الموسوعة الفقهية

المطلب الثَّاني: المَيتة النَّجسة


الفرع الأوَّل: لحمُ المَيتةِ
لحمُ المَيتةِ المرادُ بالمَيتةِ هاهنا: الحيوان البَريُّ الذي له نفسٌ سائلةٌ، إذا مات حتْفَ أنفِه بغيرِ ذَكاة، أو بذكاةٍ غير مُعتَبرةٍ شرعًا.  قال الخرشي: ("وميِّت غيرُ ما ذُكِر"، وهو بَريٌّ له نفْسٌ سائلة، مات حتْفَ أنفِه، أو بذَكاةٍ غيرِ شرعيَّة) ((شرح خليل)) (1/398). نَجِسٌ في الجملةِ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه [الأنعام: 145]
وجه الدَّلالة:
أنَّه نصَّ على أنَّ المَيتةَ رِجسٌ، والرِّجسُ بمعنى النَّجِسِ، فتكونُ المَيتةُ نجِسةً، ومن ذلك لَحمُها ((تفسير السعدي)) (1/277)، ((تفسير سورة البقرة)) لابن عثيمين (1/198).
ثانيًا: من الإجماع
نقل الإجماعَ على ذلك: ابنُ حَزمٍ قال ابن حزم: (اتَّفقوا أنَّ لحمَ المَيتةِ وشَحمَها ووَدَكَها وغُضروفَها ومخَّها، وأنَّ لحمَ الخِنزيرِ وشحمَه وودَكَه وغُضروفَه ومخَّه وعصَبَه؛ حرامٌ كلُّه، وكلُّ ذلك نَجِسٌ). ((مراتب الإجماع)) (ص: 23). ، وابنُ رُشدٍ قال ابن رشد: (وأمَّا أنواعُ النَّجاسات، فإنَّ العلماءَ اتَّفقوا مِن أعيانِها على أربعةٍ: ميتةِ الحيوانِ ذِي الدَّمِ الذي ليس بمائي...). ((بداية المجتهد)) (1/76). ، وابنُ قدامةَ قال ابنُ قُدامَة: (لا يختلفُ المذهَبُ في نجاسةِ المَيتة قَبلَ الدَّبغِ، ولا نعلم أحدًا خالف فيه). ((المغني)) (1/49). ، والنوويُّ قال النوويُّ: (أمَّا باقي المَيتاتِ- أي: ما سوى ميتةِ الآدميِّ والسَّمَكِ والجَرادِ- فنَجِسةٌ، ودليلُها الإجماعُ). ((المجموع)) (2/562).
ثالثًا: إذا مات الحيوان حتْفَ أنفِه، احتبَسَ الدَّمُ في عروقِه وتعفَّنَ وفَسَد، وحصَل من أكلِه مضارُّ عظيمةٌ ((الموسوعة الفقهيَّة الكويتيَّة)) (39/383).
رابعًا: أنَّ الله سبحانه حرَّم علينا الخبائِثَ، والخَبَث الموجِبُ للتحريمِ قد يَظهَرُ لنا وقد يَخفَى، فما كان ظاهرًا لم يَنصِب عليه الشَّارِعُ علامةً غير وَصفِه، وما كان خفيًّا نصَب عليه علامةً تدلُّ على خُبثِه، فاحتقانُ الدَّمِ في المَيتةِ سَببٌ ظاهِرٌ، وأمَّا ذبيحةُ المجوسيِّ والمرتدِّ وتاركِ التسميَّةِ، ومَن أهَلَّ بذبيحَتِه لغير الله، فنَفْسُ ذبيحةِ هؤلاء أكسَبَت المذبوحَ خُبثًا أوجَبَ تحريمَه، ولا يُنكِرُ أن يكونَ اسمُ الأوثانِ والكواكِبِ والجنِّ على الذبيحةِ يُكسِبُها خبثًا، وذِكرُ اسْمِ الله وَحْدَه يُكسِبُها طيبًا، إلَّا مَن قلَّ نصيبُه مِن حقائِقِ العِلمِ والإيمانِ وذَوقِ الشَّريعةِ ((أعلام الموقِّعين عن ربِّ العالمين)) (2/173).
