مقالات وبحوث مميزة



معضلة التناقض وأزمة التقييم في الخطاب الما بعد سلفي

مشاري بن سعد الشثري
2 - رجب - 1436 هـ


بسم الله الرحمن الرحيم


بيِّنٌ أن خطاب "ما بعد السلفية" خطابٌ تدشينيٌّ لإحدى مسارات زمنِ الأفول، زمنِ ما بعد السلفية، فالكتاب يفترض أن السلفية ستتنوع بعد تشظِّيها إلى أربع مسارات .. رابعُها مسارُ (مَن يمارس مراجعاتٍ على نفس المكون التراثي العقدي والفقهي، بالإضافة لمراجعاتٍ تتعلق بالأجوبة على الأسئلة الآنية والتحديات الواقعية)، وهذا المسار هو الذي يمثِّل حجرَ زاويةِ المسارات، فـ (الإشكال الأساسي يكمن في المراجعات التي سيجريها أصحاب المسار الرابع)، ومحلُّ الإشكال أن هذا المسار خلافًا للمسارات السابقة لا يحافظ على المكون التراثي العقدي والفقهي، بل يطرح مراجعاتٍ عليه، ولذلك (يكون هذا النمط من المراجعات مؤذنًا بميلاد تحقِّقٍ تاريخي جديد للنسق المنهجي الذي يظلل هذه التحققات) [687].
وما دام هذا الكتاب "ما بعد السلفية" قد قدَّم مراجعاتٍ على المكون السلفي التراثي العقدي والفقهي كما هو معلومٌ لكل من أدار نظره فيه، فالكاتبان يقدمان بخطابهم في هذا الكتاب مشاركةً تأسيسيةً لنمطٍ يؤذن بميلاد تحقق تاريخي جديد للسلفية، لكن هذه المراجعة لم تكن ممنهجةً بقواعدَ وتأصيلاتٍ، بل شابَها ما تشبَّعت به سوابقُها من المحاولات المناوئة للسلفية التي قدمت نظرات ناقدة للسلفية بكثير من السيولة المعيارية، والانفلات المنهجي، والانطباعات المرسلة.

المؤسفُ حقيقةً ليس متعلقًا بطبيعة هذه المراجَعة، بل في الشخصية المراجِعة، فبدلًا من تصدُّرِ أخوينا لمراجعةٍ محفوفةٍ بلغة الأخوة الحادبة والحرص على الخير والهدى ونفع المسلمين، رأيناهم يقيمون مقصلة للمتصدرين للعلم والدعوة والمشتغلين بهموم الواقع الإسلامي .. لم تأتِ سياقات الكتاب حافزةً على المراجعة بل أتت مزاحِمةً طاردةً مُذْكاةً بنار التقريع والاستهانة.
هذه الورقة تفترض ابتداءً أن كثيرًا من مباني هذا الكتاب لم يُبنَ على أساسٍ مكينٍ، بل كان محاولةَ حشدٍ لا واعيةٍ لجملةٍ من التصوُّرات الناقدة للسلفية المعاصرة، تمَّ نظمُها بأوعية لاحقة سيطرت على حدود تفكير الكاتبَين وتصوراتهما، ولم تكن الرؤية المنهجية المتزنة هي المولِّدةَ لمسارات الكتاب.
أراد الكتاب أن يقدم رؤية نقدية للسلفيَّة ففقد في طريقه كثيرًا من رساليَّته، ومنهجيَّته، وإنصافه .. وهذه الورقة تطمح أن تقدِّم لقارئها بعض سمات هذا الخطاب الما بعد سلفي من خلال جمعٍ من الشواهد المتعلقة بالكتاب والكاتبَين، لتجسِّد معضلة التناقض وأزمة التقييم التي شَرِق بها هذا الكتاب لعلَّها أن تنتزع كاتبَيه من (حالة السبات الوثوقي).


******


معضلة التناقض


لا يكاد يسلم من التناقض أحدٌ، فلماذا البحث في شواهده هنا؟
جواب ذلك أن التناقض لم يقع هاهنا بصفته حالًا عارضةً بريئةً، بل الذي أنبته رغبةٌ وثَّابةٌ في كسر عمود السلفية المعاصرة، أدَّت بالكاتبين إلى انعطافاتٍ حادَّة على مستوياتٍ من النظر جسَّدت ما يمكن تسميته بمعضلة التناقض في الخطاب المابعد سلفي .. ولهذه المعضلة تمثُّلاتٌ، وفيما يلي كشفٌ لها:

أولًا: التناقض التقييمي
وقد ابتدأتُ بهذه السمة لأن شاهدَها يقوِّي الافتراض الذي تقدمه هذه الورقة، وتبين كيف أن روح الكتاب التي سيطرت على الكاتبَين تجعل من التناقض التقييمي مقبولًا في حال وافق اتجاه الدراسة.
قصة هذه السمة أن لأبي فهر أحمد سالم مقالًا في ملتقى أهل التفسير بعنوان: "المبدعون المجددون من أهل العلم المعاصرين"، سمَّى فيه 25 عَلَمًا، رأى أن دائرة تحريرهم تتعدَّى (تحرير أفراد المسائل حتى تصل إلى تحرير شيء من مناهج البحث والنظر، إضافةً إلى ما يعكسه هذا على تحريرهم للمسائل من جدة وابتكار)، وقال: (المجددون هي سمة عندي لا يستحقها إلا من يستطيع العودة بعلمه عودة تامَّةً أو غالبةً إلى ما كان عليه الصدر الأول فالأمثل فالأمثل).
وأكثر هذه القائمة هم من أهل السنة الملتزمون بمنهج السلف .. لكن هذا لا يهمني الآن، بل الذي يهمني أنه سمى منهم:
1. محمد العثيمين: ولما طُلِب منه أن يسمي ما يراه مقدَّمًا أو كان على شرطه من كتب هؤلاء المجددين، سمى من كتب ابن عثيمين: (الشرح الممتع).
2. يعقوب الباحسين[1].

هذا كان قبل تدشين الخطاب المابعد سلفي، أما في "ما بعد السلفية" فيأتي الثناء على "الشرح الممتع" مثقَلًا بقيود واحترازات: (الجودة الفقهية واضحة في كتاب العثيمين، نظرًا لتفعيله الآلة الفقهية والأصولية واللغوية في البحث، في حدود زاده منها، والذي هو أحسن من أقرانه من حيث الجملة) [368] .. وأما اختياراته الفقهية فـ (ليست بالجدة التي تعد فيها اختياراتٍ تستأهل الدرس والاعتناء) [371].
كان العلامة ابن عثيمين بشرحه الممتع قبل هذا الكتاب مجدِّدًا، وكان في تحريره للمسائل جدة وابتكار، لكن اختياراته هنا ليست بالجدة التي تستأهل معها الاعتناء، وأما كتابه فجودته واضحة لتفعيله الآلة المعرفية في حدود زاده الذي بلغ به أن يكون من حيث الجملة أحسن من أقرانه، فأين هي قصة العودة بالعلم إلى الأمر الأول!

وأما يعقوب الباحسين فبعد أن كان في تلك المقالة مبدعًا مجددًا، يأتي في هذا الكتاب بصورة متناقضةٍ تمامًا، وذلك في سياق قول الكاتبَين حين حديثهم عن الاشتغال السلفي الأصولي: (أبرز المتخصصين المتمكنين السعوديين أو الذين في السعودية كيعقوب الباحسين وعبدالكريم النملة، لم يبذلا جهودا تجديدية حقيقية في العلم، وليسا بمحرِّرين للطريقة السلفية يعون التداخلات بين الكلام الأشعري والاعتزالي وبين أصول الفقه) [299].
يعقوب الباحسين في تلك المقالة مبدعٌ مجددٌ تعدَّى تحريره إلى شيءٍ من مناهج النظر، واستطاع العودة بعلمه عودةً تامَّةً أو غالبةً إلى ما كان عليه الصدر الأول، وهنا نراه لا يبذل جهودًا تجديديةً حقيقيةً، ولا يعي التداخلات الكلامية في المدونة الأصولية!

فانظر كيف تتحكَّم رسالة الكتاب في عامل النقد ومستواه .. وأقرب من هذا الانعطاف زمنًا انعطافٌ آخرُ محيِّرٌ في باب التقييم للاتجاهات والأشخاص ، وذلك أن الكاتب في كتابه "اختلاف الإسلاميين" قرَّر أن بين سلفية الإسكندرية وبين التيارات المسماة بالسرورية فروقًا مؤثرةً في الرؤى والاختيارات، وإن كانت جميعًا تنتظم في إطار الحركية [63]، بينما في كتاب "ما بعد السلفية" وبعد سياق واقع حزب النور الذي مرَّ بانتكاسةٍ مُرَّةٍ يقرر الكاتب الاكتفاء بعرض تجربة حزب النور، ويذكر من أسباب ذلك (أنه نموذج كل النماذج كما يقال، فالنماذج المتنوعة للاشتغال السياسي الحركي قد مرَّ عليها هذا التيار وتقلَّب بينها، وقراءة حالته في تطوراته تعد نموذجًا لهذا التيار كله) [468] .. فانظر كيف تنطمر تلك الفروقات المؤثرة في جنب تقديم حزب النور بأطواره كمُمَثِّلٍ لشتَّى تجليات الاشتغال السياسي الحركي للسلفيين.

ثانيًا: التناقض الدلالي
صيغ التعميم - في الخطاب الما بعد سلفي - تعبِّر عن نمط سائد منتشر، وإن لم يكن مستغرقًا ولا حتى غالبًا، فلك أن تعمِّم أحكامك التقويمية على الأفراد والجماعات وإن كانت الكفَّةُ راجحةً لنقيضها، (فإن التعميم لا يساوي الاستغراق، التعميم إشارة إلى الكثير السائد، سواء كان مستغرقًا أم لا، وجلُّ ما تسمعه في نقد التعميمات = خطأ وعجمة لسانية) [14-15] .. هذا التقرير يمثل استراتيجية خطِّ رجعةٍ للكتاب، حيث إنه يتضمَّن كثيرًا من العمومات المنفلتة التي يحتاجها الكتاب في صياغة رؤيته الموجَّهة، ومع ما في هذا التقرير وإنزاله على إطلاقات الكتاب من مغالطة إلا أننا نرى الكاتبَين قد تأرجحا، ففي حين يجعلون من هذا التقرير وقاية نقدية لإطلاقاتهما، فهم لا يراعونه في التعامل مع إطلاقات غيرهما، وأنا أورد بعضَ الشواهد على ذلك:

أمَّا الشاهد الأول فقد ذكر الكاتبان أن هناك حالة ارتباك أصابت كثيرًا من الباحثين المعنيين بشأن الحركات الإسلامية حين يتناولون السلفية تناولًا مفاهيميًّا، وساقا على سبيل المثال قول أ. هاني نسيرة: (للسلفية آليات استدلالية خاصة بها، ترفض فيها القياس والاستحسان والإجماع)، ثم علَّقا بما نصه: (تأمَّلْ في هذا الكلام العجيب ودلالته شديدة الوضوح على الارتباك والخلل المعرفي الذي يسود هذه الدراسات عن السلفية) [23].
هذا التقريرُ صحيحٌ في ذاته، لكنه حسب رؤية هذا الكتاب فينبغي ألا يكون كذلك.
بيانُه أن الكاتبَين قد قرَّرا أن الشيخ الوادعي (ينكر القياس والإجماع، ليكتفي بنصوص الكتاب والسنة في الفقه والإفتاء) [251] .. هذه واحدة
وثانية: قرَّر الكاتبان أن الوادعي كان (له أثر سلبي على عموم الاتجاه السلفي في الاشتغال الفقهي) [355]، وقالا: (إن هناك تسرُّبًا وادعيًّا في اللاوعي بالذات، فإن كثيرًا من مفاهيم الوادعي حول الفقه هي مفاهيم شاعت في الأوساط السلفية) [365].

وعليه، فما دام أن التعميم يُكتفَى فيه بالكثرة وإن لم تكن مستغرقة ولا غالبة، وأن الوادعي ينكر القياس والإجماع، وأن للوادعي أثرًا سلبيًّا على عموم الاتجاه السلفي في الاشتغال الفقهي = فإن قول أ. هاني نسيرة (للسلفية آليات استدلالية خاصة بها، ترفض فيها القياس والاستحسان والإجماع) قولٌ - حسب معطيات الخطاب المابعد سلفي - صحيحٌ بامتياز.
ولعلَّ قائلًا أن يقول إن الكاتبين قصدا كثيرًا من مفاهيم الوادعي، وليس بالضرورة أن يكون من هذا الكثير رفضُ القياس والإجماع، وهنا يتولى الكاتبان مهمة الإجابة، ليقولا: (الوادعي الذي يقارن القرآن بالمتون الفقهية ... والذي ينكر القياس والإجماع وهما الدليلان قليلا الجدوى في الاشتغال الفقهي السلفي بعموم، سواء قالوا بحجيتهما أم لم يقولوا = هو في كل ذلك ممثل لاتجاه سلفي شائع، وليس حالة فردية) [366].
فلماذا يطالبنا الكاتبان بعد ذلك بتأمل هذا الكلام العجيب الدال على الارتباط والخلل المعرفي في التعاطي مع السلفية، والحال أنه منساقٌ مع أبجديات الخطاب الما بعد سلفي؟!

لكن لما كان ذاك التقرير آتيًا لتحقيق غرضٍ وظيفيٍّ لا منهجيٍّ، تُطالِعُ في جنبات الكتاب بعض حالات الارتباك في تفعيله، ومثلُ هذا التقريرات التي تمليها الأغراض الوظيفية دون رعاية للأبعاد المنهجية تُفسِدُ العلم وتجعله شَرَعًا لكلِّ طاعن، فما دام أنه يُكتفى في التعميم أن يُطلق على نمط منتشر وإن لم يكن غالبًا فيمكننا أن نرسل إطلاقات فجَّة متعلقة بالعلوم الإسلامية وأعلام المسلمين، يمكننا أن نقول مثلا: إن فقهاء المسلمين علماءُ سوء، والفقه الإسلامي فقه سطحي لا التفات له إلى العلل والمقاصد، وذلك أن وجود علماء السوء في شريحة الفقهاء وإن لم يكن كليًّا ولا غالبًا لكنه يمثل نمطًا سائدًا إذا استعرضنا التاريخ الإسلامي، وأما الفقه فكثيرٌ هم الكَتَبة في الفقه ممن تسيطر عليهم نزعةٌ ظاهريةٌ تُعرِضُ صفحًا عن توخِّي علل ومقاصد الأحكام، وهلمَّ جرًّا من أشباه هذه الإطلاقات.

وقريبٌ من هذه الممارسة الوظيفية المنفلتة نرى الكاتبَين في سياق نقدهما لتعامل السلفيين مع مرجعية فهم السلف يقرران تقريرًا سائلًا جرَّهما إليه محض المماحكة، وذلك بقولهم: (إن أول خطوات انتزاع السلفية المعاصرة من حالة السبات الوثوقي التي تعيش فيها هي أن نبين للمنتسبين لها حقيقة صلبة، وهي أن السلفي لم يحل مشكلة التنازع التأويلي للكتاب والسنة بأن يرد الناس لفهم السلف، والسبب في أن المشكلة لم تحل بذلك يعود إلى أن ضبط أقوال السلف ومقاصدهم وأحوال هذه الأقوال اتفاقًا واختلافًا ثبوتًا ودلالةً = يمر بالضرورة عبر الذات المتلقية الناظرة في كلام السلف. وبالتالي فإن أقوال السلف نفسها ستعاني نفس إشكالية التنازع التأويلي) [11] .. لمثل هذا التقرير قلتُ بأن هذه المراجعة التي يقدمها الكتاب هي من جنس سوابقها من المحاولات المناوئة للسلفية التي قدمت نظرات ناقدة للسلفية بكثير من السيولة المعيارية والانفلات المنهجي والانطباعات المرسلة، هذا التقرير من جنس التقرير القاضي بتجاوز ظواهر النصوص لكونها (تختلف عند القارئ نفسه بحسب أحواله وأطواره) [علي حرب، نقد الحقيقة: 6] .. أراد الكاتبان أن يطبَّا زكامَ خطابٍ فأحدثا به جذامَ منهج!

أما الشاهد الثاني فكان من نصيب الإمام أحمد، فقد أطلق الإمام أحمد وصف التجهم على من يقول: (لفظي بالقرآن مخلوق)، فاعترض الباحثان على ذلك، وقالا: (ورد فعل أحمد وجوابه غاية ما يمكن بعد تخطئته أن يُعتذر عنه، وأن تتم تخطئة إطلاقه للتجهم على القائلين بهذا القول دون تفصيل) [95]، ولم يكتفيا بالوقوف عند حدِّ هذا التخطئة الغافلة، بل أسرفا حتى وصفا الإمام أحمد من أجل هذا التعميم بالبغي وعدم العدل، وأن هذا البغي قاد بعد وفاته (إلى بغي واسع) [95]، وقرَّرا تحمُّلَ الإمام أحمد لمسؤولية بعض تصرفاته تجاه أهل البدع (التي أعانت بعد ذلك على تطور تيار الغلو الحنبلي في القرنين الرابع والخامس) [191].
يظن الكاتبان أن من التجرد للحق والبسالة البحثية أن تتخطى رقاب الأئمة وتأتيَ على مثل الإمام أحمد بهذه الشناعة، بل يأخذان على السلفية أنها لم تستطع (الرجوع بالتخطئة على موقف أحمد رحمه الله) [95]، وهذه المراهقة النقدية هي التي جرَّأت الكاتبَين على كثيرٍ من الخطل .. والمهم هنا أن الكاتبَين لم يتعاملا مع إطلاق الإمام أحمد حسب فلسفتهما التعميمية، بل حاكما إطلاقه واعترضا على عدم تفصيله، وتعاملا معه بما يرونه خطأً وعجمةً لسانيَّةً.

وأما الشاهد الثالث فراح ضحيته الإمام البربهاري، فقد أورد الكاتبان قول البربهاري: (إذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده، ويريد القرآن، فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم من عنده ودعه) .. ثم انتقداه بما حاصله غَلَطُ إطلاقِ هذا التوصيف من البربهاري، إذ كيف يطلقه وقد يكون الباعث على رد الأثر باعثًا صحيحًا؟ ومن ضمن ما جاء في نقدهما لهذا الإطلاق قولهم: (لم يشترط البربهاري في معيارية ذلك الأثر شرطًا، كأن يكون صحيحًا، أو مشهورًا، أو مقبولًا، أو مجمعًا عليه، أو عن الفرق بين الأثر الذي هو حديث نبوي، أو الأثر الذي هو قول صحابي، أو من بعده، أو أحمد، أو غيره من أهل الحديث) [114].
هل يُعقَل أن يريد البربهاري بمقالته تلك ما يشمل الأثر الضعيف، أو الاحتجاج بقول كل عالم مثلًا؟!
وهل انتقاده بمثل هذا إلا عجمة لسانية أفرزها سياق الحط على معمار البربهاري؟!
هنا يغيب أنَّ نقدَ التعميماتِ عجمةٌ لسانيَّةٌ، وأنَّ من فصيح الكلام وجيده الإطلاقَ والتعميمَ عند ظهور قصد التخصيص والتقييد!

واستطرادًا أقول: الخطاب الما بعد سلفي الذي يتخذ من وظيفة مؤرخ الأفكار جُنَّةً لأساليبه العجاف في التعامل مع العلماء قديمًا وحديثًا يتحدَّث عن البربهاري بسياقٍ لا يخرج به قارئ الكتاب إلا بالتقليل من شأن هذا الإمام الذي جدَّ في نصرة السنة، قارِن مجموع كلامهم عنه وطبيعة خطابهم وتناولهم لهذا الإمام بالخطاب الذي قدَّمه سلطان العميري في مقالته المنشورة على الشبكة بعنوان: "تعقبات على كتاب شرح السنة للإمام البربهاري"، حيث اتخذ من العلم والأدب عُدَّةً لكتابته النقدية لكتاب هذا الإمام، ثم ختم مقالته بتقرير أن الأخطاء التي وقعت في كتاب هذا الإمام مما يجب إنكاره وبيان خطئه، ثم قال: (ولكن هذا لا يعني اتهام الإمام البربهاري، أو القدح في عمله أو دينه، ولا يبرر لأحد أن يتطاول عليه، أو لا يلتزم بالأدب معه، وإنما غاية ما يدلُّ عليه بيان الخطأ ولزوم إظهار مخالفته لمقتضيات النصوص الشرعية، مع حفظ حقوق الإمام البربهاري، ومراعاة مكانته وقدره وجهوده) قارن هذا بخطاب يصف تقريرات البربهاري أنها (بطريقة أو بأخرى محاولة تشكيل جيتو حنبلي، ومجتمع يتسم بالنقاوة والطهورية الاعتقادية) [113].

أما الشاهد الرابع فيتعلق بتقييم الخطاب الصحوي وتصوره عن الغرب، وهنا تذهب فلسفة التعميم غير المستغرق ولا الغالب إلى الفناء، حيث يقدِّم الكاتبان نظرة نقدية للتصور الصحوي عن الغرب، ويصفانه لذلك بعدم معرفة الآخر، وإذا نظرنا في محصلة نقدهما وجدناه مجرَّد نقدٍ جافٍّ لتعميمات، فهما ينتقدان الخطاب الصحوي الذي يرى المجتمعات الغربية وضعيةً لا روحانيةً، منحلةً أخلاقيًّا، وينتقدان هذا التصور الشامل لـ (النواميس غير المضبوطة بضابط) [587]، وفي خصوص الانفلات الجنسي يعترضان على الخطاب الصحوي بأن (ذلك ليس صفة أصيلة في كل الغرب، ولا في النماذج المركزية فيه) [588].

فإذا كان الانحلال الخلقي سائدًا في المجتمع الغربي فما الذي يمنع من توصيفه بذلك، وكيف يُعترض عليه بأن هذا ليس منطبقًا على كل الغرب، وأين هي طبيعة التقييم التعميمي الما بعد سلفي من هذا النقد للخطاب الصحوي؟
لمثل هذه الشواهد قيل بأن فلسفة التعميم تلك ليست منهجية، وإنما أتت لغرضٍ وظيفيٍّ يضفي على الظلم تأويلًا، ويجرِّئه على البغي، من جنس قول الكاتبَين: (السلفي يُنزِل كل ذنب في الدين بمنزلة أعظم ذنب فيه، فالحليق والمدخن والمقصرة في حجابها، كل هؤلاء عنده من نفس جنس المنافقين والزناة والسكارى، إن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال) [600]، وهما إن تخلصَّا من هذه المهاترة الصحفية بأنهما يعنيان نمطًا سائدًا وإن لم يكن مستغرقًا ولا غالبًا، فللمعادي لأهل الإسلام أن يقول بأن المسلمين سُرَّاقٌ، قتلةٌ، وظَلَمة، وما شاء وراء ذلك، فإذا ما عُورض قال: أنا إنما أتحدث عن نمط سائد غير مستغرق ولا غالب! ولا شك أن كثيرًا من المسلمين تنطبق عليهم هذه الصفات، فكيف المخلَصُ من ذلك؟
ثم إن فلسفة التعميم هذه إذا كانت تبيح للخطاب الما بعد سلفي أن ينقد السلفية اتكاءً على كثيرٍ غير غالب، ففي المقابل ربما أتانا كاتبٌ تبجيليٌّ بذات المنهج ليمدحها اتكاءً على الكثير المقابل، وها هنا تكون صورة الواقع تبعًا لهوى الناقد، فهذه الفلسلفة التعميمية - على فرض صحتها - لا تعين على إحكام رسم صورة المشهد، بل هي أداة للانتقاء بين كَثرتين!

ثالثًا: التناقض الوظيفي
كما تناقض الخطاب الما بعد سلفي تقييميًّا، ودلاليًّا، فقد تناقض وظيفيًّا، فتارة نراه يتعامل مع المفاهيم بصفته مؤرخًا للأفكار، وثانيةً بصفته فقيهًا، وثالثةً بصفته فيلسوفًا، وأمورًا بين ذلك كثيرا.
(في هذا الكتاب نؤرخ للأفكار ونحللها) [11] .. هذا أولُ تمثُّل وظيفي للكاتبين يقرران فيه أن وظيفتهما تأريخ الأفكار وتحليلها، ويلحُّ الكاتبان على بيان وظيفتهما هذه في كثير من المواضع، فمثلًا حين تحدَّثا عن معيار الخروج من إطار السلفية المعاصرة، واستعارا من الشاطبي ضابطًا لذلك، عادا ليؤكدا للقارئ أن عملهم هذا ليس حكمًا قيميًا: (ونؤكد مرةً أخرى: هذا التصنيف معرفيٌّ وليس عقديًّا، بمعنى أن الغرض منه هو الفصل المعرفي بين السلفية المعاصرة وبين التيارات الأخرى، والذي لا بد لمؤرخ الأفكار من القيام به، وليس نفيًا لشرف النسبة لعقيدة السلف ومنهجهم عن غير السلفيين) [74] .. وحين تحدثا عن ابن تيمية وذكرا أنه يشكل فارقًا بين مرحلتين قالا: (هذا حكمٌ معرفي وموضوعي بغض النظر عن الحكم القيمي على هذا التغيير أصلًا) [157] .. وعن مدى صحة تمثل ابن تيمية لمذهب السلف يقول الكاتبان: (لن نعتني هنا بتحرير هذه القضية، فليست موضوع بحثنا، لكننا نريد هنا معالجة القدر الذي يفيد في فهم تطور السلفية، وعلاقة هذه التحققات التاريخية بالتحقق الأخير) [160].

هذه جملةُ مواضعَ بيَّن فيها الكاتبان طبيعة وظيفتهما في الكتاب، فهل التزما بها؟ للجواب عن ذلك مقامان:
الأول: أن واقع الكتاب يشهد أن الكاتبين لم يلتزما بذلك، بل تأرجحت وظيفتهما وتناقضت، فكثيرًا ما يبدي الكاتبان حكمًا قيميًّا على المفاهيم المبثوثة، بل ربما كان هذا هو الغالب، فلم التوكيد في مواضع على كون وظيفتهما تأريخ الأفكار؟ يجيب عن ذلك:
المقام الثاني - وهو المهم -: أن هذا التناقض تناقضٌ موجَّه، فالباحثان في كثيرٍ من المباحث المركزية التي تشكِّل كبرى المفاهيم السلفية يلبسان جُبَّة الباحث المؤرخ الذي لا يلتفت لنقد ما يقوله الناس، لكن في المباحث المتعلقة بعرض النتاج السلفي يتحول هذا المؤرخ البريء إلى ناقدٍ شرسٍ.
مارس الكاتبان تقويمًا عريضًا للتحقق السلفي الوهابي، وأسرفا في نقده، وجعلا من الممارسة الوهابية مرجعًا أساسيًّا من مراجع الغلو، في ذات الفصل، وفي سياق حديثهما عن التكفير بالاستغاثة بغير الله والتأسيس الوهابي لهذا التكفير يتساءل الكاتبان: (هل يمكن القطع بإثباته للسلف، وبالتالي يكون معتقدًا سلفيًّا ويُخرج المخالف فيه من السلفية؟ الجواب: ليست هذه وظيفة مؤرخ الأفكار، وإنما هذا بحث الفقيه والكلامي) [178]
وفي مدى صدقية تمثيل أهل الحديث للصحابة في أبواب التوحيد القدر يقول الكاتبان: (إذا اعتبرنا أننا في هذا الكتاب نؤرخ للأفكار ونحللها فقد انطلقنا من مسلمة أن أهل الحديث في أبواب التوحيد والقدر أصدق تمثيلًا للصحابة ومنهجهم من الأشاعرة والماتريدية، وهي مسلَّمةٌ لا يهم إن كنا نرى على المستوى الذاتي صحتها من عدمه، فنحن نسلِّم بها هنا تنزُّلًا) [11].

فاعجَبْ حين يستعرض الكاتبان آحاد الأدلة ويُعمِلان النظر في تزييفها في مسائل جزئية، ويمرَّان في قضية تمثيل أهل الحديث للصحابة، ومسألة تكفير المستغيث بغير الله تعالى مرورَ استحياءٍ منزوعَ الرساليَّة!
يبلغ التجافي عن الوظيفة التأريخية حدًّا ينص فيه الكاتبان على أن إظهار الخلل السلفي من مقاصدهما، فأين هو التجافي عن الأحكام القيمية؟!

يقول الكاتبان: (... ونقد هذه الفكرة ليس فقط يفيد من ناحية بيان الخلل الحاصل في تصور إصلاحي عند فصيل من فصائل السلفية المعاصرة، ولكنه أيضًا يظهر الخلل الحاصر في التكوين المعرفي للاتجاه السلفي، كما هي خطة هذا الفصل كله) [557] .. وحين حديثهم عن برنامج السلفية وجهاز أجوبتها قالا: (نرمي من خلال استعراضها ونقدها الكاشف عن خلل كثير من مبانيها إلى الكشف عما نعتقد أنه سيكون سببًا فيما نعتقد أنه سيكون أفولًا للسلفية المعاصرة، عن طريق فشل أجوبتها الثقافية - العلمية -، وغير الثقافية - الحركية والقتالية - ...) [432].
مؤرخ الأفكار في الخطاب الما بعد سلفي إذًا ليس مجرَّدَ ناقلٍ أمينٍ للمعلومة، بل رأيناه يعيد تركيب المشهد، وينهض لتقييم تفاصيله وجزئياته، وهذا ما حَفَز لاختبار محاولة التركيب هذه، ليكشف لنا الاختبار عن خللٍ بالغٍ على مستوى التصورات والتقييمات، خاصةً وأنَّ هذا الخطاب يتحدث عن مشهدٍ كبيرٍ جدًّا، يتمدَّدُ في بلدان كثيرة، ويعود لأزمنة ممتدة، وله أنشطة وعقول واتجاهات، كلُّ هذا يجعل أيَّ تأريخ له معرَّضًا للاختزال والانتقاء بحسب رغبات المؤرخ، وإن تظاهر بالحياد.


******


أزمة التقييم


كان لتقييم الكاتبَين عدة مظاهر توزعت بين أروقة الكتاب، لم يكن التقييم فيها منساقًا في أوعية ضابطة، ولا جاريًا على سنن المنهج، ولا العدل، بل جاء بصفته أزمةً من أزمات النظر النقدي الذي تمثَّله الخطاب الما بعد سلفي .. ولهذه الأزمة تمثلاتٌ تتعلَّق بتقييم المنجَز تارةً، وتقييم الأفراد والجماعات تارةً أخرى، وفيما يلي كشفٌ لهذه التمثُّلات:

أولًا: اختزال المنجَز
كان من المفترض أن يكون الكتاب عدلًا في تقويمه ما دام يدَّعي كاتباه أن مهمتهم فيه تأريخ الأفكار وتحليلها، فهذا يستلزم منهما اتزان النظر في جانبَي المدح والقدح .. بدهيٌّ أنه ليس بشرطٍ أن تكون الصفحات موزعة عليهما بالتساوي، بل العدل أن ينال كلُّ جانب حقَّه من النظر .. لكن واقعَ الكتاب يدعم ما تفترضه هذه الورقة من أن ما سيطر على عقل الكاتبين من انتقاص السلفية كان هو المحرِّكَ الأكبرَ لمادة خطابهم.

يُستدلُّ على ذلك بأن الكاتبَين حين اتجاههم لحقلٍ نجد عبارتهم تتسع للنقد وتضيق جدًّا عن الثناء والاعتراف بالمنجَز وإن كان جليلًا، ولذلك شواهد:
أمَّا الأول فمعلومٌ أن الاشتغال السلفي في علم الأصول شهد ضمورًا كبيرًا بين طلابه وعلمائه، وذلك مُدرَكٌ حين نرى واقع النشاط التأليفي الحر والبحث الأكاديمي والدروس العلمية، وهذا يقرُّ به السلفيون أنفسهم قبل غيرهم، بل بلغ الحال بكثيرٍ منهم إلى أن زهَّد في العلم نفسه، ولذلك أسباب عدَّة [انظر بعضها في: استدلال الأصوليين بالكتاب والسنة على القواعد الأصولية لعياض السلمي: 6]، وهذا حين يوصف فبقدرٍ من التعقُّل دون إسراف نقدي يزعم معه الكاتبان أنه (ليس هناك اهتمامٌ سلفيٌّ حقيقيٌّ بأصول الفقه، تلك الحقيقة الراسخة الأولى التي يصح معها أن نسائل العنوان نفسه سؤالًا وجوديًّا، عن مدى وجود اشتغال سلفي بأصول الفقه أساسًا؟) [289]، ودون مماحكة استعلائية تتحدث عن مثل ابن عثيمين بأن (في بعض مباحثه الفقهية ما يشي باطلاعه الأصولي إلى مستوى "روضة الناظر" لابن قدامة)! [293].

فمع ما عانته السلفية من ضعف الاهتمام بأصول الفقه، فإن ذلك لا يعني مدَّ النقد ليبلغ التساؤل حول وجود اشتغال سلفي في الأصول أصلًا، بل الشأنُ أن يُقال بأن هذا الضعف وإن كان متحققًا، لكن شواهد الواقع خلال السنوات الماضية تُرشِد إلى أن الاهتمام السلفي بعلم الأصول يتصاعد شيئًا فشيئًا، إنْ على المستوى البحثي، أو التدريسي، وكذلك النشاط الأكاديمي، شأنُه في ذلك شأن سائر العلوم التي نرى السلفية تمدُّ النظر فيها وتسعى في النهضة بها، سواء في ذلك ما كان من علوم الآلات أو الغايات.
سطحية التعامل هذه حين تعرض عن الحفر في الإشكالات المعمَّقة في التداول السلفي الأصولي، وتتجاوز السؤالات المنهجية المطروحة عن مدى فاعلية أصول الفقه في الاستثمار الفقهي، ومدى نجاعة الاستغناء بالمعالجات الفقهية عن المدونة الأصولية ما دامت تبحث غالبًا عن أصول مقدَّرة في الأذهان، وهل يمكن تجريد أصول للسلف تباين المناهج الكبرى الممثِّلة للمدارس الأصولية المشحونة بالكلاميات، هذه وغيرها من الإشكاليات لا تنال حظَّها من النظر، لأن خطة هذا الفصل هو إظهار الخلل، لا الدراسة المنهجية للإشكاليات الحقيقية عرضًا ونقدًا.

بعيدًا عن هذا، فالخطاب الما بعد سلفي يلحظ تناميًا في الاشتغال السلفي الأصولي، لكنه لا يعطي لهذا الاشتغال المتنامي سوى ثلث صفحة من أصل عشرين يقول فيها: (ثم عرفت السعودية في الربع قرن الأخير نشاطًا أصوليًّا متمثلًا في أقسام أصول الفقه في جامعاتها، والتي أنتجت أقسام الدراسات العليا فيها عددًا هائلًا من رسائل الماجستير والدكتوراه في موضوعات أصول الفقه المختلفة، مع الاشتغال بتحقيق كتب أصول الفقه الحنبلية بالدرجة الأولى) [293] ثم يمضي سريعًا، بلا إضفاءِ أثرٍ لهذا الواقع في تقويم الاشتغال السلفي.
ألم يكن الحقيقُ بدراسةٍ تتناول واقع السلفية الحالي وتنظر في عوامل أفولها أن تسلط النظر على الواقع ولا تستغرق في التاريخ؟ أليست هذه صورة عكسية حين يقوَّم الاشتغال الأصولي ويُعطى نتيجة متدنية بمعيار منقلب لا يعطي الواقع الذي تعيشه السلفية سوى إشارة عابرة؟
وقبل أن أنتقل إلى الشاهد الثاني أذكر أنه لا حاجة حين تقويم مستوى الاطلاع الأصولي للعلامة ابن عثيمين أن يُبحث في بعض مباحثه الفقهية عن بعض اختياراته الأصولية لنقف على فتحٍ جليلٍ مفاده أن في بعض أبحاثه ما يشي إلى أن مستوى اطلاعه يبلغ روضة الناظر!

فزيادةً على ما في هذا التعبير من لوثة استعلاء، فهل من رعاية المنهج واحترامه أن يُستنتج الاطلاع الأصولي لابن عثيمين من خلال كلامه في مسألة الإسبال ويتم الإعراض عن كتبه ودروسه الأصولية!
هل من المنهج أن تتم ملاحقة "نهاية المطلب" للجويني ليُنظر في مستوى اطلاعه الأصولي ويُعرَض عن "البرهان"، أو يُنظَر في ذخيرة القرافي بحثًا عن ما تناهت إليه نهمته الأصولية دون التفات بـ"نفائس المحصول"؟!
هذا الاستلقاء البحثي لو أنه قام بمراجعة كتب الشيخ: الأصول من علم الأصول، وشرحه له، وشرحه الصوتي لمعاقد الفصول، والمكتوب لمختصر التحرير، وغيرها = لخرج بنتيجةٍ أكثرَ تعقُّلًا، وقد كان أيسرَ للكاتبَين أن يطالعا فهرسَ المراجع الذي ألحقه الشيخ بكتابه الأصولي الذي ألفه للمعاهد العلمية ليجدوا أن مراجعه تضمُّ: (شرح مختصر التحرير، منهاج الوصول للبيضاوي وشرحه، شرح جمع الجوامع للمحلي مع حاشية البناني، روضة الناظر لابن قدامة مع شرحه لابن بدران، المسودة لآل تيمية).

الشاهد الثاني على اختزال المنجَز أن الكاتبَين لما عرضا للاشتغال السلفي الفقهي في 71 صفحة [310-381] اعتنيا بتأريخ هذا الاشتغال، ونفخا في نقده مع إعراضٍ شبهِ تامٍّ لمنجزاته، فالمنجَز كعادته لا يأتي في صلب المادة، بل إنما يأتي - إن أتى - استطرادًا، وهذه المرة أتت الإشادة مرتين، كلُّ مرة في نصف صفحة، ليكون مجموع المنجز صفحةً من إحدى وسبعين صفحة!
أما المرة الأولى فكانت المنجَزُ فيها غريبًا إذا ما قيس بالجهود التي سُلِّط عليها النقد، وذلك حين كان المنجَزُ عبارةً عن دورات في الفقه الحنبلي، وموضوعات إنترنتية، وبعض الدروس المحلاة باسم الملكة الفقهية، وأنا أُعرِض عنه هنا، لأنه مدحٌ بما يشبه القدح، ففاتنا إذًا من هذا المجموع نصف صفحة، وبقي النصف الآخر، وهو المتمثل في قولهم: (ونشير هنا إلى نهضة فقهية سلفية فيما يتعلق بفقه المستجدات الفقهية عموما وفقه المعاملات المالية المعاصرة خصوصا، وقد ساعدت عليها حاجة سوق المصرفية الإسلامية الخليجية للتأصيلات الشرعية، وقد برزت عدة أسماء سلفية في هذا المجال، نذكر منها [عبدالرحمن بن] صالح الأطرم، وسعد الخثلان ويوسف الشبيلي من السعودية، وعلي السالوس من مصر، والحقيقة أن المشاركة السلفية في هذا المجال تعد مشاركة مميزة وفعالة، تجاوزت كمًّا وكيفًا جهود الأزاهرة المصريين وتلامذتهم من الفقهاء المنتسبين للإخوان المسلمين، ليكون الجيل الثالث من الإنتاج الفقهي المؤثر في ساحة المستجدات الفقهية والمعاملات المصرفية = سلفيًّا بصورة ظاهرة) [377] ثم مَضَيا!

وما تقدَّم في الشاهد الأول يُساق هنا، إذ كيف والحال أن الكتاب يبحث في توصيف السلفية المعاصرة، يستغرق في مرحلة مضت، ويسلط نقده عليها، ولا يَهَب المنجَز الحاضر شيئًا.
ثم إن هذا المنجَزَ ليس منجزًا متواضعًا يُشار إليه في بضعة أسطر، فأولًا هو يرفع عن السلفية التهمة الجائرة بالعجز الفقهي التي رماها الكاتبان على السلفية والتي استظهرا أن من أسبابها نشأة هذا الفقه (في طوره الحديث في أجواء البداوة النجدية)! [375] - هذا الاستجلابُ الضامرُ لمفهوم البداوة في توصيف الفقه الإسلامي شائعٌ في المدونات الحداثية والكتابات الصحفية - ولكنه لا يكفي لرفعها عند الكاتبَين، وثانيًا فإن البحث في المعاملات المالية المعاصرة يمثِّلُ عَصَب الفقه المعاصر، حتى صارت أنظار الفقهاء فيه مناهجَ ومدارسَ، ومع ذلك لا ينال من هذا الكتاب سوى نصف صفحة، ولك أن تقلِّب النظر في علل ذلك.

أمَّا الشاهد الثالث فكان من نصيب البحث في الإصلاح الثقافي عند السلفية، فمع هذا التنامي المشاهَد في اهتمام السلفية بالإصلاح الثقافي إلا أن إظهار الخلل الحاصل في التكوين المعرفي للاتجاه السلفي يمثل (خطة هذا الفصل كله) [557]، وبالتالي فالحديث عن المنجَز ولو كان هو الواقع الحالي للسلفية ليس بذي بال، بل يأتي استطرادًا أو إشارةً، وعلى ذلك سار البحث في الإصلاح الثقافي، فقد تسلَّط هذا المبحث على التقليل من شأن الإصلاح الثقافي السلفي بعامَّة، مع تحديد عطاء محمد قطب وسفر الحوالي كعينة مجهرية، ويتمُّ الغضُّ عن المنجَز الحالي إلا بإشارة عابرة مفادها: (من الصحيح أنه نشأت مؤخرا هبة جديدة من الشباب السلفي تسعى لتجويد أدواتها المعرفية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وحتى العلمية، بالإضافة لاطلاعها على واقع عصرها، وصاحب ذلك تأسيس العديد من مراكز الأبحاث الجديدة، ولكن الطريق ما زال طويلًا أمام هذه الجهود حتى يكون نتاجها نتاجا قادرا على مضارعة نتاج العلمانيين في تلك المجالات، ولكن الخطوة في نفسها مقبولة ومطلوبة بلا شك) [574].
أن يكون الطريق ما زال طويلًا فهذا أمرٌ لا علاقة له بالتقويم المجمل للسلفية، فالشأن أن هناك هبَّة جديدة ترتفع بهذا الإصلاح رتبة، وهذا ما يتعارض مع نزوع الكاتبَين إلى ملاحقة الخلل وجعله لوحده عنوانًا على مآل السلفية المعاصرة.

ثانيًا: إعادة تأويل المنجَز
هذه السمة تعني إعادة تأويل المنجَز القائم بما يخرجه عن أن يكون مكتسبًا سلفيًّا .. ومن شواهده أن الكاتبَين حين تحدَّثا عن الاشتغال السلفي بعلوم العربية، وبيَّنا تواضع الاشتغال السلفي بعلوم العربية بما يصل إلى حدِّ الهجر لبعضها، ذكرا أن السلفيين (يعتنون بدرجة ما بالنحو، ثم بدرجة أقلَّ بالبلاغة، ثم بدرجة أقلَّ جدًّا بالصرف) [382]، ومع كونهما لم يرفعا من شأن الاهتمام السلفي بالنحو، بل هو اهتمامٌ (بدرجة ما) فقط، إلا أن ذلك أثار حفيظة النقد لديهما، فكان أن أُعيدَ تأويلُ هذا الاهتمام ليتعلق بتجنب اللحن فقط، وعن ذلك قالا: (وربما يفسر الاهتمام بالنحو أمران: النشاط السلفي في مجال حفظ القرآن، والقراءات، وهذا يساعد على تقويم اللسان من جهة، ويدفع لدراسة النحو لتجنب اللحن من جهة أخرى .. والنشاط السلفي الدعوي الذي الدعوي الذي يقبح فيه بالخطيب أن يلحن في الخطبة كثيرًا) [382].
إذًا فالسلفيون لم يعتنوا بالنحو إلا لاشتغالهم بحفظ القرآن، والقراءات، ولئلا يزلَّ لسانُ خطيبهم فيلحن كثيرًا .. فأين هو فقه الوحي؟!
يأتي هذا التفسير في ضمن السياق التحقيري العام الذي استبطنه الكاتبان في تقويم الاشتغال السلفي بالعلوم والمعارف، فحتى هذا الذي يلهج به شيوخُ السلفية مفتتحَ دروسهم النحوية بأن الغرض الرئيس من تعلم النحو هو فهم الكتاب والسنة = لم يقنع به الكاتبان، ليستقيم لهما معمارهما النقدي للاشتغال السلفي المعرفي.

وفي صورة باردة من صور إعادة تأويل المنجز قرر الكاتبان أن السلفية المعاصرة تعيش خصومات أحمد وابن تيمية، وذكرا أن هذا مفارقٌ لما كان عليه الشأن في الأمر الأول من كون العقيدة عقيدةً يحياها الإنسان لا كما تحول الأمر منذ طبقة أحمد وإلى طبقة ابن تيمية من جعل العقيدة موضوعَ درس وسجال.
(ما بين العقيدة كحياة، والعقيدة كعلم) [97] يستفتح الكاتبان بهذه العبارة مبحثًا يبينان فيه أن العقيدة كانت عقيدةً يحياها الإنسان، فلم يكتب الصحابة رسائلَ فيها ولا عقدوا دروسًا عنها، ولا تأتي العقيدة كعلم إلا كشذرات حول سؤالات هنا وهناك، حتى أتت فتنة خلق القرآن، فـ (دفع الإمام أحمد بالسجال الكلامي إلى ذروته) [98]، ثم أتى ابن تيمية وقسَّم (الكلام والجدل إلى محمود ومذموم، وأنشأ معمارًا كلاميًّا بمنطلقات سلفية، ليكمل ما افتتحه أحمد) [99] .. وهكذا يظهر هذان الإمامان بهذه الصورة التي تبتعد بالعقيدة عن حاقِّ موضعها، ويُساق الكلام وكأن الإمام أحمد انتقل بالعقيدة لتكون محلَّ نزاع معرضًا عن أن تكون حياة يحياها الإنسان، كان الواقع العقدي حياةً فاعلةً حتى جاء الإمام أحمد ليحول بسجاله العقيدةَ من كونها حياةً فاعلة لتكون سجالًا ومجادلة، ويأتي ابن تيمية ليكمل ما افتتحه أحمد!

يتحاشى الكاتبان تقييم ذلك (وبعيدًا عن مسألة هل كانت الظروف تستدعي ذلك أم لا) [99]، ويختمان المبحث بأنه لا ينبغي أن نتعدى في خطابنا المجتمعي إلى النزاع الكلامي (إلا إن انتشرت الأهواء الكبرى بين العامة وكان ميزان الصلاح والفساد يوجب الدخول في هذا الباب، والمفاصلة المصلحية على أساسه) [100]، وهل كان صنيع الإمامين إلا ذلك؟ فلم الإعراض صفحًا عن تقييم نوعية السجال التي بلغاها، وسياق المبحث وكأنَّ نكسةً في التعاطي العقدي قد جنتها أيديهما؟!

وإيغالًا في هذا السياق الأجوف يعود الكاتبان بشائبةِ تهوينٍ من شأن غالب المنجز العقدي التيمي، وذلك بقولهما في سياق حديثهما عن ابن تيمية: (تحول الاشتغال العقدي درسًا وسجالًا حتى أصبح مركز مشروعه، وحتى كتب في ذلك ما نحسب أن لو اختصره إلى الربع لما كان ذلك تقصيرًا في البيان، ولعل ما حكي من أنه ندم في آخر عمره على اشتغاله بغير القرآن يرجع لهذا الباب) [99]، فهذا الندم التيمي يتم تأويلُه وصرفُه من سياقه العفوي ليكون واقعًا على ثلاثة أرباع المنجَز العقدي!

كان ابن تيمية واعيًا بوزن عطائه العقدي، الذي كان يناقش فيه أعتى الفرق العقدية في زمنه، ويلبِّي فيه حاجات أهل زمانه ويجيب على السؤالات الواردة عليه من أمصار المسلمين، تدمر وواسط وغيرها، ولم تكن مؤلفاته العقدية رسالةً جامعيةً حشاها صاحبها بالمتطلبات الأكاديمية حتى يرى الخطابُ الما بعد سلفي أن ثلاثة أرباعه مما يُندَم على الاشتغال بمثله!
هذا، ومن العجب أن يَصدُرَ النقد بمثل هذا ويُـمَدَّ ليجعلَ أصلُه خطابَ الإمام أحمد مرورًا بابن تيمية وانتهاءً بالسلفية المعاصرة، من العجب أن يصدر ممن كتب (اختلاف الإسلاميين، الدرس العقدي العاصر، ما بعد السلفية)، ولكأنَّ هذه المنجزات تُقدِّم رؤيةً إيمانيَّةً تجعل من عقيدة الإنسان حياةً يحياها يلتئم فيها العقل والقلب والحس الوجداني!
فبدلًا من الدَّأب على ما يعيد الناس إلى الدين الأول، يأتي مثل هذا الخطاب بهذه السمات ليزيد من دائرة الجدل، ويطيل طريق الإصلاح، فأين تلك (الأوزان النسبية) التي لم يكن من الصواب في نظر الكاتبين أن تُعطيها السلفية المعاصرة لـ (خصومات أحمد وابن تيمية) [99]؟

ثالثًا: الإعراض عن المنجز
المنجَز بعد التسليم بوجوده إما أن يُختزَلَ القول فيه، أو يُعاد تأويله بما يخرجه عن كونه منجَزًا، وثالث الطرق أن يتم الإعراض عنه كأن لم يكن، ولا يسلم من هذا إلا القليل.
وثمة شواهد على هذا الإعراض:
منها: إعراض الكاتبين التام عن الاشتغال السلفي النوعي في حقل الدراسات القرآنية الذي امتدَّ أثره على مستوى الأبحاث، والرسائل الأكاديمية، والدروس العلمية، والندوات والمؤتمرات المحلية والعالمية، وهذا الإعراض مع هذه النهضة العلمية التي يشهدها هذا الحقل المعرفي على مستوى الأفراد والمؤسسات يعسر تفسيره بغير ضمور النزاهة النقدية التي تمثَّلها الكتاب.

ومن شواهده في جانب الإصلاح الثقافي: وقوفُ الكاتبين عند محمد قطب وسفر الحوالي مع الإعراض عن النتاج السلفي الثقافي الآتي بعد ذلك على مستوى الأفراد والمؤسسات، وكان الوجهُ أن يُعتنى باليوم السلفي دون الاستغراق في أمسِه، اكتفى الكاتبان بإشارةٍ عجلى لهبة بحثية لمراكز سلفية، وقد تقدم ذكر ذلك، وأما الأفراد فأعرض الكاتبان عن شخصيات محورية في العطاء الثقافي المعاصر، ولعل أجلى مثال لذلك يتمثَّل في الإعراض عن إبراهيم السكران، الذي يمثِّل نقلةً نوعيَّةً لطبيعة الخطاب السلفي المعاصر ومستوى عطائه في الحقل الفكري والثقافي، كما نلحظه في كتابه "التأويل الحداثي للتراث"، وغيره من الكتب والأبحاث والمقالات، لكنَّ هذا المنجَزَ النوعيَّ لا يحظى بحضورٍ يوازي تأثيره حين تقييم الإصلاح الثقافي عند السلفيين.

ومن شواهد الإعراض ما يتعلق بقصة الحضور والغياب للأعلام والمواقف بحسب الأغراض المضمرة التي تحرِّك الدراسة ذات اليمين وذات الشمال، بوعي أو بلا وعي تبعًا لمدى سلطة فكرة تأفيل السلفية وغلبتها على مزاج النقد عند الكاتبَين، القصة التي سبق تفصيل أحداثها في مقالة (الاشتغال السلفي الفقهي على شاشة ما بعد السلفية) .

رابعًا: النقد الانطباعي
كثيرًا ما يأتي النقد في الخطاب الما بعد سلفي انطباعيًا غير متدثرٍ بمنهج، مضمَّخًا بنبرة استعلاء غير محمودة ممن يتصدَّى لعملية الإصلاح الدينيِّ عامَّةً، والسلفيِّ خاصةً.
طلبةُ العلم السلفيين في نظر الكاتبَين (يتسمون بالفقر الكامل في علوم الآلة والفقه المتني القديم) [647]، والكتب والمتون الفقهية (لا يفهمها أغلب السلفيين) [373] .. وهناك عسر شديد (يصل إلى حد التعذر في الاطلاع السلفي على كتب الفقه المذهبية التقليدية متوسطة الصعوبة ككتب الشربيني الشافعي والموصلي الحنفي مثلًا) [375] والعلم بالعربية، والآثار، والإجماع والخلاف (جميعها يفتقر إليها الاشتغال السلفي في الفقه) [363]، و(السلفية تبنَّت دعوةً دون امتلاك آلاتها) [357]، وإذا كان مقبل الوادعي قد أخذ النظرية الحزمية الظاهرية مع فقر مدقع من الأدوات العلمية، فهذا (قريبٌ من إشكالية السلفية النسقية عمومًا مع ابن تيمية) [354] بما يعني أن السلفيين قد أخذوا النظر التيمي مع فقر مدقع في الأدوات .. هكذا يأتي النقد مرسلًا انطباعيًّا في الخطاب الما بعد سلفي.

وعن فهم ابن تيمية، فقد سئل عمرو بسيوني أحد مؤلفَي الكتاب في صفحته ببرنامج "الآسك" عن أبرز من يراه من المشايخ المعاصرين ضبطًا لكلام ابن تيمية، وفهمًا له، وتطبيقًا لأصوله، فأجاب: (الغفيص، والحوالي، وعبدالباسط الغريب، وسلطان العميري، وأحمد سالم، والفقير)، وهذا الجواب أستحضره هنا لا إقرارًا به، ولا مزاحمةً له، ولكن ليُستعان به على تحليل طبيعة الكاتب الذي كان من وصفه ووصف صاحبه للسلفيين ما سُقته، والعلم أرزاق.
وعلى مستوى الأعيان نجد أحكامًا تقويميَّةً مرسلةً لمستوى الألباني، وابن عثيمين، وابن باز، وغيرهم .. فابن باز يغلب عليه الترجيح (في إطار الأدلة القريبة) [371] وهو إنما (يملك أدوات علمية معقولة فقط، بحيث تدخله في زمرة الفقهاء) [473]، وابن عثيمين يتسم بجودة الأدوات الفقهية (نسبيًّا) [344] (مقارنةً بأقرانه) [331]، واختياراته هو وابن باز (ليست بالجدة التي تعد فيها اختياراتٍ تستأهل الدرس والاعتناء) [371].
والألباني أحد (أقرب الأطياف السلفية قربًا من النموذج التيمي في الاشتغال الفقهي) لكن (مع فقر الأدوات) [344].
وليس محلُّ البحث هنا في حسم مادة نقد الأعلام، لكن على أن تكون لتلك التقييمات اعتباراتٌ منهجيَّةٌ ترشِّد من مادة النقد المودعة في هذا الكتاب، تحترم العلم وتحفظ للموضوعية قدرها، لا بمثل هذه الصورة المجتزأة التي تقوم على ساق الانطباعية.

وهذا الأسلوب النقدي المتواضع يلقي في أرض قارئه بذور الاستهانة والاستطالة، التي لا تقف عند حد المعاصرين، بل يمدُّها لو شاء إلى أهل العلم المتقدمين، فربما طالعنا في قابل الأيام من ينظر نظرًا أحاديًّا يتخذ من الاختزال في النقد والتقويم منهجًا، فيقول بأن ابن قدامة في المغني مجرَّدُ جامعٍ لأقوال الفقهاء مع موازناتٍ عجلى حسب العلل القريبة والآثار المبذولة بلا عرضها على مشرحة النقد الحديثي، وصاحب الشرح الكبير مجرد منسقٍ فنيٍّ للمغني، ومشروع النووي في المجموع مشروعٌ خديج فزيادةً على عدم كماله فإن لا نرى فيه مناقشات عالية بل هو جارٍ مع نهاية الجويني وبيان العمراني مع أقوال الشاشي وابن سريج، وذكره لأقوال المذاهب الأخرى ليس بمحقَّق، وابن عبدالبر محدث يروي الآثار ويجمعها في الاستذكار على الموضوعات ويفرقها في التمهيد على الأسانيد، وابن تيمية ليس له بناء فقهي يشدُّ أولُه آخرَه، بل هي فتاوى مفرقة جمعت على غير قانون ثابت، مع تحريرات هنا وهناك، ومجموعة أقاويل تنقل بلا استدلال في كتب تلاميذه ... وهكذا إلى آخر ما يمليه منهج الاختزال النقدي من فساد لهيبة العلم وذائقة المتعلم.

خامسًا: البغي
وللبغي في خطاب ما بعد السلفية صورٌ وشواهد، فمنها:
الحكم على الفقه السلفي بالعجز، لكن لا بمجرد الحكم بذلك يكون الخطاب بغيًا، بل بالتركيب الآتي:
استفاض الكاتبان في بيان موقف السلفية من المشاركة السياسية والدخول في العملية البرلمانية، وذكرا أن مناطات القول السلفي بحرمة المشاركة (تجسيدٌ للخلل الفقهي السلفي الذي سبق الكلام وله، المفتقر للتحليل والتفصيل، المائل إلى البساطة والتسطيح، قليل التفعيل للنظر المصلحي) [413].

وإذا سرنا مع الكاتبَين لنقف على حقيقة هذا العجز، نجدهم قد ذكروا أن السلفية كان لها اتجاهان، مبيحٌ ورافضٌ، أما المبيح فخارجٌ من هذا العجز المدَّعى، لأن سبب التوصيف بالعجز ضمور المناطات المحرمة، فها هنا خرجت شريحة عريضةٌ من معرَّة العجز هنا .. يبقى النظر في الاتجاه الرافض للمشاركة، ونجد الباحثين يقرران أن لهذا الاتجاه طريقين في تقرير هذا المنع، الطريق الأول بناؤه على المصلحة، والكاتبان يرونه قولا فقهيا سائغا، والطريق الثاني التحريم المطلق لعلل ذاتية، والمناطات المذكورة هي: أنها تستلزم التلبس بالكفر (وهذا التعليل يجري على قواعد بعض السلفيين النجديين، ومقبل الوادعي الذي له كلام كثير في هذا، ثم الجهاديين بصفة أخص) [414]، والمناط الثاني أنها تستلزم مفاسد أخرى كالتحزب ومجالسة الكافرين. قالا: (وهذا المعنى مشترك عند كثير من رموز السلفية العلمية، بل هو الغالب حتى على رموزها كابن باز وابن عثيمين والألباني وغيرهم، وهذا فضلا عن المدخلية الذين يعدون الحزبية من أكثر وأوكد البدع انتشارا بين الدعاة) [422] .. ثم ساقا أقوالًا لابن باز وابن عثيمين وغيرهما على حرمة الانتماء للأحزاب، مع أن تلك النقول تخلو عن ربط هذا بالمشاركة السياسية، بل هي نقول تبحث مسألة منفكة عن الدخول في العملية البرلمانية، بل إن ابن باز وابن عثيمين ممن يرى جوازها، لكن هكذا قُدِّر للسياق أن يكون!
وعن استلزامه مجالسة الكافرين فهذا يقرره الجهاديون.

على ما مضى، فإن ما نفخ فيه الكاتبان من عجز فقهي إنما يتمثل في أحد قولَي السلفية .. بل في مناطٍ لأحد قولَي السلفية، لا يقول به إلا ندرة منهم، فلمَ البغي على الفقه السلفي حين يذكر الكاتبان أن هذا هذا التقرير (يأتي بمثابة التطبيق العملي لذلك التكوين العلمي حين يتم تشغيله في مواجهة الإشكالات الواقعية والتحديات الآنية بما ينتج علبة الأدوية السلفية: برنامج السلفية وجهاز أجوبتها، التي نرمي من خلال استعراضها ونقدها الكاشف عن خلل كثير من مبانيها إلى الكشف عما نعتقد أنه سيكون سببًا فيما نعتقد أنه سيكون أفولًا للسلفية المعاصرة عن طريق فشل أجوبتها الثقافية -العلمية-، وغير الثقافية -الحركية والقتالية- في تحقيق الفعالية في مواجهة الواقع وجذب الجمهور) [432].

ومن شواهد البغي المؤلمة التي لم نكن نتلقاها إلا من بنادق الحداثيين قولُ الكاتبين: (إن كلَّ حسابات التيار الإسلامي - التي يسميها تقليلًا للشر - هي حساباتٌ ماديَّةٌ) [506]، فهذه كلِّيَّةٌ جائرةٌ لم يُراع فيها القيام بموجب الحق من القول بالعدل والشهادة بالقسط واتقاء بخس الناس أشياءَهم، طَعَنا في حسابات الإسلاميين بما لا يجدر أن يصدر عن رجل يبغي للناس صلاحًا وهدًى.
لاذَ الكاتبان بالصمت في مواقفَ سياسيةٍ كثيرةٍ في لحظاتٍ حسَّاسةٍ مرَّت بها مصر أيام الربيع العربي لحسابات مصلحية شرعية قدَّراها، فهل يرضيان بأن يقال لهما بأن هذه مجرد حسابات مادية يبحثون بها عن مصالحهم الشخصية؟
وهل يرضيان أن يقال لهما: أنتما شجعان في التشنيع على العلماء والدعاة الناشطين في العمل الإسلامي الذين لا حول لهم ولا قوة، وتسكتون عمن بيده الأغلال؟
فإن كانا يأنفان من سماع مثل هذا، والحال أنها حساباتٌ في مواقف جزئية، فكيف تبغي ألسنتهم زاعمةً أن كلَّ حسابات التيار الإسلامي التي يسميها تقليلًا للشر حسابات مادِّية؟
أليست هذه الاتهامات الجائرة مما يتلظَّى لها الفؤاد، ويندى لها الجبين؟!


******


(ما نرجوه هو ما نؤكده دائمًا، وهو الانفتاح الواعي على المجتمع، ونشر الدين العام، والحق المحكم المؤثر في عمل الناس، مع الاشتغال بتطوير الأدوات والأسس المعرفية، وبذل أقصى الجهد لمعرفة الدين الأول لذي بعث الله به نبيَّه صلى الله عليه وسلم، واللسان الذي أبان به الوحيُ عن هذا الدين الأول، والصبر على كل ذلك، وترك الاستطالة بالحق أو بالباطل) [691].
الخطاب الما بعد سلفي للأسف لا يسعفُ بتحقيق هذا الرجاء، فبدل أن يستحث السلفية المعاصرة لتقويمِ خطابها والرقيِّ بمعارفها، أتى بخطابٍ كان من سمته ما تقدَّم تفصيله في هذه الورقة، وإذا كان هذا الخطاب التدشينيُّ يبتدئ مسيره بهذا الحُطام المنهجي، فعلى أيِّ حالٍ يريد الكاتبان من جمهرة السلفيين أن يتلقَّوه؟

النقد أيًّا كانت رتبته ثقيلٌ على النفوس، لكنه إذا سيق مساق العلم والعدل، وحفظ منازل الناس، والتجرد من حظوظ النفس، فإن النفوس تتقبله وتتهادى إليه أسماعها.
كنَّا نريد أن يكون هذا الخطاب لبنةً في طريق الإصلاح لخطاب السلفية المعاصرة فكان أحدَ بوائقها، جاء مشوِّهًا للصورة ولم نَرَه يقدِّم قراءةً أمينةً لها، يتحدَّث عن خطابٍ امتدَّ عقودًا واتَّسع ليشمل رقعةً واسعةً من هذا العالم بخطابٍ متواضعِ الأدوات يتَّخذُ من وحي خاطره منبرًا لإطلاق الأحكام والتقييمات.
ومع ذلك، ستظلُّ السلفية المعاصرة ترقُب قراءةً متأنيةً لخطابها، حسنةَ التصوُّر لمشهدها، حافظةً لـمُنجَزها، ومقوِّمةً لـمُعوَجِّها .. قراءةً رساليَّةً تقوم بالقسط وتشهد لله ولو على نفسها .. قراءةً تُعنى بالتصحيح، وتجادل بالحجة والبرهان، وتُصلِحُ بما يجمع النفوس ويؤلف بين القلوب ويسعى حقًّا في العودة بالناس إلى الدين الأول .. قراءةً لايحيد بها عن سبيل إصلاحها اشتغالٌ بإلقاء الأوصاف على الناس، والتقليل من شأنهم، والتزهيد بمنجزاتهم .. قراءةً لا يمنعها هيبةُ أحدٍ أن تقولَ بحقٍّ إذا رأته أو شهدته، بمداد العدل ولسان الحكمة، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].



==========================================

[1] http://vb.tafsir.net/tafsir16930/#.VTUJaPmsWH5
يُنظرُ أصل الموضوع، مع المشاركة الثالثة والعشرين، ويمكن الوقوف على المقالة في أرشيف ملتقى أهل التفسير بالمكتبة الشاملة.