قراءة ونقد

التوسُّلُ بالصَّالحينَ بين المُجيزينَ والمانعين
book
عبد الفتاح بن صالح قديش اليافعي
عنوان الكتاب: التوسُّلُ بالصَّالحينَ بين المُجيزينَ والمانعين ((دراسة مقارنة)).
اسم المؤلف: عبد الفتاح بن صالح قديش اليافعي.
الناشر: دار النور المبين- عمان، الأردن.
سنة الطبع: 1436 – 2015م
عدد الصفحات: 346
عرض ونقد: القِسم العِلمي بمؤسَّسة الدُّرَر السَّنِيَّة

أولًا: عرض الكتاب :

تألَّف هذا الكتابُ مِن فاتحة، ومقدِّمة وفصلين:

في فاتحة الكتابِ وتحت عنوان: "الرجوع إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل" ذكر المؤلِّفُ جملةً من النُّصوصِ القُرآنيَّة والنبويَّة متبوعةً بجُمَلٍ من أقوال السَّلَف وأئمَّة المذاهبِ، تدُلُّ على طلَبِ الحقِّ والهداية، وتعمَّدَ المؤلِّفُ النَّقلَ عن أئمَّة من أهل السُّنَّة، يمنعون ما ذهب إليه من مشروعيَّة التوسُّل، كابن تيميَّة وابن القيم، وخَلُص منها إلى أنَّ الحِكمةَ ضالَّةُ المؤمِنِ، وأنَّه ينبغي الرجوعُ إلى الحقِّ، ويجبُ اتِّباعُه متى ظهر دون انتظارِ إذنٍ مِن أميرٍ أو شيخ أو أيِّ أحد، كأنه يمهِّدُ لنفسِه بأنَّ الحَقَّ معه وينبغي اتِّباعُه عليه.

وتحدَّث في المقدِّمة عن منهجيَّةِ البحثِ وطريقةِ ترتيبِه، وأما الفصلُ الأول فكان عن حُكم التوسُّل بالصَّالحين، وذكر في المبحثِ الأوَّلِ منه أقوالَ أهلِ العلم في حُكم التوسُّل بالصَّالحين، مُبيِّنًا أنَّ التوسُّلَ ثلاثةُ أنواع: مشروعٌ بالاتِّفاق: وهو التوسُّل بأسماء الله وصفاتِه، وبالأعمالِ الصالحة، وبدُعاء الرجل الصالح، وممنوعٌ بالاتِّفاق: وهو عبادةُ غير الله، ومختَلَفٌ فيه: وهو التوسُّل بذواتِ الأنبياء والصالحين، ثم أتبع هذا فروعًا أربعةً تتَّبعَ فيها أقوالَ أصحاب المذاهب الفقهيَّة الأربعة في التوسُّل، ثمَّ ختم هذا المبحثَ بفوائدَ مُتَمِّمةٍ في التوسُّل، ناقلًا طَرَفًا من أقوال المتوسِّلين من العُلماء في كُتُبهم، وما دعوا لله به من التوسُّل بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبعض ما ورد في توسُّل الأئمة بالصالحين، وذكرَ أنَّ الشَّوكانيَّ من المناصرين للتوسُّل بالأنبياء والصالحين، كما ذكر طَرفًا من أقوالِ بعض العُلماءِ في كتبهم ودُعائهم بالتوسُّل بالصالحين.

وأما المبحث الثاني من هذا الفصل فخَصَّصه المؤلِّفُ للأدلَّة، وذكر تحته أدلَّةَ الجمهورِ على مشروعيَّة التوسُّل، ثم ذكر أدلَّة المانعين للتوسُّل، ثم ختم المبحث بفائدتين مُتَمِّمتين، زعم في الأولى أنَّ ابنَ تيميَّة يُجيز لفظ (أسألُك بنبيِّك محمد)، وفي الثانية ذكر أنَّ مسألة التوسُّل من مسائل الفروع التي يجوز فيها الخِلافُ.

أما الفصل الثاني الذي عنون له بــ (مخاطبة النبي بعد موته)، فتحدَّثَ فيه عن المُجيزين لذلك وتقريرِهم للمسألة في ماهيَّة العبادة وحقيقتها، وتوحيدِ الرُّبوبية وتوحيد الألوهيَّة، ثمَّ بيَّنَ "ضابط قصد التعبُّد" كما يراه، ثم بدأ في عدَّة فروع تحوي بعض القضايا الشائكةِ في سَماع الموتى ومُخاطَبتهم، وهل الموتى يسمعونَ خِطابَ الأحياء لهم ويشعرونَ بأفعالهم؟ وحياة النبي في قبره، ومخاطبة الصَّحابة والسَّلف له بعد موته، كما عرَض بعضَ الأحاديث التي فيها عباراتٌ مثل: يا عبادي احبسوا - أعينوا- أغيثوا، وعرَض بعضًا من مخاطباتِ وتقريرات عُلماء المذاهب المتبوعة للمسألة، ثم عرَض فتوى لنفسِه حول المخاطبة بعد الموتِ، ثمَّ  تحدَّث عن المانعين من ذلك وتقريرهم للمسألة، فذكرَ بعضًا مِن أقوال المانعين للتوسُّل بالصالحين، بينَ من يعُدُّ ذلك من الشِّرك الأكبر المُخرِج من المِلَّة، ومن يعُدُّ ذلك حرامًا وليس بشِركٍ، ثم ختم بحثه بتوجيه أدلة المانعين والرَّدِّ عليها.

 

ثانيًا: نقد الكتاب :

كتابُ هذا الشَّهر من الكتُب التي تتحدَّث عن مسألةٍ من المسائلِ الشائكة، التي كثر الحديثُ عنها، مع كثرة الخلطِ فيها أيضًا، وهي مسألة "التوسُّل بالصالحين ومخاطبة النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد موتِه" وما يتعلَّق بها من أحكامٍ شرعيَّة، وقد تناولها المؤلِّف لبيان آراء المجيزين والمانعين للتوسُّل بعباد الله الصالحين.

ومؤلِّفُ هذا الكتاب- كما يظهر جليًّا في كتبه ومؤلَّفاته وخاصَّة هذا الكتاب الذي نحن بصدده- يُوافِقُ الأشاعرةَ في أصولِ العقائد، وهو أيضًا صوفيُّ المَسلَك، والكتابُ عليه مؤاخَذاتٌ عِلميَّةٌ ومنهجيةٌ كثيرة، ينبغي التنبُّهُ إليها والحذرُ منها، وفي هذا العَرضِ إشارةٌ إلى أهم تلك المؤاخذات، مع التعقيب عليها بما يناسِبُ المقام.

فمِن المُؤاخَذات على الكتاب:

أنَّ عنوانَ الكتاب غيرُ متَّفقٍ مع مادةِ الكتاب ومضمونِه؛ فالكتابُ عُنوانه (التوسُّل بالصالحين بين المجيزين والمانعين- دراسة مقارِنة)، ولكنَّ مادَّةَ الكتابِ هي في الحقيقة عرضٌ وجمعٌ مُنتقًى لآراءِ المجيزين، مع الإشارةِ إلى وجودِ مانعين، ثمَّ إنَّه لا توجدُ مُقارنة، ولا توجَدُ دراسةٌ علميَّة للأدلَّة، كما هي طريقة العلماء، من حيثُ الموازنةُ بين الأدلَّة، وبيانُ درجة كل دليلٍ، من حيثُ قوَّةُ الدَّلالة على الموضوع، ومن حيثُ صحةُ الآثار أو ضَعفُها، ومن حيث صِحَّةُ الاستنباط واستخراجُ الأحكام، ولكنْ ما في الكتاب هو جمعٌ وعرضٌ فقط، وليس فيه دراسة مُقارِنة.

ومنها: الآثارُ الضعيفة والمكذوبة والموضوعة، وهذا من أغرب وأخطَر ما في هذا الكتابِ، ولا يُعفيه أنَّه ذكرَ سببَ ذِكرِه وإيراده للأحاديثِ الضعيفة التي لا تنجَبِرُ، حيث قال في ( ص64): "ومنها الضَّعيفُ غير المُنجَبِر، ولو فُرِضَ أنَّها كلَّها ضعيفة، فإنَّ الضَّعيفَ المنجبِرَ يتقوَّى بشاهدٍ واحد، فكيف إذا كانت أكثَر من عشرين حديثًا.. إنَّها بذلك قد بلغت حدَّ التواتر، حتى لا يُشتَرَطَ في رُواتها العدالةُ، فإن قيل: لِم أوردتُم ما ضعفُه لا ينجَبِرُ، مع أنَّه غيرُ مقبول في الاستدلال؟ قيل: أردْنا أن نجمعَ كلَّ ما وقَفْنا عليه في المسألةِ، وقد بيَّنَّا حالَ ما كان كذلك، فاندفع الإشكالُ، بل وفي إيراده- مع بيان حالِه- ما لا يخفى من الفائدةِ المتَّصلة بالموضوعِ".

فهذا الكلام من المؤلِّفِ لا يرفَعُ عنه الحرجَ؛ لأنه في الحقيقة يُورِدُ النصوصَ والآثار كأدلَّة تحت عنوانٍ واضحٍ ومعَبِّرٍ، مثل أن يقول: (أدلة المجيزين للتوسل) ثم يسرِد الأدلَّةَ مُختَلِطًا فيها الضَّعيفُ وغيرُه، وكان الواجِبُ عليه أن يميِّزَ بتفصيلٍ ووضعِ عناوينَ، فيقول مثلًا: أدلَّةٌ ثابتةٌ وصحيحة في المسألة، ونصوصٌ أو رواياتٌ غير ثابتة في المسألة، خاصَّة وأنَّ الكتابَ- كما يظهرُ من طريقةِ جمعه ومادَّته- مُقدَّمٌ لكلِّ الناسِ، وللعوامِّ قبل الخواصِّ من أهل العلم، فكان لزامًا عليه أن يوضِّحَ حقيقةَ الأدلَّة للعوامِّ، وأنَّى له أن يفعلَ ذلك وقد ظهر حِرصُه على إظهارِ الكَمِّ والكثرةِ، وإظهار استيعاب الأدلَّة كلِّها دون تمييز؟! ثمَّ إنَّ الصَّحيحَ عنده نَزرٌ، ولا حُجَّةَ قاطعةٌ له فيها إلا بِلَيِّ أعناقِ النُّصوص، مع القفزِ على المعاني والمدلولاتِ الصَّحيحة، وتقديم تفسيراتٍ للنُّصوص على أنها تؤيِّد وجهةَ نَظَره المؤيِّدة للتوسُّل بكل أنواعه.

ومن الأخطاء العِلمية والمنهجية أيضًا في عدم تحرير المصطلحات:

خطأُ المؤلِّف في حدِّ الحديثِ المتواتر، وظنُّه أنَّ كثرةَ الطُّرُق الضَّعيفة والموضوعة تجعل الخبَرَ مُتواترًا، حيث قال (ص64): عن الأحاديث التي أورَدَها: (ومنها الضَّعيفُ غير المُنجَبِر، ولو فُرِضَ أنَّها كلَّها ضعيفةٌ، فإنَّ الضَّعيفَ المنجبِرَ يتقوَّى بشاهدٍ واحد، فكيف إذا كانت أكثَر من عشرينَ حديثًا.. إنَّها بذلك قد بلغت حدَّ التواتُر، حتى لا يُشتَرَطَ في رُواتها العدالةُ) (وينظر أيضًا: ص 77)، وهذا خطأٌ؛ فالخبرُ المتواتِرُ عند أهل الاصطلاح هو: (الخبَرُ الذي ينقلُه عددٌ يحصلُ العلمُ بصِدقِهم ضرورةً، أو عددٌ يستحيلُ تواطُؤهم أو تَوافُقُهم على الكَذِب- ولا بدَّ مِن وجود ذلك في رواتِه مِن أوَّلِه إلى منتهاه- ورَوَوا ذلك عن مِثْلِهم من الابتداءِ إلى الانتهاءِ، وكان مُستنَدُ انتِهائِهم الحِسَّ، وصَحِبَ خبرَهم إفادةُ العلمِ لِسامِعِه). ثم إنَّ الحديث الضعيفَ الذي ينجبِرُ بالشَّواهد، هو ما كان الضَّعفُ من طريقٍ مُعَيَّنةٍ، أو من راوٍ محدَّدٍ، فإذا جاء نفسُ الحديثِ من طريقِ راوٍ آخرَ ثقةٍ، انجبَرَ الضَّعفُ، ويكونُ حَسَنًا لغيره، أمَّا إذا تعدَّدت الطرقُ الضعيفةُ أو الموضوعة لحديثٍ ما، فإنَّ كثرةَ هذه الطرُق لا تزيدُه إلَّا ضَعفًا، وكذلك إذا كثُرَت الأحاديثُ الضعيفة والمكذوبة في مسألةٍ ما، فلا تفيدُ الدَّلالةَ على مشروعيَّة هذه المسألةِ، كما هو الحالُ في حالة التوسُّلِ التي جمع لها المؤلِّفُ أحاديثَ كثيرةً، ولكنها ضعيفةٌ ومكذوبة وموضوعة، وجعلها أدلَّةً عليها .

ومن المُؤاخَذات: عدم إعطاء كلِّ قِسم من المباحث والفروع حَجمَه المناسِبَ في الكتاب؛ مما ترتَّبَ عليه عدمُ العدل والموضوعيَّة في العرضِ، وهذا من الناحية المنهجيَّة غيرِ المتَّسِقة في الكتاب؛ فمثلًا: جعل المؤلِّفُ المبحثَ الثانيَ مِن فرعين؛ الفرع الأول: عن رأيِ الجمهور في مشروعية التوسُّل، والفرع الثاني: أدلَّة المانعين، ثم جعل أصلَ المبحثِ كله الفرع الأول فقط في رأي المجيزينَ، وجاء في قُرابة عشرين صفحة، فيها الأدلَّة المختَلِطة الصحيحة مع الضعيفة والموضوعة والمكذوبة ابتداءً مِن (ص48- ص67)، ثم جاء الفرع الثاني (أدلَّة المانعين) في صفحةٍ واحدةٍ دون مناقشة أو تفنيد، بل اكتفى بالإحالةِ على أدلة المجيزين في الفرعِ الأول، وكأنَّه لا يعترف ابتداءً برأي المانعين، وكذلك سردَ أقوالَ من جَوَّزَ الاستغاثةَ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأغفل قولَ المانعين؛ ممَّا يوهِمُ أنَّه قولُ الأكثر، ينظر من (ص: 255 إلى ص: 287).

ومن المؤاخذات العِلميَّة:

1- عدمُ تفريقِه بين التوسُّل المُختَلَف فيه وبين الاستغاثة الشِّرْكية؛ فالتوسُّل المُختلَف فيه: هو سؤالُ الله تعالى بجاه النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم، وأمَّا الاستغاثةُ الشِّرْكيةُ فهي سؤالُ المخلوقِ والالتجاءُ إليه فيما لا يقدِرُ عليه إلا اللهُ، وهذا هو الشِّركُ الصريح.

هذا، وقد كرَّر المؤلِّفُ دعواه أنَّه لم يَعُدَّ أحدٌ الاستغاثةَ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الشِّركِ قبل ابنِ تيميَّة، حيث قال (ص: 311): (( لا أعلَمُ أحدًا عدَّ الاستغاثةَ بالنبيِّ مِن الشِّركِ قبلَ ابنِ تيميَّة)) وسيأتي بُطلان ذلك، وأيضًا- كعادته في الرسالة- قام في (ص: 255 إلى ص: 287) بسَردِ أقوال مَن جوَّزَ الاستغاثةَ بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأغفل قولَ المانعين؛ ممَّا يوهِمُ أنَّه قولُ الأكثر.

فمِن أقوالِ الأئمَّة في عدم جوازِ الاستعاذةِ والاستغاثة وأنواعِ العباداتِ لغير لله تعالى: قولُ الإمامِ ابن خُزيمة (المتوفى: 311هـ) في كتاب التوحيد (1/ 402): (هل سمعتُم عالِمًا يجيزُ أن يقولَ الدَّاعي: أعوذُ بالكعبةِ مِن شَرِّ خَلقِ الله؟ أو يجيزُ أن يقولَ: أعوذُ بالصَّفا والمروة، أو أعوذُ بعَرَفات ومِنًى من شَرِّ ما خلق؟ هذا لا يقولُه ولا يجيزُ القولَ به مُسلِمٌ يعرِفُ دينَ الله، محالٌ أن يستعيذَ مسلمٌ بخلقِ اللهِ مِن شَرِّ خَلقِه).

وقد ذكر البيهقي (المتوفى: 458هـ) في كتاب الأسماء والصفات (1/ 477) بعضَ أحاديثِ الاستعاذة بكلماتِ الله تعالى، ثم قال: "ولا يصِحُّ أن يستعيذَ بمخلوقٍ مِن مخلوقٍ".

 

2- ومن المؤاخذاتِ عليه أيضًا: دعواه أنَّ شيخ الإسلامِ له قولٌ ثانٍ بجواز التوسُّلِ بذوات الأنبياء والصالحين؛ حيث ذكر المؤلِّفُ (ص: 13) ثلاثةَ مواضِعَ استدَلَّ بها على أنَّ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميَّة يرى فيها جوازَ التوسُّلِ بذوات الأنبياء والصالحين، فنقل ما قاله (ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة 4/ 298، وابن كثير في البداية والنهاية: 14/ 45) أنَّ الشيخَ عُقِدَ له مجلسٌ مِن العلماء "فردُّوا الأمرَ في ذلك إلى القاضي الشافعي، فعُقِدَ له مجلسٌ وادَّعى عليه ابنُ عطاء بأشياءَ، فلم يثبُتْ عليه منها شيءٌ، لكنَّه قال: لا يُستغاثُ إلا بالله، لا يُستغاث بالنبيِّ استغاثةً بمعنى العبارة، ولكن يُتوَسَّلُ به ويُتشَفَّعُ به إلى الله، فبعضُ الحاضرين قال: ليس عليه في هذا شيءٌ"

والموضع الثاني: في مجموع الفتاوى (1/109) ردًّا على سؤال: "فيمن يقول: لا يستغاثُ برَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هل يحرُمُ عليه هذا القولُ، وهل هو كُفرٌ أم لا؟ وإن استدَلَّ بآياتٍ من كتاب الله وأحاديثِ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلم، هل ينفعُه دليلُه أم لا؟ وإذا قام الدليلُ من الكتاب والسنَّة، فما يجب على من يخالِفُ ذلك؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب: (الحمد لله، قد ثبت بالسنَّة المستفيضة بل المتواترة واتِّفاق الأمَّة: أنَّ نبيَّنا صلَّى الله عليه وسلم الشَّافِعُ المُشَفَّع، وأنَّه يشفَعُ في الخلائقِ يومَ القيامة، وأنَّ النَّاسَ يستشفعونَ به يطلبونُ منه أن يشفعَ لهم إلى ربهم...) إلى أن قال: (وأمَّا من أقرَّ بشفاعته وأنكرَ ما كان الصحابةُ يفعلونَه من التوسُّل به والاستشفاعِ به... فأنكر قولَه: نستشفِعُ بالله عليك، ولم ينكِرْ قولَه: نستشفِعُ بك على الله، بل أقرَّه عليه، فعُلِمَ جوازُه، فمن أنكر هذا فهو ضالٌّ مُخطئٌ مُبتدِع؛ وفي تكفيرِه نزاعٌ وتفصيلٌ، وأمَّا من أقرَّ بما ثبت بالكتابِ والسُّنة والإجماع مِن شفاعتِه والتوسُّلِ به ونحوِ ذلك، ولكن قال: لا يُدعَى إلَّا اللهُ، وأنَّ الأمورَ التي لا يقدِرُ عليها إلا اللهُ لا تُطلَبُ إلَّا منه، مثل: غفران الذنوب، وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات ونحو ذلك- فهذا مصيبٌ في ذلك، بل هذا ممَّا لا نزاعَ فيه بين المسلمين)، ونقل المؤلِّفُ القولَ الثالث مثل ذلك من مجموع الفتاوى.

التعقيب:

الواجِبُ على الناقلِ المُنصِفِ توضيحُ سياقِ الكلامِ أو أخذُه كلُّه، وعدمُ قطع الكلامِ مِن سياقِه؛ حتى يتَّضِحَ المعنى المرادُ من كلام المنقولِ عنه، والواجِبُ أيضًا عدمُ تعميمِ الحُكم الخاصِّ؛ فكلامُ ابن تيمية- كما هو ظاهر- عن التوسُّلِ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقط، وليس فيه التوسُّلُ بالصالحين، ومقصودُ ابن تيمية هو التوسُّلُ بدعاءِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليس بذاتِه، والتوسُّلُ به في حياتِه، بينما المؤلِّفُ يرى أنَّ الحُكمَ المُثبِتَ للتوسُّلِ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حياتِه ينطبِقُ عليه بعد مماتِه، كما ينطبِقُ على الصالحين الأحياءِ والأمواتِ أيضًا!!

أما ابنُ تيمية فإنَّه يفرِّقُ بين الاستشفاعِ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وطلبِ الدُّعاء منه في حياته، وبين التوسُّلِ به بعد موته، وقد نصَّ بقولٍ ظاهرٍ جَليٍّ على حُكمِ المسألة عنده وترجيحِه للحُرمة؛ حيث قال في مجموع الفتاوى (1/ 336): "والسائِلُ لله بغير الله، إمَّا أن يكونَ مُقسِمًا عليه، وإمَّا أن يكونَ طالبًا بذلك السَّببِ: كما توسَّلَ الثلاثةُ في الغار بأعمالِهم؛ وكما يُتوسَّلُ بدعاءِ الأنبياء والصَّالحين؛ فإن كان إقسامًا على الله بغيرِه، فهذا لا يجوز، وإن كان سؤالًا بسببٍ يقتضي المطلوبَ، كالسؤالِ بالأعمالِ التي فيها طاعةُ اللهِ ورَسولِه- مثل السؤال بالإيمانِ بالرَّسولِ ومحَبَّتِه وموالاته، ونحو ذلك- فهذا جائزٌ، وإن كان سؤالًا بمجَرَّدِ ذاتِ الأنبياء والصَّالحين، فهذا غيرُ مَشروعٍ، وقد نهى عنه غيرُ واحدٍ مِن العُلماء، وقالوا: إنَّه لا يجوز، ورخَّصَ فيه بعضُهم، والأوَّلُ أرجَحُ، كما تقَدَّم"؛ فقد رجَّح عدمَ جوازِ التوسُّل بمجرد ذواتِ الأنبياء والصالحين، وقولُه: كما تقدَّم، يدلُّ على أنَّه ذكَرَ عدمَ الجوازِ أكثَرَ مِن مرَّة.

3- ومن المؤاخذاتِ عليه: اضطرابُ مَنهجِه الحديثيِّ، سواءٌ في الفهم أو العرض، أو المنهج الذي سلكه في الاستدلالِ، بالخلط بين الصَّحيح والضعيف، وهذا من أوَّله إلى آخِرِه، وسوف نورِدُ هنا نماذِجَ متعَدِّدةً من كلِّ الكتاب على ذلك:

1- أنَّه في (ص49) تحت عنوان (أدلَّة الجمهور على مشروعيَّة التوسُّل) أورد حديثَ عُثمانَ بن حنيف: "أنَّ رجُلًا أعمى أتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ الله، إني رجلٌ أعمى، فادعُ الله أن يَشفيَني، قال: بل أدَعُك، قال: ادعُ اللهَ لي- مرَّتين أو ثلاثًا، قال: توضَّأْ ثمَّ صَلِّ ركعتينِ، ثم قل: اللهمَّ إني أسألك وأتوجَّهُ إليك بنبيِّي محمَّدٍ نبيِّ الرحمة، يا محمَّدُ إنِّي أتوجَّهُ بك إلى اللهِ أن يقضيَ حاجتي، أو حاجتي إلى فلان، أو حاجتي في كذا، وكذا اللهُمَّ شَفِّعْ فيَّ نبيِّي وشَفِّعْني في نفسي" أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه.

ثم أورد المؤلف اعتراضًا على هذا الحديث، فقال في (ص: 49): " إن قيل: هذا خاصٌّ بحياةِ النبي. قيل: يدفَعُه ظاهر اللفظ.... ويردُّه أيضًا ما ذكره ابن تيمية في كتابه (قاعدة جليلة ص:97)، من أنَّه روى القصةَ ابنُ أبي خيثمة في تاريخه من طريق حماد بن سلمة...".

التعقيب

ليس في هذا الحديثِ حُجَّةٌ لأحدٍ ممَّن يرى التوسُّلَ البِدْعيَّ، سواء كان بالذَّات أو بالجاه، فضلًا عن التوسُّل بالأمواتِ ودعائِهم من دون الله، ولو سَلَّمْنا بصِحَّتِه؛ فإنَّه يدُلُّ على جوازِ التوسُّلِ بدُعائه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حياته؛ فالرجلُ جاء إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وطلب منه أن يدعوَ له، ولو كان مرادُه التوسُّلَ بجاهِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقعدَ في بيتِه، وقال: اللهمَّ إني أتوسَّلُ إليك وأسألُك بجاهِ محمَّدٍ، ثم إنَّ مِن جملةِ الدعاء الذي علَّمَه الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (اللهم شفِّعْ فيَّ نبيِّي، وشفِّعني في نفسي) وفي رواية: ( اللهم فشَفِّعْه فيَّ، وشفِّعْني فيه)، أي: اقبَلْ شفاعةَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَّ، والشفاعةُ هي الدعاءُ والطلبُ للغير، كما في لسان العرب (4/2289)، فيكونُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد دعا له، كما في التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 218) وفي فيض القدير (2/ 134).

ثم إنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعد الرجُلَ بالدُّعاءِ ونصَحَه وبيَّنَ له ما هو الأفضل، بقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( قال: بل أدَعُك، قال ادْعُ اللهَ لي- مرَّتينِ أو ثلاثًا) وفي رواية: " إن شئتَ دعوتُ، وإن شئتَ صبَرْتَ؛ فهو خيرٌ لك"، ولكِنْ أصَرَّ الأعمى على الدعاء، فقال للنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (فادعُ)، وهذا يقتضي أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دعا له؛ لأنَّ الرجلَ شاء الدعاءَ وأصَرَّ عليه، فثبت المرادُ، وقد وجَّهَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الأعمى إلى التوسُّل المشروع، وهو التوسُّلُ بالعمل الصالح؛ ليجمعَ له الخيرَ مِن أطرافه، فأمَرَه أن يتوضَّأَ ويصَلِّيَ ركعتين، ثم يدعوَ لنفسه، وهذه الأعمالُ طاعة لله سبحانَه وتعالى، يقدِّمُها بين يدَي دعاءِ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له، وهي تدخُلُ في قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، وفي الحديثِ ممَّا عَلَّمه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للأعمى أن يقولَه "شَفِّعْ فيَّ نبيِّي، وشفِّعني في نفسي" وفي رواية "وشفِّعني فيه" أي: اقبَلْ شفاعتي، أي: دعائي في أن تقبَلَ شفاعتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: دعاءه في أن ترُدَّ عليَّ بصري، هذا الذي لا يمكِنُ أن يُفهَم من هذه الجملة سواه؛ إذن فالحديثُ مبنيٌّ على التوسُّلِ بدُعاء النبيِّ للأعمى، ثم دعاء الأعمى لله أن يقبلَ دُعاءَ النبي له، وليس فيه توسُّلٌ بذات النبيِّ ولا بجاهِه.

أما عن اعتراض المؤلف على هذا الحديث بقوله (ص:50): "ويردُّه أيضًا ما ذكره ابنُ تيميَّةَ في كتابه: قاعدة جليلة ص97، من أنَّه روى القصةَ ابنُ أبي خيثمة في تاريخه من طريق حماد بن سلمة... فقال فيها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للأعمى: "إن كانت حاجةٌ فافعل مثلَ ذلك" فهذا توجيهٌ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يدعوَ بهذا الدعاءِ كلَّما كانت له حاجةٌ"، فالرواية المذكورة لحديث الضريرِ هي من رواية شُعبة بن الحجَّاج، وقد وقع في بعض الطُّرُق الأخرى للحديثِ زيادةٌ شاذَّة، وهي من زيادة حماد بن سَلَمة قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي، فساق إسنادَه مثل رواية شعبة، وكذلك المتن، إلَّا أنَّه اختصره بعضَ الشيء، وزاد في آخره بعد قوله: "وشفِّعْ نبيِّي في ردِّ بصري، وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك" رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في (تاريخه)، فقال: حدَّثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا حماد بن سلمه به .

 وقد أعلَّ شيخُ الإسلامِ ابن تيمية هذه الزيادة في (القاعدة الجليلة) (ص102) أي: أنَّه أوردها ليبيِّنَ عِلَّتَها وأنَّها شاذَّة، ولم يحتَجَّ بها، كما أعلَّها الشيخ الألباني في "التوسُّل" (ص:83) بتفرُّد حماد بن سلمة بها، ومخالفته لرواية شعبة، وهو أجَلُّ من روى هذا الحديثَ، وهذا إعلالٌ يتَّفِقُ مع القواعد الحديثيَّة، ولا يخالِفُها البتَّة.

2- ومن المؤاخذات على المؤلف: إيرادُه تحت عنوان "أدلة الجمهور على مشروعية التوسُّل" (ص:51): "عن أنس بن مالك قال: (( لَمَّا ماتت فاطمةُ بنتُ أسَد بن هاشم أمُّ عليٍّ، دخل عليها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجلس عند رأسِها، فقال:رَحِمَك اللهُ يا أمي،... فحفروا قبرَها، فلمَّا بلغوا اللَّحدَ حَفَرَه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيده، وأخرج ترابَه بيَدِه. فلما فرغ، دخل رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاضطجع فيه، وقال: اللهُ الذي يحيي ويميتُ، وهو حيٌّ لا يموتُ، اغفِرْ لأمي فاطمةَ بنت أسد، ولقِّنْها حُجَّتَها، ووسِّعْ عليها مدخَلَها، بحقِّ نبيِّك والأنبياءِ الذين من قبلي؛ فإنَّك أرحمُ الراحمين)) ثمَّ كبَّرَ عليها أربعًا، ثمَّ أدخلوها القبرَ"، ثم قال المؤلف بعد الحديث: "وقال في مجمع الزوائد: وفيه روح بن صلاح، وثَّقه ابنُ حبان والحاكم، وفيه ضَعف، وبقيَّة رجاله رجالُ الصحيح، وصحَّحه الحاكم مختصَرًا.

التعقيب:

هذا الحديثُ قال عنه الطبراني: تفرد به روح بن صلاح، وقد ضَعَّفَ روحًا هذا ابنُ عَدِيٍّ والدارقطني وابن ماكولا، وقولُهم أرجحُ من قول ابن حبَّان والحاكم؛ لأنَّه جَرحٌ، والجَرحُ مُقَدَّمٌ على التعديلِ بشَرطِه، وأيضًا لأنَّ ابن حبان والحاكم- رحمهما الله تعالى- متساهلان في التوثيقِ؛ فقولهما عند التعارضِ لا يُقامُ له وزن، حتى ولو كان الجرحُ مُبهمًا لم يُذكَرْ له سبب، فكيف مع بيانِه كما هو الحالُ في ابن صلاحٍ هذا. [ينظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني (1/ 80- 81)]، وأيضًا قال الألباني في (التوسُّل أنواعه وأحكامه، ص110) بعد هذا الحديث: "ليس في هذا الحديثِ شَيءٌ من الترغيب، ولا هو يبيِّنُ فَضلَ عمَلٍ ثابت في الشَّرع، إنما هو ينقُلُ أمرًا دائرًا بين أن يكونَ جائزًا أو غيرَ جائز، فهو إذن يقرِّرُ حكمًا شرعيًّا لو صَحَّ، وأنتم إنما توردونه من الأدلَّة على جواز هذا التوسُّلِ المُختَلَف فيه، فإذا سَلَّمتُم بضَعفِه لم يجُزْ لكم الاستدلالُ به، وما أتصوَّرُ عاقلًا يوافِقُكم على إدخال هذا الحديثِ في باب الترغيب والترهيب، وهذا شأنُ من يفِرُّ من الخضوع للحَقِّ؛ يقول ما لا يقولُه جميعُ العقلاء". وإنَّه لو كان هذا الأمر مشروعًا لأمَرَ به النبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ولَعمِلَ به الصحابةُ وسارعوا إليه، وكلُّ هذا لم يكن.

وحتى لو سَلَّمْنا جدلًا بصِحَّتِه لَمَا كانت فيه حجَّةٌ على التوسُّل بالجاه، وإنَّما هو من بابِ التوسُّل بصفاتِ الله؛ لأنَّ حَقَّ الرُّسُل على الله إثابتُهم [ينظر: تجريد التوحيد للشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل (ص: 60)].

3- ومن المؤاخذات التي تدلُّ على سوء الفَهمِ والتأويل: إيرادُ المؤلِّف تحت عنوان (أدلَّة الجمهور على مشروعيَّة التوسُّل) (ص:52) حديثَ سيدنا عُمَرَ في الاستسقاءِ بالعبَّاس، وهو حديثٌ (أخرجه البخاري في الصحيح: 1/432) روى فيه أنسٌ رضي الله عنه: (( أنَّ عمرَ بنَ الخطَّاب رضي الله عنه كان إذا قُحِطوا استسقى بالعباسِ بنِ عبد المطلب، فقال: اللهمَّ إنَّا كنَّا نتوسَّلُ إليك بنبيِّنا، فتَسقينا، وإنَّا نتوسَّلُ إليك بعَمِّ نبيِّنا فاسْقِنا. قال: فيُسقَون)).

فاحتج المؤلِّفُ به على جوازِ التوسُّلِ بجاه الأشخاصِ وذواتِهم، وحُرمتِهم وحَقِّهم عند الله سبحانه، وفَهِمَ منه أنَّ توسُّلَ عمَرَ كأنَّه مجرَّدُ ذِكرٍ منه للعبَّاس في دعائه، وطلبٍ من الله أن يسقيَهم من أجلِه، وفَهِمَ أنَّ الصحابةَ قد أقرُّوه على ذلك، وأنَّه بيانٌ لجوازِ التوسُّل بالمفضولِ الذي هو العباسُ، مع وجود الفاضلِ الذي هو النبيُّ ليس غيرُ- بزَعمِه.

وقال المؤلِّفُ عَقيبَ هذا الحديث: "فإنْ قيل: هذا خاصٌّ بحياةِ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمرادُ به دعاؤه، قيل: هذا خلافُ ظاهر اللَّفظِ، ثم ما هو الفَرقُ في ذلك بين حياته وموته، فإن قيل: ولماذا عدلَ عُمَرُ عن التوسُّل به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى التوسُّلِ بعَمِّه العباسِ، إذا كان يجوز التوسُّلُ به بعد موته؟ قيل: هذا تنوعُ التوسُّل..."، ثم قال:" ثمَّ إن التوسُّلَ بالعباس هو التوسُّل بالذَّاتِ كما هو ظاهِرُ اللفظ"، ثم قال: " ولا يمنَعُ من ذلك أنَّ العبَّاسَ قد دعا أيضًا، فهذا شيءٌ، والتوسُّل بذاتِه شيء آخر؛ فهو من باب التنوُّع في الوسيلة"!

التعقيب:

 هذا فهمٌ خاطئٌ وغيرُ صحيح؛ لأنَّ حديث توسُّل عمَرَ السَّابق إنَّما يُفهَم ويُفَسَّر على ضوء ما ثبت من الروايات الواردة في التوسُّل، وفي ضوء رواياتِ هذا الحديث، فالمعنى الصحيح لكلام عمر: كنا نتوسَّلُ إليك بـدعاء نبيِّنا، وإنَّا نتوسَّلُ إليك بـدعاء عمِّ نبينا، وهذا ما جاء مفسَّرًا في بعض روايات الحديث؛ إذ فيها دعاءُ العباس رضي الله عنه استجابةً لطلبِ عمَرَ رضي الله عنه، وهذا هو ما فهمه العلماءُ منه؛ فمن ذلك ما نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي في (الفتح) (3/150) حيث قال: (قد بيَّن الزبير بن بكار في (الأنساب) صفةَ ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقتَ الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسنادٍ له أنَّ العبَّاسَ لَمَّا استسقى به عمرُ، قال: (اللهمَّ إنَّه لم ينزِلْ بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولم يُكشَفْ إلَّا بتوبة، وقد توجَّه القومُ بي إليك؛ لمكاني من نبيِّك، وهذه أيدينا إليك بالذُّنوب، ونواصينا إليك بالتَّوبة، فاسقِنا الغيثَ، قال: فأرْخَتِ السَّماءُ مثلَ الجبالِ حتى أخصَبَت الأرضَ، وعاش النَّاسُ "؛ فبيَّن ذلك أنَّ الاستشفاعَ كان بدُعاء العباس، وأنَّ العبَّاس قد دعا اللهَ سبحانه، واستدل ابنُ حجر بهذا الحديثِ على جواز الاستشفاعِ بدُعاء الصالحين، وليس على التوسُّلِ بذواتِهم أو بجاهِهم. وقد حمل البيهقيُّ الشافعيُّ هذا الأثَرَ على التوسُّلِ بدعاء الصالحين، فبوَّبَ له في "السنن الكبرى" (3/52): (باب: الاستسقاءُ بمن تُرجى بركةُ دُعائه)، وكذا فعَل ابنُ قدامة المقدسي الحنبلي (المتوفى: 620هـ) فقال في "المغني" (2/439): "ويُستحَبُّ أن يُستسقى بمن ظهَرَ صلاحُه؛ لأنَّه أقرَبُ إلى إجابةِ الدعاء"، ثم ساق الحديثَ، وهذا يدلُّ على أنَّ المستقِرَّ عند أهل العلم في فهم هذا الأثرِ وأشباهِه التوسُّلُ بالدعاء، لا التوسُّلُ بالجاه ولا بالذَّات، ولو كان توسُّلًا بالجاه لم تكن هناك حاجةٌ إلى تقديم العبَّاسِ رضي الله عنه للدُّعاءِ، وإنما كان يكفي عمَرَ رَضِيَ الله عنه أن يدعوَ هو متوسِّلًا بجاه العبَّاسِ، وإن كان الأمرُ كذلك فقد كان حريًّا بعمَرَ رضي الله عنه أن يتوسَّلَ بجاهِ النبي لأفضليَّتِه، فلمَّا لم يقَعْ ذلك، ثبت القولُ بأنَّه كان توسُّلًا بالدُّعاء لا بالجاه، ثمَّ إن عدولَ عمر رضي الله عنه عن التوسُّلِ بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد موته إلى التوسُّل بالعباسِ رضي الله عنه؛ لأنَّ التوسُّلَ بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غيرُ ممكنٍ بعد وفاته، مع إجماعِ الصحابةِ على ذلك وهم حاضرون للواقعةِ، ولم يقُلْ أحدُهم: علينا أن نذهَبَ إلى قبرِ النبي ونسألَه الدُّعاء لنا، أو التوسُّطَ لنا عند الله أن يسقيَنا، فظهر من ذلك كُلِّه أنَّه لا يُتوسَّلُ بذات أحدٍ ولا بجاهِ أحد، ثم إنَّ الصحابةَ الكرامَ لم يُؤثَرْ عنهم أنهم قالوا في دعائِهم في السؤال أو الإقسام على الله: بحَقِّ النبي أو جاهِه، بل كانت صورةُ توسُّلِهم بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو بالصَّالحين هي: مجيء المتوسِّل إلى المتوسَّل به، وعَرْضه حالَه له، وطَلَبه منه أن يدعوَ له الله سبحانه، ليحَقِّقَ طلَبَه.

4- ومن المؤاخذات:

 أنَّ المؤلِّفَ أوردَ في (ص52) حديث الكَوَّة فوق القبرِ؛ ليستدلَّ به على جواز التوسُّلِ بالنبيِّ بعد موته لِفِعلِ الصحابة ذلك، وهو الحديثُ الذي رواه الدارمي، وفيه: عن أبي النعمان، حدثنا سعيد بن زيد، حدثنا عمرو بن مالك النكري، حدثنا أبو الجوزاء- أوس بن عبد الله- قال: (( قُحِطَ أهلُ المدينة قحطًا شديدًا، فشَكَوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبرَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فاجعلوا منه كُوًى إلى السَّماء؛ حتى لا يكونَ بينه وبين السَّماء سَقفٌ، قال: ففعلوا، فمُطِرنا مطرًا حتى نبت العشبُ، وسَمِنَت الإبلُ حتى تفتَّقَت من الشَّحم، فسُمِّيَ عامَ الفَتقِ)).

التعقيب:

أولًا: هذا حديثٌ ضعيفٌ، ولا تقوم به حُجَّة، وبيان ذلك على النحو التالي:

أن سعيد بن زيد فيه ضعفٌ، قال فيه الحافظ في كتابه (التقريب) (ص236).: (صدوق له أوهام)، وأبو النعمان هذا، هو محمد بن الفضل؛ يُعرف بعارم، وهو وإن كان ثقة فقد اختلط في آخرِ عُمره؛ قال ابن حبَّان رحمه الله في كتابه (المجروحين) (345/ 1): (يروي الموضوعاتِ عن الأثبات)، ومن علامات كَذِب هذه الرواية ووَضْعِها أنَّه في مدة حياة عائشة لم يكُنْ للبَيتِ كَوَّةٌ، بل كان باقيًا كما كان على عهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم، بعضُه مسقوفٌ وبعضُه مكشوفٌ، وكانت الشمسُ تنزل فيه، ولم تَزَل الحجرةُ النبَويَّةُ كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد النبويِّ، وأدخل حجراتِ أزواج النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المسجد، ثم إنَّه بنى حول حجرةِ عائشةَ- التي فيها القبرُ- جدارًا عاليًا، وبعد ذلك جُعِلَت الكَوَّة لينزل منها من ينزِلُ إذا احتيجَ إلى ذلك؛ لأجلِ كنس أو تنظيفٍ. [وينظر: تلخيص كتاب الاستغاثة لابن تيمية (93/ 1)، والتوسُّل للألباني (ص127)].

5- ومن المؤاخذاتِ: أنَّه في (ص: 55) ذكَرَ المؤلِّفُ من أدلة الجمهور- بزعمه- على مشروعيةِ التوسُّل: حديثَ بلال؛ أنه قال: (( كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا خرج إلى الصَّلاة قال: بسم الله، آمنتُ بالله، توكَّلتُ على الله، لا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله. اللهمَّ بحَقِّ السائلينَ عليك، وبحقِّ مَخرجي هذا، فإني لم أخرُجْ أشَرًا ولا بَطَرًا ((.

التعقيب:

هذا الحديثُ ضعيفٌ جدًّا لا تقومُ به حُجَّة، ضعَّفه النووي في ((الأذكار)) (حديث رقم 45)، وابن حجر العسقلاني في ((نتائج الأفكار)) (1/267)، والألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (6252).

6- ومن المؤاخذات عليه: استشهادُه بقصة العتبي وصاحبِه

فقد ذكر المؤلِّفُ قِصَّةَ صاحب محمد بن عبد الله العتبي: (ص: 202)، ثم قال: "ولا يخلو كتابٌ من كُتُب الفقهِ في المذاهب الأربعة إلَّا ويذكرُ القِصَّةَ على سبيل الاستحسانِ والاقتداء"، واستدلَّ بها على أمورٍ؛ أهمُّها: جوازُ شَدِّ الرِّحالِ إلى قبور الصالحينَ؛ لطلب الاستغفارِ والشَّفاعة منهم، والاستغاثة بهم.

التعقيب:

هذه القصَّةُ ذُكِرَت في كتُبِ الصوفيَّة وكتُبِ الآثارِ، واغتَرَّ بها كثيرٌ من الناس، وقد أوردها الحافظُ ابن كثير رحمه الله في التفسير (347/ 2) والنووي في المجموع (8/ 274) وفي الإيضاح (ص 498)، وهي أن العتبي قال: كنتُ جالسًا عند قبر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجاء أعرابيٌّ فقال: السَّلامُ عليك يا رسولَ الله، سمعتُ اللهَ يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، وقد جئتُك مستغفِرًا لذنبي مُستشفعًا بك إلى ربِّي، ثم أنشأ يقول:
 

يا خيرَ مَن دُفِنَت بالقاعِ أعظُمُه ... فطاب مِن طِيبهِنَّ القاعُ والأكَمُ

نفسي الفِداءُ لقبرٍ أنت ساكِنُه ... فيه العَفافُ وفيه الجودُ والكَرَمُ
 

ثم انصرف الأعرابي، فغَلَبتني عيني، فرأيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النوم، فقال: يا عتبي، الْحَقْ الأعرابيَّ فبَشِّرْه أنَّ الله قد غفر له).

ولا يصِحُّ الاستشهادُ بهذه القصة؛ لِما يلي:

أ- أنها قصةٌ غير ثابتة؛ قال الحافظ ابن عبد الهادي في كتابه (الصارم المُنكي) (ص253): (وفي الجملةِ ليست الحكايةُ المذكورة عن الأعرابيِّ ممَّا تقوم به الحُجَّة، وإسنادُها مُظلِمٌ، ولفظُها مختلَفٌ فيه أيضًا، ولو كانت ثابتةً لم يكن فيها حجَّةٌ على مطلوبِ المعتَرِض، ولا يصلحُ الاحتجاجُ بمثلِ هذه الحكاية، ولا الاعتمادُ على مِثلِها عند أهل العلمِ، وقد ذكرها البيهقيُّ في كتاب شُعَب الإيمان بإسنادٍ مظلمٍ عن محمد بن روح بن يزيد البصري، حدثني أبو حرب الهلالي ...).

ب- على افتراضِ صِحَّتِها؛ فهي صادرةٌ عن أعرابي مجهولٍ، وكيف يكون الاستدلالُ بمثلِها في أمورِ العقيدة أو الشَّرع عمومًا؟! وكذلك هي منامٌ، وليست المناماتُ مِن مصادر التشريعِ الإسلاميِّ، وصحيحٌ أنَّ رؤيةَ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المنام حَقٌّ، لكن بشرطِ أن يراه على صورتِه المعروفةِ، وأيضًا بشرطِ ألَّا يُحدِثَ في دينِ الله تعالى ما لم يكُنْ فيه؛ لقولِه تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].

ج- أنَّ السَّلَفَ كلَّهم لم يصِحَّ عن أحدٍ منهم أبدًا- وليس في شيءٍ من كتُبِ السُّنَّة المعروفة- أنَّهم فعلوا ذلك، ولم يستدِلَّ به أحدٌ من أئمَّة المذاهب المتبوعة؛ فكيف يُترَكُ ما كان عليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه، ويُذهَبُ إلى أضغاثِ أحلامٍ في أساطير الأوَّلين؟!

د- ومما يدُلُّ أيضًا على بُطلان هذه القصَّة، وعدمِ مشروعيَّة ما جاء فيها: ما رواه مسلم في صحيحه عن عمرَ رضِيَ اللهُ عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أرشَدَه أن يطلُبَ الاستغفارَ له من أُوَيس القَرَني- وهو تابعي- وأين منزلتُه من منزلةِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! فلمَّا لقيه عمرُ قال له: (استغفِرْ لي) فاستغفر له؛ فقد أرشده الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أن يدعوَ له المفضولُ وَيترُكَ طلبَ الدُّعاءِ مِن خيرِ الخلق- في قبرِه، وهذا دليلٌ واضِحٌ في أنَّ الفَرقَ هو تغيُّرُ نوع الحياة؛ وقدرةُ الحي على الدُّعاء للمُعَيَّن، بخلاف مَن حياتُه برزخيَّة- عليه الصَّلاةُ والسلام؛ فالعجبُ ممنَّ يَرُدُّ أحاديثَ السنَّة الصحيحة في العقيدةِ، مما أورده البخاري ومسلم؛ بحجَّة أنَّها أحاديثُ آحادٍ في العقائد؛ ويأخذُ بمنامٍ رآه رجلٌ مجهولُ الحال عن أعرابيٍّ، في قصة واهية، ولكِنْ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]!!

- ومِن المؤاخذات عليه: استشهادُه بالروايات المُنكَرة وتغليبُها على الصحيحة، ومن الأمثلة على ذلك:

1- أنَّ المؤلفَ أورد في (ص:49) حديثَ أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمِّه عثمان بن حنيف، ونصه: ((أنَّ رجلًا كان يختَلِفُ إلى عثمانَ بن عفان- رضي الله عنه- في حاجةٍ له، فكان عثمانُ لا يلتفِتُ إليه، ولا ينظرُ في حاجته، فلقيَ عُثمانَ بن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائتِ المِيضأةَ فتوضَّأْ، ثم ائتِ المسجِدَ فصلِّ فيه ركعتين، ثمَّ قل: اللهمَّ إني أسألُك وأتوجَّهُ إليك بنبيِّنا محمد- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- نبيِّ الرحمة، يا محمَّدُ إني أتوجَّهُ بك إلى ربِّك جلَّ وعَزَّ، فيقضي لي حاجتي، فصنع ما قال له عُثمان...."

فقال المؤلِّفُ بعد هذه الحديث: "فإن قيل: هذا خاصٌّ في حياةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قيل: هذا يدفعُه ظاهر اللفظ...".

التعقيب:

المؤلف جعل هذا الحديثَ من الأدلة العامَّة على الحُكم الذي فهمه، واستدلَّ به على جواز التوسُّلِ بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد وفاتِه، والحديثُ مُنكَر؛ قال ابن عَديٍّ في الكامل (4/30): "إنَّ ابنَ وهبٍ حدَّث عن شبيب بمناكير"، وأيضًا فإنَّ طرُقَ الحديث الأخرى ليس فيها ذِكرٌ لهذه القصة، وقد أعلَّ هذه القصةَ ابنُ تيمية في التوسُّل والوسيلة (ص: 110 – 112)، وحكم بنَكارتها الألبانيُّ في التوسُّل (ص: 95).

ومن الأمور العجيبة أنَّه يستشهد بالأحاديثِ التي نقل بنفسِه الحُكمَ عليها بالضعف والوهن، بل والوضع والكذب، ثم يزعمُ أنَّها من أدلَّة الجمهورِ على مشروعيَّةِ التوسُّل بالصالحينَ!! ومن ذلك: حديثُ ابن عباسٍ قال: "سألتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الكلماتِ التي تلقَّاها آدَمُ مِن رَبِّه فتاب عليه، فقال: قال بحَقِّ محمَّدٍ وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلَّا تُبتَ عليَّ، فتاب عليه"، ثمَّ قال: إنَّه جاء به من كتاب الموضوعات لابن الجوزي (2/3)، ثم نقل ما قاله ابن الجوزي في تضعيف الحديث ووَضْعِه، ومع ذلك جعله من أدلَّة الجمهور على مشروعيَّة التوسُّل!! وغير ذلك كثير في الكتاب، انظر (ص 49 إلى ص: 67) من الكتاب.

ومن المؤاخذات عليه: الافتِئاتُ على الأئمَّة أصحابِ المذاهب

فعند ذِكرِه لأدلَّةِ الجمهورِ على إجازة التوسُّل، وعند ذِكرِ رأي المالكية، ذكرَ أنَّ مالِكًا أباح التوسُّلَ بذاتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيًّا وميِّتًا، فذكر قصةً أوردها القاضي عياض حكايةً بإسناد غريب منقطع، رواها عن غيرِ واحدٍ إجازةً، عن ابن حُميد قال: "ناظرَ أبو جعفر أميرُ المؤمنين مالكًا في مسجدِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، أستقبِلُ القبلةَ وأدعو؟ أم أستقبِلُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال: ولمَ تَصرِفُ وجهَك عنه، وهو وسيلتُك ووسيلةُ أبيك آدمَ عليه السلام إلى يوم القيامة؟ بل استَقْبِلْه واستشفِعْ به فيُشَفِّعَك الله، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64].

التعقيب:

هذا الحديثُ رواه القاضي عياض في " الشفا " (2/595 – 596 (، وهذه الحكاية منقطعة؛ فإنَّ محمد بن حُميد الرازي لم يدرِكْ مالكًا، لا سيَّما في زمن أبي جعفر المنصور، وهو مع هذا ضعيفٌ عند أكثر أهلِ الحديث، كذَّبه أبو زُرعة، وابن وارة، وقال صالح بن محمد الأسدي: ما رأيتُ أحدًا أجرأَ على اللهِ منه وأحذَقَ بالكذِبِ منه، وقال يعقوب بن شيبة: كثيرُ المناكير، وقال النَّسائي: ليس بثقة، وقال ابن حبَّان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات، وفي الإسنادِ أيضًا من لا تُعرَفُ حاله، وأصحابُ مالك متَّفقونَ على أنَّه بمثل هذا النَّقلِ لا يثبُت عن مالكٍ قولٌ له في مسألةٍ في الفقه، وهي مناقِضةٌ لمذهب مالك من وجوهٍ؛ أحدُها: قولُه: أستقبِلُ القبلةَ وأدعو؟ أم أستقبِلُ رسولَ الله وأدعو؟ فقال: ولمَ تصرِفُ وجهَك عنه وهو وسيلتُك ووسيلةُ أبيك آدم؟ فإنَّ المعروفَ عن مالكٍ وغيرِه من الأئمَّة وسائرِ السَّلَف من الصحابة والتابعين، أنَّ الداعيَ إذا سلَّمَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثم أراد أن يدعوَ لنفسِه؛ فإنَّه يستقبِلُ القبلةَ ويدعو في مسجدِه، ولا يستقبِلُ القبرَ ويدعو لنفسِه، بل إنما يستقبِلُ القبرَ عند السلامِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والدُّعاء له، هذا قول أكثَرِ العلماء، كمالكٍ في إحدى الروايتين، والشافعي وأحمد وغيرهم. وبهذا يتبينُ عدم صحة هذه الحكاية، وأنَّ مالكًا- رحمه الله- بعيدٌ كلَّ البعد عن أن تُنسَبَ إليه هذه المقالةُ، وأنَّه لا يصِحُّ عنه تجويزُ التوسُّل بالنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بمعنى التوسُّل بذاتِه، أو جاهِه وحَقِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. [ينظر مجموع الفتاوي: (1/225)، والصارم المنكي في الرد على السبكي (ص: 259 – 267)].

ومن المؤاخذاتِ أيضًا: سوءُ فهم المؤلِّف للنُّصوص القرآنيَّة، ومحاولة ليِّ أعناقِها بأنواعٍ من التفاسير؛ لتُوافِقَ مذهَبَه، ومن أمثلة ذلك سوءُ فَهمِه للآيات القرآنية التي أوردها، وإعراضُه عن التفاسير الواضحةِ إلى تفاسيرَ أخرى توافِقُ مذهَبَه:

1- ما ذكره في (ص: 66) تحت عنوان: ((آياتٌ قرآنيةٌ يُستدَلُّ بها على جواز التوسُّل بالصالحين...))، ومن هذه الآياتِ التي ذكَرَها: قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، وقولُه تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]، واستدلَّ بها على جوازِ التوسُّلِ بذواتِ الأنبياء والصالحين، فقال: (فإن قيل: إنَّهما "تدلَّانِ على مشروعيَّة التوسُّل في العمومِ... والدعوى المطلوبُ إثباتُها هي مشروعيَّةُ نوعٍ خاصٍّ مِن التوسُّل، وهو التوسُّلُ بذوات الأنبياء والصالحين. قيل: هاتان الآيتان تدلَّانِ على أنَّ الأصلَ هو مشروعيةُ اتِّخاذ الوسائلِ في العَلاقةِ بين الله وبين العبد، ولا يُخرَجُ عن هذا الأصلِ إلَّا بدليلٍ؛ فالتوسُّل بالصالحين داخِلٌ في هذا الأصلِ، وليس هناك ما يدُلُّ على المنعِ، بل هناك ما يدلُّ على جوازِه، كما تقدَّم".

التعقيب:

هذا الفهمُ مُناقِضٌ لِما حَرَّره أئمَّةُ التفسيرِ؛ فلمْ يُنقَلْ عنهم أنَّهم فَسَّروا الوسيلةَ بأنَّها التوسُّلُ بذوات الأنبياء، وقد نقل الطبري وابن كثير في تفسيريهما أقوالَ الأئمةِ؛ من الصحابة والتابعين والعُلماء في تفسيرها، فكانت كلُّها مُتَّفِقةً على أنَّ الوسيلةَ هنا هي: العملُ الصالحُ، والقُرُبات إلى الله؛ قال الطبري: ( {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} يقولُ: واطلُبوا القُربةَ إليه بالعمَلِ بما يُرضيه)، وذكر بسنَدِه نحوَ هذا المعنى عن قتادة وأبي وائل، وعطاء والسُّدِّي، ومجاهد والحسن، وعبد الله بن كثير. [ينظر: تفسير الطبري (10/ 289)، وتفسير ابن كثير (3/ 103)]، وقال الزمحشري في الكشاف (1/ 628): (الوسيلةُ: كلُّ ما يُتوسَّلُ به- أى يُتقرَّبُ- مِن قرابةٍ، أو صنيعةٍ، أو غيرِ ذلك، فاستُعيرَت لِمَا يُتوسَّلُ به إلى اللَّه تعالى مِن فِعلِ الطاعاتِ وتركِ المعاصي)؛ إذن فوسيلةُ العبد في التقرُّبِ إلى الله هي أعمالُه وطاعاتُه وقُرُباتُه، وإقامتُه أوامِرَ اللهِ واجتنابُ نواهيه؛ فلكُلِّ نفسٍ ما كسَبَت، وعليها ما اكتَسَبَت، ولا وجهَ لأنْ تكونَ الآيةُ دليلًا على التوسُّلِ بأيِّ ذاتٍ، لا بذاتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا بذاتِ الصَّالحين.

 

- ومن المؤاخذاتِ التي وقع فيها المؤلف: تأصيلُه لقضية أنَّه "لا كُفرَ إلَّا بقصدٍ واعتقاد"، ويظهرُ هذا بوضوحٍ في حديثِه على العبادةِ؛ حيث قال (ص: 134): (فالخلاصةُ أنَّ العبادةَ لها إطلاقان:... ما يجوزُ صَرفُه لغير الله....)، وقال (ص: 136- 137): (وعليه فالعبادةُ التي يُعَدُّ صَرفُها لغيرِ الله تعالى شِركًا بأنَّها: أعمالٌ تُصرَفُ بقصدِ التعبُّدِ أو لِمَن يعتقدُ فيه الرُّبوبية...)، وقال أيضًا: (وحتى يتبيَّنَ لنا هذا التعريف.... الجوابُ سهلٌ جِدًّا: الفرقُ بين الأمرين هو القَصدُ...)، وقال (ص: 292): (إذن فالعبادةُ هي: أعمالٌ تُصرَفُ بقَصدِ التعبُّدِ، أو مع وجودِ اعتقادِ ربوبيَّة). وراجع أيضًا هذا الباب (ص: 156) الذي أفرده في (ضابط قصدِ التعبد من أقوال أهل العلم في ذلك).

التعقيب :

ما قاله المؤلِّفُ هو قولُ الأشاعرة والماتُريديَّة، الذين يقولون: إنَّه ليس شيءٌ مِن الأقوال أو الأعمالِ كُفرًا بذاته، لكنْ مِن الأقوالِ والأعمالِ ما يكونُ علامةً على الكُفرِ، فيُحكَم عليها بأنَّها أقوالٌ وأعمالٌ كُفريَّة، ولا يَكفُرُ صاحِبُها إلَّا إذا قَصَد بقَلبِه الكُفرَ، ولكنْ مذهبُ أهلِ السُّنَّة أنَّ الكُفرَ يكونُ بالقَولِ والفِعلِ، والتَّركِ والاعتقادِ والشَّكِّ، كما قامت على ذلك الدلائلُ من الكتاب والسُّنَّة، وكلامُ السَّلَفِ في هذا البابِ لا يُحصى؛ قال الإمامُ عبد الله بن الزبير الحميدي رحمه الله: (أُخبِرتُ أنَّ ناسًا يقولون: من أقرَّ بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ولم يفعَلْ من ذلك شيئًا حتى يموت، أو يصلِّي مُستدبِرَ القبلة حتى يموت؛ فهو مؤمِنٌ ما لم يكن جاحِدًا، إذا كان يُقِرُّ بالفرائضِ واستقبالِ القبلة؛ فقلت: هذا الكُفرُ الصُّراحُ، وخلافُ كتابِ الله وسنَّةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفِعلِ المسلمين؛ قال عزَّ وجلَّ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. [ينظر: السنة للخلَّال (3/586-587)، تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/930)، وروضة الطالبين للنووي (7/283- 284)، وينظر كذلك للإفادة في تفصيل هذه المسألةِ: كتاب الإيمان الكبير، وغيره من كتب الاعتقاد المشهورة].

وقال الإمام الشافعي- رحمه الله- في كتاب (الأم) (1/260): (إنَّما كُلِّفَ العبادُ الحُكمَ على الظاهرِ مِن القولِ أو الفِعلِ، وتولَّى اللهُ الثوابَ على السرائرِ دونَ خَلقِه)، وقال رحمه الله- حين سُئِلَ عمَّن هَزِئَ بشيءٍ مِن آيات الله تعالى: (هو كافِرٌ)، واستدلَّ بقولِ الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65- 66]، وينظر: الصارم المسلول لابن تيمية (3/956).

ووجهُ الدَّلالة مِن هذه الآيةِ: أنَّ هؤلاء الذين استهزَؤوا بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصحابتِه- لم يكونوا يظنُّونَ أنَّهم قد أتَوْا كُفرًا، بل ظَنُّوا أنَّ ذلك ليس بكُفرٍ، واعتذروا بهذا الظَّنِّ، ولم يُقبَلْ منهم اعتذارُهم بأنَّهم لم يقصِدوا ذلك.

وقال الشاطبي رحمه الله- في الموافقات (2/271): (أصلُ الحُكمِ بالظَّاهِرِ مَقطوعٌ به في الأحكامِ، خُصوصًا بالنِّسبةِ للاعتقادِ في الغيرِ عمومًا، أيضًا فإنَّ سيِّدَ البشَرِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع إعلامِه بالوحيِ يُجري الأمورَ على ظواهِرِها في المنافقينَ وغَيرِهم، وإن عَلِمَ ببواطنِ أعمالِهم، ولم يكن ذلك بمُخرِجِه عن جَرَيانِ الظواهِرِ على ما جَرَت عليه).

ونقل الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (12/272) الإجماعَ على هذه القاعدة، فقال: ( وكلُّهم أجمعوا على أنَّ أحكامَ الدُّنيا على الظَّاهِرِ، واللهُ يتولَّى السَّرائر، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأسامةَ: (( هلَّا شَقَقْتَ عن قَلبِه!)) ).

فهل بعد ذلك يجوزُ أن نقولَ ما قال المؤلِّفُ بأنَّ (العبادةَ التي يُعَدُّ صَرفُها لغيرِ الله تعالى شِركًا: هي الأعمالُ التي تُصرَفُ بقَصدِ التعبُّدِ، أو لِمَن يعتقدُ فيه الربوبيَّة)؟! ثم هل عُبَّادُ القبورِ- مِن المتوسِّلين والمُستغيثين، والذَّابحين والطَّائفين- لا يقصِدونَ التعبُّدَ، ولا يُعظِّمونَ مَن يلجؤونَ إليه؟!

- ومن المؤاخذاتِ الخطيرة التي لا تُستغرَبُ على المؤلِّف: محاولةُ تأصيلِه لتصرُّفاتِ الموتى؛ حثًّا منه لعُبَّادِ القبورِ على جدوى التوسُّلِ والاستغاثةِ بالأموات، وردًّا على أنَّ الميِّتَ لا يَملِكُ نفعًا ولا ضَرًّا لأحدٍ؛ حيث حشد الأدلَّةَ على هذا، وهي كلُّها أدلَّةٌ واهية لا تصلحُ للاستدلالِ في نظَرِ الفُضَلاءِ المُعتَبَرين، فمن هذا قوله (ص:161): (هل الموتى يسمعون خطابَ الأحياءِ لهم، ويشعرون بأفعالهم؟... وقد ذهب جماهيرُ الصحابة والأئمة- وحُكي الاتِّفاق- إلى أنَّ الموتى يسمعونَ خِطابَ الحَيِّ)، ومن (ص: 196 إلى 201) عقد أبوابًا في أنَّ الميتَ يمكِنُ أن يأمُرَ الأحياءَ بشيء، وأنَّ الميت يمكِنُ أن يرُدَّ السَّلامَ على الحَيِّ، وأنَّ الميتَ يمكِنُ أن يجيبَ عن سؤالِ الحيِّ، وأن الميت يمكِنُ أن يخاطِبَ الحيَّ. ومن (ص 202 إلى 205) عقد أبوابًا في أنَّ رُوحَ الميتِ يمكِنُ أن تهزِمَ الجُيوشَ، وأنَّ روحَ الميِّتِ تصفُ العلاجَ وتُجيبُ عن مُشكلِ المسائِلِ!!!

التعقيب:

الاعتقادُ في الأمواتِ أنَّهم ينفعون أو يضُرُّونَ شِركٌ، وهكذا إذا دعاهم واستغاث بهم، وذهبَ إلى قبورِهم واستغاث بهم، ونذَرَ لهم أو ذبح لهم، أو استعان بهم، أو قال: أنا في حَسبِكم، أنا في جِواركم، كلُّ هذا شِركٌ؛ لأنَّ الميِّتَ قد انقطع عمَلُه، لا ينفع ولا يضرُّ أحدًا، والنافِعُ والضَّارُّ هو الله وحدَه، وهكذا الحيُّ لا ينفع ولا يضُرُّ إلَّا فيما أقدَرَه الله تعالى عليه، وكان بإذنه سُبحانه؛ قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22- 23]، وغير ذلك من الآيات، فأخبَرَ سُبحانه: أنَّ ما يُدعى من دونِ الله، ليس له مثقالُ ذَرَّة في المُلك، وأنَّه ليس له من الخَلقِ عَونٌ يَستعينُ به. وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ- رضِيَ اللهُ عنهما- المشهور، قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا بُنَيَّ، إنِّي أعَلِّمُك كَلِماتٍ... إذا سألتَ فاسألِ اللهَ, وإذا استعنتَ فاستَعِنْ بالله...))، والنُّصوصُ الشَّرعيةُ في هذه المسألةِ كثيرةٌ؛ فتُنظَرُ في مَظانِّها.

- ومن المؤاخذاتِ أيضًا على المؤلِّف، وهو من عجيبِ الأدلَّةِ التي استدلَّ بها: ما ذكَرَه في (ص205)، حيث قال: (الفرع السادس: بعض مخاطباتِ الصَّحابة للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حياتِه، وبالتالي يمكِنُ أن يخاطَبَ بها بعد موته) واستدلَّ على ذلك بما رواه الإمامُ مسلم من حديث ربيعة بن كعب الأسلميِّ، قال: (( كنتُ أبيتُ مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتيتُه بوَضوئِه وحاجتِه، فقال لي: سَلْ، فقلتُ: أسألُك مُرافقَتَك في الجنَّة. قال: أوَ غيرَ ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السُّجودِ))؛ فاستدل المؤلِّفُ بهذا الحديثِ على جواز مخاطبةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وطلَبِ الحوائجِ منه، فقال: (فإذا كان يجوزُ أن يُقالَ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حياتِه: ( أسألُك مُرافقَتُك في الجنَّة)، فيجوز أن يُقالَ له ذلك بعد موته)!!!

التعقيب:

لا يُوجدُ في الحديثِ ما يدُلُّ على ما ذهب إليه المؤلِّفُ مِن جوازِ مُخاطبة وطلَبِ الحوائِجِ مِن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بعد موتِه، ولا أنَّ النبيَّ له من الأمرِ شَيءٌ مِن دون الله؛ ففي حديث: (أسألُك مرافقَتَك في الجنة) لم يبادِرْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقوله: "نعم أفعَلُ، أجعَلُك معي في الجنة"، وهذه إشارةٌ مِن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أنَّ الأمرَ بيَدِ الله، وأنَّ كثرةَ السجودِ بإخلاصٍ هي الوسيلةُ في قضاءِ الحاجة، ثمَّ إنَّ السائِلَ لم يسألِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُدخِلَه الجنَّةَ، وإنَّما سأله أن يكونَ رفيقًا له في الجنَّة، كحالته معه في الدنيا، فأجابه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقوله: "فأعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السُّجودِ"؛ وذلك لأنَّ دخولَ الجنَّة ثابتٌ بوعدِ الله تعالى لِمَن مات لا يُشرِكُ به شيئًا، على أنَّ سؤالَ السَّائلِ للنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مرافقَتَه في الجنَّة معناه أنْ يدعوَ له النبيُّ أن يكونَ رفيقَه في الجنَّة، "وهنا سِرٌّ دقيقٌ، وهو أنَّ من أراد مرافقةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنَّه لا ينالُ ذلك إلا بالقُربِ إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]؛ فأوقع متابعةَ الرَّسولِ بين المحبَّتين، فلَوَّحَ بقوله: (( أعِنِّي علي نفسِك)) إلى أنَّ نَفسَه بمثابةِ العدُوِّ المناوئِ، فاستعان بالسائلِ على قهرِ النَّفسِ، وكسرِ شَهواتِها بالمجاهدةِ، والمواظبةِ على الصلاةِ، والاستعانةِ بكثرةِ السجود؛ حسمًا للطَّمعِ الفارغِ مِن العملِ، والاتكالِ على مجرَّد التمني" [ينظر: إكمال المعلم (2/ 403)، شرح المشكاة (3/ 1027)]

- ومن المؤاخذات: الخلطُ بين الاستعمال اللُّغوي والاستعمال الشرعي للألفاظ، مع قطعِ الألفاظ من سياقِها، وسوء التأويل؛ فقد أخَذَ ألفاظًا واقتطَعَها من أصلِها؛ ليُهَوِّنَ على عُبَّاد القبورِ هذه الألفاظَ الفَجَّة- التي لا يُنادى ويُدعى بها إلَّا اللهُ- مع تخليطِه بين استعمالاتِ العرَبِ لِلَفظٍ دارجٍ في خطابِهم مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما يُستعمَلُ بعد ذلك في أبوابِ العباداتِ والدُّعاءِ لله تعالى، فنَجِدُه يأتي بألفاظٍ فيها "طلَبُ الاستعاذةِ والاستجارةِ والمنِّ مِن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وهي في سياقِها جاريةٌ على المعنى اللُّغوي- فيتَّخِذُها دليلًا شرعيًّا، وحُجَّةً لقولِ القائلِ عند قبرِ أيِّ عبدٍ صالحٍ: أستعيذُ بك مِن كذا، وأستجيرُ بك مِن كذا، وطلَبِ المنِّ مِن غيرِ الله تعالى- عِياذًا بالله!

ومِن الروايات التي ذكرها المؤلِّفُ في هذا الباب في (ص:209): (يا رسولَ اللهِ، أستجيرُك من النار) ، وفي (ص:216): (أعوذُ برسولِ الله)، وفي (ص:219): (يا رسولَ اللهِ، أتوجَّهُ بك إلى الله أن يقضيَ حاجتي)، وفي (ص: 221): (يا رسولَ اللهِ، قد أصابنا البلاءُ، فامنُنْ علينا، مَنَّ اللهُ عليك)؛ فاستدلَّ بأنَّها كانت تُقالُ للنبي- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في حياتِه، فيجوزُ أن تقالَ له بعد مماتِه، فيُنادى ويُستعاثُ به ويُستجارُ به!

التعقيب:

هذه الألفاظُ دائرةٌ بين القطعِ مِن السِّياقِ وبين سوءِ الفهمِ؛ فنصُّ الحديثِ الذي جاء فيه ((يا رسولَ اللهِ، أستجيرُك من النار)) قد رواه البيهقي في (شعب الإيمان) (721) عن ابن عباسٍ، قال: ((قدِمَ على رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفدٌ من العربِ، فيهم شابٌّ، فقال الشابُّ للكُهول: "اذهبوا فبايِعوا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنا أحفظُ لكم رِحالَكم، فذهب الكُهولُ فبايعوه، ثمَّ جاء الشابُّ، فأخذ بحَقْوَيْ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ أستجيرُك من النَّار، فقال القومُ: دَعْه يا غلامُ، فقال: والذي بعَثَه لا أترُكُه حتى يُجيرَني من النَّار، فأتى جبريلُ، فقال: يا محمَّدُ، أجِرْه؛ فإنَّ الله تعالى قد أجاره"؛ فلو نظَرْنا إلى فهمِ البيهقيِّ لهذا الحديثِ وأين وضَعَه في كتابه، لوجَدْناه وضَعَه في باب الخوفِ مِن النَّار، ولم يعقِدْ له بابًا في جوازِ الاستجارةِ برسول الله- وصالحِ المؤمنينَ مِن بعده- من النارِ، وهذا من الاستشهادِ بحديثٍ دونَ فَهمٍ صحيحٍ، مع الخلطِ بين إرادةِ المعاني اللُّغوية والمعاني الشَّرعية.

وبالنَّظرِ إلى نصِّ الحديثِ الذي جاء فيه ((أعوذُ برسول الله)) نجد سياقَه- كما رواه مسلم (1659) عن أبي مسعود- أنَّه كان يضرِبُ غلامَه، فجعل يقول: (أعوذُ بالله، قال: فجعل يضربُه، فقال: أعوذُ برسول الله، فتَرَكه، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «واللهِ، لَلَّهُ أقدَرُ عليك منك عليه»، قال: فأعتَقَه)؛ فالذي قصَدَه الغلامُ هو المعنى اللغوي، الذي عرَّفَه ابنُ القَيِّم في (بدائع الفوائد) (2/426) قائلًا: (اعلَمْ أنَّ لفظ "عاذ" وما تصَرَّفَ منها، يدُلُّ على التحرُّزِ والتحَصُّن والنَّجاة, وحقيقةُ معناها: الهروبُ مِن شيءٍ تخافُه إلى من يعصِمُك منه؛ ولهذا يسمى المُستعاذ به مَعاذًا، كمَّا يُسمَّى مَلجأً ووَزَرًا"، وأمَّا المعنى الشرعيُّ الذي هو طلَبُ الاستجارةِ والامتناعِ والاعتصامِ به، فلا يكونُ إلَّا لله تعالى، وتفسيرُ هذا في سنَّة رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقد ورد أنَّه قال: (أعوذُ بوَجهِك) و( أعوذُ بكَلِماتِ الله التامَّات) و( أعوذُ برِضاك مِن سَخَطِك)، ونحو ذلك، وهو أمرٌ مقَرَّر عند العُلَماء؛ ولهذا احتَجَّ السَّلَفُ كأحمد وغيره، على أنَّ كلامَ الله غيرُ مخلوقٍ- فيما احتجُّوا به- بقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (أعوذُ بكَلِماتِ الله التامَّات)، قالوا: فقد استعاذ بها، ولا يُستعاذُ بمَخلوقٍ. [ينظر: التمهيد لابن عبد البر (24/109)، فتح الباري لابن حجر (13/381)].

- ومن المؤاخذاتِ على المؤلِّف: قولُه في خُلاصة المباحثِ الطويلة التي عقَدَها لبيانِ حياةِ النبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في قبرِه، وسماعِ الأموات للأحياء (ص: 160 – 161)، حيث قال: (الخُلاصةُ: "أنَّ مَن خاطبَ النبيَّ بعد موتِه عند قبرِه سَمِعَه النبيُّ، ومَن خاطَبَه مِن بُعْدٍ عرَضَ اللهُ عليه ذلك، وأنَّ مُخاطَبتَه في حياتِه أو موتِه سواءٌ، وفي القُربِ والبُعدِ كذلك، وأمَّا غيرُ النبيِّ فمَن خاطَبَه عند قبرِه سَمِعَه، ومن خوطِبَ عن بُعدٍ، فيُمكِنُ أن يَسمَعَه على سبيلِ خَرقِ العادةِ، كما سَمِعَ ساريةُ- وهو بنهاوند- خِطابَ عُمرَ له، وهو في المدينة"؛ وعليه فإنَّه يَبني حُكمَه بأن التوسُّلَ والاستغاثةَ بهم في قبورِهم وبعد مماتِهم جائزانِ!

التعقيب:

أولًا: أمَّا كونُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيًّا في قبرِه، كما أنَّ الشُّهداءَ أحياءٌ في قبورِهم، وأنَّ الأمواتَ يَسمعونَ الأحياءَ؛ فهذا لا يعني أنَّ لهم اتصالًا بالدنيا؛ فصِفةُ الحياةِ لهم هي في البرزخِ، وليست في الدنيا.

ثانيا: أنَّ قصةَ إرشادِ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعمَرَ رضِيَ اللهُ عنه أن يستغفِرَ له أُويس القَرَني- خيرُ التَّابعين- فيها دليلٌ واضح على أنَّ الفَرقَ هو تغيرُ نوع الحياة؛ وقُدرة الحي على الدُّعاء للمُعَيَّن، بخلاف مَن حياتُه برزخيَّة- عليه الصلاة والسلام- وإذا كان هذا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهو مع غيرِه أشَدُّ منعًا، فلا يُتبَرَّكُ بذواتِهم في حياتِهم، ولا بقبورِهم؛ لأنَّ بركة الذَّواتِ لا تكون إلا لِمَن نصَّ الله تعالى على إعطائِه البركةَ، كالأنبياء والمرسلين، وأمَّا غيرُهم من عباد الله الصَّالحين فبَرَكتُهم بركةُ عمَلٍ، أي: ناشئةٌ عن عِلمِهم وعَمَلِهم واتِّباعِهم، لا عن ذَواتهم، ولأنَّ سَدَّ الذرائعِ قاعدةٌ مِن قواعد الشريعةِ العظيمةِ، فسَدُّ الذرائعِ إلى الشِّركِ مِن أهَمِّ مقاصدِ الشريعة.

- ومن المؤاخذات على المؤلف في باب توحيد الربوبيَّة: ما ذكره (ص: 77) من أنَّ توحيدَ الرُّبوبيَّة "هو الإيمانُ أنَّ اللهَ هو الخالِقُ المالِك المدَبِّر على جهة الاستقلال، وأنَّ إضافةَ هذه المعاني إلى المخلوقينَ هي إضافةٌ سَبَبيَّة، كسَبَبيَّةٍ بإمدادِ اللهِ وبخلقِ الله بإذنٍ منه سبحانه"، كخلقِ عيسى للطيرِ، وإبرائه للمرضى بإذن الله، ومثل نسبةِ التدبير إلى الملائكة { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، ومثل نسبة المِلْك للخَلقِ { فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25]، وكذلك عنده الشِّركُ في الربوبيَّة ليس في نسبةِ مُطلَق الخلقِ والتَّدبير والملْك لغير الله، ولكنْ في نسبة الاستقلاليَّةِ في الخلقِ والملْكِ والتدبير لغير الله.

التعقيب:

يريدُ المؤلفُ بهذا الكلامِ إثباتَ أنَّ التوسُّلَ والاستغاثةَ بالمخلوقينَ، ودعاءَ أصحابِ القبور، وطلَبَ مثلِ هذه الأمور الداخلةِ في أفعال الربوبيةِ- لا تُعَدُّ شِركًا إلَّا إذا اعتقد الطَّالِبُ أنَّ المطلوبَ منه والمتوَسَّلَ به، له القدرةُ على إيجادِ وخَلقِ هذه الأمورِ المطلوبةِ باستقلاليَّتِه، أمَّا إذا توسَّلَ بهم وطَلَب منهم- مع اعتقادِه أنَّ اللهَ هو الخالِقُ والموجِدُ في الحقيقةِ- فلا يُعَدُّ مُشرِكًا، وهذا مدخَلٌ من مداخلِ الشيطانِ والوُلوج إلى الشِّركِ، ولا بدَّ هنا مِن سَدِّ هذه الذريعة، ثمَّ إنَّ هناك فَرقًا بين توحيدِ الربوبيَّةِ الحقيقيِّ، وبين مجرَّد الإقرارِ بالربوبيَّة؛ فليس كلُّ من أقرَّ بأنَّ الله تعالى ربُّ كلِّ شَيءٍ وخالِقُه يكون موحِّدًا لربوبيَّته، وعابدًا له دونَ ما سواه، داعيًا له دون ما سواه، راجيًا له خائفًا منه دون ما سواه، يُوالي فيه ويعادي فيه، ويُطيع رسُلَه ويأمرُ بما أمَرَ به، وينهى عما نهى عنه، فعامَّةُ المشركينَ أقَرُّوا بأنَّ اللهَ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وأثبتوا الشفعاءَ الذين يُشرِكونَهم معه، وجعلوا له أندادًا؛ قال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43- 44] وقال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]؛ ولهذا كان أتباعُ هؤلاء من يسجُدُ للشَّمس والقمر والكواكب، ويدعوها ويصومُ ويَنسُك لها ويتقَرَّبُ إليها، ثم يقول: إنَّ هذا ليس بشِركٍ، إنَّما الشِّركُ إذا اعتقدتُ أنَّها المدَبِّرةُ لي على جهةِ الاستقلال، ولكِنْ إذا جعلتُها سببًا وواسطةً لم أكنْ مُشرِكًا، ومن المعلومِ بالضَّرورةِ مِن دينِ الإسلامِ أنَّ هذا شِركٌ، ثمَّ إنَّه ما دام العبدُ يعتقِدُ في قدرةِ الله واستقلاليَّتِه على الخَلقِ والمُلك والتَّدبير، فلماذا يتركُ رَبَّه ويذهَبُ إلى مَن لا يملِكُ ذلك كلَّه من الأولياء والصالحين؟! [ينظر: مدارج السالكين لابن القيم (1/ 84)، وفتح المجيد لعبد الرحمن آل الشيخ (ص: 11)].

ثم إنَّ المؤلِّفَ قَسَّمَ مشركي الجاهلية في الربوبيَّة أصنافًا، فجعل منهم من أشركَ في شُؤونِ التدبير، فإذا كان هو بنفسِه أقَرَّ بأنَّ ذلك مِن الشِّركِ بالربوبيَّة عند المشركين، أفلا يُعَدُّ ذلك شِركًا عند المسلمينَ الذين يتوسَّلون ويطلبونَ مِن الوسائطِ تدبيرَ أمورهم؟!!

ومن المؤاخذات الإجماليَّة على الكتاب: كثرةُ التَّفريع، ووضعُ العناوينِ ثمَّ سَردُ الآياتِ والأحاديث والآثار والقِصص المأثورة تحتها، مع السيولةِ في ذلك بقدرٍ يُنسي آخِرُه أوَّلَه، مع عدم التمييزِ بين الصحيح والضعيف، ومع ذلك لا يوجَدُ استنباطُ أحكامٍ للأحكامِ، أو مناقشات عِلميَّة لكلِّ هذه الأدلة المُختلِطة، ولكنَّه وضَعَ العناوينَ على أنَّها استنباطٌ مُسْبَقٌ، ومن واجباتِ التأليف وتحقيقِ المسائلِ العِلميَّة أن تكونَ مُتَّسِمةً بوضوحِ الفكرةِ، مع كفايةِ الأدلَّة، وتوفُّر المادة العِلميَّة التي تُبنى عليها الأحكامُ، مع حُسن الجمعِ والتَّرتيب، وتنظيم الأقسام والفروعِ، وترَتُّب بعضِها على بعض، ومراعاة وضوحِ العناوين، مع مناقشة المادَّة العِلمية والأدلَّة المطروحة تحتها، لا أن تُسرَدَ وتُترَكَ على صورتِها، كما صنعَ المؤلِّفُ؛ حيث آثرَ السَّردَ والجَمعَ فقط على التحقيقِ والاستنباطِ الصَّحيحِ.

 والأدلَّةُ على أيِّ مسألةٍ أمرٌ ضروريٌّ، لكن لا بدَّ مِن التفريق بين ما يصِحُّ أن يكون دليلًا، وما لا يصِحُّ، ثم يكفي في المسألةِ أن أذكُرَ الأدلَّةَ من القرآن والسنَّة الصحيحة إذا وُجِدَت، مع استعراضِ آراء العلماءِ وأهلِ العلم فيها، ثمَّ يتِمُّ الترجيحُ بين الآراء، والأخذُ بأقواها وأقرَبِها اتِّفاقًا مع الأدلَّة، أو يتم عَرضُ استنباطٍ يكونُ أكثَرَ توافُقًا مع الأدلة الصحيحة، وهذا ما لم يفعَلْه المؤلِّفُ في معظم الكتاب، وأيضا فالآثار المقطوعة عن التابعين فمَن بَعدَهم ليست أدِلَّة، وإنما تدخلُ في إطار الرأي والاجتهادِ، ويُسترشَدُ بها دونَ أن  يُبنَى عليها حُكم، وخاصَّةً إذا تعارَضَت مع صحيحِ الكِتابِ والسُّنة، وكذلك القَصَص عن العُلَماء والأولياء والمنامات؛ لا يبنى عليها حكم، فما يورِدُه العلماء والوُعَّاظ مِن قَصصٍ لتقريبِ المعاني أو لترقيقِ القلوبِ، ليست شرعًا ولا دليلًا شرعيًّا، بخلاف صنيعِ المؤلف الذي اتخذَ بعضَها أدِلَّةً.

وبعدُ، فهذا النقدُ بعضٌ مِن كُلٍّ، يدُلُّ على ما في الكتابِ مِن مُؤاخذاتٍ، ومحلُّ الرَّدِّ على كلِّ ما جاء فيه، لا يناسِبُ هذه الصَّفحةَ من الموقِعِ، ولكن بحَسْبِ هذا القَدرِ أن يكونَ مُعَبِّرًا عمَّا في الكتابِ، وآتيًا على أهَمِّ ما فيه من قضايا وآراءٍ.

وأخيرًا ننصَحُ المؤلِّفَ بما ذكَرَه هو في كتابِه مِن أنَّ ((الحَقَّ أحَقُّ أن يُتَّبَعَ))؛ فقد نقل المؤلِّفُ نُقولًا كثيرةً في أوَّلِ الكتابِ تحت هذا العنوانِ، وأطال من النُّقولِ في ذلك بين يَدَي الكتابِ، فننصَحُه أن يتأمَّلَ ما جاء في هذا النَّقدِ وبقيَّة الكتاب، وأن يرجِعَ إلى الحَقِّ؛ فالاجتهادُ والرأيُ إنَّما يكونانِ مَبنيَّينِ على الأدلَّة الصحيحةِ الواضِحةِ الدَّلالةِ مِن القرآن والسُّنةِ الصَّحيحة، وعلى ما فَهِمَه وعَمِلَ به أصحابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وباستنباطٍ صحيح، ولا يكونُ الاجتهادُ والرأيُ بأدلَّةٍ غيرِ واضحةٍ، أو ضعيفةٍ ومكذوبة، أو بأدلَّةٍ صحيحةٍ مع لَيِّ أعناقِها.

 

نسأل اللهَ لنا وله الهدايةَ والتوفيق، والحمدُ لله ربِّ العالمين.