الفرع الثَّاني: جِلدُ المَيتةِ
المسألة الأولى: جِلدُ الميتةِ قَبلَ دَبغِه
جِلدُ المَيتةِ نَجِسٌ قَبل دَبْغِه، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (6/88)، ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص 65). ، والمالكيَّة ((منح الجليل)) لعليش (1/51)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/89)، ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (1/27). ، والشَّافعيَّة ((روضة الطالبين)) للنووي (1/27)، وينظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/62). ، والحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/72،324)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/49). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال ابن قدامة: (لا يختلِفُ المذهَبُ في نجاسةِ المَيتةِ قبل الدَّبغ، ولا نَعلَمُ أحدًا خالَفَ فيه). ((المغني)) (1/49). وقال ابن عبدِ البَرِّ: (وبطل بالدَّليلِ منه قَولُ مَن قال إنَّ جلدَ المَيتةِ- وإن لم يُدبَغ- يُستمتَعُ به ويُنتَفَع، وهو قول ابن شهاب، ورُويَ عن الليث بن سعد مثلُه، وذكره مَعمَر بإثر حديثِه المُسنَد المذكور، قال مَعمَر: وكان الزهريُّ يُنكِرُ الدِّباغ ويقول: يُستمتَعُ به- يعني الجِلدَ- على كلِّ حالٍ، قال أبو عبد الله محمَّد بن نصر المروزيُّ: وما علمتُ أحدًا قال ذلك قبل الزهريِّ، وروى الليث عن يونس عن ابنِ شِهابٍ الحديثَ المذكور، ثم قال بإثرِه: فلذلك لا نرى بالسِّقاءِ فيها بأسًا ولا بِبَيعِ جِلدِها وابتياعِه وعَمَلِ الفِرَاءِ منها). ((الاستذكار)) (5/301)
الدليلُ من الكِتاب:
قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام: 145]
وجه الدَّلالة:
أنَّ تحريمَ المَيتةِ والحُكمَ بأنَّها رِجسٌ؛ يعمُّ جميعَ أجزائِها.
المسألة الثانية: حُكم ُجِلدِ الميتةِ إذا دُبِغ
اختَلف أهلُ العِلمِ في حُكمِ جِلدِ المَيتةِ بعدَ الدِّباغِ، على عدَّة أقوالِ؛ أقواها قولان:
القول الأوّل: تطهُرُ قال ابنُ رُشدٍ: (الرَّابع: أنَّه [أي الدِّباغ] يُطهِّر جميعَ الجلودِ، كان ممَّا يُؤكَلُ وتَعمَلُ فيه الذَّكاة، أو ممَّا لا يُؤكَلُ ولا تَعمَلُ فيه الذَّكاةُ، حاشا جِلد الخِنزير، وهذا قول جُلِّ أهلِ العِلم؛ منهم الشافعيُّ وأبو حنيفة، وهو مذهب ابنِ وهب من أصحاب مالك) ((البيان والتحصيل)) (3/357). جلودُ مَيتاتِ جَميعِ الحَيواناتِ يُستثنى من ذلك جلودُ السِّباع؛ لنهيِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنها. إلَّا الكَلبَ والخِنزيرَ، وهذا مذهب الشَّافعيَّةِ قال النوويُّ: (والثالث: يَطهُرُ به كلُّ جلودِ المَيتةِ إلَّا الكَلبَ والخِنزير والمتولِّدَ من أحدهما، وهو مذهَبُنا، وحَكَوه عن عليِّ بن أبي طالب وابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهما) ((المجموع)) (1/217)، وينظر: ((الأم)) للشافعي (1/22). ، ووافَقَهم الحنفيَّة في غيرِ الكَلبِ ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصَّاص (1/293-297)، وقال ابن الهمام: (قوله: "وكلُّ إهابٍ دُبِغَ فقد طهُرَ" يتناول كلَّ جلدٍ يَحتمِلُ الدِّباغةَ، لا ما لا يحتَمِلُه؛ فلا يطهُرُ جِلدُ الحيَّةِ والفأرة به) ((فتح القدير)) (1/92). ، وهو قول طائفة من السلف قال النوويُّ: (ورُوي هذا المذهَبُ عن عليِّ بن أبي طالبٍ وعبد الله بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهما) ((شرح النووي على مسلم)) (4/54).
الأدلَّة:
أولًا: مِن السُّنَّةِ
عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((إذا دُبِغَ الإهابُ فقد طَهُر )) رواه مسلم (366).
ثانيًا: استُثني الخِنزيرُ والكَلبُ؛ لنجاسَتِهما في حالِ حَياتِهما ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/85-86).
القول الثاني: لا يَطهُرُ جِلدُ مَيتةٍ بالدِّباغِ إلَّا ميتةَ مأكولِ اللَّحمِ، وهو روايةٌ عن مالكٍ قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (رَوى أشهبُ عن مالكٍ في المستخرَجة: أنَّ ما لا يُؤكَلُ لَحمُه فلا يَطهُرُ جِلدُه بالدِّباغ. قال: وسُئل مالك: أترى ما دُبِغَ من جلود الدوابِّ طاهرًا؟ فقال: إنما يُقالُ هذا في جلودِ الأنعامِ، فأمَّا جلودُ ما لا يُؤكَل لحمه؛ فكيف يكون جِلدُه طاهرًا إذا دُبِغَ وهو ممَّا لا ذَكاةَ فيه، ولا يُؤكل لحمه؟! قال أبو عمر: لا أعلَمُ أحدًا من الفُقهاء قال بما رواه أشهبُ عن مالكٍ في جِلد ما لا يُؤكَلُ لحمه: أنَّه لا يَطهُرُ بالدِّباغِ، إلَّا أبا ثور إبراهيمَ بن خالد) ((الاستذكار)) (5/294). ، وروايةٌ عن أحمدَ اختارها بعض الحنابلة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/72)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/55). ، وذهب إليه بعضُ السَّلَفِ قال النوويُّ: (المذهب الثاني: يطهُرُ بالدِّباغ جلدُ مأكولِ اللَّحمِ دون غيره، وهو مذهَبُ الأوزاعيِّ وابنِ المبارك، وأبي داود وإسحاق ابن راهويه) ((المجموع)) (1/217). ، وبه قالت طائفةٌ مِن فُقَهاءِ الحديثِ ((التمهيد)) لابن عبدِ البَرِّ (4/182)، ((المجموع)) للنووي (1/217)، ((المغني)) لابن قدامة (1/52)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّة (1/476). ، واختاره ابنُ العربيِّ المالكيُّ قال ابن العربيِّ: (العمومُ إنَّما يتناوَلُ الجلودَ التي كانت مباحةً ثم طرأ عليها التَّحريمُ، فيردُّها الدِّباغُ إلى حال التحليلِ، هذا مقتضى اللَّفظِ، وقد قال أبو عيسى عن النَّضر بن شُميل: إنَّه إنما يقال: إهابٌ في العربية لِما يُؤكَلُ لحمُه، وهو نصٌّ في مسألَتِنا، والله أعلم) ((عارضة الأحوذي)) (7/235). ، وابنُ قُدامةَ الحنبليُّ قال ابن قدامة: (ثم نقول: إنَّ الدَّبغَ إنما يؤثِّرُ في مأكولِ اللَّحم) ((المغني)) (1/52). ، وابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (ومأخذ التردُّدِ: أنَّ الدِّباغَ هل هو كالحياة؛ فيُطهِّرُ ما كان طاهرًا في الحياة؟ أو هو كالذَّكاةِ؛ فيُطهِّر ما طهُر بالذَّكاةِ؟ والثاني أرجحُ... وفي هذا القَولِ جمعٌ بين الأحاديثِ كلِّها) ((مجموع الفتاوى)) (21/95). وقال أيضًا: (السُّنَّة تدلُّ على أنَّ الدِّباغ كالذَّكاةِ) ((مجموع الفتاوى)) (21/518). وقال أيضًا: (الجِلدُ جزءٌ من المَيتةِ فيه الدَّمُ كما في سائر أجزائِه، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جعَل ذكاتَه دِباغَه؛ لأنَّ الدَّبغ يُنَشِّف رُطوباتِه؛ فدلَّ على أنَّ سبَبَ التَّنجيسِ هو الرُّطوباتُ) ((الفتاوى الكبرى)) (1/270). هذا هو المشهورُ في كتُبِ ابنِ تيميَّة، وهو أنِّ الدِّباغَ يُطهِّرُ مِن جلدِ الميتة ما تُحِلُّه الذَّكاةُ، وإنْ كان المرداويُّ في ((الإنصاف)) قد حكَى عنه قولين، هذا أحدهما، والثَّاني: أنَّ الدِّباغَ يُطهِّرُ ما كان طاهرًا حالَ الحياة. ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (21/95)، ((الإنصاف)) (1/72). ، وابنُ باز قال ابن باز: (ما دُبغ من جلود الميتة التي تَحِلُّ بالذَّكاةِ، كالإبل والبقر والغنم، طهورٌ يَجوزُ استعمالُه في كلِّ شيءٍ، في أصحِّ أقوالِ أهل العلم)، وقال أيضًا: (النصُّ في جِلدِ الميتةِ المأكولةِ، وليس في غيره) ((اختيارات الشيخ ابن باز الفقهية)) لخالد آل حامد (1/78). وقال أيضًا: (الذي ينبغي: ألَّا يُقتَنى وألَّا يُستعمَل- يعني: جلودَ السِّباع وجلودَ الثَّعلب والذِّئب والنمر-؛ لأنَّه جاءت أحاديثُ تدلُّ على النهي عن جلودِ السِّباع، وعن افتراشِها، وعن رُكوبها، وسمَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدِّباغَ طهارةً وذَكاة، فدلَّ ذلك على أنَّ الدِّباغَ إنَّما يكون لِمَا يطهُرُ بالذَّكاة، كمأكولِ اللَّحم مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ، ونحو ذلك، فهذه جلودها طيِّبة، ولو كانت جلودَ مَيتةٍ إذا دُبِغَت، أمَّا السِّباع فهي نجِسةٌ ولو ذُبِحَت، فلا يؤثِّرُ فيها الدِّباغ، فينبغي للمؤمِنِ ألَّا يستعمِلَ جُلودَ السِّباع، لا الثَّعلبَ ولا غيره، وهذا هو أرجحُ الأقوالِ لأهل العلم، وهو أحوَطُها للمؤمِنِ) ((فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر)) (5/13). ، وابنُ عُثيمين قال ابن عثيمين: (وعلى القول الثالث: يطْهُرُ إذا كانت الميتةُ ممَّا تُحِلُّه الذَّكاةُ. والرَّاجح: القولُ الثَّالث؛ بدليل أنَّه جاء في بعض ألفاظ الحديث: ((دِباغُها ذَكاتُها)). ((الشرح الممتع)) (1/91). وسُئل ابن عثيمين: بالنسبةِ لجلودِ السِّباعِ من النُّمور وغيرها من الحيوانات؛ هل يجوز الجلوسُ عليها، أو وَضعُها في السيَّارة على مقعدةِ السيَّارةِ، أو على طبلونها أمام السَّائِقِ؟ فأجاب: (أمَّا إذا كان على وجه لا يتعدَّى فلا بأسَ، مثل طبلون السيَّارة لا يتعدَّى، أمَّا الجلوسُ فلا؛ لأنَّ الجلوسَ لا يخلو الإنسانُ من عَرَق أو ماءٍ أو ما أشبه ذلك، والقولُ الراجح: أنَّه لا يطهُرُ بالدبغ إلَّا جلدُ ما كان مأكولًا في الحياة، هذا يطهُر بالدَّبغِ، فلو ماتت شاةٌ وأخَذْنا جلدَها ودبَغْناه وجعلناه قِربةً، فهو طاهِرٌ لا يؤثِّرُ على الماء، وكذلك لو دبغناه وجعلناه في مكانٍ يجلسونَ عليه، لا بأس، لكن ما يحرُمُ أكلُه لا يطهُرُ جِلدُه بالدَّبغِ، هذا هو القولُ الرَّاجِحُ، والمسألةُ فيها خلاف طويل عريض) ((لقاء الباب المفتوح)) (اللقاء رقم: 143). وسُئلت اللجنة الدائمة: إذا دُبِغَ جِلدُ الثَّعلب؛ فهل يطهُرُ؟ وهل يحلُّ استعمالُه بالملابِسِ وغيرها، وهل يجوزُ بَيعُه وشراؤه والمتاجرةُ به؟ فأجابت: (جلد الثَّعلب كلَحمِه، نَجِسٌ؛ لأنَّه سَبُعٌ لدخولِه في عُمومِ النَّهي) ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (24/29).
الأدلَّة مِن السُّنَّةِ:
1- عن عبد الله بن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((تُصُدِّقَ على مَولاةٍ لميمونةَ بشاةٍ، فماتتْ، فمرَّ بها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: هلَّا أخذتُم إهابَها، فدَبَغتُموه، فانتفعتُم به؟ فقالوا: إنَّها مَيتةٌ، فقال: إنَّما حَرُم أكْلُها )) رواه البخاري (1492)، ومسلم (363) واللفظ له.
2- عن العاليةِ بنتِ سُبَيع أنَّها قالت: ((كان لي غَنمٌ بأُحُدٍ، فوقَع فيها الموتُ، فدخلتُ على ميمونةَ زوجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذكرتُ ذلك لها: فقالتْ لي ميمونةُ: لو أخذتِ جُلودَها فانتفعتِ بها؟ فقالت: أوَ يحِلُّ ذلك؟ قالت: نعم؛ مرَّ على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رِجالٌ من قريش يجرُّون شاةً لهم مِثلَ الحِمارِ، فقال لهم رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو أخَذتُم إهابَها، قالوا: إنَّها مَيتةٌ! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يُطهِّرُها الماءُ والقَرَظُ قال ابن منظور: (القرَظ: شجَرٌ يُدبَغ به، وقيل: هو وَرَق السَّلَم يُدبَغُ به الأدَمُ، ومنه أديمٌ مقروظٌ) ((لسان العرب)) (7/454). )) رواه أبو داود (4126)، والنَّسائي (4248)، وأحمد (6/333) (26876). صحح إسناده ابن جرير الطبري في ((مسند ابن عباس)) (2/815)، وصحَّحه الطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1/471)، وحسَّنه النووي في ((الخلاصة)) (1/76)، وحسَّن إسنادَه ابن الملقِّن في ((تحفة المحتاج)) (1/220)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4126).
وجه الدَّلالة من الحَديثينِ:
أنَّ رخصة الدِّباغ إنَّما جاءت في الشَّاة الميِّتةِ ونَحوها ممَّا تُحِلُّ الذَّكاةُ أكلَه ((المغني)) لابن قدامة (1/51).
الفرع الثَّالث: عِظامُ الميتة وقُرونُها وحوافِرُها
عِظامُ المَيتةِ وقُرونُها وحوافِرُها، نَجِسةٌ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: المالكيَّة ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/89)، وينظر: ((التمهيد)) لابن عبدِ البَرِّ (9/52). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (1/236)، وينظر: ((الأم)) للشافعي (1/23). ، والحنابلةِ ((الإنصاف)) للمرداوي (1/92)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/54).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ
 وجهُ الدَّلالة:
أنَّ نجاسةَ المَيتةِ عامٌّ للعَظمِ وغَيرِه (ولَنَا قَولُ اللهِ تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] والعَظمُ مِن جُملَتِها) ((المغني)) لابن قدامة (1/54) ((المجموع)) للنووي (1/236). كالقُرونِ والحوافِرِ.
2- قولُه تعالى: قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78]
وجه الدَّلالة:
فيها دليلٌ على أنَّ في العَظمِ حياةً، وأنَّه ينجُسُ بالموتِ؛ لأنَّ كلَّ مَحَلٍّ تحُلُّ الحياةُ به فيَخلُفُها الموتُ، ينجُسُ ويَحرُمُ، بقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ [المائدة: 3] انظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/28).
الفرع الرَّابع: شَعرُ مَيتةِ الحيوانِ الطَّاهِر في حياتِه ووبَرُه وصوفُه
ما جُزَّ بخلاف ما إذا قُلِعَ ونُتِفَ أو انفصل بنَفسِه، فهذا فيه تفصيلاتٌ أخرى. وقد قيل: إنَّه إذا قُلِعَ؛ فإنَّ أصولَه محتقِنٌ فيها شيءٌ من المَيتةِ، فهو منغرِسٌ في الجلدِ، وفيه شيءٌ مباشِرٌ للنَّجاسة، والله أعلم. ينظر: ((البحر الرائق)) (1/113)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/125)، ((الشرح الممتع)) (1/95). من شَعْرٍ أو وَبَرٍ أو صُوفِ لميتةِ حيوانٍ طاهرٍ في حياتِه، ولو كان غيرَ مأكولٍ؛ فهو طاهرٌ ومن باب أوْلى لو كان الحيوانُ الطَّاهِرُ حيًّا. ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: الحنفيَّة ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/26)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/96). ، والمالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/125)، ((التاج والإكليل)) للمواق (1/89). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (1/76)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/57). قال المرداويُّ: (قوله: "وسِباعُ البهائِمِ، والطَّيرُ، والبَغلُ، والحمارُ الأهليُّ؛ نجِسةٌ"، هذا المذهَبُ في الجميع...، وعنه أنَّها طاهرةٌ غيرَ الكَلبِ والخنزيرِ، واختارها الآجُريُّ) ((الإنصاف)) (1/245). ، وبه قالت طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ قال ابن قدامة: (رُوِيَ ذلك عن الحسَن وابنِ سيرين وأصحابِ عبد الله؛ قالوا: إذا غُسِلَ، وبه قال مالك، والليث بن سعد، والأوزاعيُّ، وإسحاق، وابن المُنذِر، وأصحاب الرأي) ((المغني)) (1/59).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
1- قولُه تعالى: وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل: 5]
وجه الدَّلالة:
أنَّ الدِّفءَ ما يُتدفَّأُ به مِن شَعْرِها ووبَرِها وصُوفِها؛ وعمومُ ذلك يقتضي إباحةَ الجَميعِ مِن غَيرِ فصْلٍ بين المذكَّى منها وبين المَيتةِ ((أحكام القرآن)) للجصَّاص (1/149، 150).
2- قوله تعالى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [النحل: 80]
وجه الدَّلالة:
أنَّ الآيةَ سِيقَت للامتنانِ، والمنَّةُ لا تقَعُ بالنَّجِسِ الذي لا يحِلُّ الانتفاعُ به، والظَّاهِرُ شُمولُها لحالتَيِ الحياةِ والمَوتِ ((كشاف القناع)) للبُهوتي (1/57).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((وجَد النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شاةً ميتةً، أُعطِيَتْها مولاةٌ لميمونةَ من الصَّدقةِ، قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هلَّا انتفعتُم بجِلدِها؟ قالوا: إنَّها مَيتةٌ. قال: إنَّما حَرُمَ أكْلُها )) رواه البخاريُّ (1492) واللفظ له، ومسلم (363).
وجه الدَّلالة:
أنَّ الحديثَ يدلُّ على جوازِ الانتفاعِ مِنَ الميتةِ بما سِوَى الأكلِ قال الجصَّاص: (أبان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن مُرادِ الله تعالى بتحريمِ المَيتةِ، فلمَّا لم يكُن الشَّعْرُ والصُّوفُ والعَظمُ ونحوها ممَّا ذَكَرْنا من المأكولِ، لم يتناوَلْها التَّحريمُ). ((أحكام القرآن)) (1/150).
ثالثًا: أنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحةُ والطَّهارةُ؛ ولا دليلَ على النَّجاسةِ؛ فإنَّ هذه الأعيانَ هي من الطيِّباتِ، وليست مِن الخبائِثِ، فتدخُلُ في آيةِ التَّحليلِ؛ وذلك لأنَّها لم تدخُلْ فيما حرَّمَه اللهُ من الخبائِثِ لا لفظًا، ولا معنًى ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّة (1/264، 267).
رابعًا: أنَّ المَيتةَ المحرَّمةَ هي ما كان فيها الحِسُّ والحَرَكةُ الإراديَّةُ، وأمَّا الشَّعْرُ ونحوُه، فإنَّه ليس فيه حسٌّ ولا يتحرَّك بإرادةٍ، ولا تُحِلُّه الحياةُ الحيوانيَّة حتى يموتَ بِمُفارَقَتِها، وإنَّما هو كالزَّرعِ يَنمو ويغتذي، وإذا يَبِسَ الزَّرعُ، أو ماتت الأرضُ، فإنَّ ذلك لا يُوجِبُ نَجاسَتَها باتِّفاقِ المُسلمين ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّة (1/267، 268).
خامسًا: أنَّ الموجِبَ للنَّجاسةِ هو الرُّطوباتُ، وهي إنَّما تكون فيما يجري فيه الدَّمُ؛ ولهذا حُكِم بطهارةِ ما لا نفْسَ له سائلة، فما لا رُطوبةَ فيه من الأجزاءِ بمنزلةِ ما لا نفْسَ له سائلة ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/20).
سادسًا: أنَّ الشَّعرَ لو كان جزءًا من الحيوانِ، لَمَا أُبيحَ أخْذُه في حالِ الحياة، فلمَّا اتَّفَقَ العُلَماء على أنَّ الشَّعرَ والصُّوفَ إذا جُزَّ من الحيوانِ حالَ حياتِه، كان حلالًا طاهرًا، عُلِم أنَّه ليس مثل اللَّحمِ انظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّة (1/268).
الفرع الخامس: ما أُبِينَ مِن الحَيوانِ الحيِّ
المسألة الأولى: ما أُبِينَ مِن حيٍّ وفيه دَمٌ
ما أُبينَ من حيٍّ وفيه دَمٌ، كاليَدِ والأذُنِ والأنفِ ونحوها، فهو نَجِسٌ.
الدَّليلُ من الإجماع:
نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنذِر قال ابنُ المُنذِر: (وأجمَعوا على أنَّ الشاة والبعير والبقر، إذا قُطِع منها عضوٌ وهو حيٌّ، أنَّ المقطوعَ منه نجسٌ). ((الإجماع)) (ص: 37). والكاسانيُّ قال الكاسانيُّ: (إنْ كان الْمُبانُ- أي: من الحيِّ- جزءًا فيه دمٌ، كاليَدِ والأذن والأنف ونحوها، فهو نجِس بالإجماع). ((بدائع الصنائع)) (1/63). ، وابنُ رشد قال ابن رشد: (الجميعُ قد اتَّفقوا على أنَّ ما قُطِع من البهيمةِ وهي حيَّةٌ؛ أنَّه مَيتةٌ)). ((بداية المجتهد)) (1/78). ، والنوويُّ قال النوويُّ: (العضوُ المُنفصِل من حيوانٍ حيٍّ؛ كأَلْيةِ الشَّاة، وسَنامِ البَعيرِ، وذَنَبِ البَقَرة، والأُذن واليد، وغير ذلك؛ نجسٌ بالإجماعِ). ((المجموع)) (2/562). وابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (سُئل- يعني: النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عن قوم يحبُّونَ أسنِمةَ الإبِلِ وأَلْياتِ الغَنَم، فقال ((ما أُبِينَ مِن البَهيمة وهي حيَّةٌ، فهو ميِّت)). رواه أبو داود، وغيرُه، وهذا متَّفقٌ عليه بين العلماء). ((الفتاوى الكبرى)) (1/267-268).
المسألة الثانية: ما انفصَلَ مِن حيٍّ مأكولِ اللَّحمِ ولا دَمَ فيه
ما انفصل من حيٍّ مأكولِ اللَّحمِ، وليس فيه دَمٌ كالشَّعرِ والوَبَر والصُّوفِ والرِّيش؛ فهو طاهِرٌ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
1- قولُ الله تعالى: وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل: 5]
وجه الدَّلالة:
أنَّ الدِّفءَ ما يُتدفَّأُ به مِن شَعرِها ووبَرِها وصُوفِها؛ وعمومُ ذلك يقتضي إباحةَ الجَميعِ مِن الميتةِ والحيِّ ((أحكام القرآن)) للجصاص (1/149، 150).
2- قوله تعالى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [النحل: 80]
وجه الدَّلالة:
أنَّ الآية سِيقت للامتنانِ؛ فالظَّاهِرُ شُمولُها لحالتَي الحياةِ والموت، والرِّيشُ مَقِيسٌ على هذه الثَّلاثة ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/57).
ثانيًا: من الإجماع
نقل الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنذِر قال ابن المُنذِر: (أجمعوا على أنَّ الانتفاعَ بأشعارِها وأوبارِها وأصوافِها، جائزٌ؛ إذا أُخِذ منها ذلك وهي أحياءٌ) ((الأوسط)) (2/273). ، وابنُ رُشد قال ابن رشد: (اتَّفقوا على أنَّ الشَّعر إذا قُطِعَ مِنَ الحيِّ: أنَّه طاهر) ((بداية المجتهد)) (1/78). ، والنوويُّ قال النوويُّ: (إذا جَزَّ شعرًا أو صوفًا أو وَبَرًا من مأكول اللَّحم؛ فهو طاهِرٌ بنصِّ القرآنِ، وإجماع الأمَّة) ((المجموع)) (1/300). وقال أيضًا: (الأصل: أنَّ ما انفصَلَ من حيٍّ فهو نَجِسٌ، ويُستثنى الشَّعرُ المجزوزُ من مأكولِ اللَّحم في الحياةِ، والصُّوف والوبر والرِّيش، فكلُّها طاهرةٌ بالإجماع) ((روضة الطالبين)) (1/15). ، وابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (اتَّفَق العلماءُ على أنَّ الشَّعرَ والصُّوفَ إذا جُزَّ من الحيوانِ، كان طاهرًا حلالًا) ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (21/98). ، وابن حجر الهيتمي قال ابن حجر الهيتمي: (... إلَّا شَعرَ المأكولِ، فطاهِرٌ إجماعًا، وكذا الصُّوفُ والوَبَر والرِّيش) ((تحفة المحتاج)) (1/300).

انظر أيضا: