الموسوعة الفقهية

المبحثُ الأوَّلُ: ميقاتُ الآفاقيِّ وأحكامُه


المَطْلَب الأوَّل: مواقيتُ الآفاقيِّ
أوَّلًا: تعريفُ الآفاقيِّ:
الآفاقيُّ: هو من كان منزِلُه خارِجَ منطِقَةِ المواقيتِ ((المجموع)) للنووي (7/196)، ((مجمع الأنهر)) لشيخ زاده (1/389)، ويُنْظَر: ((المغرب)) للمطرزي (1/ 26).
ثانيًا: مواقيتُ الآفاقيِّ:
تَتنوَّعُ مواقيتُ الآفاقِ باعتبارِ جِهَتِها من الحَرَم؛ فلكُلِّ جِهةٍ ميقاتٌ مُعيَّنٌ، ويرجِعُ كلامُ أَهْل العِلْم في المواقيتِ إلى سِتَّةِ مواقيتَ:
الميقاتُ الأوَّلُ: ذو الحُليفةِ: ميقاتُ أهْلِ المدينةِ، ومَن مَرَّ بها مِن غيرِ أهْلِها، وهو موضِعٌ معروفٌ في أوَّلِ طريقِ المدينَةِ إلى مكَّةَ، بينه وبين المدينةِ نحوُ سِتَّةِ أميالٍ (13 كيلومترًا تقريبًا)، وبينه وبين مكَّة نحوُ مائِتَي مِيلٍ تقريبًا (408 كيلومترًا تقريبًا)، فهو أبعَدُ المواقيتِ من مكَّة يقول شيخي زاده: (فهو أبعَدُ المواقيتِ؛ إمَّا لعِظَمِ أجورِ أهْلِ المدينةِ، وإمَّا للرِّفْقِ بسائِرِ الآفاقِ؛ فإنَّ المدينة أقربُ إلى مكَّةَ من غيرها، وللشامِيِّين وأهل مصر وغيرِهما من أرض العَرَب). ((مجمع الأنهر)) (1/391). ، وتُسمَّى الآن (آبارَ عليٍّ) قال الحطَّاب: (قال ابنُ جماعة: بها البئرُ التي يسمُّونها العوامُّ بِئْرَ عليٍّ، يَنْسُبونَها إلى عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، ويزعمونَ أنَّه قاتَلَ الجِنَّ بها، ونِسْبَتُها إليه رَضِيَ اللهُ عنه غيرُ معروفةٍ عند أَهْل العِلْم، ولا يُرمَى بها حَجَرٌ ولا غيرُه، كما يفعَلُه بعضُ الجَهَلَةِ. ((مواهب الجليل)) (4/41)، ويُنْظَر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (26/99). ، ومنها أحرَمَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لحَجَّةِ الوداعِ ((المجموع)) للنووي (7/195).
الميقاتُ الثَّاني: الجُحْفَةُ: ميقاتُ أهْلِ الشَّامِ، ومَن جاء مِن قِبَلِها: مِنْ مِصْرَ، والمغْرِب، ومَن وراءَهم، وهي قريةٌ كبيرةٌ على نحو (186 كيلومترًا تقريبًا) من مكَّة، سُمِّيَتْ جُحْفةً؛ لأنَّ السَّيلَ جَحَفَها في الزَّمنِ الماضي، وحَمَلَ أهْلَها الظاهِرُ أنَّ السيلَ جَحَفَها مرَّتينِ: الأولى: عندما نزلها بنو عُبيدٍ، وهم إخوةُ عادٍ حين أخرَجَهم العماليقُ من يثربَ، فجاءهم سيلٌ فأجحَفَهم؛ فسُمِّيَت الجُحْفَةَ، ثم جَحَفَها في سنةِ ثمانينَ من الهجرةِ؛ ومعنى: أجحَفَهم؛ أي: استأصَلَهم. يُنْظَر: ((مجمع الأنهر)) لشيخ زاده (1/391)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/42). ، وهي التي دعا النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنْ يُنقَلَ إليها حُمَّى المدينةِ، وكانت يومئذٍ دارَ اليهودِ، ولم يكن بها مُسلِمٌ، ويُقالُ: إنَّه لا يَدْخُلُها أحدٌ إلَّا حُمَّ، وقد اندثَرَت، ولا يكاد يَعْرِفُها أحدٌ، ويُحرِمُ الحُجَّاجُ الآن من (رابغ)، وهي تقعُ قبل الجُحْفَة بيسيرٍ إلى جهَةِ البَحرِ، فالْمُحْرِمُ من (رابغ) مُحْرِمٌ قبل الميقاتِ، وقيل: إنَّ الإحرامَ منها أحوَطُ لعَدَمِ التيقُّنِ بمكانِ الجُحفَةِ ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/342)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/42)، ((المجموع)) للنووي (7/195)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/208)، ((مرقاة المفاتيح)) لملا علي القاري (4/1485)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (81/142).
الميقاتُ الثَّالِثُ: قَرْنُ المنازِلِ (السَّيلُ الكَبيرُ): ميقاتُ أهْلِ نَجْدٍ النَّجْد: ما ارتفَعَ من الأرضِ، وحَدُّه ما بين العُذَيبِ إلى ذاتِ عِرْقٍ, وإلى اليمامَةِ, وإلى جبل طَيِّئٍ, وإلى جُدَّةَ وإلى اليَمَنِ. ((لسان العرب)) لابن منظور (3/ 413، 414)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/42). ، و(قَرْن) جبلٌ مُطِلٌّ على عَرفاتٍ، ويقال له: قَرْن المُبارَك، بينه وبين مكَّةَ نحو أربعينَ مِيلًا (78 كيلومترًا تقريبًا)، وهو أقرَبُ المواقيتِ إلى مكَّةَ ((مجمع الأنهر)) لشيخ زاده (1/392)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/42)، ((المجموع)) للنووي (7/195).
الميقاتُ الرَّابِع: يَلَمْلَمُ: ميقاتُ أهلِ اليمَنِ وتِهامَةَ، ويلملَمُ: جبلٌ من جبالِ تِهامَةَ، جنوبَ مكَّةَ، وتقع على نحو (120كيلومترًا تقريبًا) من مكَّةَ ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/42).
الميقاتُ الخامِسُ: ذاتُ عِرْقٍ: ميقاتُ أهْلِ العِراقِ، وسائِرِ أهْلِ المَشْرِقِ، وهي قريةٌ بينها وبين مكَّة اثنان وأربعون ميلًا، (100 كيلومترٍ تقريبًا) وقد خَرِبَتْ ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/43)، ((المجموع)) للنووي (7/195).
أَدِلَّةُ تحديدِ هذه المواقيتِ الخَمْسَةِ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((وقَّتَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لأهلِ المدينةِ ذا الحُلَيفة، ولأهل الشَّامِ الجُحْفةَ، ولأهل نَجْدٍ قَرْنَ المنازِلِ، ولأهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فهُنَّ لهُنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ، لِمَن كان يريد الحَجَّ والعُمْرَةَ، فمن كان دونَهنَّ فمُهَلُّه من أهْلِه، وكذاك حتى أهْلُ مكَّةَ يُهِلُّونَ منها )) رواه البخاري (1526) واللفظ له، ومسلم (1181).
2- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((يُهِلُّ أهْلُ المدينةِ مِن ذي الحُلَيفَةِ، وأهْلُ الشَّامِ مِنَ الجُحفةِ، وأهلُ نجْدٍ مِن قَرْنٍ. قال عبدُ الله- يعني ابنَ عُمرَ- وبلغني أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ويُهِلُّ أهلُ اليَمَنِ مِن يَلَمْلَمَ )) رواه البخاري (1525)، ومسلم (1182).
3- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أُتِيَ وهو في مُعَرَّسِه مِن ذي الحُليفةِ في بطنِ الوادي، فقيل: إنَّك ببَطْحاءَ مباركَةٍ، قال موسى: وقد أناخ بنا سالمٌ بالْمُناخِ من المسجِدِ الذي كان عبدُ الله يُنِيخُ به؛ يتحَرَّى مُعَرَّسَ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم، وهو أسفَلُ مِن المسجِدِ الذي ببطْنِ الوادي، بينه وبين القبلةِ، وَسَطًا من ذلك )) رواه البخاري (2336)، ومسلم (1346) واللفظ له.
4- عن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بوادي العقيقِ يقول: ((أتاني الليلةَ آتٍ مِن ربِّي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المُبارَكِ، وقل: عُمْرَةً في حَجَّةٍ )) رواه البخاري (1534).
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك: ابنُ المُنْذِرِ قال ابنُ المُنْذِر: (أجمعوا على ما ثبت به الخبر، عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المواقيت) ((الإجماع)) (ص: 51)، وينظر ((المجموع)) للنووي (7/196). ، وابنُ حَزْمٍ قال ابنُ حزم: (أَجْمعُوا أَن ذَا الحليفة لأهل الْمَدِينَة، والجُحْفة لأهل الْمغرب، وَقرن لأهل نجد، ويلملم لأهل اليمن، وَالمَسجِدَ الحرَام لأهل مَكَّة؛ مَوَاقِيتُ الإحرام لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة، حاشا العمرَة لأهلِ مَكَّة) ((مراتب الإجماع)) (ص: 42). ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (أجمع أَهْلُ العِلْم بالعراق والحِجَاز على القول بهذه الأحاديثِ واستعمالِها، لا يخالفون شيئًا منها، وأنَّها مواقيت لأهلها في الإحرام بالحَجِّ منها، ولكلِّ من أتى عليها مِن غيرِ أهلِها ممَّن أراد حجًّا أو عُمْرَة) ((الاستذكار)) (4/37). وقال أيضًا: (أجمع أَهْل العِلْم على أنَّ إحرامَ العراقيِّ مِن ذات عِرْقٍ؛ إحرامٌ من الميقاتِ) ((التمهيد)) (15/143)، ويُنظَر ((المجموع)) للنووي (7/197)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/207). ، وابنُ رُشدٍ قال ابنُ رشد: (إنَّ العلماء بالجملة مُجْمِعونَ على أنَّ المواقيتَ التي منها يكون الإحرامُ؛ أمَّا لأهل المدينة فذو الحُليفة، وأمَّا لأهل الشام فالجُحْفة، ولأهل نجدٍ قَرْنٌ، وأهل اليمَنِ يَلَمْلَم؛ لثبوت ذلك عن رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم من حديثِ ابنِ عُمَرَ وغيره) ((بداية المجتهد)) (1/324). ، وابنُ قُدامة قال شمس الدين ابن قُدامة: (المواقيتُ المنصوصُ عليها الخمسةُ التي ذكرها الخرقي رحمه الله، وقد أجمع أَهْل العِلْم على أربعةٍ منها وهي: ذو الحليفة, والجُحْفة, وقَرْن, ويلملم. واتفق أئمَّة النقل على صحَّة الحديث عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيها) ((الشرح الكبير)) (3/207). ، والنَّوَوِيُّ وقال النوويُّ في حديث ذات عِرْقٍ: (قد اتَّفق على العمل به الصَّحابةُ ومَن بَعْدَهم). ((المجموع)) (7/ 195). حكى بعضُ الأئمة المتقدمين خلافًا في ميقات ذات عِرْق، فقد نقله الإمامُ ابن عبد البرِّ عن أبي الشعثاء جابر بن زيد وطائفةٍ معه، ونقله الطحاويُّ عن قوم مُبْهَمين. ((شرح معاني الآثار)) للطحاوي (2/117)، ((الاستذكار)) لابن عبد البر (4/37)، ((المجموع)) للنووي (7/193، 195).
الميقاتُ السَّادِسُ: العقيقُ يقال لكلِّ مَسيلِ ماءٍ شَقَّه السَّيلُ فأنْهَرَه ووَسَّعَه: عقيقٌ، وفي بلاد العرب أربعةُ أعِقَّة، وهى أودِيَةٌ عاديَّة؛ منها: عقيقٌ يدفُقُ ماؤه في غَوْرِ تِهامة، وهو المراد هنا. ((معجم البلدان)) لياقوت (4/138)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/68)، ((المجموع)) للنووي (7/195، 196). : وادٍ وراءَ ذاتِ عِرْقٍ مِمَّا يلي المشْرِقَ، عن يسارِ الذَّاهِبِ من ناحِيَةِ العِراقِ إلى مكَّةَ، ويُشْرِفُ عليها جَبَلُ عِرْقٍ.
اختلف أَهْلُ العِلْمِ في الإحرامِ من العقيق على قولينِ:
القولُ الأوَّل: الاقتصارُ على استحبابِ الإحرامِ من ذاتِ عِرْق، وهو يقعُ بعد العقيق، وهذا مذهَبُ الجُمْهورِ قال ابنُ عبد البرِّ: (... إلَّا أنهم اختلفوا في ميقاتِ أهْلِ العراق وفي مَن وَقَّتَه لهم. فقال مالك والشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابهم: ميقاتُ أهل العراق من ناحية المشْرِقِ كُلِّها ذاتُ عِرْقٍ، وهو قول سائر العلماء) ((الاستذكار)) (4/37). وقال شمس الدين ابن قُدامة: (وذات عِرْق ميقاتُ أهل المشرقِ، في قول أكثر أَهْل العِلْم؛ منهم مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي) ((الشرح الكبير)) (3/207). وقال ابنُ رشد: (واختلفوا في ميقاتِ أهلِ العِراقِ، فقال جمهورُ فقهاء الأمصار: ميقاتُهم من ذات عِرْقٍ) ((بداية المجتهد)) (1/324)، وانظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/207). مِنَ الحَنَفيَّة ((البناية شرح الهداية)) للعيني (4/158)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/475). ، والمالِكِيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/45)، ويُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (4/37). ، والحَنابِلَةِ قال ابنُ مفلح: (ليس الأفضلُ للعراقيِّ أن يُحرِمَ من العقيق). ((الفروع)) (5/300)، وينظر ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/401).
وذلك للآتي:
أولًا: إجماعُ النَّاسِ على أنَّهم إذا جاوَزوا العقيقَ إلى ذاتِ عِرْق، فإِنَّه لا دَمَ عليهم، ولو كان ميقاتًا لوَجَبَ الدَّمُ بِتَرْكِه ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/45).
ثانيًا: إجماعُ النَّاسِ على ما فَعَلَه عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه من توقيتِ ذاتِ عِرْق، وهو بَعْد العقيقِ ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/45).
القول الثاني: استحبابُ الإحرامِ مِنَ العَقيقِ لأهلِ المَشْرِق، وهذا مذهَبُ الشَّافِعِيَّة قال الشافعي: (لو أهلُّوا من العقيقِ كان أحبَّ إليَّ). ((الأم)) (2/150). والإحرامُ عند الشَّافِعِيَّة من العقيق مستحبٌّ ولا يجب؛ لأن ذاتَ عِرْق أثبَتُ في الرواية من العقيقِ، مع ما اقترن بها من العَمَلِ الجاري في السَّلَف ومَن بَعْدَهم من أهل كلِّ عصر، ثم ما جاء من الكلامِ في صحَّة رواية العقيق. ويُنْظَر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/69)، ((المجموع)) للنووي (7/197)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/473). ، وبعض الحَنَفيَّة ((حاشية ابن عابدين)) (2/475). ، وبه قال بعضُ السَّلَفِ ((الأم)) للشافعي (2/152)، ((الاستذكار)) لابن عَبْدِ البَرِّ (4/37)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/324) ، واستحسَنَه ابنُ المُنْذِر قال ابنُ المُنْذِر: (والإحرامُ من ذات عِرْق يُجْزِئ، وهو من العقيقِ أَحْوَط). ((الإشراف)) (3/178). , وابنُ عَبْدِ البَرِّ ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (15/143). قال شمس الدين ابن قُدامة: (وقد رُوِيَ عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه كان يُحْرِمُ من العقيق، واستحسنه الشافعيُّ, وابن المُنْذِر, وابنُ عَبْدِ البَرِّ...) ((الشرح الكبير)) (3/207).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثار
عن يحيى بن سيرين: أنه حج مع أنس بن مالك رضي الله عنه فحدثنا: (أنه أحرم من العقيق) رواه مسدد كما في ((إتحاف الخيرة المهرة)) للبوصيري (3/177) واللفظ له، وأورده البيهقي في ((معرفة السنن والآثار)) (9417) وثَّقَ رُواتَه البوصيري،
ثانيًا: أنَّ الإحرامَ مِنَ العقيقِ فيه احتياطٌ، وسلامةٌ مِنَ الالتباسِ الواقِعِ في ذاتِ عِرْق؛ لأنَّ ذاتَ عِرْقٍ قريةٌ خَرِبَت، وحُوِّلَ بناؤُها إلى جهَةِ مكَّةَ، فالاحتياطُ الإحرامُ قبل موضِعِ بنائِها ((المجموع)) للنووي (7/194، 198)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/207).
ثالثًا: أنَّ العقيقَ أبعَدُ من ذاتِ عِرْقٍ، فكان أَوْلى ((البيان في مذهب الإمام الشافعي)) للعمراني (4/109). ؛ فإنَّ تحديدَ المواقيتِ وتعيينَها للمَنْعِ عن مجاوَزَتِها بلا إحرامٍ، لا عن الإحرامِ قبلَ وُرودِها ((شرح المشكاة)) للطيبي (6/ 1948).
المَطْلَب الثَّاني: الإحرامُ من الميقاتِ لِمَن مرَّ منه قاصدًا النُّسُك:
يجبُ الإحرامُ من الميقاتِ لِمَن مرَّ منه قاصدًا أحَدَ النُّسُكينِ: الحَجَّ أو العُمْرَةَ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((وقَّتَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لأهلِ المدينةِ ذا الحُلَيفة، ولأهل الشَّامِ الجُحْفةَ، ولأهل نَجْدٍ قَرْنَ المنازِلِ، ولأهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فهُنَّ لهُنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ، لِمَن كان يريد الحَجَّ والعُمْرَةَ، فمن كان دونَهنَّ فمُهَلُّه من أهْلِه، وكذاك حتى أهْلُ مكَّةَ يُهِلُّونَ منها )) رواه البخاري (1526) واللفظ له، ومسلم (1181).
2- عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ((يُهِلُّ أهْلُ المدينة من ذي الحُليفةِ، وأهلُ الشَّامِ من الجُحْفةِ، وأهلُ نجْدٍ من قَرْنٍ. قال عبد الله- يعني ابنَ عُمَرَ- وبلغني أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال: ويُهِلُّ أهلُ اليَمَنِ من يَلَمْلَمَ )) رواه البخاري (133)، ومسلم (1182).
وَجْهُ الدَّلالَةِ مِنْ هَذينِ الحَديثَينِ:
أنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم وقَّتَ المواقيتَ، فقال: ((فهُنَّ لهُنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ، لِمَن كان يريد الحَجَّ والعُمْرَةَ))، وفائدة التَّأقيتِ المنعُ من تأخيرِ الإحرامِ عنها، وعلى ذلك جرى عمَلُ المسلمينَ ((الهداية شرح البداية)) للمرغياني (1/136)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/402).
3- عن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمعْتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بوادي العقيقَ يقول: ((أتاني الليلةَ آتٍ من ربِّي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المُبارَك، وقل: عُمْرَةً في حجَّةٍ )) رواه البخاري (1534).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أحرَمَ من الميقاتِ، والأَصْلُ في دَلالةِ الأَمرِ الوجوبُ، ولم يُنقَلْ عنه صلَّى الله عليه وسَلَّم ولا عن أحَدٍ من أصحابِه أنَّهم تجاوَزوها بغيرِ إحرامٍ ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/402).
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك النَّوَوِيُّ قال النووي: (قال الشافعي والأصحاب: إذا انتهى الآفاقيُّ إلى الميقات وهو يريد الحَجَّ أو العُمْرَةَ أو القِرانَ حَرُمَ عليه مجاوَزَتُه غيرَ مُحْرِمٍ بالإجماعِ؛ فإن جاوزه فهو مُسيءٌ) ((المجموع)) (7/206)، ((شرح النووي على مسلم)) (8/82). ، والزيلعيُّ قال الزيلعي: (وجب الإحرامُ من الميقاتِ عند إرادَةِ النُّسُك إجماعًا) ((تبيين الحقائق)) (2/7).
المَطْلَب الثَّالِث: مَن سَلَك طريقًا ليس فيه ميقاتٌ مُعَيَّنٌ، بَرًّا أو بَحرًا أو جَوًّا:
مَن سَلك طريقًا ليس فيه ميقاتٌ مُعَيَّن، برًّا أو بَحرًا وكذا جوًّا، كما في القرار الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي. انظر: ((مجلة مجمع الفقه الإسلامي)) التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي (العدد الثَّالِث: الجزء 3/1649): قرار رقم (7). فائدةٌ: من لم يحمِلْ معه ملابِسَ الإحرامِ في الطَّائرةِ، فليس له أن يؤخِّرَ إحرامَه إلى جُدَّةَ، بل الواجِبُ عليه أن يُحْرِمَ في السراويلِ، وعليه كشْفُ رأسِه، فإذا وصل إلى جُدَّةَ اشترى إزارًا وخَلَعَ القميصَ، وعليه عن لُبْسِه القميصَ كَفَّارةٌ، وهي إطعامُ سِتَّةِ مساكينَ؛ لكُلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ من تمرٍ أو أرز أو غيرهما من قوتِ البلد أو صيامِ ثلاثَةِ أيَّامٍ، أو ذَبْحِ شاةٍ، وهذا قرارُ المجمَعِ الفقهيِّ التابع لرابطة العالم الإسلامي. يُنْظَر: ((مجلة البحوث الإسلامية)) (32/332). ، اجتهد وأحرَمَ إذا حاذى ميقاتًا من المواقيتِ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (2/342)، ويُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (2/426). ، والمالِكِيَّة ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/380)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/46).       ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/199)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/473). ، والحَنابِلَة ((الفروع)) لابن مفلح (5/302)، ((المبدع شرح المقنع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/49)، وانظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/24)، ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (21/274).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما قال: ((لَمَّا فُتِحَ هذان المِصرانِ أتَوْا عُمَرَ، فقالوا: يا أميرَ المؤمنينَ، إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَدَّ لأهلِ نجدٍ قَرنًا، وهو جَورٌ عن طريقِنا، وإنَّا إن أرَدْنا قَرنًا شَقَّ علينا. قال: فانظُروا حَذْوَها من طريقِكم. فحَدَّ لهم ذاتَ عِرقٍ )) رواه البخاري (1531).
ثانيًا: لأنَّ مَن أراد الحَجَّ أو العُمْرَةَ إذا مرَّ بميقاتٍ لَزِمَه الإحرامُ منه، فإذا حاذاه صار كالمارِّ به ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (21/274).
المطلب الرابع: مَن سَلَك طريقًا ليس فيه ميقاتٌ مُعَيَّنٌ واشتبهَتْ عليه المُحاذاةُ
مَن سَلَك طريقًا ليس فيه ميقاتٌ مُعَيَّنٌ، برًّا أو بحرًا أو جوًّا، فاشتبه عليه ما يحاذي المواقيتَ ولم يجِدْ مَن يُرشِدُه إلى المحاذاةِ؛ وجَبَ عليه أن يحتاطَ ويُحْرِمَ قبل ذلك بوَقْتٍ يَغْلِبُ على ظَنِّه أنَّه أحرَمَ فيه قبل المحاذاةِ؛ وليس له أن يؤخِّرَ الإحرامَ، وبهذا صدَرَ قرارُ مَجْمَع الفِقْهِ الإِسْلاميِّ ((مجلة مجمع الفقه الإسلامي)) (العدد الثَّالِث: 3/1611) في جلسته المنعقدة في 10/4/1402هـ. الموافق 4/2/1982م. ، وبه أفتى ابنُ باز قال ابنُ باز: (وإذا اشتبه عليه ذلك لَزِمَه أن يُحْرِمَ في الموضِعِ الذي يتيقَّنُ أنَّه محاذيها أو قَبْلَها حتى لا يجاوِزَها بغير إحرامٍ، ومن المعلوم أنَّ الإحرامَ قبل المواقيتِ صحيحٌ، وإنَّما الخلاف في كراهَتِه وعَدَمِها، ومن أحرَمَ قبلها احتياطًا خوفًا من مجاوَزَتِها بغيرِ إحرامٍ فلا كراهةَ في حَقِّه) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/24).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال اللهُ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ اللهَ سبحانه أوجَبَ على عبادِه أن يتَّقوه ما استطاعوا، وهذا هو المُستطاعُ في حَقِّ مَن لم يمرَّ على نَفْسِ الميقاتِ ((مجلة مجمع الفقه الإسلامي)) (العدد الثَّالِث: 3/1612).
ثانيًا: أنَّ الإحرامَ قبل الميقاتِ جائِزٌ مع الكراهَةِ ومُنْعَقِدٌ، ومع التَّحرِّي والاحتياطِ خوفًا من تجاوُزِ الميقاتِ بغيرِ إحرامٍ تزولُ الكراهةُ؛ لأنَّه لا كراهةَ في أداءِ الواجِبِ ((مجلة مجمع الفقه الإسلامي)) (العدد الثَّالِث: 3/1612).
المَطْلَب الخامس: هل جُدَّةُ ميقاتٌ؟
جُدَّةُ ليست ميقاتًا، ولا يجوزُ لأحدٍ أن يتجاوَزَ ميقاتَه ويُحْرِمَ مِن جُدَّةَ، إلَّا أنْ لا يحاذِيَ ميقاتًا قبلها؛ فإنَّه يُحْرِمُ منها، كمن قَدِمَ إليها عن طريقِ البَحرِ من الجزءِ المحاذي لها من السُّودان؛ لأنَّه لا يصادِفُ ميقاتًا قبلها، وهذا اختيارُ ابنِ باز للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رسالة في الموضوع بعنوان: بيان خطأِ من جَعَلَ جُدَّة ميقاتًا لحجَّاج الجَوِّ والبحر. ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/23)، وانظر: ((مجلة البحوث الإسلامية)) (32/328). ، وابنِ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (إذا كان قَدِمَ من السودان إلى جُدَّة يريد العُمْرَة لكنَّه أتى جُدَّة مارًّا بها مرورًا؛ فإنَّ الواجب عليه أن يُحْرِمَ من الميقات... ولكن في بعض الجهاتِ السُّودانيَّة إذا اتَّجهوا إلى الحِجَاز لا يحاذونَ المواقيتَ إلَّا بعد نزولهم في جُدَّة؛ بمعنى أنهم يدخلون إلى جُدَّة قبل محاذاة المواقيت؛ مثل أهْلِ سواكِن؛ فهؤلاء يُحرمونَ مِن جُدَّة؛ كما قال ذلك أَهْل العِلْم، لكنَّ الذي يأتي من جنوبِ السودان، أو من شَمالِ السودان هؤلاء يمرونَ بالميقاتِ قبل أن يَصِلوا إلى جُدَّة فيلزمهم الإحرامُ من الميقاتِ الذي مرُّوا به ما داموا يريدون العُمْرَة أو الحَجَّ). ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (21/282). ، وبه صدرت فتوى اللَّجْنَة الدَّائِمَة جاء في فتوى اللَّجْنَة الدَّائِمَة: (أمَّا جُدَّةُ فهي ميقاتٌ لأهْلِ جُدَّةَ وللمقيمين بها إذا أراد حجًّا أو عُمْرَة، وأما جعل جُدَّةَ ميقاتًا بدلًا من يَلَمْلَمَ فلا أصْلَ له، فمن مَرَّ على يلملمَ وتَرَكَ الإحرامَ منه وأحرم من جُدَّة؛ وجب عليه دَمٌ، كمن جاوَزَ سائِرَ المواقيتِ، وهو يريد حجًّا أو عُمْرَة؛ لأنَّ ميقاتَه يَلَمْلَم؛ ولأنَّ المسافَةَ بين مكَّةَ إلى يلملم أبعَدُ من المسافَةِ التي بين جُدَّة ومكَّة). ((فتاوى اللَّجْنَة الدَّائِمَة- المجموعة الأولى)) (11/126). ، وقرارُ هيئةِ كبارِ العُلَماءِ ((مجلة البحوث الإسلامية)) (32/328). ، والمجمَعِ الفِقْهِيِّ الإِسْلاميِّ ((قرارات المجمع الفقهي الإسلامي للرابطة)) قرار رقم: 18 (2/5) حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرها.
الأدلَّة:
أولا مِنَ السُّنَّةِ:
1- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((وقَّتَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لأهلِ المدينةِ ذا الحُلَيفة، ولأهل الشَّامِ الجُحْفةَ، ولأهل نَجْدٍ قَرْنَ المنازِلِ، ولأهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فهُنَّ لهُنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ، لِمَن كان يريد الحَجَّ والعُمْرَةَ، فمن كان دونَهنَّ فمُهَلُّه من أهْلِه، حتى أهْلُ مكَّةَ يُهِلُّونَ منها )) رواه البخاري (1526) واللفظ له، ومسلم (1181).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم حدَّدَ المواقيتَ، وقال: ((هُنَّ لهُنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ، لِمَن كان يريد الحَجَّ والعُمْرَةَ)) فلا يجوز للحاجِّ والمعتَمِرِ أن يختَرِقَ هذه المواقيتَ إلى جُدَّةَ بدون إحرامٍ ثم يُحْرِمَ منها؛ لأنَّها داخِلَ المواقيتِ ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/32).
2- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((لَمَّا فُتِحَ هذان المِصْرانِ- أي: الكوفةُ والبَصْرةُ- أتَوْا عُمَرَ، فقالوا: يا أميرَ المؤمنينَ، إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم حدَّ لأهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وهو جَوْرٌ عن طريقِنا، وإنَّا إن أرَدْنا قَرْنًا شَقَّ علينا، فقال: انظُرُوا حَذْوَها من طريقِكم، فحَدَّ لهم ذاتَ عِرْقٍ )) رواه البخاري (1531).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الإحرامَ يكون في الميقاتِ أو حَذْوَه، فلا يجوزُ تأخيرُ الإحرامِ إلى جُدَّةَ ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (21/324) ).
ثانيًا: لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم وقَّتَ المواقيتَ لِمُريدِي الحَجِّ والعُمْرَةِ مِن سائِرِ الأمصارِ، ولم يجعَلْ جُدَّةَ مِيقاتًا لِمَن تَوَجَّه إلى مَكَّةَ مِن سائِرِ الأمصارِ والأقاليمِ ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/24).
المَطْلَب السادس: حُكْمُ تجاوُزِ المِيقاتِ للمُحْرِمِ بِدونِ إِحْرامٍ
الفَرْعُ الأوَّلُ: مَن تجاوَزَ الميقاتَ بِغَيرِ إحرامٍ ولم يَرْجِعْ للإحرامِ مِن الميقاتِ
مَن كان مريدًا لنُسُكِ الحَجِّ أو العُمْرَةِ، وتجاوَزَ الميقاتَ بغيرِ إحرامٍ، فإنَّه يجِبُ العَوْدُ إليه، والإحرامُ منه، فإن لم يَرْجِعْ أَثِمَ قال النووي: (أجمع العُلَماءُ على أنَّ هذه المواقيتَ مشروعةٌ، ثم قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد والجمهور: هي واجبةٌ، لو تَرَكَها وأحرمَ بعد مُجاوَزَتِها أثِمَ ولَزِمَه دمٌ، وصَحَّ حَجُّه) ((شرح النووي على مسلم)) (8/82). وقال ابنُ حجر: (اختُلِفَ فيمن جاوَزَ الميقاتَ مريدًا للنُّسُك فلم يُحْرِمْ، فقال الجمهور: يأثَمُ ويَلْزَمُه دمٌ. فأمَّا لُزومُ الدَّمِ فبدليلٍ غير هذا، وأما الإثمُ فلِتَرْك الواجب) ((فتح الباري)) (3/387). ووجب عليه الدَّمُ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: من الحَنَفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (4/153)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/7)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/165). ، والمالِكِيَّة ((الشرح الكبير)) للدردير (2/ 25)، ويُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/324)، ((الذخيرة)) للقرافي (3/208). والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/206). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/404)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قُدامة (3/ 252)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/220-221).
الأدلَّة:
دليلُ وُجوبِ الرُّجوعِ:
أنَّه نُسُكٌ واجِبٌ أمكَنَه فِعْلُه، فلَزِمَه الإتيانُ به كسائِرِ الواجباتِ ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (15/149)، ((المجموع)) للنووي (7/205)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/220).
دليلُ وُجوبِ الدَّمِ عليه:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((من نسي من نسكه شيئا، أو تركه فَلْيُهْرِقْ دمًا)) رواه مالك في ((الموطأ)) (1/419)، والدارقطني (2/244)، والبيهقي (9191). صَحَّح إسناده موقوفا على ابن عباس: النووي في ((المجموع)) (8/99)، وابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/314)، وصححه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (17/397)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (1100).
الفَرْعُ الثَّاني: من تجاوَزَ الميقاتَ بغَيرِ إحرامٍ ثُمَّ رَجَعَ إلى الميقاتِ فأحرَمَ مِنْه
من تجاوَزَ الميقاتَ بغَيرِ إحرامٍ ثُمَّ رَجَعَ إلى الميقاتِ فأحرَمَ مِنْه؛ فلا دَمَ عليه قال شمس الدين ابن قُدامة: (... وجملَتُه أنَّ من جاوزَ الميقاتَ مريدًا للنُّسُكِ غيرَ مُحْرِمٍ يجب عليه أن يَرْجِعَ إلى الميقاتِ ليُحْرِمَ منه إذا أمكنه؛ لأنَّه واجبٌ أمكنه فِعْلُه فلزمه كسائِرِ الواجبات، وسواءٌ تجاوزه عالِمًا به أو جاهِلًا، عَلِمَ تحريمَ ذلك أو جَهِلَه، فإنْ رَجَعَ إليه فأحرَمَ منه فلا شيءَ عليه؛ لا نعلم في ذلك خلافًا، وبه قال جابر بن زيد, والحسن, وسعيد بن جبير, والثوري, والشافعي...) ((الشرح الكبير)) (3/221).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك: الماوردي [415] قال الماورديُّ: (فإذا ثبَت أنَّ الإحرام من الميقات واجبٌ، فعليه إذا جاوزه غيرَ محرِمٍ أن يعودَ إليه فيُحرم منه، فإنْ عاد إليه، فابتدأ إحرامَه منه، أجزأه، ولا دَمَ عليه بإجماع). ((الحاوي الكبير)) (4/72). وقال الكاسانيُّ: (ولو جاوز ميقاتًا من المواقيتِ الخمسة يُريد الحجَّ أو العُمرة، فجاوزه بغير إحرام، ثمَّ عاد قبل أن يُحرِم وأَحرمَ من الميقات، وجاوزه محرِمًا، لا يجب عليه دمٌ بالإجماع). ((بدائع الصنائع)) (2/165). وقال شمسُ الدِّين ابن قُدامة: (إنْ رجَع إلى الميقات فأحرمَ منه، فلا شيءَ عليه، لا نعلم في ذلك خلافًا). ((الشرح الكبير)) (3/115). وقال: (... وجملتُه: أنَّ مَن جاوز الميقات مُريدًا للنسك غيرَ مُحرِم، يجب عليه أن يرجِعَ إلى الميقات؛ ليحرمَ منه إذا أمكنه؛ لأنَّه واجبٌ أمكنه فِعلُه، فلزمَه، كسائر الواجبات، وسواء تجاوزه عالِمًا به أو جاهلًا، علِمَ تحريمَ ذلك أو جهِله، فإنْ رجَع إليه فأحرمَ منه فلا شيءَ عليه، لا نعلم في ذلك خِلافًا). ((الشرح الكبير)) (3/221). ، والكاسانيُّ قال الكاساني: (ولو جاوز ميقاتًا من المواقيتِ الخمسةِ يريد الحَجَّ أو العُمْرَة فجاوَزَه بغير إحرامٍ ثم عاد قبل أن يُحْرِمَ وأحرَمَ من الميقات وجاوزه مُحْرِمًا؛ لا يجب عليه دمٌ بالإجماعِ) ((بدائع الصنائع)) (2/165). ، وابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة: (وجملة ذلك أنَّ من جاوزَ الميقاتَ مريدًا للنُّسُكِ غيرَ مُحْرِمٍ يجب عليه أن يَرْجِعَ إلى الميقاتِ ليُحْرِمَ منه إذا أمكنه؛ لأنَّه واجبٌ أمكنه فِعْلُه فلزمه كسائِرِ الواجبات، وسواءٌ تجاوزه عالِمًا به أو جاهِلًا، عَلِمَ تحريمَ ذلك أو جَهِلَه، فإنْ رَجَعَ إليه فأحرَمَ منه فلا شيءَ عليه؛ لا نعلم في ذلك خلافًا) ((المغني)) (3/ 252).
ثانيًا: لأنَّه أحرَمَ من الميقاتِ الذي أُمِرَ بالإحرامِ منه، فلم يلزَمْه شيءٌ؛ لأنَّه أتى بالواجِبِ عليه، كما لو لم يجاوِزْه ابتداءً ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/165) ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/404).
ثالثًا: لأنَّه لم يَتْرُكِ الإحرامَ من الميقاتِ ولم يَهْتِكْه، فلم يجِبْ عليه شيءٌ ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/165)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/221).
الفرع الثَّالِث: من أحرَمَ بعد الميقاتِ، ثم رجَعَ إلى الميقاتِ
من أحرم بعدَ الميقاتِ، ثمَّ رجع إلى الميقاتِ؛ فإنَّه لا يَسقُطُ عنه الدَّمُ، وهذا مَذْهَبُ المالِكِيَّةِ ((الشرح الكبير)) للدردير (2/ 25)، ويُنظر: ((بداية المجتهد))لابن رشد (1/324). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/ 304)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/221). ، وبه قال زُفَرُ من الحَنَفيَّة ((مجمع الأنهر)) لشيخ زاده (1/448). ، وهو قولُ ابنِ المُبارَك ((المجموع)) للنووي (7/208). , واختيارُ الشِّنْقيطيِّ قال الشِّنْقيطيُّ: (وأظهَرُ أقوالِ أَهْل العِلْم عندي: أنَّه إن جاوز الميقاتَ ثم رجع إلى الميقاتِ، وهو لم يُحْرِم، أنَّه لا شيءَ عليه ; لأنَّه لم يبتدئْ إحرامَه إلَّا من الميقات، وأنَّه إن جاوز الميقاتَ غيرَ مُحْرمٍ، وأحرم في حالِ مجاوَزَتِه الميقاتَ، ثم رجع إلى الميقاتِ محرمًا أنَّ عليه دمًا لإحرامِه بعد الميقات، ولو رجع إلى الميقاتِ؛ فإنَّ ذلك لا يَرْفَعُ حُكْمَ إحرامِه مجاوِزًا للميقات) ((منسك الإمام الشِّنْقيطيِّ)) (2/160) , وابنِ باز قال ابنُ باز فيمن نَسِيَ الإحرامَ من الميقات: (يرجِعُ ويُحْرِمُ من الميقاتِ إذا لم يكن قد أحرَمَ بعْدُ، أمَّا إذا كان قد أحرم بعدَ الميقاتِ فعليه دمٌ ولا يَرْجِعْ) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/40). , وابنِ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (لا يحِلُّ للإنسانِ إذا مرَّ بالميقاتِ وهو يريد الإحرامَ بالحَجِّ أو العُمْرَةِ أن يتجاوَزَ الميقاتَ بلا إحرامٍ، فإن فعل قُلْنا له: ارجِعْ وأَحْرِمْ من الميقات، فإن أحرَمَ من غير الميقاتِ لَزِمَه عند العلماء دَمٌ يُذْبَحُ في مَكَّةَ ويُوَزَّع على الفُقَراءِ في مَكَّةَ). ((مجموع فتاوى ابن عُثيمين)) (21/369).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الآثارِ
- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((من تَرَك شيئًا مِن نُسُكِه فَلْيُهْرِقْ دمًا)) رواه مالك (3/615)، والدارقطني في ((السنن)) (2/244)، والبيهقي (5/30) (9191). قال النووي في ((المجموع)) (8/99): (إسناده صحيح عن ابن عباس موقوفًا عليه لا مرفوعًا)، وصَحَّح إسناده ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/314)، وقال الشِّنْقيطيُّ في ((أضواء البيان)) (5/330): صحَّ عن ابن عباس موقوفًا عليه، وجاء عنه مرفوعًا ولم يَثْبُت، وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (1100): (ضعيف مرفوعًا وثبت موقوفًا..) ولفظ مالك: (من نَسِيَ مِن نُسُكِه شيئًا أو تَرَكه فلْيُهْرِقْ دمًا) قال أيوب: (لا أدري قال: تَرَك أو نَسِيَ).
ثانيًا: أنَّ الدَّمَ استقرَّ عليه بتَرْكِ واجِبِ الإحرامِ من الميقاتِ، ولا يزول هذا برجوعِه، أمَّا إذا رجع قبل إحرامِه منه؛ فإنَّه لم يَتْرُكِ الإحرامَ منه، ولم يَهْتِكْه ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/221).
الفرع الرَّابِع: إذا جاوز الميقاتَ غَيْرَ مُريدٍ نُسُكًا ثم أرادَه
إذا جاوز الميقاتَ غَيْرَ مريدٍ نُسُكًا، ثم أراده؛ فإنَّه يُحْرِمُ مِن مَوْضِعِه، وهو مَذْهَبُ المالِكِيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/59). ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/203-204). ، وبه قال ابنُ حَجَرٍ قال ابنُ حجر: (ويؤخذ منه أن مَن سافَر غيرَ قاصدٍ للنُّسُك فجاوَزَ الميقاتَ ثم بدا له بعد ذلك النُّسُكُ أنَّه يُحْرِمُ من حيث تجدَّدَ له القَصْدُ ولا يجب عليه الرجوعُ إلى الميقاتِ؛ لقوله: فمن حيث أنشَأَ) ((فتح الباري)) (3/386). ، والشَّوْكانيُّ قال الشَّوْكاني: (ويدخُلُ في ذلك من سافَرَ غير قاصدٍ للنُّسُكِ فجاوز الميقاتَ ثم بدا له بعد ذلك النُّسُكُ؛ فإنَّه يُحْرِمُ من حيث تجدَّدَ له القَصْدُ ولا يجبُ عليه الرُّجوعُ إلى الميقاتِ) ((نيل الأوطار)) (4/296). ، واختارَه ابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (أمَّا الداخل لمَكَّة للعمل وكان أدى الحَجَّ والعُمْرَة ولكنَّه أراد الإحرامَ فيما بعد فإنَّه يُحْرِمُ من مَكَّة إن كان يريد الحَجَّ، وإن كان يريد العُمْرَةَ فإنَّه لابد أن يخرجُ إلى الحِلِّ ويُحْرِمَ من الحِلِّ، إمَّا التَّنْعيم، أو الجِعْرَانَة، أو الحُدَيْبِيَة على طريقِ جُدَّةَ) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (21/377).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم كما في حديثِ المواقيتِ: ((ومَن كان دون ذلك فمِن حيثُ أنشَأَ، حتى أهْلُ مَكَّةَ مِن مَكَّةَ)) رواه البخاري (1524)، ومسلم (1181). ، وهذا أنشأَ النِّيَّةَ مِن دون المواقيتِ، فمِيقاتُه مِن حيثُ أنشَأَ.
ثانيًا: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه أحرَمَ من الفُرُعِ)) رواه مالك في ((الموطأ-رواية محمد بن الحسن الشيباني)) (382) واللفظ له، والشافعي في ((الأم)) (3/350)، والبيهقي (9189) بلفظ: (أهلَّ) بدلًا من (أحرَمَ)  صحَّحَ إسنادَه النووي في ((المجموع)) (7/204). ، والفُرُعُ: بلادٌ بين ذي الحُلَيفة وبين مَكَّة، فتكون دونَ ميقاتِ المَدَنيِّ، وابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما مَدَنيٌّ، وتأويلُه: أنَّه خرج من المدينَةِ إلى الفُرُعِ لحاجَةٍ، ولم يَقْصِدْ مَكَّة، ثم أراد النُّسُكَ؛ فكان ميقاتُه مكانَه ((المجموع)) للنووي (7/204).
ثالثًا: أنَّ مَن وَصَل إلى مكانٍ على وَجْهٍ مشروعٍ، صار حكْمُه حُكْمَ أَهْلِه ((حاشية ابن عابدين)) (2/581)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/403).
الفرع الخامِسُ: المرورُ من الميقاتِ لحاجَةٍ غَيْرِ النُّسُكِ
مَسْألةٌ: حُكْمُ الإحرامِ لِمَن جاوَزَ الميقاتَ إلى الحِلِّ لحاجةٍ غَيْرِ النُّسُكِ
مَن جاوَزَ الميقاتَ لا يُريدُ نُسُكًا، ولا يريد دُخولَ الحَرَمِ فلا يجِبُ عليه الإحرامُ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلام: ((فهُنَّ لهُنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غَيْرِ أهْلِهِنَّ، لِمَن كان يريدُ الحَجَّ والعُمْرَةَ)) رواه البخاري (1526) واللفظ له، ومسلم (1181).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ مفهومَ الحديثِ يدُلُّ على أنَّ مَن لم يُرِدِ الحَجَّ والعُمْرَةَ، يجوزُ له أن يتجاوَزَ الميقاتَ بِغَيرِ إحرامٍ ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (4/ 194)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/44).
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة: (فأمَّا المُجاوِزُ للميقاتِ، مِمَّن لا يريد النُّسُك، فعلى قِسمينِ: أحدهما: لا يريد دخولَ الحَرَم، بل يريدُ حاجةً فيما سواه، فهذا لا يلزَمُه الإحرامُ بغير خلافٍ، ولا شيءَ عليه في ترْك الإحرامِ) ((المغني)) (3/253).
مَسْألةٌ: حُكْمُ الإحرام ِلِمَن جاوزَ الميقاتَ إلى مَكَّةَ لحاجَةٍ غَيْرِ النُّسُكِ
مَن جاوَزَ الميقاتَ بِقَصْدِ دُخولِ مَكَّةَ لغَيْرِ النُّسُكِ؛ فإنَّه لا يجِبُ عليه الإحرامُ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/11)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/484) وعند الأكثرين من الشَّافِعِيَّة يُستحَبُّ له الإحرامُ بالحَجِّ إن كان في أشْهُرِه ويُمكِنُه إدراكُه، وبالعُمْرَة، وهذا إذا حجَّ واعْتَمر حجَّةَ الإسلامِ وعُمْرَتَه. ، والظَّاهِريَّة ([442] قال ابنُ حزم: (ودخولُ مَكَّة بلا إحرامٍ جائز; لأنَّ النبيَّ عليه السلامُ إنَّما جعل المواقيتَ لِمَن مر بهِنَّ يريدُ حجًّا, أو عُمْرَة, ولم يجعَلْها لمن لم يُرِدْ حجًّا، ولا عُمْرَة, فلم يأمُرِ الله تعالى قطُّ, ولا رسولُه عليه السلامُ بأنْ لا يُدخَل مَكَّةَ إلَّا بإحرامٍ، فهو إلزامُ ما لم يأتِ في الشَّرْعِ إلزامُه). ((المحلى)) (7/266)، ويُنْظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/59). ، وهو روايةٌ عنْ أحمَدَ ((الإنصاف)) للمرداوي (3/302)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/254). ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَفِ قال ابنُ حجر: (وهو قولُ ابنِ عُمَرَ والزهري والحسن وأهل الظاهر) ((فتح الباري)) (4/59)، ويُنْظَر: ((المجموع)) للنووي (7/16). ، وهو ظاهِرُ تَبويبِ البُخاريِّ قال البخاري: (بابُ دُخولِ الحَرَمِ ومَكَّةَ بغيرِ إحرامٍ). انظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/59). ، واختارَه ابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القيم: (وهَدْيُ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم معلومٌ في المجاهِدِ، ومريدِ النُّسُكِ، وأمَّا مَن عداهما فلا واجِبَ إلَّا ما أوجبه اللهُ ورسولُه، أو أجمعَتِ عليه الأُمَّة) ((زاد المعاد)) (3/429) , والشِّنْقيطيُّ قال الشِّنْقيطيُّ: (أظهر القولينِ عندي دليلًا: أنَّ من أراد دخولَ مَكَّةَ- حَرَسَها اللهُ- لغرضٍ غيرِ الحَجِّ والعُمْرَة أنَّه لا يجب عليه الإحرامُ، ولو أحرم كان خيرًا له ; لأن أَدِلَّة هذا القولِ أقوى وأظهَرُ، فحديثُ ابن عباس المتَّفَق عليه: خصَّ فيه النبُّي صلَّى الله عليه وسَلَّم الإحرامَ بمَن أراد النُّسُك. وظاهِرُه أنَّ مَن لم يُرِدْ نُسُكًا فلا إحرامَ عليه. وقد رأيتُ الرِّواياتِ الصحيحةَ بدُخولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم مَكَّةَ يومَ الفتحِ غيرَ مُحْرمٍ، ودخولِ ابنِ عُمَرَ غيرَ مُحْرِمٍ، والعلمُ عند الله تعالى) ((أضواء البيان)) (4/495). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (وأمَّا مَن توجَّهَ إلى مَكَّة ولم يُرِدْ حجًّا ولا عُمْرَة؛ كالتَّاجر، والحطَّاب، والبريد، ونحو ذلك فليس عليه إحرامٌ إلَّا أن يرغب في ذلك؛ لقولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم في الحديث المتقدِّمِ لَمَّا ذكر المواقيتَ: ((هُنَّ لهُنَّ ولمن أتى عليهنَّ مِن غيرِ أهْلِهِنَّ مِمَّن أراد الحَجَّ والعُمْرَة)) فمفهومُه أنَّ من مَرَّ على المواقيتِ ولم يُرِدْ حجًّا ولا عُمْرَة فلا إحرامَ عليه) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (16/44). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (وهذا هو القَوْلُ الرَّاجِحُ من أقوالِ أَهْل العِلْم فيمن تجاوَزَ الميقاتَ بغير إحرامٍ؛ أي: أنَّه إذا كان لا يريدُ الحَجَّ ولا العُمْرَة فليس عليه شيءٌ، ولا يلزَمُه الإحرامُ من الميقات) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (21/287-288).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال في شَأْنِ المواقيتِ:((هنَّ لهنَّ، ولِمَن أتى عليهِنَّ مِن غَيرِ أهلهِنَّ ممَّن كان يريدُ حجًّا أو عُمْرَةً)) رواه البخاري (1524)، ومسلم (1181).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ مفهومَ الحديثِ يدُلُّ على أنَّ مَن لم يُرِدِ الحَجَّ والعُمْرَةَ، يجوز له أن يتجاوَزَ الميقاتَ بغيرِ إحرامٍ، ولو وجَبَ بمجَرَّدِ الدُّخولِ لَمَا عَلَّقَه على الإرادَةِ ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/485).
2- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم دخلَ مَكَّةَ يومَ الفَتْحِ وعليه عِمامَةٌ سوداءُ بغيرِ إحرامٍ )) رواه مسلم (3375). ، وعن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم دخل مَكَّةَ عامَ الفَتْحِ وعلى رأْسِه مِغْفَرٌ )) رواه البخاري (5808)، ومسلم (3374).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم دخل مَكَّةَ عام الفتْحِ حَلالًا غيرَ مُحْرِمٍ، وكذا أصحابُه، فدَلَّ على عَدَمِ لُزُوم الإحرامِ لِمَن دخَلَ مَكَّة ((المجموع)) للنووي (7/10، 11)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/253).
ثانيًا: أنَّ اللهَ تعالى لم يأمُرْ قَطُّ, ولا رسولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنْ لا يُدْخَلَ مَكَّةَ إلَّا بإحرامٍ، فهو إلزامُ ما لم يأْتِ في الشَّرْعِ إلزامُه ((المحلى)) لابن حَزْم (7/266).
ثالثًا: أنَّه قد ثبتَ بالاتِّفاقِ أنَّ الحَجَّ- والعُمْرَةَ عند من أوجَبَها- إنَّما يجِبُ مرَّةً واحدةً، فلو أوجَبْنا على كُلِّ مَن دخَلَ مَكَّةَ أو الحرَمَ أن يحُجَّ أو يعتَمِرَ؛ لوجب أكثرَ مِن مَرَّةٍ ((سبل السلام)) للصنعاني (1/612).
رابعًا: أنَّه تحيَّةٌ لبُقْعَةٍ، فلم تجِبْ كتحِيَّةِ المسجِدِ ((المجموع)) للنووي (7/16).
مسألَةُ المُرورِ بمِيقاتَينِ:
لا يجوزُ لِمُريدِ النُّسُكِ أن يتجاوَزَ أوَّلَ ميقاتٍ يَمُرُّ عليه إلى ميقاتٍ آخَرَ، سواءٌ كان أقربَ إلى مَكَّةَ أو أبعَدَ؛ مثل أن يترُكَ أهْلُ المدينةِ الإحرامَ مِن ذي الحُليفَةِ حتى يُحْرِموا من الجُحْفَةِ، أو أن يتركَ أهْلُ الشَّامِ الإحرامَ من الجُحْفةِ إلى ذي الحُلَيفةِ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ مِنَ المالِكِيَّة استثنى المالِكِيَّة مِن ذلك صورةً واحدةً، وهي إذا ما كان يمرُّ بميقاته الأصليِّ مرَّةً أخرى، كمصريٍّ يمرُّ بذي الحُلَيفة، فإنَّه إذا ذهب إلى مَكَّةَ سيَرْجِعُ مارًّا بميقاتِه الأصليِّ: الجُحْفةِ، أو يحاذيه. ((التاج والإكليل)) للمواق (3/36)، ويُنظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/303). ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/198)، ويُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/70). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/401)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/208-209). ، وهو قَوْلُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ منهم: الثوري والليث بن سعد. ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (15/147).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم قال في المواقيت: ((فهنَّ لهنَّ، ولِمَن أتى عليهنَّ مِن غيرِ أهلِهنَّ لمن كان يريد الحَج والعُمْرَة)) رواه البخاري (1526) واللفظ له، ومسلم (1181).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ قَوْلَه: ((ولِمَن أتى عليهنَّ مِن غيرِ أهلِهنَّ)) عامٌّ فيمن أتى، يدخُلُ تحته مَن ميقاتُه بين يَدَيْ هذه المواقيتِ التي مرَّ بها، ومَنْ ليس ميقاتُه بين يَدَيْها؛ فلا يجوزُ أن يُجاوِزَهُنَّ غيرَ مُحْرِمٍ ((إحكام الأحكام)) لابن دقيق العيد (ص: 298).
ثانيًا: أنَّ هذه المواقيتَ مُحيطةٌ بالبيتِ كإحاطَةِ جوانِبِ الحَرَمِ، فكلُّ من مرَّ بجانِبٍ مِن جوانِبِه لَزِمَه تعظيمُ حُرْمَتِه، وإن كان بعضُ جوانِبِه أبعَدَ مِن بعضٍ ((سبل السلام)) للصنعاني (2/186).
المَطْلَب السابع: حُكْمُ التقَدُّمِ بالإحرامِ قَبلَ المواقيتِ المَكانِيَّةِ:
يجوزُ نَقَلَ الإجْماعَ على الجواز ابن المُنْذِر فقال: (أجمعوا على أنَّ مَن أحرَمَ قبل الميقاتِ أنَّه مُحْرِمٌ) ((الإجماع)) (ص: 51). والمرغيناني، وقال: (يجوز التقديمُ عليها بالاتِّفاقِ) ((الهداية شرح البداية)) (1/136). والنوويُّ، وقال: (أجمَعَ من يُعْتَدُّ به مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ من الصَّحابة فمَنْ بَعْدَهم على أنَّه يجوزُ الإحرامُ من الميقاتِ ومما فوقَه، وحكى العبدريُّ وغيره عن داود أنَّه قال: لا يجوزُ الإحرامُ ممَّا فوق الميقات، وأنَّه لو أحرم مِمَّا قبله لم يصِحَّ إحرامُه، ويلزَمُه أن يرجِعَ، ويُحْرِمَ من الميقات، وهذا الذي قاله مردودٌ عليه بإجماعِ مَن قَبْلَه) ((المجموع)) (7/200). قال ابنُ حجرٍ: (وقد نقل ابن المُنْذِر وغيرُه الإجماعَ على الجوازِ، وفيه نظرٌ؛ فقد نُقِلَ عن إسحاقَ وداودَ وغيرِهما عَدَمُ الجواز، وهو ظاهِرُ جوابِ ابنِ عُمَرَ) ((فتح الباري)) (3/ 383). التقدُّمُ بالإحرامِ قبل المواقيتِ المكانيَّة، لكِنْ مع الكراهَةِ، وهو مَذْهَبُ المالِكِيَّةِ ((التاج والإكليل)) للمواق (3/ 18)، ويُنظر: ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (15/143)، ((تفسير القرطبي)) (2/366). ، والحَنابِلَةِ ((الفروع)) لابن مفلح (5/314)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/304). ، واختارَه ابنُ باز قال ابنُ باز: (الإحرامُ قبل الميقاتِ جائزٌ مع الكراهة ومنعَقِدٌ، ومع التحرِّي والاحتياط خوفًا من تجاوُزِ الميقات بغير إحرامٍ تزولُ الكراهةُ؛ لأنَّه لا كراهَةَ في أداءِ الواجب) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (17/48). ، وابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (حُكْمُ الإحرامِ قبل المواقيتِ مكروهٌ؛ لأنَّ النبيَّ- صلَّى الله عليه وسَلَّم- وقَّتَها، وكَوْنُ بعض الناس يُحْرِمُ قبل أن يَصِلَها فيه شيءٌ من التقدُّمِ على حدود الله تعالى؛ ولهذا قال النبيُّ- صلَّى الله عليه وسَلَّم- في الصيام: (لا تَقَدَّمُوا رمضانَ بصَوْمِ يومٍ أو يومينِ، إلَّا رَجُلٌ كان يصومُ صومًا فلْيَصُمْه) وهذا يدلُّ على أنَّه ينبغي لنا أن نتقيَّدَ بما وقَّتَه الشَّرْعُ من الحدود الزمانيَّة والمكانيَّة، ولكنَّه إذا أحرَمَ قبل أن يَصِلَ إليها فإنَّ إحرامَه ينعَقِدُ) ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (21/380).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم حجَّ واعتَمَر، وترك الإحرامَ مِن بَيْتِه، ومِن مَسْجِدِه مع فَضْلِه، وأحرَمَ مِنَ الميقاتِ، ولا يَفْعَلُ إلَّا الأفضَلَ ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (15/145)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/324)، ((المجموع)) للنووي (7/201)، ((الفروع)) لابن مفلح (5/314).
ثانيًا: أنَّه لو كان الأفضَلُ الإحرامَ مِن قَبْلِ الميقاتِ، لكان أصحابُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم وخلفاؤُه يُحْرِمونَ مِن بُيوتِهم، ولَمَا تَواطَؤُوا على تَرْكِ الأَفضَلِ، واختيارِ الأَدْنى، وهم أهْلُ التَّقوى والفَضْلِ، وأفضَلُ الخَلْقِ، ولهم مِنَ الحِرْصِ على الفضائِلِ والدَّرجاتِ ما لهم ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/222)، ((الفروع)) لابن مفلح (5/314).
ثالثًا: إنكارُ عُمَرَ وعُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنهما الإحرامَ قَبْلَ المواقيتِ:
1- عن الحَسَنِ ((أنَّ عِمْرانَ بْنَ الحُصَينِ أحرَمَ مِنَ البَصرَةِ، فلمَّا قَدِمَ على عُمَرَ- وقد كان بلَغَه ذلك- أغلَظَ له، وقال: يتحدَّثُ النَّاسُ أنَّ رَجُلًا مِن أصحابِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أحرَمَ مِن مِصْرٍ مِنَ الأمصارِ)) رواه الطبراني (18/107) (204)، والبيهقي (9198). قال ابنُ كثير في ((مسند الفاروق)) (1/300): منقطِعٌ، اللهُمَّ إلَّا أن يكون الحَسَنُ سَمِعَه مِن عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/219): رجاله رجال الصحيحِ إلَّا أنَّ الحسَنَ لم يسمَعْ مِن عُمَرَ‏‏، وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (3/159): موقوف بسند الصحيح، وله شاهد.
2- (أحرَمَ عبدُ اللهِ بنُ عامِرٍ مِن خُراسانَ، فلمَّا قَدِمَ على عُثمانَ لامَهُ فيما صنَعَ، وكَرِهَه له أخرجه البخاريُّ مُعلَّقًا قبل حديث (1560) مختصرًا، وأخرجه موصولًا ابنُ أبي شيبة في ((المصنف)) (12838) من حديث الحسَنِ البصري. قوَّى إسنادَه ابنُ حجر في ((تغليق التعليق)) (3/61) وأخرجه البخاري معلَّقًا قبل حديث (1560) مختصرًا، والبيهقي (9199) من حديث داود بن أبي هند. قال البيهقي: مشهورٌ، وإسنادُه منقطِعٌ، وذكر ابنُ حجرٍ في ((تغليق التعليق)) (3/61) أنَّه منقطِعٌ؛ ثم قال: قد اعتضد بمجيئِه مِن وَجْهٍ آخَرَ. ) ((الفروع)) لابن مفلح (5/314).
خامسًا: أنَّه تغريرٌ بالإحرامِ وتَعَرُّضٌ لفِعْلِ محظوراتِه، وفيه مشقَّةٌ على النَّفْسِ، فكُرِهَ كالوِصالِ في الصَّوْمِ ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (15/143)، ((الفروع)) لابن مفلح (5/314).
المَطْلَبُ الثامن: الحَيْضُ والنِّفاسُ لا يمنَعُ من إحرامِ المرأةِ مِنَ الميقاتِ
لا يجوزُ للمرأةِ التي تريدُ النُّسُكَ مجاوزَةُ الميقاتِ دون إحرامٍ، ولو كانت حائضًا، وعليها أن تُحْرِمَ، وإحرامُها صحيحٌ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((... فخَرَجْنا معه، حتى أتَيْنا ذا الحُلَيفةِ، فولَدَت أسماءُ بنتُ عُمَيسٍ محمَّدَ بنَ أبي بكرٍ، فأرسَلَتْ إلى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم: كيف أصنَعُ؟ قال: اغتَسِلي واستَثْفِري الاستِثْفارُ: معناه أنها تَشُدُّ على فَرْجِها خِرْقةً وتَرْبطُها. يُنظَر مقدمة ((فتح الباري)) لابن حجر (ص: 93)، ((مجموع فتاوى ورسائل العُثيمين)) (21/350). بثوبٍ وأَحْرِمي )) رواه مسلم (1218).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه أمَرَ النُّفَساءَ بالاغتسالِ والإحرامِ، ولا فَرْقَ في ذلك بينها وبينَ الحائِضِ؛ فالنِّفاسُ أقوى مِنَ الحَيضِ؛ لامتدادِه وكثْرَةِ دَمِه، ففي الحَيْضِ أَوْلَى ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/430).
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (وهو صحيحٌ مجتَمَعٌ عليه، لا خلاف بين العلماءِ فيه؛ كلُّهم يأمر النُّفَساءَ بالاغتسالِ على ما في هذا الحديثِ وتُهِلُّ بحَجِّها وعُمْرَتِها وهي كذلك، وحُكْمُها حُكْمُ الحائِضِ تقضي المناسِكَ كلَّها وتَشْهَدُها غيرَ أنَّها لا تطوفُ بالبيتِ حتى تَطْهُر). ((التمهيد)) (19/315). ، والنَّوَوِيُّ قال النووي: (فيه صِحَّةُ إحرامِ النُّفَساءِ، وهو مُجمَعٌ عليه) ((شرح النووي على مسلم)) (8/172). وقال المباركفوري: (مثلُها الحائض، وأَوْلى منهما الجُنُب؛ لأنَّهما شاركتاه في شمولِ اسْمِ الحَدَث، وزادتا عليه بسَيَلانِ الدَّمِ، وهو مُجمَعٌ عليه) ((مرعاة المفاتيح)) (9/4). ، وابنُ رجبٍ قال ابنُ رجب: (هذا قولُ جماعة أَهْل العِلْم، لا يُعلَم بينهم اختلافٌ فيه: أنَّ الحائِضَ يجوز أن تُحْرِمَ بالحَجِّ والعُمْرَة، وتفعل ما يفعَلُه الطَّاهِر، سوى الطَّوافِ بالبيت؛ ولكنْ منهم مَن كَرِهَ لها أن تبتدئَ الإحرامَ مِن غيرِ حاجةٍ إليه، فكَرِهَ الضحَّاك وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري: أن تُحرِمَ في حال دَمِها قبل الميقاتِ؛ لأنَّه لا حاجة لها إلى ذَلكَ، فإذا وصلت إلى الميقاتِ، ولم تطْهُر فإحرامها حينئذ ضرورةٌ، وكَرِهَ عطاء لمن كانت بمَكَّة وهي حائضٌ: أن تخرج إلى الميقاتِ، فتُهِلَّ بعُمْرَة، وقال: لا تخرُجْ حتَّى تطْهُرَ، وهو محمولٌ على المُقِيمَةِ بمَكَّة، التي يمكِنُها تأخيرُ الإحرامِ إلى حالِ طُهْرِها) ((فتح الباري)) (1/490).

انظر أيضا: