مقالات وبحوث مميزة

 

 

حُمَّى الضَّنْكِ الفِكْريِّ

الشيخ بدر بن سليمان العامر

الخميس 27شعبان1432هـ

 

قد لا يُصدِّقُ أولئك الآباءُ المبتعِدونَ عن واقعِ الشبابِ -وخاصَّةً في عالَمِهم الافتراضيِّ- أيَّ مرحلةٍ فِكريَّةٍ وصَلَ إليها أبناؤُهم، رُبَّما لا يَدْري أحدُهم أنَّ ولدَه الذي إذا رَآه خارجًا إلى الصلاةِ مَشى معه إلى المسجِدِ، يُصلِّي ويركَعُ ويقرأُ القرآنَ، ولكنَّه في نفْسِ الوقتِ يدخُلُ عالَمَ "النت" ليُعلِنَ أنَّه يتبَعُ مذهَبَ "اللاأدريَّةِ"، أو مذهَبَ "الشكاكِ"، أو مذهَبَ "الإلحادِ الصريحِ"؛ فكم رأَيْنا شبابًا من أبناءِ هذه البلادِ، يتسمَّوْنَ بمحمدٍ، وعليٍّ، وسُعودٍ، وعبدِاللهِ، وهم في حقيقتِهم أصبَحوا لُقمةً سائغةً لدُعاةِ الإلحادِ، والانقِلابِ على الدِّينِ وأهلِه، يتحدَّثونَ في قَضايا أفنى العُلماءُ أوقاتَهم في جِدالِها من قضايا الفلسفةِ وأفكارِها ومناهجِها، فتجِدُ مِن لَحنِ كلامِهم، ومن تَغريداتِهم، ومقالاتِهم التي يَكتُبونَ ضَنْكًا فِكريًّا يُحيطُهم من كلِّ جانبٍ، وشكًّا في مُسلَّماتِ الدِّينِ والعَقيدةِ، وإنكارًا للخالقِ -سُبحانَه وتَعالى- وسببُ ذلك فِكرةٌ تمُرُّ على البالِ ينفُخُ فيها الشَّيطانُ، أو شُبهةٌ يَقرَؤُها في ميادينِ الإلحادِ التي تُحاولُ خَلخلةَ الإيمانِ، وزَرعَ الشَّكِّ والرِّيبةِ في عقولِ أبناءِ المسلِمينَ.

 

إنَّ قضيةَ الإلحادِ ليسَتْ قضيةً فِكريَّةً مُجرَّدةً عن سِياقِ الشخصِ الاجتماعيِّ، بل هي حركةُ "نِفاقٍ" جديدةٌ، يَتَعاطى الشابُّ مع مُحيطِه الذي يَعيشُ فيه على أنَّه مُسلمٌ، يتصرَّفُ بتصرُّفاتِ المُسلمينَ، ويسيرُ على سُلوكِهم وطريقتِهم، بينَما يَحمِلُ في طِيَّاتِه حِقدًا وغِلًّا على دِينِهم ونسَقِهم وثقافتِهم، يتظاهرُ أمامَهم بالدِّيانةِ، وهو في حقيقتِه يَحمِلُ فِكرةً تتجاوَزُ نِطاقَ الأديانِ كُلِّها، حينَ يُنكِرُ الخالقَ وسِرَّ الخليقةِ، ويُبشِّرُ بالأفكارِ العَدَميَّةِ التي تنزِعُ أيَّ قيمةٍ للحياةِ، فتسلُبُ منَ الشخصِ الطُّمَأْنينةَ النفسيَّةَ، والاتِّساقَ الاجتماعيَّ، والولاءَ للجماعةِ، قدِ انشغَلَ فِكرُه في الأسئلةِ الكُبرى التي لم يستطِعْ أنْ يجِدَ لها جوابًا، وقد ألهاهُ هذا كلُّه عن بِناءِ ذاتِه ومُستقبلِه، ولرُبَّما أدَّى به هذا إلى مُمارسةِ كُلِّ سُلوكٍ بلا ضوابطَ أخلاقيةٍ أو دينيةٍ أو اجتماعيةٍ، بسببِ المفاصلةِ بينَه وبينَ كلِّ هذا.

 

إنَّ التساؤلَ حولَ القضايا الكُبرى أمرٌ يقَعُ لأيِّ إنسانٍ، بل إنَّ دَفْعَه سمَّاه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صريحَ الإيمانِ؛ فإنَّ الشَّيطانَ يَأْتي للإنسانِ المُسلمِ فيسألُه: مَن خلَقَ كذا؟ مَن خلَق كذا؟ حتى يقولَ: مَن خلقَ اللهَ؟ فحينَ اشْتَكى الصحابةُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك، قال: أوجَدْتُم هذا؟ قالوا: نَعم، قال: ذلك صريحُ الإيمانِ، كما جاء في صحيحِ البُخاريِّ، أيْ: إنَّ دَفعَكم لهذا الوَسواسِ الشَّيطانيِّ هو صريحُ الإيمانِ، فإنْ علِقَ بذِهنِ الفردِ سؤالٌ حولَ الإيمانِ والخَلْقِ والوُجودِ، فإنَّه يتوجَّهُ إلى العارفينَ بالأمورِ، الذين كتَبوا وألَّفوا ليستفيدَ منهم، وهذا أمرٌ لا شيءَ فيه، إنَّما الإشكاليَّةُ حينَ يتبنَّى الشبابُ هذه الأفكارَ باعتبارِها مذاهبَ يَدْعونَ لها، ويُنافِحونَ عنها، ويُجادِلونَ حولَها عبرَ مَعرِفاتٍ مجهولةٍ كثيرةٍ، ومعرِفةٍ قليلةٍ، بلِ انتقَلَ هذا إلى نِقاشِ مَجالسَ تُقامُ حولَه الحواراتُ الطويلةُ، وهذا أمرٌ خطيرٌ على الدِّيانةِ والمجتمَعِ ومُستقبَلِ البلَدِ وأمنِه.

 

إنَّ جُزءًا مُهِمًّا من توجُّهِ الشبابِ إلى مِثلِ هذه الأفكارِ هو الضَّعفُ الشديدُ في طبيعةِ الخِطابِ الدِّينيِّ الذي يَنصرِفُ عن مناقشةِ هذه القضايا من خلالِ الأدلَّةِ العقليَّةِ والعِلميَّةِ والنَّقليَّةِ، والذي يُدلِّلُ على قضايا الإيمانِ من خلالِ توافُقِ النصِّ الدِّينيِّ مع القضايا العقليَّةِ القطعيَّةِ، وبيانِ العَلاقةِ بينَ الدِّينِ والعِلمِ باعتبارِها عَلاقةَ اتِّساقٍ وتكامُلٍ، وتَجليةِ خِطابِ القُرآنِ على أنَّه خِطابٌ يخاطِبُ العقلَ كما يخاطِبُ العاطفةَ، وأنَّ مسائلَه الكُبرى قد قامَتْ على الإقناعِ العَقليِّ، وليستْ هي قضايا تسليميَّةً بلا بُرهانٍ، فالقرآنُ مليءٌ جدًّا بالحواراتِ العقليَّةِ التي أقنعَتِ المُخاطَبينَ بتوافُقِه مع مُقرَّراتِ العقلِ البَشريِّ، والتي توَصِّلُ إلى حقيقةِ سِرِّ الوجودِ، وعظمةِ الخالقِ، وترسيخِ الإيمانِ في النفوسِ.

 

إنَّ طُغيانَ الخطابِ الوعظيِّ، وغِيابَ الخطابِ العقليِّ الذي يُركِّزُ على "دَلائلِ النبوَّةِ" العقليَّةِ، أدَّى إلى تسطيحِ الخطابِ الدِّينيِّ؛ الأمرُ الذي لا يتوافَقُ مع العقليَّةِ الشبابيَّةِ الجديدةِ، والتي انفتحَتْ على مُختلِفِ الثقافاتِ والأفكارِ، وأسهمَتِ التِّقْنِيةُ الحديثةُ في الوصولِ إلى الأفكار المحظورةِ، وهذا الواقعُ الجديدُ يحتاجُ إلى تجديدِ الخِطابِ، والقراءةِ في السُّنَنِ الكونيَّةِ، والكشوفِ العِلميَّةِ، وترقيةِ الأسلوبِ الشَّفاهيِّ والخِطابِ الدَّعويِّ ليكونَ متوافقًا مع مرحلةِ الحياةِ البشريَّةِ، وهو جزءٌ من حركةِ التجديدِ الذي تحتاجُه الشريعةُ؛ بناءً على مُتغيِّراتِ الزمانِ والمكانِ.

 

إنَّنا لو قارنَّا الخِطابَ الدِّينيَّ والذي يحضُرُ من خلالِ القَنواتِ الفضائيَّةِ، أو من خِلالِ ما تقذِفُ به المَكتباتُ من إصداراتٍ مع الخطابِ الوَعظيِّ سنلحَظُ بلا شَكٍّ طُغيانَ الخطابِ البسيطِ على الخطابِ المُقنِعِ، والذي يخاطِبُ عقلَ الإنسانِ ووُجدانَه، فيُرسِّخُ فيه معالمَ الإيمانِ، ويحفَظُ عليه دينَه واستقرارَه، مع وجودِ مُحاولاتٍ جيِّدةٍ على قِلَّتِها تَعتني بكشفِ شُبُهاتِ الإلحادِ، وإقناعِ العقولِ بصحةِ مُقرَّراتِ الشريعةِ، وإثباتِ الخالقِ للكونِ من خلالِ الأدلَّةِ العقليَّةِ، ومع ذلك هناك نُدْرةٌ في الدِّراساتِ الجادَّةِ حولَ هذه القضايا، وخاصَّةً الرسائلَ العلميَّةَ التي تَخرُجُ منَ الأقسامِ الشرعيَّةِ والتي عليها مسؤوليةٌ كبيرةٌ في الاهتمامِ بهذا الجانبِ الخطيرِ والكبيرِ.

 

إنَّ هذا الواقعَ الجديدَ، والذي يترحَّلُ ليُصبِحَ ظاهرةً يحتاجُ إلى إعادةِ النظَرِ في مناهجِنا العِلميَّةِ، سواءٌ الرسميةُ، أوِ الدروسُ التي تُعقَدُ في المساجِدِ والمُحاضَراتِ العامَّةِ، فالمسؤوليَّةُ تَقْتضي أنْ نَعرِضَ الإسلامَ والإيمانَ على أنَّه قادرٌ على حلِّ مُشكِلاتِ الفِكرِ الإنسانيِّ، وقد كان العلماءُ المسلمونَ في التاريخِ يَهتمُّونَ بهذه القضايا حتى برَزَ أئمةٌ كِبارٌ كالغزاليِّ وابنِ تَيْميَةَ وابنِ رُشْدٍ وغيرِهم من بعضِ المُهتمِّينَ منَ المعاصِرينَ ممَّنْ دحَضَ وأسَّسَ وناقَشَ وقعَّدَ القواعدَ، ولكنَّها جهودٌ لا تَكْفي بسببِ تطوُّرِ مسالكِ العلومِ، واكتشافِ الكُشوفاتِ الجديدةِ، والتي تحتاجُ إلى عقليَّةٍ اجتهاديَّةٍ جديدةٍ، تَصوغُ قِيمَ الإيمانِ بقوالبَ تتوافقُ مع طبيعةِ العقولِ المعاصِرةِ.

 

إنَّ المُحزِنَ حينَ يَنشغِلُ الكثيرُ بصِراعاتٍ هامِشيَّةٍ، يَتقاتلونَ على مسائلَ لا تنصُرُ حقًّا ولا تَخذُلُ باطلًا، تُبذَلُ جهودٌ كبيرةٌ بالليلِ والنهارِ على قضايا لا يَعرِفُها إلَّا خاصَّةُ الخاصَّةِ من أهلِ العِلمِ، وتنشغِلُ العقولُ وتغرَقُ بمناقشةِ قضايا خِلافيَّةٍ أو ظنِّيَّةٍ دائرةٍ بينَ راجحٍ ومرجوحٍ، وتهلِكُ هِمَمُ الشبابِ وتُشغَلُ بأمورٍ لا ناقةَ لهم فيها ولا جَمَلَ، بينَما تتقاصَرُ عقولُ هؤلاء عن مناقشةِ مثلِ هذه القضايا الكُبرى التي تمَسُّ أصلَ الدِّيانةِ والإيمانِ، وتمَسُّ أُسَّ الحياةِ الاجتماعيَّةِ، والضحيَّةُ في نهايةِ المَطافِ هم أبناؤُنا الذين صنَعْنا منهم لُقمةً سائغةً لكلِّ مُغرِضٍ يُريدُ أنْ يَنقُلَهم عن دربِ الهدايةِ والدِّينِ إلى دربِ الضَّنْكِ والضلالِ والإلحادِ والرِّيبةِ بسببِ الإعراضِ عن مُراداتِ اللهِ ورسولِه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].