مقالات وبحوث مميزة

 

 

الحِيادُ الأجْوَفُ

الشيخ حسن بن علي البار

الأحد30 شعبان1432هـ

 

لا يجدُ المتابعُ صعوبةً ليُدركَ حجمَ الاختلافِ، وتَعددَ الرُّؤى، وكثرةَ الأُطروحاتِ في واقعِنا المعاصرِ، بصورةٍ هي من سِماتِ هذا العصرِ، ومنَ المؤثِّراتِ الكبيرة على أهلِه، بالطبعِ هذه الأُطروحاتُ الكثيرةُ مُتباينةٌ وواسعةُ المدى من أقْصى اليمينِ إلى أقصى الشِّمالِ، ولكلِّ مقالةٍ منها مُنتصرونَ ومنظِّرونَ، وهؤلاء مَن لا أريدُ الحديثَ عنهم هنا.

وإنَّما أُريدُ أنْ يكونَ حَديثي عنِ الجُمهورِ المشاهِدِ الذي تُلقى هذه الأفكارُ على رأسِه في حربٍ لم يكَدْ يشهَدُ لها التاريخُ مثالًا في الضَّراوةِ والتتابُعِ!! هذا المستمِعُ والمتابِعُ كيف يصنَعُ معَ هذه الحربِ؟ ومعَ أيِّ قومٍ يصطفُّ؟

 

ولأجْلِ هذا الصِّنفِ منَ الناسِ أسوقُ عددًا منَ التنبيهاتِ:

1- منَ الأمورِ ما لا يجوزُ أنْ تكونَ موضِعًا للجدَلِ وتداولِ الرأيِ عندَ المسلِمِ، وهي مُحكَماتُ الشريعةِ، وقَطعيَّاتُ الأدلَّةِ، وهي كثيرةٌ مشهورةٌ يعرِفُها أهلُها، وكثيرًا ما تلتَبِسُ على مَن سِواهم، وهذا النوعُ منَ الأُمورِ -إذا وقَعَ فيها الخلافُ- الغالبُ فيها أنَّ المخطئَ فيها غيرُ معذورٍ، وأنَّه أعرَضَ عنِ الحقِّ، أو أنَّه سلَكَ في تحصيلِه الطُّرُقَ غيرَ المُوصِّلةِ إليه، مع وضوحِه، وقُربِ مَأخَذِه، ومع أنَّ الحقَّ من صِفتِه دائمًا أنَّه واضحٌ وقريبٌ؛ إلَّا أنَّه في هذا النوعِ أوضَحُ، ومُضيِّعُه حينَئذٍ يكونُ ألوَمَ.

 

2- مرجِعُ الأمورِ الدقيقةِ في كلِّ فَنٍّ إلى علماءِ ذلك الفنِّ، ولا يمكِنُ أنْ يكونوا -على اختلافِ مشاربِهم، وتنوُّعِ مداركِهم، وتوزُّعِ أماكنِهم، وصعوبةِ أوِ استحالةِ اجتماعِهم على هوًى واحدٍ- لا يمكنُ أنْ يكونوا جميعًا مُخطئينَ، فإنْ خالفْتَهم برأيِكَ في أمرٍ، ثمَّ رأيْتَ جَماعتَهم على رأيٍ واحدٍ غيرِ رأيِكَ؛ فاتَّهِمْ رأيَكَ ولا تتَّهمْهم، فإنَّ الهوى يُعمي ويُصِمُّ، ورأيُكَ أقرَبُ إلى الهوى مِن رأيِهم، وأبعَدُ عنِ العِلمِيَّةِ من دقيقِ مناهجِهم.

 

3 - منَ المسائلِ المطروحةِ للنِّقاشِ ما ليس منَ المسائلِ القطعيَّةِ، ولكنَّ الحقَّ فيها ظاهرٌ، والرأيُ الآخَرُ فيها له وجهُه؛ إلَّا أنَّه أبعَدُ عنِ الظهورِ، وأقلُّ تحقيقًا للمصلحةِ الشرعيَّةِ، فمِنَ المُتصوَّرِ أنْ يكونَ منَ الناسِ مَن يجتهدُ فيُؤدِّيه اجتهادُه إلى ذلك الرأيِ، ومنَ الطبيعيِّ حينَئذٍ أنْ يكونَ القائلُ بهذا والمقتنِعُ به أقَلَّ مِنَ القائلِ بالرأيِ الآخَرِ، ما لم يقتضِ ذلك أمرٌ منَ الأمورِ.. ولكنْ أنْ يتحزَّبَ مجموعاتٌ، ويتنادَوْا بصوابيَّةِ الرأيِ المهجورِ، ثمَّ إذا نظرتَ وجدْتَه مؤدِّيًا إلى موافقةِ طريقةِ الحضارةِ الغربيةِ (الغالبةِ) في التفكيرِ والنظَرِ إلى المسائلِ، في الوقتِ الذي يَأْباه أكثَرُ أهلِ العِلمِ الراسخينَ، فهناك اعلَمْ أنَّ ذلك منَ التداعي للهوى لا للعلمِ، وأنَّه من بابِ تقييمِ المصالحِ والمحاسنِ برأيِ (الآخَرِ)، ثم دَفعِ المفاسدِ والقبائحِ (التي يَراها الآخَرُ كذلك) عنِ النفسِ!!

 

4- طائفةٌ منَ الناسِ تُعرِضُ عن كلِّ ذلك اشتغالًا بدينٍ أو دُنيا.. وهذا ممدوحٌ من جِهةِ الاشتغالِ بما ينفعُ عمَّا لا ينفَعُ، ومن جهةِ عددٍ منَ النصوصِ الشرعيَّةِ الآمِرةِ بالإعراضِ عنِ الشُّبُهاتِ، وعنِ اللغْوِ.. ولكنَّ هؤلاءِ الناسَ لا يجوزُ أنْ يكونوا مجموعَ الأمَّةِ؛ لأنَّهم مع تباعُدِهم عنِ العِراكِ الفِكريِّ إيجابيِّهِ وسَلبيِّهِ؛ إلَّا أنَّهم ليسوا بمَعزِلٍ عنِ التعرُّضِ لسهامِه، أو تعرُّضِ أهليهم لذلك، وكم في الناسِ مِن مُنغَلقٍ على نفسِه، مناوئٍ للصالحِ والطالحِ منَ الأُطروحاتِ مَنِ انفتحَتْ عليه فجأةً فغَرِقَ في شِبرٍ منها، وخُطِفَ بالكُلِّيَّةِ إلى الضِّفَّةِ الأُخرى، وهؤلاء الناسُ كذلك لا يندفعُ بهم فرضُ الكِفايةِ عنِ الأُمَّةِ في مُدافعةِ الباطلِ، والمجاهَدةِ بالقرآنِ، قال ابنُ جَريرٍ في تفسيرِ قولِه تَعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]: ولكنْ جاهِدْهم بهذا القرآنِ جِهادًا كبيرًا، حتى يَنْقادوا للإقرارِ بما فيه من فرائضِ اللهِ، ويَدينوا به ويُذعِنوا للعملِ بجميعِه طَوعًا وكَرهًا، وهذا مُقتضى استخلافِ هذه الأُمَّةِ بالشهادةِ على العالَمينَ.
 

5-  وطائفةٌ أُخرى لزمَتِ الحيادَ، ووقفَتْ وسَطًا بينَ شتَّى المذاهبِ، يومًا يَمانونَ، ويومًا عَدنانيُّونَ، يسمَعُ مِن ذا وذا، ويُعجِبُه رأيُ ذا، وأصالةُ ذاك، وحُجَّةُ هذا، أو بريقُ مقولةِ الآخَرِ.. وهكذا، يظُنُّ ذلك منَ الثقافةِ، ويَؤزُّه على الاستمرارِ على هذا النَّهجِ مقولاتٌ من نَحوِ: عدمِ احتكارِ الحقيقةِ، وأنَّه لا حقَّ مُطلَقٌ، وحريةِ كلِّ طرَفٍ في التعبيرِ عن آرائِه، واحتمالِ صوابيَّةِ تِلكُمُ المقولاتِ... وما إلى ذلك من هذه الدَّعاوى الفَضفاضةِ، وحينَ ينظُرُ هؤلاء الإخوةُ إلى الآخَرِ بهذه النظرةِ، ويُطالبونَنا بها؛ فياليْتَهم يُطالِبونَ الآخَرَ بها كذلك، فهذان طرَفانِ لكلٍّ منهما طريقةٌ ومذهَبٌ، فما مَذهبُك أنتَ؟ وما هي طريقتُكَ؟ إنَّ الحِيادَ بينَ الكفرِ والإيمانِ، والتردُّدَ بينَ صوابيَّةِ أهلِ الإسلامِ أو أهلِ الكتابِ، التردُّدَ الأعْمى بينَ مُعسكَرِ الشرقِ ومعسكرِ الغربِ، الليبراليَّةِ والسَّلَفيَّةِ، العِلمانيَّةِ والإسلاميَّةِ، الديمقراطيَّةِ والشرعيَّةِ، الشيعةِ والسُّنَّةِ، البِدعةِ والاتبَّاعِ، الظالمِ والمظلومِ.. إلخ هذه الثُّنائيَّاتِ؛ ليس بصوابٍ، ولا هو دليلُ عُمقٍ فِكريٍّ، ولا يمتلكُ صاحبُه اليقينَ الراسخَ بحقائقِ الأمورِ، فهو يتمَظهرُ بالثقافةِ والحِيادِ، والحيادُ بعدَ ظُهورِ الحقِّ توسُّطٌ بينَ الحقِّ والباطلِ، وهو مذمومٌ، قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((انصُرْ أخاكَ ظالِمًا أو مظلومًا))، وفي التنزيلِ الحكيمِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات : 9]، فأمَرَ بالحيادِ والإصلاحِ حتى تظهَرَ مُخالفةُ العدلِ والصوابِ؛ وحينَها يجيءُ الأمرُ بالانحيازِ إلى الحقِّ وأهلِه، ونُصرَتِهم على مَن ناوَأَهم.

 

6 - لبعضِ الناسِ في نُصرةِ الحقِّ طريقةٌ عجيبةٌ، فهم أبدًا مع المنتصِرِ، ولدَيْهم قدرةٌ عجيبةٌ على أنْ يُبصِروا النقطةَ السوداءَ في الثوبِ الأبيضِ، متى ما كان ذلك يحقِّقُ لهم رِضا مَن يُريدونَ رِضاه، وهم كذلك يُبصِرونَ النقطةَ البيضاءَ في الثوبِ الأسودِ، ويدَّعونَ أنَّ هذا مُقْتضى الإنصافِ.. فاحذَرْ من هذه المسالكِ؛ فإنَّها لا تَزيدُ أصحابَها إلَّا قُبحًا!! وهو نَوعٌ منَ التأكُّلِ بالمبادئِ، والعياذُ باللهِ.

 

7- الشَّيطانُ الأخرسُ أضعَفُ وأقَلُّ شرًّا منَ الشَّيطانِ الناطقِ، وبعضُ الخُرْسِ عنِ الحقِّ يسكُتونَ دَهرًا، ثُم يَنطِقونَ فُجْرًا، وحينَئذٍ يَحسُنُ أنْ تقولَ: ليْتَه سكَتَ..

 

8- أهلُ العلمِ والعدلِ والمعرفةِ العميقةِ بالذاتِ وبالآخَرِ مِن أهلِ الدينِ الحقِّ لا يَزيدُهم مُخالفةُ المُخالفِ لهم، وهُزُؤه بمبادئِهم إلَّا إيمانًا وتثبيتًا. {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر : 31]. انظُرْ كيف جعلَ في نفسِ الأمرِ الذي فيه الفتنةُ على الكافرين زيادةً في إيمانِ المؤمنينَ، واطمئنانًا لمَن كان مُنصِفًا ممَّن نزَلَ عليهمُ الكِتابُ مِن قَبلِه.

 إنَّ أهلَ الإنصافِ المزعومِ، والتوسُّطِ في غيرِ مَحِلِّه مُداهِنونَ؛ يظنُّون أنَّ أسلوبَ المجامَلةِ والتملُّقِ نافعٌ في كلِّ حينٍ، وهو دليلُ ضَعْفٍ في شَخصياتِهم، وضُمورٍ في يَقينِهم، وهذا الداءُ قدِ استَشْرى في هذا الزمانِ، ووصَلَ إلى فِئامٍ كثيرةٍ منَ الناسِ؛ فتفقَّدْ نفسَكَ يا أخي، فلعلَّكَ تُخلِّصُها من بعضِ رَواسِبِ هذا المرَضِ العُضالِ، سلَّمَكَ اللهُ مِن كلِّ شرٍّ.

اللهُمَّ ربَّ جِبرائيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، عالِمَ الغَيبِ والشهادةِ، أنتَ تحكُمُ بينَ عبادِكَ فيما كانوا فيه يَختلفونَ.. اهْدِنا لِمَا اختُلِفَ فيه منَ الحقِّ بإذنِكَ، إنَّكَ تَهدي مَن تشاءُ إلى صِراطٍ مستقيمٍ.