الموسوعة الفقهية

المبحث الثاني: اشتراطُ فِعلِ التِّجارة لوجوب الزَّكاةِ


اختلف أهل العِلم في ذلك على ثلاثةِ أقوالٍ:
القول الأوّل: يُشتَرَطُ أن يكون العَرْضُ مُلِكَ بفِعلِه، بما فيه عِوَض كالبَيعِ والإجارةِ، وهذا مذهب المالكيَّة ((الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي)) (1/472)، ويُنظر: ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (1/637). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (6/48)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/398). ، وبه قال محمَّد بن الحسن من الحنفيَّة ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (2/169)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/169). ، وهو قولٌ للحَنابِلَة ((الفروع)) لابن مفلح (4/194)، ((المبدع شرح المقنع)) لابن مفلح (2/342). ، واختاره الطبريُّ قال الطبري: (يُشتَرَط أن يملك العرْض بعقد معاوضةٍ، فإنْ وُهِبَ أو وُرِثَ أو استُرِدَّ بعيبٍ؛ لم يكن عرضَ تجارة؛ لأن التملُّك مجَّانًا لا يُعدُّ تجارة، فلو قصد التِّجارة بعد التملُّك لم يؤثِّرْ؛ إذ النية المجرَّدة لاغِيَةٌ، فمن اشترى بعَرضٍ للقِنية عَرضًا للتِّجارة، أو اشترى بعَرْض التِّجارة عرضًا للقنية، ثم رُدَّ عليه بعيبٍ أو إقالةٍ؛ لم يَصِرْ مالَ تجارة، وإن نوى به التِّجارة؛ لانتفاء المعاوضةِ، فلا يعود ما كان للتِّجارة مالَ تجارة). ((تهذيب الآثار - مسند عمر)) (2/945).
وذلك للآتي: 
أوَّلًا: أنَّ التِّجارة كسْبُ المالِ ببَدَلٍ هو مال، وقَبولُ الهبةِ والاحتطابِ ونحو ذلك هو اكتسابٌ بغيرِ بَدَلٍ أصلًا ((قضايا الزَّكاة المعاصرة – الندوة السادسة)) (ص: 106).
ثانيًا: أنَّ التملُّك مجَّانًا لا يُعَدُّ تجارةً، فلو قصَدَ التِّجارة بعد التملُّكِ لم يؤثِّر؛ إذ النيَّةُ المجرَّدةُ لاغِيَةٌ ((تهذيب الآثار - مسند عمر)) للطبري (2/945).
ثالثًا: أنَّ النيَّةَ لم تقارِنْ عَمَلَ التِّجارة؛ لأنَّ هذه العقودَ كالغَنيمةِ، والهبةُ ليست من عقودِ التِّجارة ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (2/169)، ((البناية شرح الهداية)) للعيني (3/311)، ((الفروع)) لابن مفلح (4/195)، ((المبدع شرح المقنع)) لابن مفلح (2/342).
القول الثاني: يُشتَرَطُ أن يملِكَه بفِعلِه بنيَّة التِّجارةِ، ولا يُشتَرَط أن يملِكَه بعقدٍ فيه معاوضةٌ، وذلك مثلُ قَبولِ الهِبَةِ، والوَصِيَّةِ، والغنيمةِ، واكتسابِ المباحاتِ، كالاحتطابِ والاصطيادِ، وهذا مذهب الحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/240)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/59، 62، 63). ، وبه قال أبو يوسفَ مِنَ الحنفيَّة ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (2/169)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/169). ، واختاره الكمالُ ابنُ الهُمامِ قال الكمال ابن الهمام: (الحاصل: أنَّ نيَّة التِّجارة فيما يشتريه تصحُّ بالإجماع، وفيما يَرِثُه لا تصحُّ بالإجماع؛ لأنَّه لا صُنعَ له فيه أصلًا، وفيما تملَّكَه بقَبول عقدٍ ممَّا ذُكِرَ خلاف. وجه الاعتبارِ أنَّ مقتضى الدَّليل اعتبارُ النيَّاتِ مطلقًا وإن تجرَّدت عن الأعمال، قال عليه الصلاة والسلام: ((نيَّة المؤمِنِ خيرٌ مِن عَمَلِه)) إلَّا أنها لم تُعتَبَر لخفائها حتى تتصِلَ بالعملِ الظَّاهر، وقد اتَّصلت في هذه. وجه الآخر: أنَّ اعتبارَها إذا طابقت المنويَّ وهو التِّجارة، وهي مبادَلَة المالِ بالمال، وذلك منتفٍ بالهِبَة وما معها، والذي في نفْسي ترجيحُ الأول). ((فتح القدير)) (2/169).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: مقتضى الدَّليلِ اعتبارُ النيَّاتِ مطلقًا وإن تجرَّدت عن الأعمالِ، إلا أنَّها لم تُعتَبَر لخفائِها حتى تتَّصِلَ بالعَمَلِ الظَّاهر، وقد اتَّصلَتْ فيما مَلَكَه بفِعْلِه ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/169).
ثانيًا: أنَّ التِّجارةَ هي عَقْدُ اكتسابِ المالِ فيما لا يدخُلُ في مِلكِه إلَّا بقولِه، فهو كَسْبُه، فصحَّ اقترانُ النيَّة به، فكان للتِّجارة كالمشتراة ((البناية شرح الهداية)) لبدر الدين العيني (3/311).
القول الثالث: أنَّه لا يُشتَرَطُ أن يكون تَملَّكَه بفِعْلِه، بل يكفي فيه النيَّةُ، وهو روايةٌ عن أحمَدَ ((المغني)) لابن قدامة (6/62/63)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/153)، ((الكافي في فقه الإمام أحمد)) لابن قدامة (1/410). وبه قال الكرابيسيُّ من الشافعيَّة قال النوويُّ: (وقال الكرابيسي من أصحابنا: إذا مَلَكَ عرْضًا ثم نوى أنه للتِّجارة، صار للتِّجارة، كما إذا كان عنده متاعٌ للتِّجارةِ ثم نوى القِنية، صار للقِنية بالنيَّة) ((المجموع)) للنووي (6/48). واختارَه ابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (والقول الثاني في المسألة: أنَّها تكون للتِّجارة بالنيَّة، ولو مَلَكَها بغيرِ فِعلِه، ولو ملَكَها بغير نيَّة التِّجارة... مثال ذلك: لو اشترى سيَّارةً يستعمِلُها في الركوب، ثم بدَا له أن يجعَلَها رأس مالٍ يتَّجِرُ به، فهذا تلزَمُه الزَّكاة إذا تمَّ الحَوْلُ مِن نيَّته) ((الشرح الممتع)) (6/143). وقال أيضًا: (فإذا نواها للتِّجارةِ انعقدَ الحَوْلُ عليها من نيَّته، وهكذا لو لم تكن عمارةً، لو كانت سيَّارة أو غيرَها فعرضها للتِّجارة، فإنَّ حوْلَها ينعقِدُ من النيَّة، فإذا أتمَّت حولًا، فإنَّه يجِبُ عليه زكاتُه) ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عُثيمين)) (18/230). وبه أفتتِ اللَّجنةُ الدَّائمة قالت اللَّجنة الدَّائمة في إجابتها على أحد الأسئلة: (أمَّا إن كنتَ اشتريتَها للاقتناءِ، فلا زكاة فيها حتى تنويَ بها التِّجارةَ، فيبدأ حولُ التِّجارةِ مِن وقت النيَّة) ((فتاوى اللَّجنة الدَّائمة)) (9/330). , والندوةُ الرابعةَ عَشْرةَ لقضايا الزَّكاةِ المعاصِرَةِ وجاء فيها: ( لا تُشتَرَط المعاوضَة في عروضِ التِّجارةِ لوجوب الزَّكاة فيها، وإنما تكونُ عُروضًا تجاريَّةً بالنيَّةِ) ((أحكام وفتاوى الزَّكاة والصدقات والنذور والكفارات)) (ص: 50).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنَّة
 عمومُ قولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّاتِ، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى )) رواه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907)
وجه الدَّلالة:
أنَّه إذا نوى بها التِّجارةَ، فتكون للتِّجارةِ ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/143).
ثانيًا: أنَّه نوى بها التِّجارةَ، فوجبتْ فيه الزَّكاةُ، كما لو نوى حالَ البيعِ ((المغني)) لابن قدامة (3/63).
ثالثًا: أنَّه لا فَرقَ بين أن يملِكَه باختيارِه أو بغيرِ اختيارِه، فقد دخل في ملكيَّته، وكونُه يدخُلُ باختيارِه أو بغيرِ اختيارِه، لا أثَرَ له في الحُكم ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (9/112).

انظر أيضا: