مقالات وبحوث مميزة

حكاية السَّلفية الآفلة

قِراءةٌ في كِتاب (ما بعدَ السَّلفيَّة)

الحلقة الثالثة: التَّجديدُ بالهَدْمِ المجرَّد

بندر بن عبدالله الشويقي

28 رجب 1436هـ

 

تَقرأُ في الصفحة (23) من كتاب (ما بعد السَّلفيَّة) كلامًا يُصوِّرُ فَهْمَ الدَّعوة السَّلفيَّة للأسُس التي قامَ عليها مُعتقدُ أهل السُّنة، فترى المؤلِّفَينِ يقولان: "أمَّا عن الداخل السَّلفيِّ الذي يَحتفظُ ببعضِ المقولات الشِّعارية عن السَّلفيَّة ... وإنْ كان أفضلَ حالًا في تصوُّر السَّلفيَّة من التيَّارات الأخرى، إلَّا أنَّه كثيرًا ما لا يُحقِّقُ الأسُسَ النظريَّة لتلك المقولات، وهل هي مُبرهَنةٌ عَقْلًا ونقلًا، أم مجرَّد مُسلَّمةٍ أيدلوجيَّة ...".
 

لن أُناقِشَ هذه الدَّعْوى، ولنْ أنازعَ في وجودِ مَن ينتسبُ للمُعتقَد السَّلفيِّ، دون أنْ يمتلكَ تصورًا تامًّا للأسُس النظريَّةِ والبراهين التي يقومُ عليها هذا المعتقد؛ إذ الحديثُ عن هذا حديثٌ عن وضْعٍ مُعتادٍ يَستحيلُ الخلاصُ منه، إلَّا إذا نَجحْنا في إيجادِ مُجتمعٍ سلفيِّ المعتقَدِ، جميعُ أفرادُه- أو أكثرهم- من الأئمَّة المحقِّقين.
 

وممَّا يُبرهنُ صِحَّةَ دعوى المؤلِّفَينِ- إجمالًا- أنَّ الناظر يرى في كتاب (ما بعد السَّلفيَّة) نفْسِه قُصُورًا في فَهمِ الأسُس التي قامتْ عليها بعضُ المعتقَداتِ التي تَصدَّى المؤلِّفانِ لنَقْدِها وتفنيدِها دون فَهمِ دَليلِها وبُرهانها. (وإنِ اتَّسعَ المجالُ لشرح هذا عُدْنا إليه بإذن اللهِ).
 

لكنِ الأهمُّ من ذلك الآن أنَّه: إنْ كان مَعيبًا قُصورُ طالبِ العِلمِ عن الإدراك التامِّ لبراهين المعتقَدِ السَّلفيِّ وأساساتِه، فإنَّ الأشدَّ خَيبةً وعَيبًا عجزُ المتذاكي عن تَصوُّرِ الأساسِ النظريِّ لقول نفْسِه، فتراهُ يَعمِدُ إلى بناءِ رأيه وهدْمِه في آنٍ واحدٍ!

تقرأُ في (ما بعد السَّلفيَّة)، (ص9): "السَّلفيَّةُ المرادُ بها: الإيمانُ بما أجمعتْ عليه صحابةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، بالقولِ والعملِ، وعدَم اعتبارِ مَن خرَجَ عمَّا أجمعوا عليه".

تقرأ هذا، فتفهمُ أنَّ مَن خرَقَ إجماعَ الصَّحابة خرَقَ سلفيَّته، ومَن تَمسَّك بهذا الإجماعِ حَفِظها.

تذهبُ إلى صَفحات المؤلِّفَين بمواقِعِ التواصُلِ، فترى الأسئلةَ تُطاردُهما وتضغطُ عليهما لشَرحِ الغَمْغَماتِ والمُبهَمات السَّاكنة في كِتابهما، فتقرأ سؤالًا يُطرحُ على أحدهما:

"هل تعتقدُ أنَّه ممكن يفوتُ شيءٌ من الحقِّ على السَّلفيِّين، فيما يتعلَّق بأمورِ العقيدة، وتُدرِكه بعضُ الفِرَق الإسلاميَّة الأخرى كالأشاعرةِ مثلًا؟".

يجيبُ أحمد سالم:

"في غيرِ أصول الاعتقاد الكُبرى التي أرى أنَا ثُبوتَ إجماعَ الصحابة فيها: لا.

فيما ليس مِن هذا الجِنس: نعم.

وأصلُ التوحيدِ وإثباتُ الصِّفات والقَدَر، والمفاصِل الكُبرى الفارقة بين أهل الحَديثِ والأشاعرة هي مِن تِلك الأصول. أمَّا الفروع، مِثل صِفة معيَّنة، فليستْ كلُّ صِفةٍ ممَّا يُمكنُ إثباتُ إجماع الصَّحابة على القول الذي ذهَب إليه أهلُ الحديث فيها".

هذا الجوابُ- لو فَهِمَه صاحبُه- لأدرَكَ أنَّه يَهدِمُ جميعَ ما بناه المؤلِّفانِ في الكتابِ، حين اندفعَا في توزيعِ سَلفيَّة الصَّحابة بين الطَّوائفِ والفِرَق، وحين زعمَا أنَّ السَّلفيَّةَ الشرعيَّة لا يُمكنُ أن تُوجَدَ تامَّةً لدَى أيِّ طائفةٍ أو فِرقةٍ.

جوابُ أحمد سالم- غفَر اللهُ له- معناهُ أنَّ العقائدَ ستكونُ قِسمَينِ:

1- أصول عقديَّة ثبَت- عند المؤلِّفَينِ- إجماعُ الصَّحابةِ عليها. وهذا النوعُ عَرَفْنا الآن أنَّه مِن غيرِ الممكن أنْ تُخطِئَ فيه السَّلفيَّةُ كلُّها، ثم يكونُ الصَّوابُ عند الأشعريَّة.

2- فروعٌ عقديَّة، لا يُمكنُ إثباتُ إجماع الصَّحابة عليها، وهذا النَّوعُ (قد) تُصيبُ فيه الأشعريَّةُ، ويُخطئُ فيه المعتقدُ السَّلفيُّ.

وبما أنَّ هذا النوعَ الثاني الذي (قد) تُخطئُ فيه السَّلفيةُ ممَّا لا يُمكنُ إثباتُ إجماع الصَّحابة عليه، فلنْ يكونَ داخلًا ضِمنَ مَفهُومِ السلفيَّة، الذي هو "إجماع الصَّحابة".

فأصبحتِ النتيجةُ: أنَّ الأشعريَّةَ لم تُفلِحْ في استيفاءِ ما أجمَعَ عليه الصَّحابةُ. بينما نجحَتِ السَّلفيَّةُ في ذلك، وكلُّ ما فات أئمَّةَ السَّلفِ من صوابٍ- لو فُرِضَ- فهو مِن النوعِ الذي لا يُمكنُ إثباتُ إجماعِ الصَّحابة عليه. فصارتِ النتيجةُ أنَّ إجماعاتِ الصَّحابةِ العقديَّةَ كلَّها مُضمَّنةٌ لا محالةَ داخلَ الإطار السَّلفيِّ.
 

حتَّى لو وسَّعْنا مفهومَ السَّلفيَّة- على طريقةِ المؤلِّفَينِ- وأدخلْنا فيه العملَ والسُّلوكَ والعِبادة والأخلاق، فمِن المُحالِ إثباتُ إجماعِ الصَّحابة على شيءٍ- أيِّ شيءٍ- أصابتْ فيه الأشعريَّةُ أو غيرُها، ثم لم تُدركْه السَّلفيَّة كلُّها، بجميع عُلمائِها وأئمَّتها منذُ زمن التابعينَ!

فهل سيَفهمُ المؤلِّفانِ حَجمَ التناقُض والاضطراب الذي وقعَا فيه، حين أنكرَا نجاحَ أيِّ طائفةٍ في استيفاءِ السَّلفيَّة الصحابيَّة؟!

يَبدو لي أنَّ المؤلِّفَينِ- عافاهما اللهُ- طوَّلَا على نَفسَيهما طريقًا قَصيرًا دون طائلٍ. قد يكونُ لديهما عدمُ قَناعةٍ أو قصُورٌ في فَهمِ بعض أدلَّة فروعِ المعتقَدِ السَّلفيِّ، فاختارَا ضرْبَ الأساسِ العِلميِّ لهذا المعتقد، كي يعالجَا إشكالًا فرعيًّا بدا لهما، فصار حالهما كحال مَن يُريد أن يُطِبَّ زكامًا فيُحدثَ جُذامًا، أو كمَن يَهدِم مِصرًا؛ ليبنيَ لنفْسِه قصرًا!
 

السُّؤالُ الأهمُّ الذي يَحتاجُ المؤلِّفان إلى مواجهتِه:

الآن: بعدَما جعلَا السَّلفيَّةَ إجماع الصَّحابة، ثم أعْلَنا تفرُّقَ دمِ هذه السَّلفيَّة بين قبائِلِ الفِرَق المختلِفة؛ هل يَملكانِ مسألةً سلفيَّةً واحدةً- قوليةً أو عمليةً- خارجةً عن طريقِ أئمَّةِ السَّلفِ وأهلِ الحديث، انعقَدَ عليها إجماعُ الصَّحابة رضي الله عنهم؟!

إلى أنْ يأتيَ جوابُ المؤلِّفَينِ عن هذا .. ننتقِلُ إلى مَعْلمٍ جديدٍ مِن معالم (ما بعد السَّلفيَّة).
 

**********

ابحثْ عن الحقِّ عندَ الرَّافضةِ والخوارج

فقدْ يُصيبونَ إجماعًا صحابيًّا أضاعَه أهلُ السُّنَّة!

حِين يندفعُ العَجُولُ في تقرير رأيه الذي امتلأَ عُجْبًا به، تبقَى عينُه مُعلَّقةً بهدفٍ بعيدٍ أمامَ عينيه يَسعَى حثيثًا إليه، فيَغفُلُ عن حُفَرٍ عميقةٍ وفخاخٍ مكشوفةٍ تحتَ قدميه.

تقرأ في الصفحة (67) قولَ المؤلِّفَين:

"الحقُّ مُفَرَّقٌ في أمَّة محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. لا يَجمعُه كلُّه واحدٌ بعينه، ولا جماعةٌ بعينها. ولا يفوتُ الأمَّةَ كُلَّها حتى لا يُدرِكه منهُم أحدٌ".

هذا المعنى الخطيرُ تَكرَّر في الكِتابِ أكثرَ مِن مرةٍ. ولستُ أشكُّ أنَّ المؤلِّفَين- أنار اللهُ قلبَيْهما بهداه- كتبَا هذا وأعينُهم مُعلَّقةٌ على مِثل الأشعريَّة والماتريديَّة، فأطلقَا قاعدةً كُليَّةً دون أن يَتفطَّنَا لدخول سائرِ فِرَق الضَّلالة فيها.

ربَّما الْتَبسُ الأمرُ عليهما، فأُعجِبَا ببعضِ أقوال الأشعريَّة، فاحتاجَا لتقريرِ هذه القاعدةِ المهَلْهَلةِ المبتكَرةَ التي تجعلُ الحقَّ شَتاتًا بين فرَقِ الأمَّة جَمْعاء. فتمرَّغَا في الجُذامَ مِن حيثُ أرادَا مداواةَ زُكامهما.
 

ما لم يتفطَّنْ له الصاحبانِ أنَّ القاعدةَ التي أطلقاهَا لخِدمةِ رأيهما لن تقتصرَ على فِرقةٍ دون فرقةٍ. وستكونُ النتيجةُ السَّوداء: أنَّ الذي يُريدُ الحقَّ والهُدى يحتاجُ إلى إعادةِ التنقيبِ عنه وتجميعِه مِن أيدي جميعِ فِرَق الأمَّة التي تمزَّق الحقُّ بينها أيدي سَبَأ. ومَن استثنى فرقةً واحدةً، فقد يفوتُه بعضُ الحقِّ والصَّواب!

ولتوضيح ذلك أقولُ:

لو سلَّمْنا أنَّ أئمَّة السَّلفِ حين تنازعَوا مع الأشعريَّة والماتُريدية أخطؤوا في أشياءَ أصابت فيها الأشعريَّةُ أو الماتُريديةُ، وأنَّ الحقَّ توزَّع بين هذه الاتِّجاهات الثلاثة؛ فبالإمكانِ توسيعُ الدائرة؛ ليكون السَّلفُ مع الأشعريَّةِ والماتريديةِ طائفةً واحدةً لها أصولٌ جامعةٌ داخلَ دائرةٍ أوسعَ، اسمُها (أهل السُّنَّة) في مقابِل (الشِّيعة)، أو في مقابِل (الخوارج).
 

فإذا رجَعْنا للقاعدة الذَّهبيَّة الما بعدَ سلفيَّة، التي أعلنتْ تفرُّق الحقِّ بين طوائف الأمَّة، ونفَتْ وجودَ جماعةٍ أو طائفةٍ جمعتِ الصَّوابَ كلَّه .. كيف ستكونُ النتيجةُ؟!

هل سيقولُ المؤلِّفانِ: إنَّ أهلَ السُّنةِ كلَّهم فاتَهم بعضُ الحقِّ، وأصابتْه الرافضةُ مثلًا؟!

هل سيقولانِ: إنَّ على مُريدِ الحقِّ أنْ يأخذَ شيئًا من أقوال السَّلف، مع بَعضِ آراء الأشعريَّة والمعتزلةِ، وشَيءٍ مِن اختياراتِ الخوارج، وبعضِ ترجيحاتِ الروافض؛ كي يَهتديَ؟!

إنْ قالا هذا، فبارَك اللهُ في عَقلَيْهما .. وإنْ رفضَا وأنكرَا- وهو المنتظَرُ-، فسوف يَرجعانِ إلى إثباتِ طائفةٍ جمعتِ الحقَّ كلَّه، لكن سيكون الخلافُ معهم في حدودِ هذه الطائفة وأصولها الجامعة. وما لم يكُن تمييزُ هذه الطائفة مبنيًّا على صِحَّة الأصُول وسلامتِها، فسوف يكونُ مبناه التحكُّم المجرَّد.

مَن يتأمَّل هذه المعضلةَ التي انحشَرَ فيها المؤلِّفانِ، ستنكشفُ له إحدى أبرزِ معالم الخَللِ المَنهجيِّ في كتاب (ما بعد السلفيَّة)؛ فالقواعدُ المنهجيَّة لا تُرسَم بناءً على الدَّليل والبُرهان، بل تُرسَم فقط كي تكونَ صالحةً للوصولِ إلى الهدفِ المنشود؛ لذلك لا يَتفطَّنُ المؤلِّفانِ للوازمِ قواعدِهم المرتجَلةِ، ولا يَنشغِلان بفَهمِها.
 

ولمزيدٍ من البيانِ، ننتقلُ هنا إلى مَعلَمٍ جديدٍ من معالم خِطاب (ما بعد السلفيَّة):
 

أصولُ المعتقَد .. ليستْ أصولًا!!

ما قِيمةُ الأصلِ إذا لم تُبْنَ عليه الفُروع؟

سؤالٌ يُعيدنا لمشكلةِ فَهم الأسُس والبراهين التي يُبنى عليها مُعتَقَدُ السَّلف؛ فالمؤلِّفانِ قدْ يوافقانِ على صِحَّةِ الأصل السَّلفيِّ، ثم يَعجِزانِ عن الرَّبطِ بين هذا الأصْل، وبين الفَرعِ الذي بُنيَ عليه. وقبل نقْل كلامِهما في هذا المعنى، نحتاجُ أولًا للتأمُّل في هذين المثالَينِ:
 

- إذا خرقتِ الخوارجُ- مثلًا- إجماعَ الصَّحابة، فقالوا بتكفيرِ مُرتكب الكبيرة. ثم جاءَنا مَن يقولُ: أنا أُوافِقُ على أنَّ الصَّحابةَ لا يُكفِّرون أهلَ الكَبائر، لكنِّي- مع هذا- أحتاجُ إلى دَليلٍ خاصٍّ لكلِّ كبيرةٍ، حتى أقولَ: إنَّ الخوارجِ خالفوا إجماعَ الصَّحابة حين كفَّروا فاعلَها، فلو جاءَني مَن يَحكُمُ بكُفرِ شاهد الزُّور، أو عاقِّ والدَيه، فلا أستطيعُ الحُكمَ بمخالفتِه طريقةَ الصَّحابة؛ لأنِّي لا أجدُ ما يُثبِتُ إجماعَهم في هذه المسألةِ بعَيْنِها!
 

- وإذا نازعتِ الروافضُ في عدالةِ أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. ثم جاءَنا مَن يقولُ: أنا أُؤمن بعدالةِ الصَّحابة، وأنكرُ قولَ الرَّوافض. لكن- مع إيماني بعَدالة الصَّحابة- لا بُدَّ لي مِن دَليلٍ خاصٍّ يُثبتُ عدالةَ كلِّ صحابيٍّ بعَينه، حتى أقولَ: إنَّ الطَّعنَ في عدالتِه لا يستقيمُ والأصُولَ السَّلفيَّةَ!
 

تلك الطريقةُ تَعْني إهدارَ أصُولِ المعتقَد وقواعِدِه الكُليَّة، فيُصبح الفرعُ معزولًا عن قاعدتِه، بل تصيرُ القاعدةُ والفَرعُ في درجةٍ واحدةٍ، فلا سُلطانَ للأصلِ على فَرعِه، ولا أثَرَ له فيه؛ ممَّا يعني أنَّ الإيمان بالقاعدةِ الكليَّة إيمانٌ شَكليٌّ لا حقيقةَ له ولا ثمرةَ.
 

نَرجِعُ لإجابة أحمد سالم- أنار الله بصيرتَه- حين سُئلَ عن إمكانيَّةِ أنْ تُصيبَ الأشعريَّةُ في مسائِلِ المعتقَد شيئًا أخطأ فيه أئمَّةُ السَّلف.

نقرأ الجوابَ، فنرَى الإشكالَ نفْسَه بارزًا .. قال- عفا الله عنه-:

"أصلُ التوحيد وإثبات الصَّفات والقَدَر، والمفاصِل الكُبرى الفارقة بين أهل الحديث والأشاعرة هي مِن تلك الأصول. أمَّا الفروع، مِثل صِفةٍ معيَّنة، فليستْ كلُّ صِفةٍ ممَّا يُمكنُ إثباتُ إجماعِ الصَّحابة على القولِ الذي ذهَب إليه أهلُ الحديثِ فيها".
 

هو يُؤمنُ بإجماعِ الصَّحابة على قاعدةِ إثباتِ صِفاتِ الله سبحانه على خِلاف الطَّريقةِ الأشعريَّة التي تَجعَلُ إثباتها أو إثبات أكثرِها تَشبيهًا وتمثيلًا، لكنْ مع إيمانه وقناعتِه بإجماعِ الصَّحابة على القاعدةِ الكليَّة في الصَّفات، إلَّا أنَّه يُريدُ إجماعًا صحابيًّا منقُولًا في كلِّ صفةٍ بعَينها، وما لم يوجدْ هذا الإجماعُ، فقد يكونُ قولُ الأشعريَّة صوابًا، فيُضحي إثباتُ تِلك الصِّفةِ تشبيهًا وتمثيلًا يُنزَّه اللهُ عنه، لكن أئمَّة السَّلف لم يَتنبَّهوا لذلك، فشبَّهوا ومثَّلوا، وسَلِمَتْ من ذلك الأشعريَّةُ فأفلحتْ!!

فما الذي أفادَه أحمد سالم مِن القاعدةِ الكُليَّة إذن؟ ثم ألَا يحقُّ لنا الآن أنْ نتساءَل: مَن الذي لم يُحقِّقِ الأسُسَ والبراهين التي أُقيم عليها المعتقَدُ السَّلفيُّ؟ ومَن الذي يُردِّدُ شعاراتٍ ومُسلَّماتٍ أيدلوجيَّةً دون أن يَدْري بُرهانَها العقليَّ والنقليَّ؟

بل مَن الذي يَنوي التورُّطَ وتوريطَ غيره في الفُروع الأشعريَّة، دون أن يَتنبَّهَ لأصلِها الفاسدِ الذي بُنيَت عليه؛ الأصلِ الذي يُقرُّ هو أنَّه يُخالِفُ إجماعَ الصَّحابة رضِي الله عنهم؟!
 

************

تجديدُ المرتاب هَدمٌ

عِلقٌ ثمينٌ .. ودُرَّةٌ رحمانيَّةٌ نَفيسةٌ يَختزنها قولُ الحقِّ -جلَّ وعلا-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].

النبيُّ صلَّى الله عليه سلَّم يدْعو إلى الله (على بصيرةٍ).

كذاك مَن اتَّبعه في نهجِ دعوته، لا بدَّ أن تكونَ دعوتُه إلى الله (على بصيرةٍ).

البصيرةُ هي ما يصنعُ الفارقَ الأهمَّ بين مناهج المُصْلحين، وبين مَسْلك صاحِب البَدَواتِ، الذي يتقلَّبُ رأيُه يَمنةً ويَسْرةً، وكلَّما بدَا له رأيٌ فَطَيْرٌ طارَ به، وصاحَ في الخلقِ أنِ اتبعونِ أهدِكُم سبيلَ الرَّشاد!
 

رأينا في (الحلقة الثانية) كيف كان أحمد سالم -أحدُ مُؤلِّفَي (ما بعد السَّلفيَّة)- يُعلنُ قبل عامينِ فقط أنَّ حُدودَ المعتقَد السلفيِّ كانت مُبهمةً غيرَ واضحةِ المعالِمِ عنده. وبعد نشْر الحلقةِ قرأتُ قولَه في أحدِ مواقع التواصُل: إنَّه كان فيما مضَى يَعتقِدُ صحَّةَ ما ينتقدُه الآن، ورأيتُه يقولُ عن الانتقاداتِ التي تناولَتِ الكتابَ:

"ينبغي أنْ يكونَ فيها ما يَنقُلنا عمَّا انتهينا إليه، ويكون قويًّا بما يَكفي ليرُدَّنا إلى قولٍ كُنَّا عليه سَنواتٍ، قبل أن يَتبيَّنَ لنا بُطْلانُه".
 

قبلَ سنواتٍ رأيٌ مختلِفٌ، وقبل سنتينِ تردُّدٌ وحَيْرةٌ في فَهْم حُدود المعتقَد .. واليوم ثقةٌ ببُطلانِ ما عليه أئمَّةُ الإسلامِ قاطبةً.

ولستُ أبالغُ حين أقولُ: إنَّهما أبطلَا ما عليه أئمَّةُ الإسلام كلُّهم؛ إذ لا يوجَدُ عالمٌ قطُّ يقولُ مثلَهما: إنَّ الحقَّ توزَّعَ بين طوائفِ المسلمين وفِرَقِهم، فلم تنجَحْ طائفةٌ- قلَّتْ أو كثُرت- في جمْعه كلِّهِ.

على أنَّ ما انتهى إليه المؤلِّفانِ -في الكتاب- هدمٌ مجرَّدٌ، وانتقالٌ إلى ما يُشْبِه العَدَم الذي لا هدايةَ فيه. فإذا كانت الأسئلةُ في مواقع التواصُل انتزعتْ من المؤلِّفَينِ إقرارًا بصحَّة الطريقة السَّلفيَّة ومطابقَتِها طريقةَ الصَّحابةِ في أصْلِ بابَيِ الصِّفات والقَدَر؛ فإنَّ هذه الحقيقةَ غابتْ أو كادتْ تغيبُ عن صفحاتِ الكتابِ( [1]). بل إنَّ أخطرَ مشكلات (ما بعد السَّلفية) تغييبُ قضايا الخلافِ العَقَديِّ الرئيسة؛ فجهودُ أئمةِ السَّلف في حِفظِ ما يرَى المؤلِّفانِ إجماعَ الصَّحابة عليه، لا تراها في صفحات "مؤرِّخ الأفكار" الذي كتب (700) صفحةً عن تاريخ السَّلفيِّة، ليس فيها سِوى أنَّ بعضَ الحنابلة كفَّروا الأشعريَّة، وآذَوُا ابنَ جريرٍ، وأثبتُوا للهِ صِفاتٍ دونَ أيَّة أدلَّةٍ، وشيخُهم ابنُ حنبلٍ بَغَى وتعدَّى على الكرابيسيِّ!
 

هذه الوقائع- بقطَعْ النَّظَر عن تفاصيلها- كان المفترضُ ذِكرَها في حاشية الخلاف الأساس؛ إذ العدلُ يَقتضي من المؤلِّفَينِ إبرازَ الصُّورة الحقيقيَّة التي تشرح التمزُّقَ والتناحُر الذي تسبَّبت فيه الاتجاهاتُ الكلاميَّة حين أضاعتْ طريقةَ الصَّحابةِ الشرعيَّةَ في الإيمان بالله والتصديق بالقَدَر. لكنَّ هذه الصُّورةَ لا تراها في الكتابِ إلَّا مسبوقةً أو متبوعةً بعباراتِ "التنزُّل"، و"التسليم الجَدَليّ"، كما رأينا ذلك في (الحلقة الثانية) من هذه السِّلسِلة.
 

حتى لو أَخذْنا بالاعتبارِ إقرارَ المؤلِّفَين في مواقع التواصُل بصحَّة الأصُول السَّلفيَّة في التوحيد والقَدَر؛ فإنَّ هذا الإقرارَ المُجمَل لا يَشفي السائِلَ الباحثَ عن الحقِّ بعدَما حرَص المؤلِّفانِ وحشدَا طاقتهما في سبيل زعزعة بناء المعتقَد السَّلفيِّ حتى في هذين البابينِ.

تقرأ في الصَّفحة (11) تأكيدَ المؤلِّفَين على وجوب: "أن تَستمرَّ المراجعةُ والتصحيحُ، بغرضِ الوصولِ للدِّين الحقِّ الأوَّلِ، سواءٌ في بابَيِ التوحيدِ والقَدَرِ، أو في غيرِه من الأحكامِ والأخلاقِ والسُّلوك".

حتَّى في (بابي التوحيد والقَدر) الذي أقرَّا بإصابة السَّلفيَّة فيه، لا بدَّ أن تَستمرَّ المراجعةُ والتصحيحُ؛ بغرَض الوصولِ للدِّين الحقِّ الأولِ. ولنتذكَّرْ أنَّ هذه الغايةَ المنشُودة سبَقَ أنْ حكَمَ المؤلِّفان باستحالة تحقيقها، فتكون النتيجةُ حالةَ بحثٍ وشكٍّ لا تَنتهي إلى يقينٍ، في جميع أبوابِ الدِّين!
 

وإذا تذكَّرْنا أنَّ فكرة الكتابِ تقومُ على أنَّ الإجماعاتِ العقديَّةَ المنقولة منذُ زمن التابعين ومَن بعدَهم لا حُجَّة فيها، وأنَّ الحُجَّة فقط فيما أجمَع عليه الصحابةُ رضي الله عنهم، فمن البَدَهيِّ أن يَرِدَ عندنا هذا السُّؤالُ الذي يتعيَّنُ عليهما الإجابةُ عنه:

ما الذي أجمعتْ عليه الصحابةُ من العَقائِدِ التي بَينَ أيدينا اليومَ؟ 

مواجهةُ هذا السُّؤالُ يفترضُ أن تكون حاضرةً لدَى المؤلِّفَين بعدَما هدمَا كلَّ شيءٍ.

لكنَّ الحقيقةَ لم تكُن هكذا .. وجوابُ هذا السُّؤال لا وجودَ له عندهما!

ممَّا يَعني أنَّ الغرضَ من الكتابِ الهَدمُ لا غَيرُ، وما بعدَ ذلك لا أهميَّةَ له.

سُئلَ أحمد سالم في صفحته بأحدِ مواقعِ التواصُل:

"ما هي الأصولُ التي أجمَع عليها الصَّحابةُ -سلَّمك الله ورعاك-؟".

أجاب: "ده موضوع كبيرٌ. مش في منْشِن".

الإشكالُ هنا أنَّ السَّائل لو ترَك (مِنْشن) أحمد سالم، وذهب للكتاب بصَفحاتِه السَّبع مئة لن يعرفَ ما الذي أجمَع عليه الصَّحابةُ. بل سيسمعُ حروفَ المؤلِّفَينِ تَصيحُ بأعْلى صوتها أنَّهما غيرُ معنيِّيَنِ بهذا؛ لأنَّ هذه ليستْ وظيفةَ "مؤرِّخ الأفكار"!

الكتابُ جَعَل رأس مَهامِّ "مؤرِّخ الأفكار" هدْمَ مشروعيَّة المعتَقَد الذي تتابَعَ على تقريره أئمَّةُ السَّلفِ، لكنْ أسقطَ عن كاهله مسؤوليَّةَ تشييدِ بُنيانٍ بديلٍ، بعدَما تذكَّر في منتصف الطريق أنَّه مجرَّد "مؤرِّخ أفكار" لا أكثر!
 

يستمرُّ منهج الهدم، حين يُسأل أحمد سالم ثانيةً:

هل يَسعى الكتابُ لتصحيح مسار السَّلفية المعاصرة؟ أم يسعى لترْك هذه السَّلفيَّة، ويكون كلُّ مسلمٍ سلفيًّا لوحده، أي: يترك الجماعة التي يَنتمي  إليها، ويُصبح انتماؤه للإسلام؟

والسَّائل هنا لم يَنتبِه إلى أنَّ الكتابَ لا يتحدَّث فقط عن السَّلفيَّة المعاصرة، بل عن سلفيَّة وإجماع التابعين والأئمَّة مِن بَعدِهم، إلى اليوم ..

فبأيِّ شيءٍ أجاب أحمد سالم. وما المنهجُ الذي رسمه للسَّائل؟:

قال: "أنْ تنتمي للإسلام العامِّ، وأن تجتهدَ في طلب ما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه، لا تُفارقُ بيِّنةَ الوحيِ، ولا إجماعَ الصَّحابة.

وحيث لا يُمكنك الاجتهاد=قلِّدْ مَن تثق بعِلمه ودِينه، ولا تتبَّعْ هواك.

ولا تُسلِّم لأيِّ منظُومة أفكارٍ وأقوالٍ من أيِّ اتجاهٍ حتى تظهرَ لك بيِّنتُها. ولا تُقلِّد مَن أو ما لا تطمئنُّ لصحَّته، وارفع دائمًا درجة عِلْمك وإيمانِك؛ فبمِقدار ارتفاعها= ييسر الله لك الخير.

هذا الإطارُ مفتوحٌ لطلب الدِّين كلِّه، وطالما اجتهدتَ في طلب الحقِّ من جِهة الله ورسوله، وتحرَّيت ألَّا تخالفَ إجماع الصَّحابة بعد تبيُّنِه لك= فأنت طالبٌ لمنهج السَّلف، وبقدْر إصابتك للحقِّ، فأنت سلفيٌّ".

هذه العباراتُ تُظهِرُ للقارئ شهوةَ الهدْم التي غلبتْ على المؤلِّفَين حتى أنْسَتْهما أيَّ هدَفٍ رِساليٍّ، أو واجبٍ شرعيٍّ تُجاهَ السَّائل الذي هدَمَا أمامه كلَّ جهدٍ سابقٍ لتوضيح مُعتقَد السَّلفِ، ثم تركاه في حالةِ بحثٍ لا تَنتهي عن إجماع الصَّحابة الذي أعلن المؤلِّفانِ من قبلُ أنه لم يُفْلحْ في جمعه فردٌ ولا جماعةٌ طوالَ التاريخ إلى يومنا هذا، كما أكَّدَا أنَّه لا يمكن أنْ يفلح في جمعه فردٌ ولا جماعةٌ إلى قيام السَّاعة!
 

ليس مهمًّا أين سيتجه السَّائل، ولا في أيِّ رأيٍ سيقع. المهم فقط: أن ينبِذَ منظوماتِ الأفكارِ والمعتقداتِ القائمة كلَّها؛ السَّلفيَّ منها وغير السلفيِّ. أمَّا إلى أينَ سينتهي؟ فليس لذلك أيةُ أهميَّةٍ تستحقُّ التحرُّزَ في تحرير الجواب الذي سيَبني عليه السَّائلُ مُعتقدَه!
 

حتى لو كان السَّائل فقيرًا في أدواتِه العِلميَّة، عاجزًا عن الاجتهادِ في طلب إجماع الصَّحابة، فمِن المهمِّ حسَب النظرية (ما بعد السلفيَّة) ألَّا يستسلمَ لأيِّ منظومةِ أفكارٍ. عليه أن يَنبِذَ كلَّ شيءٍ، ثم يبحثُ عمَّن يثقُ به كي يُقلِّدَه وكفى.
 

الغريب أنَّك لا تجدُ في الجواب أيَّ مواصفاتٍ أو حدٍّ أدنى لطريقة الشَّخص الذي يُفترض تقليدُه، فقط يكفي أنْ يكون محلَّ ثقةِ السَّائل. وليكُن بعد هذا سلفيًّا، أو أشعريًّا، أو صُوفيًّا، أو معتزليًّا، أو حتى خارجيًّا، أو رافضيًّا. كلُّ هذا لا أهميَّة له. وجميعُ هذه الخيارات مفتوحة للسَّائل؛ فكما يقول المؤلِّفان: (هذا الإطارُ مفتوحٌ لطَلَب الدِّين كلِّه).
 

الخيارُ الوحيد المرفوض عندَهما: التمسُّك بمنظومات الأفكار القائِمة، وعلى رأسها تلك المنظومة التي تَتَابع على تأسيسها أئمةُ الإسلام، والتي استفرغ المؤلِّفان جهدهما في تفكيكها وهدْمها؛ تمهيدًا لنقل الناسِ إلى المرحلة (ما بعد السلفيَّة).
 

فبما أنَّ الحقَّ مُفرَّقٌ بين الطوائف والفِرَق عند المؤلِّفَين، وبما أنَّ كلَّ فرقةٍ لديها سلفيَّةٌ ناقصةٌ، فعلى السَّائل نبذُ كلِّ نِحْلةٍ، لا ليحرِّرَ عقلَه وفكرَه من القيودِ على الطريقة الليبراليَّة، بل لأجْل أن يَنتقلَ ليُقلِّدَ فردًا يثقُ به؛ كي يتحقَّق له بعضُ التسلُّف الذي لن يستطيعَ إصابتَه كلِّه، فيكون حالُه كحالِ جميع أئمَّة الإسلام ناقصي السَّلفيَّة!!
 

الإرشاد للتقليدِ بهذه الطَّريقة المفتوحة، إنما يكون مع مُستَفْتٍ في مسائلِ الفقه والاجتهاد السَّائغ. ففي مِثل هذا الحال لا يَضرُّ السَّائلَ أن يقلِّد -إنْ عجَز عن الاجتهاد- مَن يثق بعِلمه من أهل العِلْم والفُتيا. فهو أينما اتَّجه، لن يقعَ إلَّا في قولٍ من الأقوال السَّائغة المعتَبَرة.

أمَّا أنْ يأتيَك مَن نقَضْتَ له جميعَ الإجماعاتِ العقديَّة منذ زمن التابعين إلى اليوم، وشرحْتَ له تفرُّقَ الحقِّ بين طوائف الأمَّة، ثم تقول له بعدَ ذلك: دَعْ جميع منظُومات الأفكار، وقلِّدْ مَن تثِق به أنتَ. فهذه صورةٌ من صُور خيانَةِ العِلم، التي لم يستشعِرْ فيها المجيبُ مسؤوليتَه أمامَ الله سبحانه. وإنْ أحْسَنَّا الظنَّ، فسنقول: هي صورةُ مَن لا يفهم لوازمَ قوله، ولا يَعِي حقيقةَ ما يخرجُ من رأسِه!

على أنَّ السائلَ هنا لو أخَذَ بهذه الفُتيا الما بعد سلفيَّة، فهو- في النهاية والمآل- سوف يَتبنَّى منظومةَ الأفكار التي يتبنَّاها شيخُه الذي سوف يُقلِّدُه! وهذا الشيخُ المقلَّد سيكون تابعًا لمنظومةِ أفكارٍ قائمةٍ. فما الذي أضافَه المؤلِّفانِ الآن بعدَما هدَمَا وحذَّرَا من تبنِّي منظومة العقائد السَّلفيَّة؟!
 

السُّؤال الذي يُحَيِّر الناظر:

ما الذي يخشاه المؤلِّفانِ من منظومةِ أفكارٍ تَتَابَع على صياغتِها أجيالٌ من أئمَّة الإسلامِ، كي يُحَذِّرا منها؛ ليُقِيمَا بديلًا عنها تقليدَ فردٍ يثقُ به السَّائل، بقطْع النظر عن مواصفاتِه وعن استحقاقِه تلك الثِّقةَ!

يَزيدُ التساؤل، وتبلغ الغرابةُ ذِرْوَتَها حين ترى المؤلِّف الآخر (عمرو بسيوني)، يُسألُ عن التقليد في الفِقْه، وليس في المعتقَد، فيأتي الجوابُ مُعاكسًا:

هل تقليد المذهب الحنبليِّ في نَظَركم أفضلُ من السَّلفية الفِقهيَّة كما وصفَها (ما بعد السَّلفيَّة) أم لا؟

يجيب -وواعجبًا لجوابه-:

  "تقليدُ أيِّ مذهَبٍ مشهورٍ، خيرٌ مِن الانفلاتِ الفقهيِّ، أيًّا كان نوعُه، سلفيًّا، أو تنويريًّا. وإنْ كنتُ لا أحْمَدُ التمذهُبَ بإطلاقٍ. لكن كموازنة = نعم".

كموازنة: تَبنِّي مَنظومةِ أفكارٍ فِقهيَّة مَسْلَكٌ مُسْتَحسَنٌ؛ منعًا للانفلاتِ الفقهيِّ!

أمَّا منظومة أفكار عَقَدِيَّة، فأهلًا بالانفلاتِ ومرحبًا!
 

في خاتمة هذِه الحلقة، نرجِعُ لنتساءَل: ما الرسالةُ التي يسعى إليها المؤلِّفانِ؟

بعدَما تَقدَّم شرحُه وبيانُه ربَّما لم تعُدِ الصُّورة خافيةً كما بدَتْ أولَ الأمْر. لكني سأرجعُ لأنقلَ نصًّا وردَ أولَ الكتاب يُلْقي المزيدَ من الضَّوء على هدفِ الكِتاب وغايتِه؛ ففي الصفحة (11) يقول المؤلِّفان:
 

"إن أوَّل خُطواتِ انتزاعِ السلفيَّة المعاصرة من حالة السُّبات الوثوقي التي تعيش فيها: هي أنْ نُبيِّن للمنتسبينَ لها حقيقةً صُلبةً، وهي: أن السَّلفيَّ لم يحُلَّ مشكلةَ التنازع التأويليِّ للكتابِ والسُّنةِ، بأنْ يرُدَّ الناس لفَهم السَّلف ... وبالتالي فإنَّ العمل النقديَّ سيكونُ لازمَ الحضُور للنَّجاة من أخطاء الذَّوات المتلقيةِ لأقوال السَّلف؛ كي لا يتحوَّلَ فَهمُ هذه الذَّوات إلى عقيدةٍ صلبةٍ".
 

أوَّلَ ما قرأتُ هذا النصَّ حَمَلْتُه على معنًى حَسنٍ تحتملُه حروفُه، لكن بعد إكمال الكِتابِ، وبعدَ متابعة تعليقاتِ المؤلِّفَينِ في صفحاتِ التواصُل، اتَّضح أنَّ غاية الكتابِ وغرضَه الرئيسَ نزْعُ الثقة مِن المعتقَد السَّلفيِّ، والحيلولة دون بقائِه "عقيدةً صُلبةً". هذا كلُّ شيءٍ، وليس لما بعد هذا الهدف أيةُ أهميةٍ عند المؤلِّفَينِ.

يتأكَّدُ هذا حينَ نعرِفُ أنَّ أصْلَ هذا الكلامِ المنقُول آنفًا كان تعليقًا قديمًا كتبه أحمد سالم في صفحته على (الفيسبوك)، بتاريخ (26/9/2012م)، ونصُّه:

"أوَّلُ ما يُخرجُ العقلَ السَّلفيَّ من دوجماطيقيَّته هو أنْ يعلمَ أنَّ أمامه طريقًا طويلًا، في تَعيينِ ما هو قولُ السَّلفِ الذي سيفهمُ به الوحيَ أصلًا".

قلتُ: لا غرابةَ أنْ يُصبحَ طريقُ معرفةِ معتقَد السَّلف طويلًا عسِرًا بعد هدْم بنائِه الذي تتابَعَ على تأسيسِه الأئمةُ منذ زمن التابعين. لكنَّ الغَرابةَ-كلَّ الغرابةِ- أنْ يكونَ هذا الطريق الطويل بلا نهايةٍ!!

ألم يُعْلن المؤلِّفانِ أنَّ الحقَّ مُفرَّقٌ في الأمَّة، وأنَّه سيبقى مُفرَّقًا للأبدِ، وأنَّ من المحال أن يصيبَه فردٌ ولا جماعةٌ؟!

إذن: ليس لدَى المؤلِّفَين سوى الهدمِ المحض، والنتيجة الوحيدة: التأسيسُ للشَّكِّ والحَيْرة، ولقِصَّةِ بحثٍ طويلةٍ تائهةٍ .. قِصةِ بحثٍ عن نُقطةٍ لا وجُود لها!
 

تلك رِسالةُ الكتاب التي أدْعو اللهَ أنْ تكونَ كُتِبَت دون فَهمٍ لأغوارِها وأبعادِها..

رسالة الكِتاب تقولُ: دعُوا ما أنتُم عليه .. واستمرُّوا في البحث .. وبحثُكم طريقُه طويلٌ .. طويلٌ .. طويلٌ بلا نهايةٍ .. ولأنَّه لا نهايةَ له، فنتيجتُه لا تهمُّ .. المهِمُّ دوامُ البحث واستمرارُه .. لأنَّ البحثَ نفْسَه هو المقصَدُ والغاية، وليس النتيجة!

 

اللهمَّ عفوَك وهُداك لأَخَوَيْنا .. لنا لقاءٌ بإذن الله .. في الحلقة الرابعة ....

 

( [1])  وإنما أقولُ "كادت تغيبُ"، تحرُّزًا من إشارةٍ عابرةٍ لم أتنبَّه لها, وإلَّا فمع تقليبي الكتاب غيرَ مرةٍ، لم أرَ موضعًا واحدًا تَضمَّن تقريرًا صريحًا واضحًا لهذا المعنى، في كتابٍ يؤرِّخُ- بزعْم صاحِبَيه- للدعوة السلفيَّة منذُ زمن أئمَّة السنَّة، مالكٍ، والشافعيِّ، وأحمدَ.