الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ السابع: ما يُسنُّ في الخُطبةِ


الفَرعُ الأوَّل: اعتمادُ الخطيبِ على قوسٍ أو عصًا
يُستحبُّ اعتمادُ الخطيبِ على قوسٍ أو عصًا [5862] ذهَبَ بعضُ العلماء إلى أنه يستحبُّ إذا لم يكن هناك مِنبر. يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيِّم (1/429)، و((فتاوى اللجنة الدائمة – المجموعة الثانية)) (7/109- 110). ، وهو مذهبُ الجمهور: المالِكيَّة ((الرسالة)) للقيرواني (ص: 47)، ((الشرح الكبير)) للدردير مع ((حاشية الدسوقي)) (1/ 382)، ويُنظر: ((المدونة الكبرى)) لسحنون (1/232)، ((البيان والتحصيل)) لابن رشد الجد (1/341). ، والشافعيَّة ((روضة الطالبين)) للنووي (2/32)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (2/ 326)، ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/492). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/36)، ويُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (1/329). ، واختاره الصَّنعانيُّ قال الصنعانيُّ في حديث الحَكم بن حَزن: (في الحديث دليلٌ على أنه يُندَب للخطيب الاعتمادُ على سيف أو نحوه وقتَ خُطبته، والحكمة أنَّ في ذلك ربطًا للقلب، ولبُعد يديه عن العبث؛ فإنْ لم يجد ما يَعتمد عليه أرسل يديه، أو وضع اليُمنى على اليسرى، أو على جانب المنبر، ويُكره دقُّ المنبر بالسيف؛ إذ لم يُؤثَرْ، فهو بدعةٌ) ((سبل السلام)) (2/59). ، وابنُ باز قال ابنُ باز عن حديث الحَكم بن حزن: (الحديث يدلُّ على شرعية الاتِّكاء على عصا أو قوس في الخطبة؛ لأنَّ هذا من شأنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولعلَّ السرَّ في هذا- والله أعلم- أنه أجمَعُ لليدين، وأجمعُ للقلب من الحركة، وأقربُ إلى الإقبال على الخطبة) ((دروس سماحته على بلوغ المرام))، شرح الحديث رقم (449) بواسطة: ((الشامل في فقه الخطيب والخطبة)) لسعود الشريم (ص: 155). ، وحُكيَ الإجماعُ على ذلك قال القرطبيُّ: (الإجماعُ منعقدٌ على أنَّ الخطيب يخطب متوكئًا على سيف أو عصا، فالعصا مأخوذةٌ من أصل كريم، ومعدن شريف، ولا يُنكرها إلَّا جاهل) ((تفسير القرطبي)) (11/188).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
عن الحَكمِ بنِ حَزْنٍ الكُلَفيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((وفدتُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأقمنا أيَّامًا شهِدْنا فيها الجُمُعةَ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقام متوكئًا على عصًا أو قوسٍ، فحمِدَ اللهَ، وأثْنَى عليه كلماتٍ طيِّباتٍ، خفيفاتٍ مباركاتٍ )) رواه أبو داود (1096)، وأحمد (4/212) (17889)، وابن خزيمة (1452)، والبيهقي (3/206) (5960) قال النوويُّ في ((تهذيب الأسماء واللغات)) (1/166): إسناده صحيحٌ، أو حسنٌ. وحسَّن إسنادَه ابنُ حجر في ((التلخيص الحبير)) (2/580) وقال: فيه شهابُ بن خِراش، وقد اختُلف فيه، والأكثر وثَّقوه، وله شاهدٌ، والصَّنعاني في ((سبل السلام)) (2/93)، وحسن سنده ابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (312)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1096)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (323).
ثانيًا: أنَّ الاعتمادَ على قوسٍ أو عصًا هو الأمرُ القديمُ الماضي من فِعلِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والخلفاءِ بعدَه قال مالك: (قال ابنُ شِهاب: وكان إذا قام أخَذ عصا فتوكَّأ عليها وهو قائمٌ على المنبر، ثم كان أبو بكرٍ، وعمرُ، وعثمانُ يفعلون ذلك.... وقال مالك: وذلك ممَّا يُستحَبُّ للأئمَّة أصحاب المنابر أن يَخطُبوا يوم الجمعة ومعهم العصيُّ يتوكَّؤون عليها في قيامهم، وهو الذي رأينا وسمِعْنا) ((المدونة الكبرى)) لسحنون (1/232)، وينظر: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد الجد (1/341).
ثالثًا: أنَّ ذلك أعونُ له ((المغني)) لابن قدامة (2/229).
رابعًا: أنَّ في ذلك ربطًا للقلبِ، ولبُعدِ يديه عنِ العَبثِ ((سبل السلام)) للصنعاني (2/59).
الفرع الثَّاني: إقبالُ الخَطيبِ على النَّاسِ
يُشرَعُ للإمامِ أنْ يَخطُبَ مستقبلًا أهلَ المسجدِ، ومستدبرًا القِبلةَ.
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، صلَّى على المنبرِ، قال سهلُ بن سعدٍ: ((فلمَّا فرَغ أقبلَ على الناسِ، فقال: إنَّما صنعتُ هذا لتأتمُّوا بِي، ولتَعْلَموا صَلاتِي )) أخرجه البخاري (917)، ومسلم (544).
ثانيًا: مِنَ الِإِجْماع
نقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ رجب قال ابنُ رجب: (أمَّا استقبالُ الإمامِ أهلَ المسجد، واستدبارُه القِبلةَ، فمُجمَعٌ عليه أيضًا، والنصوص تدلُّ عليه أيضًا؛ فإنَّه يخاطبهم ليفهموا عنه) ((فتح الباري)) (5/477)، وينظر: ((عمدة القاري)) للعيني (6/221).
الفَرعُ الثَّالث: توجُّه النَّاسِ إليه بأَبصارِهمْ
يُستحَبُّ للمصلِّينَ استقبالُ الإمامِ إذا خطبَ قال الأوزاعيُّ: (هَدْي المسلمين إذا جلس الإمامُ على المنبر يومَ الجُمعة أن يستقبلوه بوجوههم). انظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (2/50). وقال ابن المنذر: (كلُّ مَن أحفَظُ عنه من أهل العلم يرى أن يستقبلَ الإمامُ يوم الجمعة إذا خطب، فمِمَّن رأى ذلك ابنُ عمر، وأنس بن مالك، وشريح، وعطاء... وهذا قول مالكِ بنِ أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وابن جابر، ويزيد بن أبي مريم، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، لا أعلمهم يختلفون فيه) ((الأوسط)) (4/ 82، 83). وقال ابنُ قدامة: (قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: يكون الإمامُ عن يميني متباعدًا، فإذا أردتُ أن أنحرف إليه حوَّلت وجهي عن القِبلة؟ فقال: نعم؛ تنحرِفُ إليه، وممَّن كان يستقبل الإمامَ ابنُ عمر، وأنسٌ. وهو قولُ شُرَيح، وعطاء، ومالك، والثوريِّ، والأوزاعيِّ، وسعيد بن عبد العزيز، وابن جابر، ويَزيدَ بنِ أبي مريم، والشافعيِّ، وإسحاق، وأصحاب الرأي) ((المغني)) (2/225). وقال ابنُ القيِّم: (كان إذا جلس عليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غير الجمعة، أو خطب قائمًا في الجمعة، استدار أصحابُه إليه بوجوههم) ((زاد المعاد)) (1/430). وقال العيني: (فإن قلتَ: ما المرادُ باستقبالِ النَّاسِ الخطيبَ؟ هل المرادُ من يواجِهُه؟ أو المراد جميعُ أهل المسجد، حتى إنَّ مَن هو في الصفِّ الأول والثاني- وإن طالت الصفوف- ينحرفونَ بأبدانهم، أو بوجوهِهم لسَماعِ الخطبة؟ قلت: الظاهِرُ أنَّ المراد بذلك من يسمع الخطبةَ دون مَن بَعُدَ فلم يسمَعْ؛ فاستقبالُ القبلةِ أَوْلى به مِن تَوَجُّهِه لجهةِ الخطيب) ((عمدة القاري)) (6/221). ، وهو مذهبُ الجمهورِ: الحَنَفيَّة   ((المبسوط)) للسرخسي (2/54)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/263). ، والشافعيَّة   ((المجموع)) للنووي (4/528)، ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/434). ، والحَنابِلَة   ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/37)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/225). ، وقولٌ للمالكيَّة   ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (1/371)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/530). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلِك قال الأوزاعيُّ: (هَدْي المسلمين إذا جلَس الإمامُ على المنبر يوم الجُمُعة، أن يَستقبِلوه بوجوههم). انظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (2/50). وقال الترمذيُّ: (العملُ على هذا عندَ أهل العلم من أصحاب النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وغيرِهم؛ يَستحبُّون استقبالَ الإمامِ إذا خطب، وهو قولُ سفيان الثوريِّ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاق. قال الترمذي: ولا يصحُّ في هذا البابِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيء) ((سنن الترمذي)) (2/383). وقال ابنُ المنذر: (هذا كالإجماعِ) ((الإشراف)) (2/105)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/225). وقال ابنُ عبد البَرِّ: (أمَّا قوله: "السُّنة عندنا أن يَستقبلَ الناسُ الإمامَ يوم الجمعة إذا أراد أن يخطب؛ مَن كان منهم يلِي القبلةَ أو غيرها"، فهو- كما قال- سُنَّةٌ مسنونةٌ عند العلماء، لا أَعلمهم يختلفون في ذلك، وإن كنتُ لا أعلم فيها حديثًا مسندًا، إلَّا أنَّ وكيعًا ذكر عن يونس عن الشعبيِّ، قال: من السُّنَّة أن يُستقبَلَ الإمامُ يوم الجمعة، ووكيعٌ عن أبان بن عبد الله البجليِّ، عن عديِّ بن ثابت، قال: كان النبيُّ عليه السلام إذا خطَب استقبله أصحابُه بوجوههم، وذكرها أيضًا ابنُ أبي شيبة، عن وكيع، ورَوَى استقبالَ الإمامِ إذا خطَب يوم الجمعة عن جماعةٍ من العلماء بالحجاز والعراق) ((الاستذكار)) (2/50). وقال النوويُّ: (ويُستحَبُّ للقوم الإقبالُ بوجوههم على الخطيبِ، وجاءت فيه أحاديثُ كثيرة؛ ولأنَّه الذي يقتضيه الأدبُ، وهو أبلغُ في الوعظ، وهو مُجمَعٌ عليه) ((المجموع)) (4/528).
الأدلَّة:
أولًا: من الآثار
عن أنسِ بن مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه كان إذا أخَذَ الإمامُ في الخُطبةِ يَستقبِلُه بوجهِه حتى يَفرَغَ رواه البيهقي (3/199) (5924). صحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (2/467).
ثانيًا: أنَّه الذى يَقتضيه الأدَبُ، وهو أبلغُ في الوعظِ ((المجموع)) للنووي (4/528).
ثالثًا: أنَّ ذلِك أبلغُ في سماعِهم، فاستُحبَّ، كاستقبالِ الإمامِ إيَّاهم ((المغني)) لابن قدامة (2/225).
الفرع الرابع: رفْعُ الخَطيبِ صَوتَه
يُستحَبُّ للخَطيبِ أنْ يَرفَعَ صوتَه في خُطبةِ الجُمُعة، وهذا باتِّفاق المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحَنَفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/160)، ((الفتاوى الهندية)) (1/147). ، والمالِكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (2/172)، ((الشرح الكبير)) للدردير، مع ((حاشية الدسوقي)) (1/382). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/526). قال الشافعيُّ: (أحبُّ أن يَرفع صوتَه؛ حتى يسمعَ أقصى مَن حضره إنْ قدَر على ذلك) ((الأم)) (1/230). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/36)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/228).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا خَطَب احمرَّتْ عيناه، وعلَا صوتُه، واشتدَّ غضبُه، حتى كأنَّه منذرُ جيشٍ، يقول: صبَّحَكم ومسَّاكم، ويقول: أمَّا بعدُ، فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ تعالى، وخيرَ الهُدَى هُدَى محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وشرَّ الأمورِ مُحْدَثاتِها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ )) رواه مسلم (867).
ثانيًا: أنَّه من أجلِ ذلِك شُرِعتِ الخُطبةُ على المنبرِ؛ لأنَّه أبلغُ في الإسماعِ ((التاج والإكليل)) للمواق (2/172).
الفَرعُ الخامس: حُكمُ تقصيرِ الخُطبةِ
يُسنُّ تَقصيرُ الخُطبةِ قال النوويُّ: (يكون قصرها معتدلًا، ولا يُبالغ بحيث يَمحَقُها) ((المجموع)) (4/529)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/229). وقال القرافيُّ: (اتَّفق الجميعُ على استحسانِ قَصْر الخطبة) ((الذخيرة)) (2/345). وقال الشوكانيُّ: (أحاديثُ الباب فيها مشروعيَّة إقصار الخطبة، ولا خلاف في ذلك) ((نيل الأوطار)) (3/321) ولا بأسَ بتطويلِ الخُطبة أحيانًا بحسَب الحاجة، واقتضاءِ الحال. يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/191)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/65).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
1- عن عَمَّارِ بنِ ياسرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: إنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ، وقِصرَ خُطبتِه مَئِنَّةٌ مَئِنَّة: علامةٌ لذاك، وخليقٌ لذاك. أي: إنَّ ذلِك ممَّا يُعرَف به فِقهُ الرَّجُل. وكلُّ شيءٍ دلَّ على شيءٍ فهو مئِنَّةٌ له. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/2199)، ((النهاية)) لابن الأثير (4/290). مِن فِقهِه؛ فأَطيلوا الصلاةَ، واقْصُرُوا الخُطبةَ )) رواه مسلم (869).
2- عن جابرِ بنِ سَمُرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كنتُ أُصلِّي مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكانتْ صلاتُه قَصدًا، وخُطبتُه قصدًا ))، وفي روايةٍ: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُطيلُ الموعظةَ يومَ الجُمُعةِ، إنَّما هي كلماتٌ يسيراتٌ )) رواه مسلم (866). والرِّواية الثانية: رواها أبو داود (1107)، والطبرانيُّ (2/242) (2015). صحَّح إسنادَه ابنُ الملقِّن في ((البدر المنير)) (4/631)، ووثَّق رجال إسنادِه الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (3/327)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1107).
ثانيًا: أنَّه أَوْعَى للسَّامعينَ، وأبعدُ للمَللِ عنهم ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/65).
الفَرْع السَّادس: حُكمُ قِيامِ الخَطيبِ في الخُطبةِ
اختَلَفَ العلماءُ في حُكمِ قِيامِ الخَطيبِ في خُطبةِ الجُمُعة على أقوال، أقواها قولان:
القول الأوّل: أنَّ قِيامَ الخطيبِ حالَ الخُطبةِ شَرطٌ مع القُدرةِ عليه، وهو مذهبُ الشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/514،515)، ((روضة الطالبين)) للنووي (2/26). ، وقول الأكثر من المالكية ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/531)، ((منح الجليل)) لعليش (1/434). ، واختارَه القرطبيُّ من المالِكيَّة قال القرطبيُّ: (قوله تعالى: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا شرط في قيام الخطيب على المنبر إذا خطَب... وعلى هذا جمهورُ الفقهاء وأئمَّة العلماء، وقال أبو حنيفة: ليس القيامُ بشَرْط فيها) ((تفسير القرطبي)) (18/114). ، وهو روايةٌ عن الإمامِ أحمدَ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (2/148)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/278). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلِك قال ابنُ عبد البر: (وأجْمَعوا أنَّ الخُطْبَةَ لا تكونُ إِلَّا قائمًا لِمَنْ قَدَرَ على القِيامِ) ((الاستذكار)) (2/61). وقال النوويُّ: (وحكَى ابنُ عبد البرِ إجماعَ العلماء على أنَّ الخُطبة لا تكون إلَّا قائمًا لِمَن أطاقه) ((شرح النووي على مسلم)) ( 6/150).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
1- عن سِماكٍ، قال: أَنبأنِي جابرُ بنُ سَمرُة رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَخطبُ قائمًا، ثمَّ يجلسُ، ثم يقومُ فيخطبُ قائمًا. (قال جابر:) فمَن نبَّأك أنَّه كان يَخطُبُ جالسًا فقد كذَب؛ فقد- واللهِ- صليتُ معه أكثرَ من ألْفَي صلاةٍ! )) رواه مسلم (862). قال النوويُّ: (قوله... "أكثر مِن ألْفَي صلاةٍ" المراد: الصَّلوات الخمس، لا الجُمعة) ((شرح النووي على مسلم)) (6/150).
2- قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((صَلُّوا كما رَأيتُموني أُصلِّي )) رواه البخاري (631).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَاوَمَ على القِيامِ للخطبة، وقد أَمَرَنا أن نُصلِّيَ كما صَلَّى ((المجموع)) للنووي (4/515) ((شرح الزركشي)) (2/173).
ثانيًا: مِن الآثار
عن كَعبِ بنِ عُجرةَ: أنَّه دخَلَ المسجدَ وعبدُ الرحمنِ بنُ أمِّ الحكَمِ يخطُب قاعدًا، فقال: (انظُروا إلى هذا الخبيثِ يخطُب قاعدًا، وقال اللهُ تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة: 11] ؟!) [5903] أخرجه مسلم (864).
ثالثًا: أنَّه قد شُرِعَ الفصلُ بين الخُطبتينِ بالجلوسِ، فلو كان القعودُ مشروعًا في الخُطبتينِ ما احتِيجَ إلى الجلوسِ ((فتح الباري)) لابن حجر (2/401).
رابعًا: أنَّ الخُطبةَ أحدُ فرضَيِ الجُمُعةِ؛ فوجب فيها القيامُ والقعودُ كالصَّلاةِ ((المجموع)) للنووي (4/514).
القول الثاني: يُسنُّ أن يخطُب قائمًا، وهو مذهبُ الحَنَفيَّة ((البناية)) للعيني (3/56)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/263). ، والحَنابِلَة ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (2/148)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/36). ، وقولٌ للمالكيَّة ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/79)، ((منح الجليل)) لابن عليش (1/434). ، واختارَه ابنُ عُثيمين قال ابنُ عثيمين: (إنِ احتاج إلى ذلك لضعفِه، فهو سُنَّة؛ لأنَّ القيام سُنَّة، وما أعان على السُّنة فهو سُنَّة) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (16/95).
الأدلَّة:
أولًا: من الكِتاب
قال الله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجُمُعة: 11]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الآيةَ تدلُّ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَخطُب قائمًا.
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن سِماكٍ، قال: أَنبأنِي جابرُ بنُ سَمرُة رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَخطُب قائمًا، ثم يجلس، ثم يقومُ فيخطبُ قائمًا. (قال جابر:) فمَن نبَّأك أنَّه يَخطُب جالسًا فقدْ كذَب؛ فقد واللهِ، صليتُ معه أكثرَ من ألْفَي صلاةٍ! )) رواه مسلم (862).
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يخطُبُ خُطبتَينِ يقعُدُ بينهما )) [5911] رواه البخاري (928) واللفظ له، ومسلم (861).
ثالثًا: أنَّ القيامَ في الخُطبةِ جرَى عليه التوارثُ مِن لدُنْ رسولِ اللهِ عليه السلام إلى يومِنا هذا قال ابنُ مازةَ: (كان رسولُ الله عليه السلام يخطُب قائمًا حين انفضَّ عنه الناس بدخول العِير المدينة، وهكذا جرَى التوارث من لدُن رسولِ الله عليه السلام إلى يومِنا هذا) ((المحيط البرهاني)) (2/74).
رابعًا: لأنَّه ذِكرٌ ليس من شَرْطِه الاستقبالُ فلم يجبْ له القيامُ كالأذانِ ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (2/148).
الفَرعُ السابع: الجِلسةُ بيْنَ الخُطبتينِ
يستحبُّ الجلوسُ بين الخُطبتين قال ابنُ دقيق العيد: (وفي الحديث: دليلٌ على الجلوسِ بين الخُطبتين، ولا خلافَ فيه) ((إحكام الأحكام)) (1/224). ، ولا يجِبُ، وهو مذهبُ الجمهور: الحَنَفيَّة ((البناية)) للعيني (3/62)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/159). ، والمالِكيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (2/ 165)، ويُنظر: ((المنتقى))‏ للباجي (1/204)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/627). ، والحَنابِلَة ((شرح منتهي الإرادات)) للبهوتي (1/ 317)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/227)، ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/176). ، وبه قال أكثرُ أهل العِلمِ يُنظر: ((المجموع)) للنووي (4/515). وقال ابنُ عبد البَرِّ: (اختَلَف الفقهاءُ في الجلوسِ بين الخُطبتين؛ هل هو فرضٌ أم سُنَّة؟ فقال مالك وأصحابُه، والعراقيُّون وسائرُ فقهاء الأمصار إلَّا الشافعي: الجلوسُ بين الخطبتين سُنَّة، فإن لم يجلسْ بينهما فلا شيءَ عليه، وقال الشافعيُّ: هو فرضٌ، وإن لم يجلس بينهما صلَّى ظهرًا أربعًا) ((التمهيد)) (2/165). وقال ابنُ قُدامَة: (يُستحبُّ أن يجلس بين الخطبتين جِلسةً خفيفة؛ لأنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يفعل ذلك، كما روينا في حديث ابن عُمر، وجابر بن سَمُرة، وليستْ واجبةً في قول أكثر أهل العلم. وقال الشافعيُّ: هي واجبة) ((المغني)) (2/227).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
1- عن جابرِ بنِ سَمُرةَ، قال: ((كانتْ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خُطبتانِ يَجلِسُ بينهما يقرأُ القرآنَ، ويُذكِّرُ الناسَ )) رواه مسلم (862).
2- عنِ ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يخطُبُ قائمًا، ثم يجلِسُ، ثم يقومُ- كما يَفعلونَ اليومَ )) رواه البخاري (920)، ومسلم (861).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ هذا فِعلُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يُفيدُ النَّدبَ ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/263)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/36).
ثانيًا: أنَّها جلسةٌ ليس فيها ذِكرٌ مشروعٌ؛ فلم تكُنْ واجبةً ((المغني)) لابن قدامة (2/227).
ثالثًا: أنَّ جلوسَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان للاستراحةِ؛ فلم تكُنْ واجبةً قال ابنُ رشد: (ليس من شرْط الخُطبة عند مالكٍ الجلوسُ، وهو شرط- كما قُلنا- عند الشافعيِّ؛ وذلك أنَّه مَن اعتبر المعنى المعقول منه من كونه استراحةً للخطيب لم يجعلْه شرطًا، ومَن جعل ذلك عبادةً جعَلَه شرطًا) ((بداية المجتهد)) (1/161)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/227).  
رابعًا: أنَّ المقصودَ من الخُطبةِ هو الوعظُ والتذكيرُ، وهو يَحصُلُ بدون هذا الجِلسةِ ((شرح الزركشي على مختصر الخرقي)) (2/176).
الفَرعُ الثامن: الدُّعاءُ في الخُطبةِ
يُستحَبُّ الدُّعاءُ للمسلمينَ في الخُطبةِ، وهو مذهبُ الجمهور: الحَنَفيَّة ((البناية)) للعيني (3/62)، ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 334). ، والمالِكيَّة ((الشرح الكبير)) للدردير، مع ((حاشية الدسوقي)) (1/378)، ((منح الجليل)) لابن عليش (1/433). ، والحَنابِلَةِ ((الإنصاف)) للمَرداوي (2/278)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/230). ، وقولٌ للشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/521)، ((مغني المحتاج)) للشِّربيني (1/286).
الأدلَّة:
أولًا: من السُّنَّة
عن حُصينِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ، عن عُمارَةَ بنِ رُؤيبةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه رأى بِشرَ بنَ مَرْوانَ على المنبرِ رافعًا يديه، فقال: ((قَبَّحَ اللهُ هاتينِ اليدينِ؛ لقدْ رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يَزيدُ على أنْ يقولَ بيدِه هكذا، وأشارَ بإصبعِه المسبِّحةِ )) رواه مسلم (874).
وفي روايةٍ: يُشيرُ بإصبعيه يَدْعو [5930] أخرجه أحمد (18299)، وقال الألبانيُّ في ((الاحتجاج بالقدر)) (58): إسناده صحيحٌ على شرْط مسلم، وقد أخرجه في ((صحيحه)) بنحوه. وفي روايةٍ أخرى: قال حُصينٌ: كنتُ إلى جنبِ عُمارةَ وبِشرٌ يَخطُبنا، فلمَّا دَعا رَفَعَ يديه [5931] أخرجه أحمد (17224). ، وفي لفظ آخَر: رأى عُمارةُ بنُ رُؤيبةَ بِشرَ بنَ مَرْوانَ، وهو يَدْعو في يومِ جُمُعةٍ [5932] أخرجها أبو داود (1104). وفي لفظ: فرَفَع يديه في الدُّعاءِ [5933] أخرجه الترمذي (515)، وابن خزيمة (1793).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
 أنَّ من السُّنَّةِ الإشارةَ بإصبعِه المسبِّحةِ عندَ الدُّعاءِ لا رَفْعَ اليدينِ، وفِيه إثباتُ الدُّعاءِ يومَ الجُمُعةِ ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (4/510)
ثانيًا: لأنَّ الدُّعاءَ للمسلمينَ مسنونٌ في غيرِ الخُطبةِ؛ ففيها أَوْلى ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/37).
ثالثًا: أنَّ الدعاءَ في الخُطبةِ جرى عليه عملُ المسلمين بنَقْلِ الخَلَفِ عنِ السَّلفِ قال الشربينيُّ: ("والخامِسُ «أي: من أركان الخُطْبة»: ما يقَعُ عليه اسمُ دعاء للمؤمنين" بأُخرويٍّ؛ لنَقْل الخَلَف له عن السلف) ((مغني المحتاج)) (1/286).
رابعًا: أنَّ الأصلَ عدمُ الوجوبِ، ومقصودُ الخطبةِ الوعظُ، وهو يَحصُلُ من دون الدُّعاءِ ((المجموع)) للنووي (4/521).
خامسًا: أنَّه دُعاءٌ لا يجِبُ في غيرِ الخُطبةِ؛ فكذا فيها كالتَّسبيحِ ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/286).
مسألة: حكم رَفْع اليَدينِ في الدُّعاءِ على المِنبَرِ
لا يُشرعُ للإمامِ رفْعُ يديه في خُطبة الجُمُعة، ويَكتفي بالإشارةِ بالإصْبَع، إلَّا إذا استسقى فإنَّه يَرفَعُ يديه، وهو مذهبُ الجمهور: المالِكيَّة ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (2/107)، ((التاج والإكليل)) للمواق (2/176)، وينظر: ((المدونة)) (1/420). ، والشافعيَّة ((حاشية قليوبي وعميرة)) (2/328)، ويُنظر: ((حاشية الجمل)) (1/372): قال: (ويُكره للخطيب رفْعُ يديه حالةَ الخطبة؛ لحديث في مسلم)، وينظر: ((المجموع)) للنووي (3/507،506). ، والحَنابِلَة ((الإقناع)) للحجاوي (1/95)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/37)، وينظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (5/65). ، وقولُ بعضِ الحَنَفيَّة قال ابنُ عابدين: (وقال البقالي في مختصره: وإذا شرع في الدعاء لا يجوزُ للقوم رفْعُ اليدين، ولا تأمين باللِّسان جهرًا، فإنْ فعلوا ذلك أثِموا، وقيل: أساؤوا، ولا إثمَ عليهم، والصحيح هو الأوَّل، وعليه الفتوى) ((حاشية ابن عابدين)) (2/158).
الأَدِلَّةُ مِنَ السُّنَّة:
1- عن عُمارةَ بنِ رُؤَيْبَةَ، أنَّه رَأَى بِشرَ بنَ مَرْوانَ على المنبرِ رافعًا يَديهِ، فقال: ((قبَّحَ اللهُ هاتينِ اليَدينِ، لقدْ رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يَزيدُ على أن يقولَ بيده هكذا، وأشارَ بإصبعِه المسبِّحةِ )) رواه مسلم (874).
2- ما رواه أنسُ بنُ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أصابتِ الناسَ سَنَةٌ السَّنَة: الجَدْب؛ يُقال: أصابتْهم سَنَةٌ، إذا أصابهم الجدبُ. يُنظر: ((مجمل اللغة)) لابن فارس (1/474)، ((غريب الحديث)) للحربي (3/969). على عَهدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبينما النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُب في يومِ الجُمُعة قام أعرابيٌّ، فقال: يا رسولَ اللهِ، هلَك المال، وجاعَ العِيال! فادعُ اللهَ لنا، فرفَع يَديه... ))الحديث رواه البخاري (933)، ومسلم (897).

انظر أيضا: