الموسوعة الفقهية

المطلب الثاني: صفة أداء سَجْدة التِّلاوة خارجَ الصَّلاة


الفَرْعُ الأول: الطَّهارة لسُجود التِّلاوة
اختَلف العلماءُ في اشتراط الطَّهارة في سُجود التِّلاوة على قولين:
القول الأوّل: تُشترَطُ الطَّهارةُ لسُجودِ التِّلاوة، ولا يصحُّ إلَّا بها، وهذا باتِّفاق المذاهب الفقهيَّة الأربعة: الحنفيَّة ((العناية)) للبابرتي (2/11)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/186). ، المالكيَّة ((الكافي)) لابن عبد البر (1/262)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/160)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/607). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/63)، وينظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/197). ، والحنابلة ((كشاف القناع)) للبُهوتي (1/134)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/444). ، وحكي الإجماع على ذلك قال ابن قدامة: («مسألة لا يَسجُد للتِّلاوة إلَّا وهو طاهِرٌ» مسألة: قال: (ولا يَسجُد إلَّا وهو طاهرٌ). وجملة ذلك: أنَّه يُشترَط للسجودِ ما يُشترَطُ لصلاة النافلة؛ من الطهارتينِ من الحدَث والنَّجس، وسَتْر العورة، واستقبال القِبلة، والنِّيَّة، ولا نعلم فيه خلافًا. إلَّا ما رُوي عن عُثمانَ بن عفان رضي الله عنه في الحائِض تسمع السجدة، تومئ برأسها، وبه قال سعيدُ بن المسيَّب، قال، ويقول: اللهمَّ لك سجدتُ. وعن الشَّعبي في مَن سمِع السجدةَ على غير وضوء يَسجُد حيثُ كان وجهُه) ((المغني)) (1/444). وقال ابنُ رشد: (ولم يختلفوا أنَّ ذلك شَرْطٌ في جميع الصلوات، إلَّا في صلاة الجنازة، وفي السجود، أعني: سجودَ التِّلاوة؛ فإنَّ فيه خلافًا شاذًّا) ((بداية المجتهد)) (1/41). وقال القرطبي: (ولا خِلافَ في أنَّ سجودَ القرآن يحتاج إلى ما تَحتاج إليه الصلاةُ من طهارةِ حدَثٍ ونَجسٍ، ونيَّة، واستقبال قِبلة، ووقْت. إلَّا ما ذَكَر البخاريُّ عن ابنِ عُمرَ أنَّه كان يَسجُد على غير طهارة. وذكَره ابنُ المنذرِ عن الشَّعبي) ((تفسير القرطبي)) (7/358).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنة
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ، عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَقْبَل اللهُ صَلاةً بغَيرِ طُهورٍ)) [3175] رواه مسلم (224)
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه يَدخُل في عمومِه السُّجودُ ((المغني)) لابن قدامة (1/444).
ثانيًا: لأنَّه صلاةٌ في الحقيقة، فيُشترط له ذلِك، كذات الرُّكوع ((المجموع)) للنووي (4/63)، ((المغني)) لابن قدامة (1/444).
ثالثًا: ولأنَّه سجودٌ، فيُشترط له ذلك كسُجودِ السَّهو ((المغني)) لابن قدامة (1/444).
القول الثاني: الطَّهارة ليستْ شرطًا لسُجود التِّلاوة، وهذا قولُ بعض السَّلف هو قولُ ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما. ينظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (3/56). وعزاه ابن المنذر للشعبي في ((الأوسط)) (5/294). قال ابنُ حجر: (لم يُوافِق ابنَ عُمرَ أحدٌ على جواز السُّجود بلا وضوءٍ إلَّا الشَّعبيُّ؛ أخرجَه ابنُ أبي شَيبةَ عنه بسندٍ صحيح، وأخرجه أيضًا بسندٍ حسنٍ عن أبي عبد الرحمن السُّلمي أنَّه كان يقرأ السجدة، ثم يسلم، وهو على غيرِ وضوء إلى غيرِ القِبلة، وهو يمشي يُومِئ إيماءً). ((فتح الباري)) (2/554). ، واختيارُ البخاريِّ ينظر: باب (سُجودِ الـمُسلمينَ مع المشرِكين) من ((صحيح البخاري)) قبل حديث (1071)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/340). ، وابنِ حزم قال ابنُ حزم: (وقِراءة القرآن والسُّجود فيه، ومسُّ المصحَف، وذِكر الله تعالى جائزٌ، كلُّ ذلك بوضوءٍ وبغيرِ وضوءٍ، وللجُنُب والحائِض) ((المحلى)) (1/94). ، وابنِ تَيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (يجوزُ على غير طهارةٍ، واختارَها البخاريُّ، لكنَّ السجودَ بشروط الصَّلاة أفضلُ) ((الفتاوى الكبرى)) (5/340). ، والصَّنعانيِّ قال الصَّنعانيُّ: (الأصلُ أنَّه لا يُشترط الطَّهارة إلَّا بدليل، وأدلَّة وجوب الطَّهارة وردتْ للصلاة، والسَّجدة لا تُسمَّى صلاةً، فالدليلُ على مَن شَرَط ذلك) ((سبل السلام)) (1/209). ، والشوكانيِّ قال الشَّوكانيُّ: (ليس في أحاديث سُجودِ التلاوة ما يدلُّ على اعتبار أن يكون الساجدُ متوضئًا، وقد كان يسجُد معه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَن حضَر تلاوته، ولم يُنقَل أنه أمَرَ أحدًا منهم بالوضوء، ويبعُد أن يكونوا جميعًا متوضئين. وأيضًا قد كان يسجُد معه المشركِون كما تقدَّم وهم أنجاسٌ لا يصحُّ وضوؤهم. وقد رَوى البخاريُّ عن عُمرَ أنَّه كان يسجُد على غير وضوء. وكذلك رَوَى عنه ابنُ أبي شَيبة. وأمَّا ما رواه البيهقيُّ عنه بإسنادٍ، قال في الفتح: صحيح، أنَّه قال: "لا يسجُد الرجُلُ إلَّا وهو طاهِرٌ"، فيُجمَع بينهما بما قال ابنُ حجر مِن حمْله على الطهارة الكُبرى، أو على حالة الاختيار، والأوَّل على الضَّرورة) ((نيل الأوطار)) (3/125). ، وابنِ باز قال ابنُ باز: (سُجودُ التِّلاوة لا تُشترَطُ له الطهارةُ في أصحِّ قولَيِ العُلماء، وليس فيه تسليمٌ، ولا تكبيرٌ عند الرَّفْع منه في أصحِّ قولَيْ أهل العِلم) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (11/406).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّه ليس في أحاديثِ سُجود التِّلاوة ما يدلُّ على اعتبار أن يكونَ الساجدُ متوضئًا ((نيل الأوطار)) للشوكاني (3/125).
ثانيًا: قد كان يَسجُد معه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَن حضَر تلاوتَه، ولم يُنقَلْ أنَّه أمَر أحدًا منهم بالوضوء، ويَبعُد أن يكونوا جميعًا متوضِّئين ((نيل الأوطار)) للشوكاني (3/125).
ثالثًا: ذلك أنَّ قِراءة القرآن والسجود فيه أفعالُ خيرٍ مندوبٌ إليها، مأجورٌ فاعلها؛ فمَن ادَّعى المنعَ فيها في بعض الأحوال كُلِّف أن يأتيَ بالبرهان ((المحلى)) لابن حزم (1/94)
رابعًا: أنَّه صحَّ الدليل أنَّ ما لم يكن ركعة تامَّةً، أو ركعتين فصاعدًا، فليس صلاةً. والسجود في قِراءة القرآن ليس ركعةً ولا ركعتين؛ فليس صلاةً، وإذ ليس هو صلاةً فهو جائزٌ بلا وضوء، وللجُنُب وللحائِض وإلى غيرِ القِبلة كسائرِ الذِّكر، ولا فَرْقَ؛ إذ لا يلزم الوضوءُ إلَّا للصَّلاة فقط؛ إذ لم يأتِ بإيجابه لغيرِ الصلاة قرآنٌ، ولا سُنَّةٌ، ولا إجماعٌ، ولا قياس ((المحلى)) لابن حزم (1/97).
الفَرْعُ الثاني: في التَّكبيرِ للخَفْضِ والرَّفْع في سُجودِ التِّلاوةِ خارجَ الصَّلاة
اختَلف العلماءُ في التَّكبيرِ لسُجود التلاوةِ في الخَفْض والرَّفْع خارجَ الصَّلاة على أقوال، أقواها قولان:
القول الأوّل: يُسَنُّ التكبيرُ لسجود التلاوة في الخَفْض والرَّفْع خارجَ الصَّلاة، وهذا باتِّفاق المذاهب الفقهيَّة الأربعة: الحنفيَّة ((حاشية ابن عابدين)) (2/106)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/25). ، والمالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/361)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/351). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/64)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (2/100). ، والحنابلة ((كشاف القناع)) للبُهوتي (1/448)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/444).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّه سجودٌ منفردٌ، فشُرِع له التكبيرُ في ابتدائه، والرَّفعِ منه، كسُجودِ السَّهو بعد السَّلام ((المغني)) لابن قدامة (1/444).
ثانيًا: قياسًا على سَجدةِ الصَّلاة ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/25).
القول الثاني: يُكبِّر للخَفض فقط، ولا يُكبِّر للرَّفْع، وهذا القولُ روايةٌ عن أبي حَنيفةَ ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/26)، ((حاشية ابن عابدين)) (2/106). ، واختاره بعضُ الحنابلة قال المَرْداويُّ: (وقيل: يُجزئه تكبيرةٌ للسُّجود، وهو ظاهرُ كلام الخِرَقي، واختاره بعضُ الأصحاب) ((الإنصاف)) (2/140). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (سجدة التِّلاوة مثل سُجود الصَّلاة، فإذا سجَد في الصَّلاة عند السُّجود يُكبِّر، وإذا رفَع يُكبِّر إذا كان في الصَّلاة، أمَّا إذا سجَد للتِّلاوة في خارجِ الصَّلاة فلم يُروَ إلَّا التكبير في أوَّله، هذا هو المعروفُ كما رواه أبو داود والحاكم. أمَّا عند الرَّفع في خارج الصلاة، فلم يُروَ فيه تكبيرٌ ولا تسليمٌ... والمشروع أن يقول في سجود التلاوة مِثلما يقول في سجود الصَّلاة من التَّسبيح والدُّعاء، وليس فيها تشهُّدٌ، ولا تكبيرٌ عند الرَّفْع، ولا تسليمٌ في أصحِّ قولَيِ العلماء؛ لعدمِ نقْل ذلك عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (11/410). ، وابنُ عثيمين قال ابنُ عُثَيمين: (ولكن السُّنَّة تدلُّ على أنَّه ليس فيه تكبيرٌ عند الرَّفع ولا سلامٌ، إلَّا إذا كان في صَلاةٍ، فإنَّه يجب أن يُكبِّرَ إذا سَجَدَ، ويُكبِّرَ إذا رَفَعَ؛ لأنَّه إذا كان في الصَّلاة ثَبَتَ له حُكم الصَّلاة) ((الشرح الممتع)) (4/100). ؛ وذلك لعدم ورودِ نصٍّ يدلُّ على ثبوت التكبير عند الرَّفْع من سجود التِّلاوة ((مجموع فتاوى ابن باز)) (11/410).
الفَرْعُ الثَّالِثُ: ما يَقولُ في سجودِه
يُقال في سُجود التلاوة ما يُشرَع قولُه في سُجودِ الصَّلاةِ من التَّسبيحِ والدُّعاء، وهذا باتِّفاق المذاهب الفِقهيَّة الأربعة: الحنفيَّة ((الدر المختار وحاشية ابن عابدين)) (2/106)، وينظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/26). ، والمالكيَّة ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (1/99)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (2/611). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/65)، وينظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/198). وإنْ كان عند الشافعيَّة يُستحَبُّ أن يقول: سجَد وجهي للذي خَلَقَه، وشقَّ سمْعَه وبصَرَه بحوله وقوَّته، لكنَّهم أيضًا استحسنوا قولَ ما يقوله في سجود الصَّلاة. يُنظر: ((المجموع)) للنووي (4/65) ، والحنابلة ((كشاف القناع)) للبُهوتي (1/449)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/445).
وذلك لأنَّ الحُكم واحدٌ ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (10/448).
الفَرْعُ الرابع: حكمُ التَّسليمِ من سجودِ التِّلاوة
لا يُشرَعُ التَّسليمُ في سجودِ التِّلاوة، وهذا مذهبُ الحنفيَّة ((الهداية)) للمرغيناني (1/80)، وينظر: ((الدر المختار)) للحصكفي (2/107). ، والمالكيَّة ((الكافي)) لابن عبد البر (1/262)، ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (1/306)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/348). ، وقول للشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/65)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (2/100). ، ورواية عن أحمد ((كشاف القناع)) للبُهوتي (1/449)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/445). ، وعليه عامَّةُ السَّلف قال ابنُ تيميَّة: (ولا يُشرع فيه تحريمٌ ولا تحليل، هذا هو السُّنَّةُ المعروفة عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعليها عامَّةُ السَّلَف) ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 424). وقال ابنُ المنذر: (وقالت طائفة: ليس في سجود القرآن تسليمٌ، وممَّن كان هذا قولَه: إبراهيمُ النَّخَعيُّ، وأبو صالح، ويَحيى بن وثَّاب، والحسن البصري، وسعيد بن جُبَير، والشافعي، وقال أحمد: "أما التسليمُ, فلا أدري ما هو؟"). ((الأوسط)) (5/288). ، واختارَه ابنُ تَيميَّة قال ابنُ تَيميَّة: (ولا يُشرَع فيه تحريمٌ ولا تحليلٌ، هذا هو السُّنَّةُ المعروفةُ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعليها عامَّةُ السَّلَف) ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 424). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (إذا كان خارجَ الصَّلاة ليس فيه تسليمٌ) ((فتاوى نور على الدرب)) (10/458). ، وابنُ عُثَيمين قال ابن عثيمين: (ولكن السُّنَّة تدلُّ على أنَّه ليس فيه تكبيرٌ عند الرَّفع ولا سلامٌ، إلَّا إذا كان في صَلاةٍ) ((الشرح الممتع)) (4/100). ، وذلك لأنَّه لم يُنقَل، ولا دليلَ عليه ((كشاف القناع)) للبُهوتي (1/449).

انظر أيضا: