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
عمومُ قَولِ اللهِ تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]
وجه الدَّلالةِ:
أنَّ تكليفَ أداءِ زكاةِ ما مضى مِنَ السِّنينَ عن المالِ الضِّمارِ كالمسروق والمغصوب؛ مِنَ الحَرَجِ الذي قد أسقَطَه الله تعالى ((المحلى)) لابن حزم (4/208) رقم (690).
ثانيًا: أنَّ الزَّكاةَ وجبت في مقابَلَة الانتفاعِ بالنَّماءِ حقيقةً أو مَظِنَّةً، بدليلِ أنَّها لا تجِبُ إلَّا في مالٍ نامٍ، فلا تجب في العَقارِ ونحوه، وحقيقةُ النَّماءِ ومَظِنَّتُه منتفِيَةٌ ها هنا؛ لعدم القدرةِ على التصرُّفِ ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/521)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/166).
ثالثًا: أنَّ المالَ الضِّمارَ غيرُ منتفَعٍ به في حقِّ المالِك؛ لعدمِ وصولِ يَدِه إليه، والمالُ إذا لم يكُنْ مقدورَ الانتفاعِ به في حقِّ المالِك؛ لا يكونُ المالِك به غنيًّا، ولا زكاةَ على غيرِ الغَنيِّ ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/9).
رابعًا: أنَّ مِن شروطِ وُجوبِ الزَّكاةِ في المال: المِلْكَ التَّامَّ، وهو غيرُ متحقِّقٍ فيه؛ إذ هو مملوكٌ رقبةً لا يدًا ((حاشية ابن عابدين)) (2/259، 260). ، فقد خرج عن يَدِه وتصرُّفِه، فلم تجِبْ عليه زكاتُه، كالمال الذي في يدِ مُكاتِبِه ((المغني)) لابن قدامة (3/73).
القول الثاني: أنَّه لا يجِبُ على مالكِه تزكيتُه وقتَ قَبضِه إلَّا لعامٍ واحدٍ، وهو مذهب المالكيَّة ((منح الجليل)) لعليش (2/ 42)، ويُنظر: ((المنتقى شرح الموطأ)) لأبي الوليد الباجي (2/113)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/180). ، وبه قالتْ طائفةٌ مِنَ السَّلفِ قال شمس الدين ابن قدامة: (وعن عُمرَ بنِ عبد العزيز والحسن والليث والأوزاعي ومالك: يزكِّيه إذا قبضه لعامٍ واحد؛ لأنَّه كان في ابتداءِ الحولِ في يده، ثم حصل بعد ذلك في يده، فوجب ألَّا تسقُطَ الزَّكاةُ عن حولٍ واحدٍ). ((الشرح الكبير)) (2/443). ، واختارَه ابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (أمَّا إذا كان على مماطِلٍ أو مُعسرٍ، فلا زكاةَ عليه ولو بقِيَ عَشْرَ سنواتٍ؛ لأنَّه عاجزٌ عنه، ولكن إذا قبضه يُزكِّيه مرَّةً واحدةً في سنة القبضِ فقط، ولا يلزَمُه زكاةُ ما مضى. وهذا القول قد ذكره الشيخ العنقريُّ في حاشِيَته عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأحفادِه رحمهم الله، وهو مذهبُ الإمام مالك رحمه الله، وهذا هو الرَّاجِحُ).  ثم قال: (ومثلُ ذلك، المالُ المدفونُ المنسِيُّ، فلو أنَّ شخصًا دفن مالَه؛ خوفًا من السَّرِقة ثم نَسِيَه، فيزكيه سنةَ عُثورِه عليه فقط. كذلك المالُ المسروقُ إذا بَقِيَ عند السَّارِقِ عدَّة سنواتٍ، ثم قدَر عليه صاحِبُه، فيزكِّيه لسنةٍ واحدة، كالدَّين على المعسِر). ((الشرح الممتع)) (6/27، 28).
الأدلَّة:
أوَّلًا: أنَّ الزَّكاة تجبُ في العَينِ بأن يتمكَّنَ مِن تنمِيَتِه، ولا تكونَ في يدِ غَيرِه، وهذا مالٌ قد زال عن يَدِه ومُنِعَ عن تنمِيَتِه، فلم تجِبْ عليه لِمَا مضى من السَّنواتِ ((المنتقى شرح الموطأ)) لأبي الوليد الباجي (2/113).
ثانيًا: أنَّ المالَ قد نضَّ أي: تحوَّل عينًا بعد أن كان متاعًا. ((المصباح المنير)) للفيومي (2/610). في يَدِه في طرَفَيِ الحولِ، ولو كانت أحوالًا؛ فإنَّه حصل منها حولٌ واحدٌ نضَّ في طرَفَيه المالُ في يدِ صاحِبِه، ولا اعتبارَ بما بين ذلك؛ لأنَّ الغاصِبَ لو غصَبَه منه يومًا، ثم ردَّه إليه لم يُعتَبَر ذلك في إسقاطِ الزَّكاةِ عنه في ذلك الحولِ، فلو غصَبَه منه ثم حال الحَوْلُ لم تجِبْ عليه فيه زكاةٌ حتى يردَّه إليه، فثبت أنَّ الاعتبارَ بحُصولِ المالِ في يدِ صاحِبِه طَرَفَيِ الحولِ ((المنتقى شرح الموطأ)) لأبي الوليد الباجي (2/113).
الفرع الرابع: زكاةُ المالِ الحرام
المسألة الأولى: تعريفُ المالِ الحرامِ
المالُ الحرامُ: هو كلُّ مالٍ حظَر الشَّارِعُ اقتناءَه أو الانتفاعَ به، سواءٌ كان لحُرمَتِه لِذاتِه، بما فيه من ضررٍ أو خَبَثٍ، كالمَيْتَةِ والخَمر، أم لحُرمَتِه لغيره؛ لوقوعِ خللٍ في طريقِ اكتسابِه؛ لأخْذه مِن مالكِه بغير إذنِه كالغصبِ، أو لأخذِه منه بأسلوبٍ لا يقرُّه الشَّرعُ ولو بالرِّضا؛ كالرِّبا والرِّشوةِ ((ندوات قضايا الزَّكاة المعاصرة – الندوة الرابعة)) (ص607)، ((أحكام وفتاوى الزَّكاة والنذور والكفارات)) - بيت الزَّكاة الكويتي (ص101)، ((أبحاث فقهيَّة في قضايا الزَّكاة المعاصرة - أحكام المال الحرام، وحكم إخراج زكاته)) لمحمد الأشقر (1/79).
المسألة الثانية: زكاةُ المالِ الحرامِ
المالُ الحرامُ لا تجِبُ فيه زكاةٌ، ولا تَبرأُ ذمَّتُه إلَّا بالتخلُّصِ منه؛ بردِّه إلى صاحِبِه إن عَرَفه، أو التصدُّقِ به عنه إن يَئِسَ مِن مَعرِفَته ((ندوات قضايا الزَّكاة المعاصرة – الندوة الرابعة)) (ص607). ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((حاشية ابن عابدين)) (2/291، 5/99)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/154). ، والمالكيَّة ((الشرح الكبير)) للدردير (1/431)، ويُنظر: ((حاشية الصاوي)) (1/588). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (9/352)، ويُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/134). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/19)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/173). ، واختارَه ابنُ حزمٍ قال ابنُ حزم: (لا تُقبل صدقةٌ مِن مال حرام، بل يَكتسِبُ بذلك إثمًا زائدًا؛ لقولِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ دماءَكم وأموالَكم عليكم حرامٌ)، فكلَّما تصرَّفَ في الحرامِ فقد زاد معصيةً، وإذا زاد معصيةً زاد إثمًا؛ قال الله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ **النساء: 123**) ((المحلى)) (8/122). وقال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (اختلفوا فيما يَفعَلُ بما غَلَّ إذا افترق أهلُ العسكرِ ولم يصِلْ إليهم؛ فقال جماعةٌ من أهل العِلم: يدفَعُ إلى الإمام خُمُسَه ويتصدَّق بالباقي، وهذا مذهب الزُّهري ومالك والأوزاعي والليث والثوري، ورُوي ذلك عن عُبادة بن الصامت ومعاوية بن أبي سفيان والحسن البصري، وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس؛ لأنَّهما كانا يريان أن يتصدَّقَ بالمالِ الذي لا يعرِفُ صاحِبَه، وذكر بعضُ الناس عن الشافعي أنَّه كان لا يرى الصدقةَ بالمال الذي لا يعرف صاحِبَه، وقال: كيف يتصدَّق بمالِ غيره؟! وهذا عندي معناه فيما يمكنُ وجودُ صاحبه والوصولُ إليه أو إلى ورَثَتِه، وأمَّا إنْ لم يُمكِنْ شيءٌ من ذلك؛ فإنَّ الشافعي رحمه الله لا يكره الصَّدقةَ به حينئذٍ- إن شاء الله). ((التمهيد)) (2/24)، وينظر: ((تفسير القرطبي)) (4/260، 261). وقال ابنُ رجب: (الوجه الثاني من تصرُّفات الغاصب في المال المغصوب: أن يتصدَّقَ به عن صاحِبِه إذا عجز عن ردِّه إليه أو إلى وَرَثَته، فهذا جائزٌ عند أكثَرِ العلماء؛ منهم مالك، وأبو حنيفة، وأحمد وغيرهم). ((جامع العلوم والحكم)) (1/267). وقال ابنُ رجب: (لو تصدَّق الغاصِبُ بالمالِ؛ فإنَّه لا تقع الصدقةُ له ولا يُثاب عليه؛ قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا يَقبلُ اللهُ صلاةً بغير طُهورٍ، ولا صدقةً من غُلولٍ)، ولا يُثاب المالِكُ على ذلك أيضًا؛ لعدم نِسْبَتِه إليه، ذكره ابن عقيل في فنونه ونقل عنه، ونقل نحوه عن سعيد بن المسيَّب، ومن الناس من قال: يثابُ المالك عليه، ورجَّحه بعضُ شيوخنا؛ هذا الذي تولَّد من مال اكتسَبَه فيُؤجَر وإنْ لم يقصِدْه، كما يُؤجَر على المصائِبِ التي تولِّدُ له خيرًا، وعلى عملِ ولَدِه الصَّالِحِ، وعلى ما ينتفِعُ به النَّاسُ والدَّوابُّ مِن زَرْعِه وثِمارِه). ((القواعد)) لابن رجب (4/184). وقال ابنُ تيمية: (المالُ إذا تعذَّر معرفةُ مالِكِه صُرِفَ في مصالِحِ المسلمينَ عند جماهيرِ العلماءِ؛ كمالك وأحمد وغيرهما، فإذا كان بيَدِ الإنسانِ غُصُوبٌ أو عَواريُّ أو ودائِعُ أو رُهونٌ قد يئس من معرفةِ أصحابها؛ فإنَّه يتصدَّق بها عنهم، أو يصرِفُها في مصالح المسلمين، أو يسلِّمُها إلى قاسِمٍ عادلٍ يَصْرِفها في مصالحِ المسلمينِ المصالحَ الشرعيَّة). ((مجموع الفتاوى)) (29/321). وقال ابنُ حجر: (قال القرطبيُّ: وإنَّما لا يقبَلُ اللهَ الصدقةَ بالحرامِ؛ لأنَّه غير مملوكٍ للمتصدِّقِ، وهو ممنوعٌ من التصرُّف فيه، والمتصدِّقُ به متصرِّفٌ فيه، فلو قُبِلَ منه لَزِمَ أن يكون الشيءُ مأمورًا منهيًّا من وجهٍ واحدٍ، وهو محالٌ). ((فتح الباري)) لابن حجر (3/279).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة: 103]
وجه الدَّلالة:
أنَّ الآيةَ تدلُّ على أنَّ الزَّكاةَ تطهِّرُ المزكِّيَ والمالَ المزكَّى، والمالُ الحرامُ غيرُ قابلٍ للتطهيرِ؛ لأنَّه خَبَثٌ فلا يَطْهُرُ ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (23/248).
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: إنِّي سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((لا تُقبَلُ صلاةٌ بغيرِ طُهورٍ، ولا صَدَقةٌ مِن غُلولٍ )) رواه مسلم (224).
وجه الدَّلالة:
أنَّه نصَّ على أنَّه لا زكاةَ في الغُلولِ، والغُلولُ: هو الخيانةُ في المَغنَمِ، والسَّرقةُ مِنَ الغنيمةِ قبل القِسمَةِ ((النهاية)) لابن الأثير (3/380).
2- عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أيُّها النَّاسُ، إنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يَقبَلُ إلَّا طيِّبًا، وإنَّ اللهَ أمَرَ المؤمنينَ بما أمَرَ به المرسَلينَ، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172] ثم ذكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفرَ، أشعثَ أغبَرَ، يمدُّ يَدَيه إلى السَّماءِ، يا ربِّ! يا ربِّ! ومَطعمُه حرامٌ، ومَشرَبُه حرامٌ، وملبَسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرامِ؛ فأنَّى يُستجابُ لذلك؟! )) رواه مسلم (1015).
ثالثًا: أنَّ مَن بِيَدِه مالٌ حرامٌ وجب عليه إخراجُه كلِّه؛ إمَّا ردًّا على المالِك إن عَرَفَه، أو صرفًا إلى الفُقراءِ إن لم يَعرِفِ المالِكَ ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/134)، وينظر: ((حاشية ابن عابدين)) (2/291).
رابعًا: أنَّ تمامَ المِلكِ مِن شُروطِ وُجوبِ الزَّكاة، والذي في يَدِه هذا المالُ الحرامُ لا يملِكُه ((أبحاث فقهيَّة في قضايا الزَّكاة المعاصرة أحكام المال الحرام، وحكم إخراج زكاته)) لمحمد الأشقر (1/90).
خامسًا: أنَّ الزَّكاةَ تَمليكٌ، وغيرُ المالِك لا يكونُ منه تمليكٌ ((حاشية الشلبي)) مع ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/250).
الفرع الخامس: زكاةُ الدَّينِ
المسألة الأولى: زكاةُ الدَّينِ الذي لا يُرجى أداؤُه 
لا تجِبُ زكاةُ الدَّينِ الذي لا يُرجى أداؤُه كالدَّين على مُعسِرٍ أو مماطِلٍ أو جاحدٍ. ينظر: ((الأموال)) للقاسم بن سلام (ص: 531)، ((المحلى)) لابن حزم (4/208)، ((المنتقى شرح الموطأ)) للباجي (2/114)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/369)، ((منح الجليل)) لعليش (2/ 61). والدين الذي لا يرجى أداؤه عند الحنفية هو الدين المجحود إذا لم يكن عليه بينة. ينظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/223). ، فإنْ قبَضَه فقد اختلف أهلُ العِلم في زكاته على أقوالٍ، أقواها قولان:
القول الأوّل: إذا قبضه استأنَفَ له حولًا جديدًا مِن يومِ قَبضِه، وهذا مذهَبُ الحنفية قال ابن نجيم: (ومال الضمار هو الدين المجحود والمغصوب إذا لم يكن عليهما بينة فإن كان عليهما بينة وجبت الزكاة إلا في غصب السائمة فإنه ليس على صاحبها الزكاة وإن كان الغاصب مقرا  كذا في الخانية  وفيها أيضا من باب المصرف الدين المجحود إنما لا يكون نصابا إذا حلفه القاضي وحلف أما قبل ذلك يكون نصابا حتى لو قبض منه أربعين درهما يلزمه أداء الزكاة اهـ.  وعن محمد لا تجب الزكاة وإن كان له بينة لأن البينة قد لا تقبل والقاضي قد لا يعدل وقد لا يظهر بالخصومة بين يديه لمانع فيكون في حكم الهالك وصححه في التحفة كذا في غاية البيان وصححه في الخانية أيضا وعزاه إلى السرخسي، ومنه المفقود والآبق والمأخوذ مصادرة والمال الساقط في البحر والمدفون في الصحراء المنسي مكانه فلو صار في يده بعد ذلك فلا بد له من حول جديد لعدم الشرط) ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/223)، وينظر: ((درر الحكام)) للملا خسرو (1/173)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/167). ، وروايةٌ عن أحمد ((المغني)) لابن قدامة (3/71)، ((الفروع وتصحيح الفروع)) لابن مفلح (3/447). ، وبه قالتْ طائفةٌ مِنَ السَّلفِ قال ابنُ قدامة: (إحداهما: لا تجِبُ، وهو قول قتادة، وإسحاق، وأبي ثور، وأهل العراق؛ لأنَّه غيرُ مقدورٍ على الانتفاع به، أشبَهَ مالَ المكاتَب). ((المغني)) (3/71). وقال أيضًا: (وقال عكرمة: ليس في الدَّينِ زكاة. ورُوي ذلك عن عائشة وابنِ عمر رَضِيَ اللهُ عنهم). ((المغني)) (3/71). ، واختارَه ابنُ حزمٍ قال ابنُ حزم: (ومَن تلِف مالُه أو غُصِبَه أو حِيل بينه وبينه؛ فلا زكاة عليه فيه، أيَّ نوعٍ كان من أنواعِ المال، فإن رجع إليه يومًا ما استأنَفَ (به) حولًا من حينئذ، ولا زكاةَ (عليه) لِمَا خلا؛ فلو زكاه الغاصِبُ ضمِنَه كلَّه، وضمن ما أخرَجَ منه في الزَّكاة؛ لأنَّه لا خلاف بين الأمَّة كلِّها في أنَّ صاحِبَ المال إن أحب أن يؤدِّيَ الزَّكاة من نفس المال الذي وجبت فيه الزَّكاة لا من غيره؛ كان ذلك له، ولم يكلَّف الزَّكاة (من سواه) ما لم يبِعْه هو أو يُخرِجْه عن مِلْكه باختياره، فإنَّه حينئذ يكلَّفُ أداءَ الزَّكاة من عند نفسه، فسقط بهذا الإجماعِ تكليفُه أداءَ زكاةٍ مِن عندِ نفسِه؛ ثم لَمَّا صحَّ ذلك، وكان غيرَ قادر على أداء الزَّكاة مِن نفسِ المال المغصوب، أو المُتلَف، أو الممنوع منه- سقط عنه ما عجز عنه من ذلك، بخلاف ما هو قادِرٌ على إحضاره واستخراجِه مِن مَدْفَنِه هو أو وكيله، وما سقط ببرهان لم يعُدْ إلَّا بنصٍّ أو إجماعٍ، وقد كانت الكفَّار يُغِيرونَ على سَرْحِ المسلمين في حياةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فما كلَّف قطُّ أحدًا زكاةَ ما أخذه الكفَّار من ماله. وقد يُسرَق المالُ ويُغصَب فيفرَّق ولا يدري أحدٌ مكانه، فكان تكليفُ أداءِ الزَّكاة عنه من الحرج الذي قد أسقَطَه الله تعالى؛ إذ يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ **الحج: 78**). ((المحلى)) (4/208) رقم (690). ، وابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (لا تجِبُ في دَينٍ مؤجَّلٍ، أو على مُعسِرٍ أو مماطِلٍ أو جاحدٍ، ومغصوبٍ ومسروقٍ وضالٍّ، وما دفَنَه ونَسِيَه أو جَهِلَ عند من هو، ولو حصل في يده، وهو روايةٌ عن أحمد، واختارها وصحَّحها طائفةٌ من الصحابة وقولُ أبي حنيفة). ((الفتاوى الكبرى)) (5/369). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (لأنَّ هذا المالَ غيرُ موثوقٍ بحصوله، فهو يُشبِهُ الدَّين على المعسِر، والصحيح: أنَّه لا تجِبُ فيه زكاة حتى يقبِضَه صاحبُه ويستقبِلَ به حولًا جديدًا). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (14/40). ، وبه صدَرَ قرارُ المجمَعِ الفقهيِّ بجُدَّةَ ضمِنَ قراراتِ وتوصيات مجمَعِ الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي (تجب الزَّكاةُ على رَبِّ الدَّين بعد دَوَرانِ الحول من يوم القبضِ، إذا كان المَدينُ مُعسِرًا أو مماطِلًا). ((مجلة المجمع الفقهي- العدد الثاني)).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]
وجه الدَّلالة:
أنَّ في تكليفِ أداءِ الزَّكاةِ للمالِ الذي كان في حُكْمِ الميؤُوسِ منه حَرجًا، وقد أسقَطَه الله تعالى ((المحلى)) (4/208) رقم (690).
ثانيًا: مِنَ الآثارِ 
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (ليس في الدَّينِ زكاةٌ) رواه عبدالرزاق في ((المصنف)) (4/100)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/163) من حديث عائشة رَضِيَ اللهُ عنها موقوفًا. وحسَّنه الألباني في ((إرواء الغليل)) (784)
ثالثًا: أنَّه لا خلافَ بين الأمَّة في أنَّ صاحِبَ المال إن أحبَّ أن يؤدِّيَ الزَّكاة من نفْسِ المالِ الذي وجَبَت فيه الزَّكاة كان ذلك له، ولم يكلَّفِ الزَّكاةَ مَن سواه، ولَمَّا كان غيرَ قادرٍ على أداءِ الزَّكاةِ مِن نفسِ المالِ؛ سقط عنه ما عجز عنه من ذلك ((المحلى)) لابن حزم (4/208) رقم (690).
رابعًا: أنه مالٌ غير نامٍ، فلم تجِبْ زكاتُه، كعُروضِ القُنيَةِ القِنية: (المال الذي يُؤثِّلُه الرجلُ ويلَزَمُه ولا يبيعه ليستغلَّه؛ كالذي يقتني عقدةً تغِلُّ عليه ويبقى له أصلُها، وأصلُه مَنْ قَنيتُ الشَّيءَ أقناه: إذا لزِمْتَه وحَفِظْتَه، ويقال: قَنَوتُه أقنوه بهذا المعنى؛ قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى **النجم: 48** أي: أعطى قِنيةً مِنَ المال يبقى أصلُها وتزكو منافِعُها ورِيعُها، كالإبِلِ والغَنَمِ تُقتنى للنتاج وما أشبهها، فينتفِعُ مُقتنيها بنَسْلِها وألبانها وأوبارِها، وأصلُها باقٍ له). ((الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي)) للهروي (ص: 109). ((المغني)) لابن قدامة (3/71).
خامسًا: أنَّه مالٌ لم يكُن مقدورًا على الانتفاعِ به، فأشبَهَ مالَ المُكاتَبِ ((المغني)) لابن قدامة (3/71).
القول الثاني: أنَّه يزكِّيه إذا قبَضَه لعامٍ واحدٍ، وهذا مذهَبُ المالكيَّة ((منح الجليل)) لعليش (2/ 61)، ويُنظر: ((المنتقى شرح الموطأ)) للباجي (2/114)، ((حاشية الصاوي)) لأحمد بن محمد الخلوتي (1/632). ، وهو قولُ بعضِ السَّلَفِ قال ابنُ قدامة: (وعن عمر بن عبد العزيز، والحسن، واللَّيث، والأوزاعي، ومالك: يزكِّيه إذا قبضه لعامٍ واحدٍ). ((المغني)) (3/71). ، واختاره ابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (أمَّا إذا كان على مماطِلٍ أو مُعسرٍ، فلا زكاةَ عليه ولو بقِيَ عَشْرَ سنواتٍ؛ لأنَّه عاجزٌ عنه، ولكن إذا قبضه يُزكِّيه مرَّةً واحدةً في سنة القبضِ فقط، ولا يلزَمُه زكاةُ ما مضى. وهذا القول قد ذكره الشيخ العنقريُّ في حاشِيَته عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأحفادِه رحمهم الله، وهو مذهبُ الإمام مالك رحمه الله، وهذا هو الرَّاجِحُ) ((الشرح الممتع)) (6/27، 28)
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ مِن شَرْطِ وجوبِ الزَّكاة: القدرة على الأداءِ، فمتى قدَرَ على الأداءِ زكَّى ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/28).
ثانيًا: أن الزَّكاة لو وجبتْ فيها في كلِّ عامٍ، ونَماؤُها بيَدِ غيرِه له؛ لأدَّى ذلك إلى أنْ تستهلِكَها الزَّكاةُ؛ ولهذا الوجهِ لم تجِبِ الزَّكاةُ في أموالِ القِنيةِ؛ لأنَّه لو وجب فيها الزَّكاةُ لاستهلَكَتْها، والزَّكاةُ إنما هي على سبيلِ المواساةِ في الأموالِ التي تَمَكَّنَ من تنمِيَتِها، فلا تُفْنِيها الزَّكاةُ في الأغلب ((المنتقى شرح الموطأ)) للباجي (2/114).
ثالثًا: إنما كان عليه زكاتُها زكاةً واحدةً ولو مكثَتْ عَشْرَ سنينَ؛ لأنَّ الاعتبارَ أن ينِضَّ نضَّ الثَّمَنُ: حصل وتعجَّلَ؛ يقال ما نضَّ بيدي منه شيءٌ، أي: ما حصل. ونَضَّ يَنِضُّ نضيضًا: إذا أمكَنَ وتيسَّرَ. ((تاج العروس)) للزَّبيدي (19/ 73)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 610). بيَدِه في طَرَفَيِ الحَوْلِ، وهذه المدَّةُ التي كان المالُ في يَدَيِ المَدينِ لم يَنِضَّ المالُ في يدِ المالِك إلَّا في أوَّلِها وآخِرِها، فصارت بمنزلةِ حَولٍ واحدٍ ((المنتقى شرح الموطأ)) للباجي (2/114).
المسألة الثانية: زكاةُ الدَّينِ على المَليءِ الباذِل
إذا كان الدَّينُ على مليءٍ باذلٍ؛ فإنَّه تجِبُ زكاتُه على مالِكِه لكلِّ عامٍ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ منَ الحنفيَّة للحنفيَّة تفصيلٌ أطوَلُ في المسألة، وتقسيمٌ للدَّينِ إلى ثلاثة أقسام، لكلِّ قسمٍ حُكم مستقلٌّ. ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/ 223)، ويُنظر: ((درر الحكام)) للملا خسرو (1/173)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/167). ، والشافعيَّة ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (3/335)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/131). ، والحَنابِلَة ((الفروع)) لابن مفلح (3/450)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/70، 71).   
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ عبدِ القاري، قال: (كنتُ على بيتِ المالِ زمنَ عُمَرَ بنِ الخطَّاب، فكان إذا خرج العطاءُ جَمع أموالَ التجَّارِ، ثمَّ حسَبَها شاهِدَها وغائِبَها، ثم أخذ الزَّكاةَ مِن شاهِدِ المالِ على الشَّاهِدِ والغائِبِ) رواه القاسم بن سلام في ((الأموال)) (887)، وابن زنجويه في ((الأموال)) (1686) صححه ابن حزم في ((المحلى)) (5/234)
ثانيًا: أنَّ الدَّينَ على مليءٍ؛ مملوكٌ له يقدِرُ على الانتفاعِ به، وبإمكانِه الوصولُ إليه، فهو بمنزلةِ ما في يَدِه، فلزِمَتْه زكاتُه، كسائِرِ أموالِه ((الأموال)) للقاسم بن سلام (ص: 531)، ((درر الحكام)) للملا خسرو (1/173).
المسألة الثالثة: تأخيرُ إخراجِ زكاةِ الدَّينِ إلى وقتِ القَبضِ
يجوز تأخيرُ إخراجِها إلى أن يقبِضَ دَينَه، وهو مذهَبُ الحنفيَّة ((حاشية ابن عابدين)) (2/ 305)، ((درر الحكام)) للملا خسرو (1/173)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/167). ، والحَنابِلَة ((الفروع وتصحيح الفروع)) لابن مفلح (3/450)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/70، 71). ، واختارَه ابنُ باز قال ابنُ باز: (فإن كان مليئًا باذلًا فعليك زكاته كلَّما حال الحَوْلُ، ولا مانِعَ من تأخير إخراجِه حتى تقبضَه منه، ثم تزكيه عمَّا مضى من السَّنواتِ، ولكن زكاتُه كلَّ سَنة أفضَلُ وأحوَطُ؛ حذرًا من الموتِ أو النِّسيانِ). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (14/43). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (والصحيح: أنَّه تجِبُ الزَّكاةُ فيه كلَّ سَنة، إذا كان على غنيٍّ باذلٍ؛ لأنَّه في حُكم الموجودِ عندك؛ ولكن يؤدِّيها إذا قبض الدَّين، وإن شاء أدَّى زكاتَه مع زكاةِ ماله، والأوَّلُ رُخصة، والثاني فضيلة، وأسرَعُ في إبراءِ الذمَّة). ((الشرح الممتع)) (6/27). ، وبه صدَرَ قرارُ نَدَواتِ قضايا الزَّكاة المعاصرة ضمن قرارات ندوات قضايا الزَّكاة المعاصرة: (للدَّائِنِ أن يؤخِّرَ إخراجَ الزَّكاةِ عن الدَّينِ المؤجَّلِ الذي وجبَتْ عليه زكاتُه إلى حين استيفائِه كليًّا أو جزئيًّا، فإذا استوفاه أخرَجَ زكاته عن المدَّة الماضية محسومًا منها المدَّة التي تعذَّر عليه فيها استيفاؤه إن وُجِدَت). ((ندوات قضايا الزَّكاة المعاصرة – الندوة الحادية عشرة والثانية عشرة)) (2/406)
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنه دَينٌ ثابتٌ في الذمَّة، فلم يلزَمْه الإخراجُ قبل قَبضِه، كما لو كان على مُعسِرٍ ((المغني)) لابن قدامة (3/71).
ثانيًا: أنَّ الزَّكاةَ تَجِبُ على طريقِ المواساةِ، وليس مِنَ المواساة أن يُخرِجَ زكاةَ مالٍ لا ينتفِعُ به ((المغني)) لابن قدامة (3/71).
ثالثًا: هناك احتمالٌ بأنْ يتلَفَ مالُ مَن عليه الدَّينُ، أو يَعسُرُ، أو يُجحَد نسيانًا أو ظلمًا، فلمَّا كان هذا الاحتمالُ قائمًا؛ رُخِّص له أن يؤخِّرَ إخراجَ الزَّكاة حتى يقبِضَه ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/26).

انظر أيضا: