مقالات وبحوث مميزة

 

 

عِندَما تُصبِحُ السَّماحةُ وثنًا!

الشيخ علي جابر الفيفي

الثلاثاء 16 من رمضان 1432هـ

 

الحمدُ للَّهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللَّهِ.. وبَعدُ:

فإنَّ مِن أعظَمِ مِنَنِ اللَّهِ على هذه الأُمَّةِ أنْ أكمَلَ لها سُبحانَهُ دينَها؛ فلَمْ يَقبِضْ رسولَهُ إلَّا بَعدَ أنِ اكْتمَلَ الدِّينُ، وتمَّتِ النِّعمةُ، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

فليس لِكائِنٍ مَن كان أنْ يُضيفَ لهذا الدِّينِ مسألةً حتَّى وإِن اسْتحسَنَها، ورأى المصلحةَ فيها، ما لم يكُنْ له عليها ظَهيرٌ مِنَ الشَّرعِ، وليس له أنْ يرفُضَ ويَستقبِحَ بعقلِهِ شيئًا جاء في كتابِ اللَّهِ أو سُنَّةِ نبيِّهِ الأمْرُ به، أَوِ الحثُّ عليه، أو حتَّى إباحتُهُ والسُّكوتُ عنه؛ فالدِّينُ مُحكَمُ البِناءِ، مُغلَقُ الأبوابِ، لا يُوغِلُ فيه عالمٌ إلَّا بدليلٍ منه؛ فمَن حاوَلَ فتْحَ بابٍ مِن أبوابِ هذا الدِّينِ بمِفتاحٍ ليس مِن صُنْعِ الدِّينِ ذاتِهِ ضَلَّ الصِّراطَ المُستقيمَ..

ومفاتيحُ هذا الدِّينِ أربعةٌ: الكتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ والقياسُ..

فقَدْ أجمعَتِ الأُمَّةُ على المفاتيحِ الثلاثةِ الأُوَلِ، وخالَفَ النَّزْرُ في المِفتاحِ الرابِعِ خلافًا غيرَ مُعْتَبَرٍ؛ فمَن أراد أنْ يقولَ شيئًا عن مسألةٍ دينيَّةٍ فقال كلامًا لم تُفْضِ إليه هذه المفاتيحُ كلُّها أو بعضُها فقَدْ أتى بالنَّقْصِ؛ لأنَّ أيَّ زيادةٍ تُضافُ إلى البِناءِ الكاملِ ما هِيَ إلَّا انتِقاصٌ منه.

البعضُ في هذا الزمَنِ أضافَ إلى أصولِ الاستِدلالِ العُظمى أصلًا أنتَجَهُ مَحْضُ الهوى، وساعَدَ في بَلْوَرَتِهِ سُلطةُ الجماهيرِ، أَلَا وهو "السَّماحةُ".. وهي تَعْني أنَّهُ إذا تعارضَتِ الأقوالُ يُنظَرُ أيُّها أقرَبُ مِنَ اليُسرِ الذي يفرِضُهُ الهوى، لا الشَّرعُ، فإنَّهُ الصَّوابُ، وما عَداهُ رهبانيَّةٌ، وآصارٌ وأغلالٌ..

ومعلومٌ أنَّ لكلِّ مذهبٍ أصولًا استِدلاليَّةً، مُرتَّبةً ترتيبًا تنازليًّا؛ فلا يَنتقِلُ الإمامُ أحمدُ -مثلًا- إلى قَولِ الصَّحابيِّ وثَمَّةَ حديثٌ حسَنٌ في البابِ، ولا يَنتقِلُ الإمامُ مالِكٌ إلى عملِ أهْلِ المدينةِ حتَّى يتأكَّدَ مِن خُلُوِّ الأصولِ السَّابقةِ له مِن نصوصٍ تُفيدُهُ في المسألةِ المنظورةِ.

أصحابُنا في هذا الزمَنِ يُقدِّمونَ السَّماحةَ على صريحِ الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ فقَدْ رتَّبوا أصولَهم، ثُمَّ جعَلوا سماحتَهُمُ المزعومةَ أُمَّ الأصولِ، التي تَحتكِمُ إليها القضايا، وتقِفُ عِندَ بابِها المسائلُ الشرعيَّةُ مُطْرِقَةً، تَنتظِرُ الإذْنَ لها بالدُّخولِ إلى ساحةِ العملِ! فإذا قالَتِ السَّماحةُ: إنَّ الغِلظةَ على الكافِرِ والمُنافِقِ غيرُ مُناسِبةٍ في هذا العصرِ، فهذا يَقْتضي أنْ نُلْغيَ الحديثَ عن هذِهِ الغِلظةِ، وإذا أوحَتْ إليهم شياطينُ سماحتِهِمْ بأنَّ الجهادَ بابٌ مِنَ الدِّينِ يَنْطوي على إشكاليَّاتِ قد يَلِجُ أصحابُ العيونِ الزرقاءِ مِن خلالِها للطَّعنِ في سماحةِ الدِّينِ، فلا بأسَ -والحالةُ هذِهِ- أنْ نُوهِمَ هذا الآخَرَ بأنَّ دينَنا خالٍ مِن أيِّ فكرةٍ جهاديَّةٍ، وبأنَّهُ دِينُ ابتسامةٍ، وضَحِكٍ ومرحٍ وفرحٍ... ليس غَيْرُ!

ولأنَّ الدِّينَ مَتينٌ ومُهيمِنٌ، ففي كلِّ جُزئيَّةٍ منه تجِدُ آثارَ جُزئيَّاتٍ أُخْرى منه، فقَدْ باتوا مُحاطينَ بإشكاليَّاتٍ دينيَّةٍ لا حصْرَ لها: فإنْ أرادوا الحديثَ عَنِ الزَّواجِ في الإسلامِ، وكَونِهِ رحمةً وسكينةً ولِباسًا، لم يكُنْ لهم بُدٌّ مِن فتْحِ ملفِّ الخلافاتِ الزوجيَّةِ، التي يَأْتي النُّشوزُ في أَعْلى قائمتِها؛ فيُصابونَ بخجلٍ عندما يتذكَّرونَ أنَّهم سيتطرَّقونَ للضربِ غيرِ المُبرِّحِ كحَلٍّ شرعيٍّ مِن حُلولِ النُّشوزِ! ويَشْعرونَ بدُوَارٍ لمَّا يتذكَّرونَ مسألةَ استِئمارِ البِكرِ في الزَّواجِ، أو وجوبِ طاعةِ الزَّوجةِ لزَوْجِها وقِوامتِهِ عليها..

وإذا أرادوا فتْحَ ملفِّ مُعامَلةِ الكافِرِ، وأخذوا يُزَوِّرونَ في أنفُسِهم آياتِ وأحاديثَ الإقساطِ وجوازِ أنْ يتزوَّجَ المسلِمُ مِنَ الكِتابيَّةِ، تذكَّروا أحاديثَ الإلجاءِ إلى أضيَقِ الطُّرُقاتِ، وآياتِ الإغلاظِ، ونصوصَ الجهادِ؛ فأخَذَتْهم حُمَّى كحُمَّى تِهامةَ.. وترَكوا ذلك الملفَّ مفتوحًا، ثُمَّ انقلَبوا على أعقابِهم يَنْكِصونَ!

فكلَّما همُّوا بالحديثِ عن بابٍ مِن أبوابِ الشَّرعِ اصطدَموا بعزائِمِهِ، وارتطَموا بمُحكَماتِهِ؛ فاستَخْذَوْا استِخْذاءً مُخْجِلًا؛ لأنَّ الواقِعَ والآخَرَ والظُّروفَ والعقلَ واللُّحْمَةَ الوطنيَّةَ... وغيرَها مِنَ التابوهاتِ، ستنظُرُ إليهم بحَزْمٍ، وتُقرِّرُ أنْ تخلَعَ عن أكتافِهم بشوتَ السَّماحةِ.. فما الحلُّ إذَنْ؟ وما المَخرَجُ لِمعاشِرِ السَّمائحيِّينَ؟

 الحلُّ تنَوَّعَ بتنوُّعِ المَنازعِ النفسيَّةِ والبيئيَّةِ، وتَشكَّلَ وَفْقَ الأهواءِ والمَطامِعِ؛ فصاروا إلى ثلاثِ فئاتٍ (تَقبَلُ الزِّيادةَ): دُعاةِ القَدْرِ المشترَكِ، ودُعاةٍ مُدرَّبينَ، ودُعاةٍ ثائرينَ:

 

أمَّا دُعاةُ القَدْرِ المشترَكِ فقَدِ اتَّجهوا إلى خَوْلقةِ الدِّينِ (تحويلِهِ إلى مجموعةِ أخلاقٍ لطيفةٍ)، فتراهُمْ يَدُورونَ حولَ معاني الابتسامةِ، والتَّواضُعِ، والبِرِّ، واللُّطْفِ في التعامُلِ، وكلِّ ما مِن شأنِهِ أنْ يُتيحَ لسماحتِهِمُ المُشوَّهةِ أنْ تَرْتَعَ فيه دونَ رقيبٍ أو حسيبٍ؛ فركَّزوا على القَدْرِ المشترَكِ بينَ الأديانِ والمِللِ والنِّحَلِ، وغضُّوا الطَّرْفَ عَنِ القَدْرِ المُميزِ، الذي يتميَّزُ به الإسلامُ دينًا مُستقِلًّا! فلا دينَ ولا حتَّى لا دينَ إلَّا وهو يَستحسِنُ الابتسامةَ والمُصافَحةَ وإلقاءَ التحيَّةِ والهدوءَ... إلخ، فلَمْ نسمَعْ عن مُلحِدٍ يُنَدِّدُ بالترتيبِ، ويدعو إلى الفوضى، ولم تظهَرْ جماعةٌ أو حزبٌ يَرَوْنَ ضرورةَ استخدامِ القاموسِ الشتائِميِّ لتغييرِ الفردِ والمجتمعِ.. ومع هذا فأصحابُنا السَّمائِحيُّونَ يَدُورونَ حولَ هذه المعاني، وكأنَّ عناصرَ شريرةً مِن كوكبِ القُبحِ قرَّرَتْ أنْ تغزوَ كوكبَنا اللَّطيفَ؛ فهُمْ يُعزِّزونَ معانيَ اتَّفقَتِ الفِطَرُ والعقولُ -بل والأهواءُ، ناهِيكَ عَنِ الأديانِ- على استِحسانِها.. فتعلَّقوا بالقَدْرِ المشترَكِ.. هُروبًا مِن تَبِعاتِ القَدْرِ المُميزِ.

وأمَّا الدُّعاةُ المُدرَّبونَ، فقَدْ قرَّروا التخليَ عن مُحكَماتِ العِلمِ إلى مُتشابِهِ الإبداعِ والتميُّزِ والنجاحِ والتَّغلُّبِ على ضغوطِ الحياةِ؛ فلَمْ تعُدْ تسمَعُ مِنهُمُ الأمْرَ بالتقوى والورَعِ، واسْتَعاضوا عن ذلك بالتنبيهِ على الضَّررِ الناجِمِ عَنِ السَّهرِ، وأهمِّيَّةِ الإكثارِ مِن شُربِ السوائِلِ، والاستِرخاءِ.. فلَمْ تَعُدْ تَدْري هل صاحِبُكَ عالِمٌ عكَفَ على قراءةِ: (فَتْحُ الباري) و(فتاوى ابنِ تيميَّةَ)... أمْ مُمارِسٌ مُعتمَدٌ اطَّلَعَ على: (الُقَّبعاتُ السِّتُّ) و(الرِّجالُ مِنَ المريخِ والنِّساءُ مِنَ الزُّهَرَةِ)!!

وأمَّا الدُّعاةُ الثائِرونَ فهُمْ أولئكَ الَّذينَ لا همَّ لهم إلَّا الحديثُ عَنِ الحُريَّةِ والمساواةِ والحقوقِ، سمَحوا للمنافِقِ أنْ يسُبَّ نبيَّهم باسمِ الحريَّةِ، وشكَّكوا في أحكامِ المُرتدِّ عن دينِهِ؛ لأنَّ الدِّينَ سَمْحٌ، ونادَوْا بخروجِ المرأةِ؛ لأنَّ ذلك حقٌّ، والحقوقُ تُنْتَزَعُ.. فتلاشى ابنُ تيميَّةَ مِن ألسِنتِهم، واستَعاضوا عنه بمارتن لوثر.. وغاب صلاحُ الدِّينِ عن أُطْروحاتِهم؛ ليظهَرَ مكانَهُ تشي غيفارا..

جعَلوا مِن حريَّتِهم طوطمًا، ثُمَّ ظلُّوا عليها عاكفينَ.. فلمَّا شعَروا أنَّ الدِّينَ بهيمنتِهِ سيَقِفُ كالسدِّ المنيعِ ضِدَّ تلك التُّرَّهاتِ المنهزمةِ.. أَتَوْا بأكفَرِ كلمةٍ قالَتْها العربُ: الحريَّةُ أهمُّ مِنَ الدِّينِ. 

أمَّا إذا قدَّرَ اللَّهُ ووُضِعَتْ هذه الطوائِفُ الثلاثُ على محكٍّ لا مهرَبَ لهم منه إلَّا بالحديثِ عن تفاصيلَ دينيَّةٍ مُحرِجةٍ بالنسبة إليهم، فلا حلَّ إلَّا رُكوبُ الأسِنَّةِ، وخَوضُ تجرِبةٍ سمائِحيَّةٍ فريدةٍ، يكون العَزْفُ على وتَرِ الخلافِ هو اللَّحنَ السائِدَ فيها، فلَمْ يكُنِ الخلافُ الفقهيُّ دليلًا في عصرٍ مِن عصورِ الفقهِ أو لدى مدرسةٍ فقهيَّةٍ قَبلَ بُزوغِ هؤلاءِ السَّمائِحيِّينَ، فأيُّ مسألةٍ عثَروا فيها على خلافٍ مهما كان بعيدًا عن حظِّ النظَرِ، جعَلوا يُقلِّبونَها بمِلعقةِ السَّماحةِ؛ ليوقِظوا أضعَفَ قَولٍ مِن قبرِهِ، ويَنْفُضوا عن أكفانِهِ تُرابَ السِّنين البائدةِ، ثم يُقدِّموهُ للجماهيرِ الشبابيَّةِ على أنَّهُ السَّماحةُ الدينيَّةُ، واليُسرُ الشَّرعيُّ.

 

ولا شَكَّ أنَّ هذا نوعٌ مِنَ الزَّيْغِ يَستوجِبُ أشدَّ أنواعِ العقوبةِ؛ فإنَّ العبَثَ بدينِ اللَّهِ، وتلبيسَ الدِّينِ على الناسِ مِن أشدِّ الزَّيْغِ، الذي عاقَبَ اللَّهُ عليه بالمسْخِ.. فقَدْ أهلَكَ اللَّهُ المشركينَ المُعانِدينَ لأنبيائِهم على مرِّ العصورِ الغابِرةِ بالصَّيْحةِ والرَّجْفةِ والخَسْفِ والإغراقِ، بينَما اختَصَّ المُبدِّلينَ لشرعِهِ، والعابِثينَ بدينِهِ بالمسْخِ، وإنْ كانوا أصحابَ أنبياءَ، ومُقتدينَ في الجُملةِ..

فإنَّ أصحابَ السبتِ الَّذينَ مسَخَهُمُ اللَّهُ قِردةً خاسِئينَ لم يكفُروا بنبيِّهم، ولم يرُدُّوا دينَ اللَّهِ، وإنَّما تحايَلوا على الدِّينِ؛ مِن أجْلِ أنْ يَمْلؤوا بُطونَهم.. وما زالَ مُسلسَلُ التحايُلِ ولُبْسِ الحقِّ بالباطِلِ مُطَّرِدًا.. مُذْ زمَنِ الحريصينَ على حُوتِهِمْ.. إلى زمَنِ الحريصينَ على بشوتِهِمْ.. 

فها أنتَ قد رأيْتَ هذا الجزءَ المُهِمَّ مِنَ الدِّينِ -أَعْني: سماحتَهُ الحقيقيَّةَ ويُسرَهُ ورحمتَهُ- يتحوَّلُ بفضلِ هذه الجُهودِ غيرِ المشكورةِ إلى وثَنٍ يُعبَدُ مِن دونِ اللَّهِ؛ فصنَعوا مِنَ السَّماحةِ سلَّةً عظيمةً، ثُمَّ حشَروا الدِّينَ فيها.. وكذَبوا على اللَّهِ، فما هو بالدِّينِ الذي أكمَلَهُ.. وكذَبوا على رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فما بذلك اللَّهُ أرسَلَهُ..

وأَدْعو أخيرًا الغَيارى على الدِّينِ، مِن علماءَ ما زالوا هُمُ الأكثريَّةَ، ودعاةٍ ما زالَ الصِّدقُ لهم مَزِيَّةً، ومُثقَّفينَ ما زالوا يُنافِحونَ عَنِ الهُوِيَّةِ، إلى التَّصدِّي لهؤلاءِ المُبدِّلينَ.. ولا تَغُرَّهُمْ آيةٌ في ألسُنِهم أتَوْا بها ليَنقُضوا سورةً مِن صُدورِنا.. فلا يجوزُ أنْ نُجامِلَ بكلامِنا مَن سَعى -بعِلْمٍ أو جَهْلٍ- لتبديلِ دينِنا..

 

وصلَّى اللَّهُ على مُحمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبِه وسلَّمَ،،