الموسوعة الفقهية

المطلَبُ الأَوَّلُ: حُكْمُ الخُطبة بعدَ صَلاةِ الكُسوفِ


اختلفَ العلماءُ في حكْمِ الخُطبَةِ بعدَ صَلاةِ الكسوفِ على قولينِ:
القَوْلُ الأَوَّلُ: لا تُشرَعُ الخُطبةُ لصلاةِ الكُسوفِ، وهذا مذهَبُ الجمهورِ: الحَنَفيَّة (الدر المختار للحصكفي، مع حاشية ابن عابدين)) (2/182)، ((الفتاوى الهندية)) (1/ 153). ، والمالِكيَّة ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (1/402)، وينظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/ 657-658)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/ 107). وهم يَرَوْنَ استحبابَ قيامِ الإمامِ بالوعْظِ وتذكيرِ النَّاسِ بعد الصلاةِ، وحَثِّهم على الصَّدَقة والعِتْق والصِّيام، ويُفَرِّقون بين هذا الوَعْظِ وبين الخُطْبَة. ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (2/ 314)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/62).
وذلك للآتي:
أولا: لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَرَهم بالصَّلاةِ والدُّعاءِ والتكبيرِ والصَّدَقة، ولم يأمُرْهم بخُطبةٍ، ولو كانت سُنَّةً لأَمَرَهم بها، وإنَّما خَطبَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد الصَّلاةِ لِيُعَلِّمَهم حُكْمَها، وهذا مختَصٌّ به، ليس في الخَبَرِ ما يدلُّ على أنَّه خَطَبَ خُطْبَتَيِ الجُمُعةِ ((المغني)) لابن قدامة (2/ 315).
ثانيًا: لأنَّ جماعةً من الصحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ منهم عليُّ بنُ أبي طالبٍ، والنُّعمانُ بن بَشيرٍ، وابنُ عبَّاسٍ، وجابِرٌ، وأبو هُريرةَ، نقلوا صِفَةَ صلاةِ الكُسوفِ، ولم يَذْكُر أحدٌ منهم أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خَطَب فيها، وما صدر مِنْ تسمِيَةِ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها لِمَا صَدَرَ منه خُطبةً؛ فمحمولٌ على أنَّه أتى بكلامٍ يُشْبِهُ الخُطبةَ؛ حيث أتى بكلامٍ منظومٍ، فيه حَمْدُ اللهِ وصَلاةٌ على الرَّسُولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على طريقَةِ الخُطبةِ؛ فسَمَّتْها خُطبةً ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/ 657-658)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/ 107).
ثالثًا: أنَّ ما ورَدَ مِن خُطْبَتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يوم مات ابنُه إبراهيمَ وكَسَفَت الشمسُ؛ فإنَّما كان للردِّ على من قال: إنَّها كَسَفَت لموته، لا لأنَّها مشروعةٌ له؛ ولذا خَطَبَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد الانجلاءِ، ولو كانت سُنَّةً له لخَطَبَ قبله كالصَّلاةِ والدُّعاءِ ((حاشية ابن عابدين على الدر المختار)) (2/182).
القول الثاني: تُشْرَع الخُطبةُ لصلاةِ الكُسوفِ، وهو مذهَبُ الشافعيَّة ((تحفة المحتاج)) للهيتمي (3/60)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (2/408). ، وقَوْلٌ للحنَفِيَّة ((الدر المختار للحصكفي، مع حاشية ابن عابدين)) (2/182). ، وروايةٌ عن أحمَدَ ((الإنصاف)) للمرداوي (2/314). ، وقولُ جمهورِ السَّلَف قال النوويُّ: (قد ذكَرْنا أنَّ مذهبنا استحبابُ خُطبتين بعد صلاةِ الكسوف، وبه قال جمهورُ السلف، ونقَلَه ابنُ المنذر عن الجمهور) ((المجموع)) (5/53). ، وأكثرِ أئمَّةِ الحديثِ قال الصَّنعانيُّ: (وفي قوله: (فخطب الناس) دليلٌ على شرعية الخُطبة بعد صلاة الكسوف، وإلى استحبابها ذهَب الشافعيُّ وأكثرُ أئمَّة الحديث) ((سبل السلام)) (2/75). ، واختاره إسحاقُ قال ابنُ بَطَّال: (فقال الشافعيُّ، وإسحاق، والطبريُّ: يخطب بعد الصَّلاة في الكسوف كالعِيدين والاستسقاء) ((شرح صحيح البخاري)) (3/35). ، والطَّبريُّ ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (3/35). ، وابنُ بازٍ قال ابن باز: ( تُسنُّ الخُطبة بعدَ صلاة الكسوف؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فعل ذلك، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن رغِب عن سُنَّتي، فليس منِّي))، ولِمَا في ذلك من المصلحة العامَّة للمسلمين، وتفقيههم في الدِّين، وتحذيرهم من أسباب غضبِ الله وعِقابه، ويَكفي أنْ يَفعل ذلك وهو في المصلَّى بعد الفراغ من الصلاة) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (13/44). ، وابنُ عثيمينَ قال ابن عثيمين: (يُسَنُّ للإنسانِ إذا صلَّى صلاةَ الكسوفِ أن يقومَ فيخْطُب النَّاسَ ويُذَكِّرهم ويُخَوِّفهم؛ كما فعل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) ((شرح رياض الصالحين)) (1/535)، وينظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/188) وقال أيضًا: (والأفضلُ فيها- أي: صلاة الكسوف- أن يَجتمع الناسُ في المساجد الجوامع، وأنْ يَجهرَ الإمام بالقراءة، وأن يَخطُبَهم إذا فرَغ من الصَّلاة خطبةً يعظهم فيها، كما فعَل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (16/33).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
1- عن عائشةَ أنَّها قالت: ((خَسَفتِ الشَّمسُ في عهدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصلَّى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنَّاسِ، فقام فأطال القيامَ، ثم ركعَ فأطال الركوعَ، ثم قام فأطال القيامَ وهو دُونَ القيامَ الأوَّلَ، ثم ركع فأطال الرُّكوعَ وهو دون الرُّكوعِ الأوَّلِ، ثم سجد فأطال السُّجودَ، ثم فعل في الركعةِ الثَّانية مثلَ ما فعل في الأولى، ثم انصرَفَ وقد انجَلَت الشَّمسُ فخطب النَّاس، فحَمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: إنَّ الشَّمسَ والقمَرَ آيتانِ مِن آياتِ الله، لا يخسفانِ لِمَوتِ أحدٍ ولا لحياتِه، فإذا رأيتُم ذلك، فادْعُوا اللهَ، وكبِّروا وصَلُّوا وتصَدَّقوا))
ثم قال: ((يا أمَّةَ مُحمَّدٍ، واللهِ ما من أحدٍ أغيَرُ من اللهِ أن يزنِيَ عَبدُه أو تزنيَ أمَتُه، يا أمَّةَ مُحمَّدٍ، واللهِ لو تعلمونَ ما أعلَمُ لَضَحِكتُم قليلًا ولبكَيتُم كثيرًا)) [6966] رواه البخاري (1044)، ومسلم (901)
2- عن أسماءَ بِنتِ أبي بَكرٍ، قالت: ((فانصرَف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقدْ تجلَّتِ الشَّمسُ، فخطَب الناسَ، وَحَمِدَ اللهَ بما هو أهْلُهُ، ثم قال: أمَّا بعْدُ...)) رواه البخاري (922)، ومسلم (905).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ هذه الأحاديثَ فيها التصريحُ بالخُطبة، وحِكاية شرائطِها من الحَمدِ والثَّناءِ، والموعظةِ، وغير ذلك ممَّا تَضمَّنتْه، والأصلُ مشروعيةُ الاتِّباع ((فتح الباري)) لابن حجر (2/534).
ثانيًا: أنَّها صلاةُ نفْلٍ سُنَّ لها اجتماعُ الكافَّة، فوجب أن يكونَ مِن شرطها الخُطبة كالعِيدين ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/507).

انظر أيضا: