الموسوعة الفقهية

المطلب الثاني: حُكم صلاةِ الخَوفِ


صلاةُ الخوفِ مشروعةٌ قال القرافيُّ: (شرعيَّة صلاة الخوف تدلُّ على أنَّ مصلحةَ الوقت الاختياري أعظمُ من مصالح استيفاءِ الأركانِ، وحُصولِ الخشوعِ، واستقبال القِبلة، وإلَّا لجَوَّز الشرع التأخيرَ للأمن مع أنَّا لم نشعرْ بمصلحة الوقت البتةَ، وتحقُّق شرفِ هذه المصالح، ونظيره الصلاة بالتيمُّم تدلُّ على أنَّ مصلحةَ الوقت أعظمُ من مصلحة طهارةِ الماء) ((الذخيرة)) (2/443)، ويُنظر: ((مواهب الجليل)) لحطاب (2/566). وقال ابنُ تَيميَّة: (كذلك صلاةُ الخوف تجِبُ في الوقت، مع إمكان أن يُؤخِّرها، فلا يَستدبر القِبلةَ، ولا يَعمل عملًا كثيرًا في الصلاة، ولا يَتخلَّف عن الإمام بركعة، ولا يُفارق الإمامَ قبلَ السَّلام، ولا يَقضي ما سُبِق به قبل السلام، ونحو ذلك ممَّا يفعَل في صلاة الخوف، وليس ذلك إلَّا لأجل الوقت، وإلَّا ففِعْلُها بعدَ الوقت ولو باللَّيلِ ممكِنٌ على الإكمال) ((الفتاوى الكبرى)) (2/37). إلى آخِر الزَّمان، ولم تُنسَخْ، وهذا باتِّفاق المذاهبِ الفقهيَّة الأربعة: الحَنَفيَّة ((مراقي الفلاح)) للشرنبلالي (ص: 209)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/242)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازة (2/124). ، والمالِكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/ 561)، ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (2/437)، ((حاشية الصاوي على الشرح الصغير)) (1/517)، ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/404)، ((روضة الطالبين)) للنووي (2/49). ، والحَنابِلَة ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/10)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (2/297). ، وبه قال أكثرُ أهلِ العِلم قال ابنُ رُشدٍ: (أكثرُ العلماء على أنَّ صلاة الخوف جائزةٌ؛ لعموم قوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا الآية، ولِمَا ثبَت ذلك مِن فِعله عليه الصَّلاة والسَّلام وعمَل الأئمَّة والخُلفاء بعدَه بذلك) ((بداية المجتهد)) (1/175). وقال ابنُ قُدامة: (وجمهور العلماء متَّفقون على أنَّ حُكمها باقٍ بعد النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((المغني)) (2/297). وقال النوويُّ: (مذهبنا أنَّها مشروعة وكانتْ في زمن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مشروعةً لكلِّ أهل عصره؛ معه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومنفردين عنه، واستمرَّت شريعتها إلى الآن، وهي مستمرَّة إلى آخِرِ الزمان؛ قال الشيخ أبو حامد وسائرُ أصحابنا: وبهذا قالت الأمَّة بأَسْرها إلَّا أبا يوسف والمزني، فقال أبو يوسف: كانت مختصَّةً بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن يُصلي معه، وذهبت بوفاته. وقال المزنيُّ: كانت، ثم نُسِخت في زمن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) ((المجموع)) (4/404، 405). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال الماورديُّ: (ذلك إجماعُ الصَّحابة رضي الله عنهم؛ رُوي أنَّ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه صلَّى الخوف بأصحابه ليلةَ الهَريرِ «لكثرة ما كان الفُرسان يَهِرُّون فيها» في قِتال أهل الشام، ورُوي عن أبي موسى الأشعريِّ أنَّه صلَّاها بأصحابه، ورُوي عن حُذيفةَ بن اليمان أنَّه صلَّاها بالناس بطبرستان، وليس لهم في الصحابة مخالِفٌ) ((الحاوي الكبير)) (2/459). وقال الكاساني: (ولأبي حنيفة ومحمَّد إجماعُ الصحابة رضي الله عنهم على جوازها؛ فإنَّه رُوي عن علي رضي الله عنه أنَّه صلَّى صلاة الخوف، ورُوي عن أبي موسى الأشعريِّ أنَّه صلَّى صلاة الخوف بأصبهان، وسعيد بن العاص كان يُحارِب المجوس بطبرستان ومعه جماعةٌ من الصحابة، منهم الحسن، وحذيفة، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، فقال: أيُّكم شهِد صلاة رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال حذيفة: أنا، فقام وصلَّى بهم صلاةَ الخوف على نحو ما يقوله، فانعقد إجماعُ الصحابة على الجواز) ((بدائع الصنائع)) (1/243). وقال ابنُ قُدامة: (وأيضًا فإنَّ الصحابة رضي الله عنهم، أجمعوا على صلاة الخوف؛ فرُوي أنَّ عليَّا رضي الله عنه صلَّى صلاة الخوف ليلةَ الهرير، وصلَّى أبو موسى الأشعريُّ صلاةَ الخوف بأصحابه، ورُوي أنَّ سعيد بن العاص كان أميرًا على الجيش بطبرستان، فقال: أيُّكم صلى مع رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلاة الخوف؟ فقال حُذيفةُ: أنا، فقدَّمه، فصلَّى بهم). ((المغني)) (2/297). وقال النوويُّ: (وبإجماع الصَّحابة؛ فقد ثبتَتِ الآثار الصحيحة عن جماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم أنَّهم صلَّوها في مواطن بعد وفاة رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مجامع بحضرة كِبار من الصَّحابة ممَّن صلَّاها عليُّ بن أبي طالب في حُروبه بصفِّين وغيرها، وحضَرها من الصَّحابة خلائقُ لا ينحصرون، ومنهم سعد بن أبي وقَّاص، وأبو موسى الأشعري، وعبد الرحمن بن سَمُرة، وحذيفة، وسعيد بن العاص، وغيرهم) ((المجموع)) (4/405). وقال أيضًا: (هي جائزةٌ بالإجماع إلَّا ما حكاه الشيخ أبو حامد عن بعض الناس أنَّها لا تجوز، بل يجب تأخيرُ الصلاة حتى يزولَ الخوف كما فَعَل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الخندق، وهذا غلط؛ فإنَّه قد يموت وتبقى في ذِمَّته، مع أنَّ هذا القول مخالف للقرآن والأحاديث؛ للقياسِ على إيماء المريض ونحوه، وأمَّا قصَّة الخندق فمنسوخة؛ فإنَّها كانتْ قبل نزول آية صلاة الخوف) ((المجموع)) (4/433). وقال شيخي زاده: (لا تجوزُ صلاةُ الخوف بلا حضور عدوٍّ؛ لعدم الضرورة، حتى لو رأوا سوادًا فظنوه عدوًّا فصَلَّوا للخوف، ثم بان خلافه، تجبُ الإعادة بالإجماع، إلَّا في قول الشافعي، وأبو يوسف لا يُجيزها- أي: صلاة الخوفِ- بعد النبيِّ صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم؛ لأنَّها مخالفة للأصول، ولقوله تعالى: إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ... الآية، وجوابه الصحابة رضي الله تعالى عنهم صَلَّوها بطبرستان وهم متوافِرون من غير نكير من أحدٍ؛ فكان إجماعًا) ((مجمع الأنهر)) (1/263). وقال البُهوتي: (وأَجمَع الصحابةُ على فِعلها) ((كشاف القناع)) (2/10).
الأدلَّة:
أولًا: من الكِتاب
قال الله تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 102]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الآيةَ فيها أمرُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصلاة الخوفِ، والأصل التأسِّي به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والخطابُ له خطابٌ لأمَّته ((المجموع)) للنووي (4/405).
ثانيًا: من السُّنَّة
1- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه, قال: ((شهدتُ مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلاةَ الخوف, فصَفَفْنا صفَّينِ- والعدوُّ بيننا وبين القِبلة-, فكبَّر رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكبَّرْنا, ثم ركَع وركَعْنا جميعًا, ثم رفَع رأسه من الرُّكوع ورفَعْنا جميعًا, ثم انحَدَر بالسُّجودِ والصفُّ الذي يليه, وقال الصفُّ المؤخَّر في نحْر العدوِّ, فلمَّا قضى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السُّجود, وقام الصفُّ الذي يليه; انحَدَر الصفُّ المؤخَّرُ بالسجود, وقاموا, ثم تَقدَّمَ الصفُّ المؤخَّرُ وتأخَّر الصفُّ المقدَّمُ, ثم ركَع وركَعْنا جميعًا, ثم رفع رأسه من الرُّكوع ورفَعْنا جميعًا, ثم انحَدَر بالسُّجود والصفُّ الذي يليه، وكان مؤخَّرًا في الركعة الأُولى, وقال الصفُّ المؤخَّرُ في نحْرِ العدوِّ, فلمَّا قضَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السُّجودَ, وقال الصفُّ الذي يليه; انحدَر الصفُّ المؤخَّرُ بالسجودِ, فسجدوا, ثم سلَّم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسلَّمْنا جميعًا )) رواه مسلم (840).
2- عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما, قال: ((صلَّى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلاةَ الخوف بإحدى الطائفتينِ ركعةً وسجدتين، والأخرى مواجهةُ العدوِّ, ثم انْصَرفوا وقاموا في مقامِ أصحابِهم مُقبِلينَ على العدوِّ, وجاء أولئك, فصلَّى بهم ركعةً, ثم سَلَّم, ثم قضَى هؤلاءِ ركعةً, وهؤلاء ركعةً )) رواه البخاري (942)، ومسلم (839).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى صلاةَ الخوف، والأصل في الشَّرع أن يكونَ عامًّا في الأوقات كلِّها، إلَّا إذا قام دليلُ التخصيص ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/243).

انظر أيضا: