قراءة ونقد

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي 1/2
book
مايكل كوك
عنوان الكتاب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي
ترجمة ومراجعة وتقديم: رضوان السيد - عبد الرحمن السالمي - عمار الجلاصي
الناشر: الشَّبكة العربيَّة للأبحاث والنشر - بيروت - لبنان
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 2009
عدد الصفحات: 910
تاريخ الرفع: 6/10/1435هـ
عرض ونقد: القِسم العِلمي بمؤسَّسة الدُّرر السَّنية
1/2

 


أولًا: عرض الكتاب:
كتاب هذا الشَّهر هو واحدٌ من الكتُب التي لاقت رواجًا كبيرًا في الساحة الفكريَّة المعاصرة، ومؤلِّفه مستشرقٌ بريطاني معاصِر متخصِّص في الدِّراسات الإسلاميَّة، وهو أستاذ في جامعة برينستون الأمريكيَّة، وقد ترجَم لهذا الكتابِ وقدَّم له ثلاثةُ دكاترة من المتخصِّصين، وقد تكلَّم عن الكتاب وأثنى عليه كثيرون، كما وُصِف بالشُّمول والاستيعاب في قضية الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ووُصِف مؤلِّفه كذلك بالحياديَّة العلميَّة، والعدل والإنصاف! إلَّا أنَّ المتأمِّل للكتاب يجِد فيه عديدًا مِن مواطن الخَلَل العلميَّة والمنهجيَّة، وفي هذا العرض والنقد توضيحٌ لأهمِّ تلك المواطن.

وقد تألَّف الكتاب من خمسة أقسام رئيسيَّة - جاءت هذه الأقسام في تِسعة عشر فصلًا - وخاتمة، وملحقين:
وسبقها توطئة ذكَر فيها حادثةَ اغتصاب فتاة في محطَّة قطار في شيكاغو، بينما لم يتحرَّك أحد لمساعدة هذه الفتاة المعتدَى عليها.
أمَّا القسم الأوَّل بعنوان: (المدخل): فقدِ اشتمل على أربعة فصول: بدأه المؤلِّف بفصل عن قِصَّة صائغ مرو (إبراهيم بن ميمون)، الذي أنكر على أبي مُسلِمٍ الخُراسانيِّ، وجاهده بلسانه، فقتَلَه أبو مسلم. بينما جاء الفصل الثاني عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القُرآن والتفسير، والفصل الثالث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحديث النبويِّ، وقد ذَكَر حديث المنازل الثلاث وأحاديث أخرى تحضُّ على النَّهي عن المنكر، والأحاديث ذات النزعة المضادَّة - على حدِّ تعبيره. وخصَّص الفصل الرابع لسِيَر المسلمين الأوائل في مواجهة الدولة، ومواجهة المجتمع، وتَحدَّث عن حُرمة الحياة الخاصَّة.

والقسم الثاني بعنوان: (الحنابلة)، جاء في أربعة فصول، (من الخامس إلى الثامن)، تحدَّث في الخامس عن الإمام أحمد بن حنبل، وعن أنواع المنكَرات وأُطرها، والرد عليها، وعن الإنكار على السُّلطان. بينما تكلَّم في الفصل السادس عن حنابلة بغداد، وعن التأصيل والتنظير، والممارسة لهذه الشَّعيرة. وفي السابع: تحدَّث عن حنابلة دمشق، وفصَّل الحديث عن ابن تيميَّة والنهي عن المنكَر ونظريَّته السِّياسيَّة، ثم تحدَّث عن حنابلة دِمشق بعد ابن تيميَّة. ثم جاء الفصل الثامن؛ ليتحدَّث في عن حنابلة نجد، مفصِّلًا الحديث عن الدولة السُّعودية الأولى والثانية والثالثة.

القِسم الثَّالث بعنوان: (المعتزلة والشيعة)، وقد جاء هذا القِسم في ثلاثة فصول (من التاسع إلى الحادي عشر): تحدَّث في التاسع عن المعتزلة والاعتزال، مقسِّمًا الاعتزال إلى مرحلة مبكِّرة، وإلى صِيغة كلاسيكيَّة - على حدِّ وصْفه - ثم ذاكرًا تنوُّعَ مواقف الاعتزال الكلاسيكي. وفي الفصل العاشر: تحدَّث عن المذهب الزَّيدي في طوره المبكِّر، وعن الحركة الزيديَّة، والتقليد الفِقهي عندهم، مشيرًا إلى التمازُج بين الزيدي والمعتزلي، خاتمًا هذا الفصل بالحديث عن اكتساح الفِكر السُّنِّي للزيديَّة. وأمَّا الفصل الحادي عشر: فقد جعله للحديث عن الإماميَّة، ذاكرًا مجموعاتِ الأحاديث الإماميَّة، وعلماءَهم - الكلاسيكيِّين منهم، والمتأخِّرين - ثم استطرد للحديث عن الإسماعيليَّة.

القسم الرَّابع بعنوان: (الفِرَق والمدارس الأُخرى)، وجاء هذا القِسم في سِتَّة فصول (من الثاني عشر إلى السابع عشر): تحدَّث في الفصل الثاني عشرَ عن الحنفيَّة قبل العثمانيِّين، وعن شُرَّاح العصر العثماني، كما فصَّل الحديث عن برغلي ووَرَثته، وعن الحنفيَّة في الفترة العثمانية المتأخِّرة. وجعَل الفصل الثالث عشر للحديث عن الشافعيَّة، جاعلًا الإمام الغزالي محور الحديث؛ فتحدَّث عن الشافعيَّة قبل الغزالي، وعنهم بعد الغزالي. والفصل الرابع عَشَر خصَّه للحديث عن المالكيَّة في الفترة المبكِّرة، وفي الفترة المتأخِّرة، ثم تحدَّث عن الممارسة المالكيَّة لهذه الشعيرة. بينما جعَل الفصل الخامس عشر للحديث عن إباضية المغرِب وإباضية المشرق. وخصَّ الفصل السادس عشر للحديث عن نظريَّة الغزالي في الأمْر بالمعروف، وإنجازه وتراثه، ثم استطرد متحدِّثًا عن الصوفية. والفصل السابع عشر جعَله عبارةً عن نظرة استبصار لِمَا أسماه (إسلام العصر الكلاسيكي)، متحدِّثًا عن سِياسات النَّهي عن المنكَر، وعن حُرمة الحياة الخاصَّة والنهي عن المنكَر، وعن الإطار الاجتماعي له، ثم متحدِّثًا عن العلماء والمجتمع.

القسم الخامس والأخير (العصر الحديث)، وجاء في فصلين (الثامن عشر والتاسع عشر)، جعل الفصل الثامن عشر للحديث عن التطوُّرات الإسلاميَّة في العصر الحديث، ذكرًا التطورات في الإسلام السُّنِّي، والتطورات في الإسلام الشِّيعي، ثم عقَد مقارنة بين مواقِف السُّنة ومواقف الشِّيعة الإماميَّة. بينما خصَّص الفصل التاسع عشر للحديث عن جُذورٍ ومقارنات مقارنًا الموضوع في الأديان التوحيديَّة وغير التوحيدية؛ فتكلَّم عن الجاهلية، وعن موازيات ممَّا أسماه (أديان التوحيد الأخرى)، وعن ظواهر شَبيهة في الأديان غير التوحيديَّة، ثم ذكر تفرُّد مثال الإسلام.
ثم تأتي خاتمة الكتاب، والملاحق: (ملحق1): ثبت بأهم الآيات والأحاديث. و(ملحق2): ابن العبري والنهي عن المنكر.

ثانيًا: نقد الكتاب:
بداية: تجدر الإشارة إلى أنَّ المؤلِّف قد بذَل جهدًا كبيرًا في جمْع مادَّة هذا الكتاب وتأليفها، وفي رجوعه إلى مصادر كثيرة جدًّا مطبوعة ومخطوطة، وبلغات متعدِّدة كذلك، ممَّا يَعجِز - للأسف - عن الوقوف عليها، أو على غير قليل منها كثيرٌ من كُتَّاب المسلمين أنفسهم. كذلك ممَّا امتاز به الكتاب المبالغة في دِقَّة التوثيق، حتى إنَّه أحيانًا ما يَذكُر رقم السَّطر، مع ذِكر البيانات الوافية للمصادر التي ينقُل منها، ونسبة كل فائدة لصاحبها والامتنان له.
- وبما أنَّ مؤلِّف الكتاب من المستشرِقين، ويصدُق عليه في كتابه ما يصدُق عليهم في كتاباتِهم؛ فيحسُن الإشارة - باختصار - إلى طبيعة منهج المستشرقين، وطبيعة دِراساتهم عن الإسلام:

فالمستشرقون هم الكتَّاب الغربيُّون الذين يكتُبون عن الفِكر الإسلامي وعن الحضارة الإسلاميَّة، وجُلُّهم - إنْ لم يكن كلهم - يَدرُسون العلوم الإسلاميَّة العربية ويضعون النظريات، ويكوِّنون الآراء في أثناء ما يقومون به من دِراسات، ويهتمُّون بتقديم أدلَّة هذه الآراء والنظريات وأسانيدها، مستمدين إيَّاها من المراجع الإسلامية نفسها، وهذا العمل وإن كان في ظاهره عملًا علميًّا سليمًا، إلا أنه بعد الفحص الدقيق والتأمُّل لأعمالهم ثبت أنَّ كثيرًا منه ليس كذلك، وكثيرًا ما يكون الدافع إليه الرغبة في التجريح، وتوهين العقيدة الدينية والشَّريعة الإسلاميَّة. وهدفهم: التعرف على الإسلام والحضارة العربية؛ لتكوِّن معرفتُهم صورةً ينقُلونها إلى بُلدانهم وشعوبهم, فتُشكِّل تلك الصورة مجموعةً من المعارف الحضاريَّة, والنفسيَّة, والتاريخيَّة, والثقافيَّة، ثم تُعاد إلى المسلمين تلك الصورة التي كوَّنوها عنهم بعد إيجاد هوَّة سحيقة تفصِل بين الماضي وبين الحاضر الذي أهملوه، وهم في ذلك يَعتمِدون على عددٍ معيَّن ومحدود من المصنَّفات دون غيرها، وغالبًا لا يُفرِّقون بين الروايات الصَّحيحة والضَّعيفة، بل أحيانًا ما يتعمَّدون انتقاء الضعيف؛ إذا كان موافقًا لِمَا يُريدون، وهم كذلك يُفسِّرون الوقائع والنصوص وَفقَ انطباعاتهم حسبَ بيئتهم الثقافيَّة، فيضعون في أذهانهم صورةً معيَّنة يحاولون إسقاطها على صُور ووقائع معيَّنة يُخضِعونها لما ارتضتْه مخيَّلتُهم وانطباعاتهم.

وأيضًا هم بعيدون كلَّ البُعد عن البحث العِلمي النزيه، ولم يتخلَّوا قطُّ في كتاباتهم عن الإسلام عن النزعتين: الدِّينيَّة، والاستعماريَّة؛ لأنَّ التحوُّل عنهما إنَّما يعنى التحولَ إلى الإسلام، وهذا التحوُّلُ إلى الإسلام يعني في الوقت نفْسِه التحولَ عن الاستشراق وأهدافه الخبيثة، وهذا ما حدَث بالفعل لبعض المستشرقين ممَّن أكرمهم الله تعالى بهدايتهم إلى الإسلام. حتى مَن أنصف الإسلام منهم ظاهرًا، أو حتى ممَّن كانوا مسلمين؛ لا يجوز الاغترارُ بإنصافهم هذا، ولا الاعتمادُ - في فَهم دِيننا - على ما يكتبون؛ فكثيرٌ منهم قد دسَّ السمَّ في الدَّسم، وبعضهم أسلم ظاهرًا ثم ارتدَّ بعدما أدَّى الدور الذى كان مطلوبًا منه! وقد أوضح العلَّامة محمود شاكر في رسالته الفذة ((رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)): أنَّ المستشرق عارٍ من شروط المنهج العِلمي السَّديد، التي حدَّدها بـثلاثة شروط: (اللُّغة، والثقافة ورأسها الدِّين، والبراءة من الأهواء)، كما أوضح أنَّ نشأته تمنعُه من الدُّخول تحتَ هذه الشروط الثلاثة، ثم قال رحمه الله تعالى: (وظاهرٌ من كلِّ ما كتبتُه لك آنفًا أنَّ الاستشراق مِن فَرْع رأسه إلى أَخمُص قدميه غارقٌ في الأهواء، والثقافة الأوروبيَّة والحضارة الأوروبيَّة تستقبلُ الأهواءَ بلا نكيرٍ ولا أَنفَة، بل هي تسوِّغ استعمالَ رذيلة الأهواء في الدنيا وفي الناس بلا حرَجٍ؛ لأنَّها حضارة قائمة على المنفعة والسَّلْب ونهْب الأمم، وإخضاعها بكلِّ وسيلة لسلطانها المتحضِّر! والدَّلائل على ذلك لا تَخفَى على بصيرٍ ذي عينين تُبصِران؛ فهي تسوِّغ ذلك في العِلم، وفي الثقافة، وفي السِّياسة، وفي الدِّين، وفي كلِّ شيء، ما دام جالبًا للمنفعة، أو دافعًا للمضرة!)، ثم قال عن كتابات المستشرق: (وهو شيءٌ لا يَعنينا، أو كان يَنبغي أنْ لا يَعنينا هو ولا ما كتَبَه في ثقافتنا قُلامةَ ظُفر؛ لِمَا عرفتَ من استحالة قُدرته على معرِفة العربيَّة إلَّا مِثْل تحلَّة القسم - أي: قليلًا بمقدار ما يُكفِّر المرء قَسَمه ولا يُبالغ - ومِن عجزه المطلَق عن استبانةِ وجه الحق في دِيننا وثقافتنا؛ لأنَّه مكفوفٌ عنهما بحِجابٍ من ثقافته التي نشأ فيها وليدًا، واستمرَّ حتى شابتْ قرونُه) [رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (ص: 78 - 79)، وينظر للتفصيل في هذه القضيَّة: ((أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها)) لعبد الرحمن بن حبنكة الميداني، ((المستشرقون والإسلام)) لمحمَّد قطب، ((الرد على مزاعم المستشرقين)) لعبد الله بن عبد الرحمن الخطيب، و((الاستشراق وموقفه من السُّنَّة النبويَّة)) لفالح بن محمد الصغير، وغيرها].

وإليك أهمَّ المؤاخذات على مايكل كوك في كتابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفِكر الإسلامي:
- فمِن هذه المؤاخذات:
القصور الشَّديد والاختزال في البَحث عمومًا، وفي عرْض الموضوع في القُرآن والتفسير والحديث وعند الحنابلة خُصوصًا؛ ذلك أنَّ المؤلِّف اقتصر على البحث المعجمي عن عِبارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد اعترِف المؤلِّف نفسه بهذا القصور، حيث قال (ص: 27): (ولم أعتنِ إلَّا قليلًا بالمادَّة التي لا تتضمَّن أيًّا من العِبارتين [الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر]. وهكذا فإنَّ تطلعاتي المبنيَّة على أساس مبدئي سليم لم تخدمْها بوجهٍ مُرْضيٍّ طريقتي العمليَّةُ القائمةُ على البَحث المعجمي). ثم يقول (ص: 28): (ولا أحسَبُ أنَّ أحدًا سيُفاجأ إذا اكتشف محدوديَّةَ إنجازي في هذا المجال، وهي تعود أحيانًا إلى محدوديَّة معرفتي؛ فما كنتُ مثلًا، سأُنهي هذا الكتاب قط، لو لم أقتصرْ عند قراءتي لكتابٍ ما على الفصل المخصَّص فيه للنَّهي عن المنكَر - وذلك يَعني بالتَّحقيق أنَّه ربما فاتني اكتشافُ ملامحَ أخرى، من المصادر ذات الصِّلة بموضوعي).
وهذا أدَّى به الخَطأ في استخلاص النتائِج المتوصَّل إليها، وإعطاء تصوُّر غير دقيق، ومخالِف لحقيقة الأمر.

ومن الأمثلة على ذلك: قوله (ص: 54): (مَن تستهدف الفريضة؟ الآية الوحيدة التي توضِّح ذلك هي الآية 157 من سورة الأعراف، حيث يأمر الرسول النبي الأمي ويَنهى الذين اتَّبعوه؛ لا نجِد حالةً واحدة يظهر فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجَّهًا إلى شخص معيَّن، أو إلى أشخاص معيَّنين، ولا توضِّح الآيات هذا الأمر بوجه عام).

وقوله (ص: 57): (باختصار لا يُقدِّم لنا القرآن إلَّا القليل عن فريضة النَّهي عن المنكر، في ما عدا التسمية طبعًا).
ثم يُكرِّر الشُّبهة نفسها لكن عند المفسِّرين، حيث يقول (ص: 65): (أمَّا عن المستهدفين بالأمر والنهي، فإنَّ المفسرين كالآيات نفسها، يُقدِّمون نزرًا يسيرًا. وفيهم من ذهب إلى أن مفعول (أمر) هو (الناس) -وهو مفهوم لا يخلو من غموض).
وهو زعْم باطل ناشِئ عن الضَّعف والمحدوديَّة في البحث، إنْ لم يكُن ناشئًا عن سوء نيَّة؛ للطعن في القرآن الكريم، وهو هنا لا يُحسِن فَهم دلالات اللُّغة العربيَّة، وما يُعرَف بحذف المعمول للدَّلالة على العموم.
وهذه بعض الآيات التي تتحدَّث عن النهي عن المنكر، ولم يذكرها المؤلِّف ولم يتعرَّض لها، ولا لِمَا ذكره المفسِّرون عنها:
قوله عزَّ وجلَّ: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116، 117]
وقوله جلَّ شأنه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
وقوله تعالى عن نبيِّه شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]
وقوله تعالى عن نبيِّه صالح: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 62].
- كما لم يتطرق المؤلِّف إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر عند الأنبياء والمرسَلين قبل نبيِّنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا احتسابهم على أقوامهم، مع أنَّ القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة قد اشتملَا على كثيرٍ من أخبارهم في ذلك، ومِن ذلك: إنكار نوح عليه السَّلام على قومِه واستخدامِه شتَّى الوسائل في أمْرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكَر، واحتساب إبراهيم عليه السَّلام وتكسيره الأصنام بيدِه، واحتسابه على أبيه، وإنكار موسى عليه السلام على فِرعون، وكذا بقيَّة الرسل عليهم الصَّلاة والسَّلام، ممَّا فيه تفصيلٌ لهذه الشريعة العظيمة، ولآدابها، كما يَحتوي على أصول واستنباطات جليلة القدْر.

- ومن ذلك قوله (ص: 70): (كما رأى الطبريُّ بوضوح، أنَّه إذا حصَرْنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر في الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله، فلا صِلةَ له حينذاك بنهي المسلمين عن الخمْر والفجور والملاهي. مع ذلك لم يتبيِّن المفسِّرون الأوائل، وهم يبسطون وجهة نظرهم، هذه النتيجةَ التي بدت بديهيَّةً للطبري. يعود هذا السكوت إلى أنَّ هذه النظرة على الرغم مِن انتشارها في كتب التفسير، إلَّا أنَّها مجهولة في ما سواها).

التعقيب:
قد غاب عن المؤلِّف هنا ما يُعرَف في أصول التفسير بالتفسير بالمثال، فالمفسِّرون الأوائل إنَّما فسَّروا الآية بضَرْب المثال بأعظمِ معروف وهو (التوحيد)، وأشنع منكَر وهو (الشرك)، ولم ينفوا ما سوى ذلك من المعروف أو المنكر؛ فقد (يذكر كلٌّ منهم من الاسمِ العامِّ بعضَ أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيهِ المستمِع على النوع لا على سبيل الحدِّ المطابِق للمحدود في عمومه وخصوصه، ... مثال ذلك: ما نُقِل في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، فمعلومٌ أنَّ الظالم لنفسه يتناول المضيِّع للواجبات، والمنتهِك للمحرَّمات، والمقتصِد يتناول فاعلَ الواجبات وتاركَ المحرَّمات، والسَّابق يدخُل فيه مَن سبق، فتقرَّب بالحسنات مع الواجبات، فالمقتصِدون هم أصحاب اليمين {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10، 11]، ثم إنَّ كلًّا منهم [أي: المفسرين من السَّلف] يذكُر هذا في نوعٍ من أنواع الطاعات، كقول القائل: السابق الذي يُصلِّي في أوَّل الوقت، والمقتصد الذي يُصلِّي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخِّر العصر إلى الاصفرار، ويقول الآخر: ...، فكلُّ قول فيه ذِكر نوع داخل في الآية ذُكر لتعريف المستمِع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره؛ فإنَّ التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحدِّ المطلق، والعقل السليم يتفطَّن للنوع) [ينظر: مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية (ص: 14 - 15)]. وهو ما أشار إليه الإمامُ الطبريُّ نفسه أيضًا بعدَما رجَّح أنَّ معنى (العرف) هو المعروف حيث قال: (فإذا كان معنى العرف ذلك، فمن المعروف: صِلةُ رَحِم مَن قطع، وإعطاء مَن حرَم، والعفو عمَّن ظلم. وكلُّ ما أمر الله به من الأعمال أو ندب إليه فهو من العُرف). [تفسير الطبري (10/ 644)]، كأنَّه يُشير إلى أنَّهم فسَّروه ببعض معانيه، وهذا ليس نافيًا للمعاني الأخرى.
وعليه؛ فمِن الخطأ قول المؤلِّف: (لم يتبين المفسرون الأوائل... هذه النتيجة التي بدت بديهيَّة للطبري).
- ومن المؤاخذات: قوله (ص: 62) - مستخلصًا نتيجةً خاطئة مبنيَّة على القصور في البَحث، أو سوء النيَّة والقصد -: (لا يُقدِّم تفسير آيات أخرى لهذه المسألة عناصرَ ذات بال).
وقوله (ص: 64): (وبإمكاننا أن نُلاحظ، بالمناسبة، أنَّ المفسِّرين كافَّةً لا يُشيرون إلى أنشطة (المحتسب) المكلَّف بمراقبة الأخلاق العامَّة والمعاملات)!
وقوله (ص: 79): (نخرج من هذا العرض بنتيجة عامَّة لأقوال المفسِّرين، هي غياب ارتباط مُحكَم بين تفسيرها التفصيلي للآيات وتصوُّرهم العامِّ عن هذه الفريضة. فكما رأينا أكثرَ من مرَّة، يبدو فَهمهم للآيات متأثرًا بفهم للنهي عن المنكر، لا يمكن استمداده مباشرةً من الآيات نفسها. فهم يَفهمونه بالأساس بوصفه فريضةً يقوم بها آحادُ المؤمنين، كل نحو الآخَر، لا الأمَّة مثلًا تُجاهَ العالم بأسْره. ويرون مضمونَه في المقام الأول باعتباره موقفًا من منكرات معيَّنة، وليس بوصفه مبدأ أخلاقيًّا عامًّا وغير مفصَّل. ويفترضون إلى حدٍّ بعيد هذا التصور منطلقًا، لا يتجشَّمون عمومًا، عناءً كبيرًا لحمله قسرًا على آيات لا تَقبَلُه).

التعقيب:
كيف لا يُقدِّم تفسير آيات أخرى لهذه المسألة عناصر ذات بال؟! وهل اطَّلع المؤلِّف عليها أصلًا، وهل كانت داخلةً في نِطاق بحثه المعتمد على البحث المعجمي؟!
ونظرة عجلى في بعض التفاسير كفيلة بالردِّ على هذا الزعم الباطل، ونُحيل القارئ فقط على بعض الأبحاث المفصَّلة في كتُب التفاسير عن هذه الشَّعيرة العظيمة، فينظر على سبيل المثال لا الحصر: تفسير ابن عطية (3/ 214 وما بعدها)، تفسير القرطبي (9/ 113 - 114)، تفسير الراغب الأصفهاني (2/ 770 - 777)، وغيرها من التفاسير.
- وقوله: (المفسرين كافَّة لا يُشيرون إلى أنشطة (المحتسب) المكلَّف بمراقبة الأخلاق العامَّة والمعاملات) خطأ ظاهر؛ يردُّه ما جاء في تفسير النيسابوري ((غرائب القرآن ورغائب الفرقان)) - وهو يضمُّ حاصل كلام الرازي في تفسيره، وما وَجَده المؤلِّف في الكشاف وفي سائر التفاسير من المهمَّات - (2/ 227 - 228)، حيث فصَّل في أنشطة المحتسب، وفيمَن يُنكِر عليهم ومَن لا ينكر عليهم، قال: (ثم إنَّ نُصب لذلك رجلٌ، تعيَّن عليه بحكم الولاية وهو المحتسب. واعلم أنَّ الأمر بالمعروف على ثلاثة أضرب: أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى وهو نوعان: أحدهما ما يُؤمر به الجمعُ دون الأفراد، كإقامة الجمعة حيث تجتمع شرائطها، فإنْ كانوا عددًا يرون انعقاد الجمعة بهم، والمحتسب لا يراه؛ فلا يأمرهم بما لا يُجوِّزه، ولا ينهاهم عمَّا يرونه فرضًا عليهم، ويأمرهم بصلاة العيد. والثاني ما يُؤمَر به الأفراد كما إذا أخَّر بعضُ الناس الصلاة عن الوقت؛ فإنْ قال: نسيتُها، حثَّه على المراقبة، ولا يعترض على مَن أخَّرها والوقت باقٍ. وثانيها ما يتعلَّق بحقوق الآدميِّين، وينقسم إلى: عامٍّ؛ كالبلد إذا تعطَّل شربه أو انهدم سُورُه، أو طرَقَه أبناءُ السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم؛ فإنْ كان في بيت المال مالٌ، لم يُؤمَر الناس بذلك، وإنْ لم يكن أُمِر ذوو المكنة برعايتها. وإلى خاصٍّ؛ كمطل المديون الموسِر بالدَّين؛ فالمحتسب يأمُره بالخروج عنه إذا استعداه ربُّ الدَّين وليس له الحبس. وثالثها الحقوق المشتركة كأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء، وإلزام النساء أحكام العِدَد، وأخذ السادة بحقوق الأرقَّاء، وأرباب البهائم بتعهُّدها وأنْ لا يستعملوها فيما لا تُطيق، ومن يُغيِّر هيئات العبادات كالجهر في الصَّلاة السريَّة وبالعكس، أو يَزيد في الأذان، يمنعه وينكر عليه، ومَن تصدَّى للتدريس والوعظ وهو ليس من أهله ولم يُؤمن اغترارُ الناس به في تأويل أو تحريف، فينكر المحتسب عليه ويظهر أمره؛ لئلَّا يغتر به. وإذا رأى رجلًا واقفًا مع امرأة في شارع يطرقه الناس لم ينكر عليه، وإنْ كان في طريق خالٍ، فهو موضِع رِيبة، فينكر ويقول: إنْ كانت ذات محرَم فصُنْها عن مواضِع الريب، وإنْ كانت أجنبية فخَفِ الله معها في الخلوة. ولا ينكر في حقوق الآدميين كتعدِّي الجار في جدار الجار، إلَّا باستعداء صاحب الحقِّ، وينكر على من يُطيل الصلاة من أئمَّة المساجد المطروقة، وعلى القضاة إذا حَجبوا الخصومَ وقصَّروا في النظر في الخصومات، والسوقيّ المختص بمعاملة النِّساء يختبر أمانتَه، فإن ظهرت منه خيانةٌ، مُنِع من معاملتهن) اهـ.
وقد آثَرْنا هنا نقْلَ هذا الكلام بطوله؛ ليُعلم خطأ المؤلِّف في زعمه أنَّ (المفسرين كافة لا يشيرون إلى أنشطة (المحتسب) المكلف بمراقبة الأخلاق العامة والمعاملات)! وكان بإمكانه أن يقول: لم أرَ أيَّ إشارة للمفسرين الذين اطلعتُ على تفاسيرهم... إلخ، أو نحو هذه العبارة، أمَّا أن يَحكُم على المفسرين كافَّة بهذا الحُكم؛ فهذا خطأٌ منهجيٌّ كبير، وهو أيضًا من الحيف والظُّلم.
- ثم إنَّ قوله عن المفسرين: (لا يتجشَّمون عمومًا، عناء كبيرًا لحمله قسرًا على آيات لا تقبله)
اتهامٌ خطير لهم، وهو أيضًا باطل، وناشئ عن سوء فَهم المؤلِّف وقُصوره في تصوُّر حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا إن لم نقُل: إنَّه ناشئ عن سوء قصد؛ بغيةَ التشكيك فيما حرَّره المفسِّرون الأجلاء، مع أنَّ هذا له علامات ودلالات غير خافية في كتابه كما يظهر هنا، وفي مواطن أخرى لعلَّنا نشير إليها.
- ومِن المؤاخذات: اتِّهامه للمفسِّرين، ووصْفه لهم بما لا يَليق، حيث يقول (ص: 57): (اهتمَّ المفسِّرون، كما سيظهر في أكثر من موضِع من هذا الكتاب، بإبراز أفكار مذاهبهم حولَ المسألة أكثرَ من إيضاح ما ورد حولها في القرآن).
ويقول (ص: 61) - عن المفسِّرين الذين رجَّحوا أنَّ (مِن) في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ...} [آل عمران: 104] ليست تبعيضيَّة، وإنَّما هي بيانيَّة، وأنَّ فريضة الأمر بالمعروف تقع على جميع المؤمنين - قال: (تطغى على هذا الرأي الأخير نزعةٌ نخبويَّة مغالية، وهو نادر).

التعقيب:
فأمَّا اتِّهامه للمفسِّرين بأنَّهم إنما اهتمُّوا بإبراز أفكار مذاهبهم حولَ المسألة أكثرَ من إيضاح ما ورد حولها في القرآن؛ فهذا طعنٌ صريح في المفسِّرين، وهم منه بريئون، وهو أيضًا مسلكٌ خطير يؤدِّي إلى زعزعة الثقة بما كتبه المفسِّرون، وأنهم لم يوضِّحوا ما ورد في القرآن، وأنهم قصَّروا في ذلك! وهذا أبطلُ من الباطل نفسِه، وهذه كتب المفسرين شاهدة بخلاف ذلك، ومعلوم أنَّ للمفسِّرين طرائقَ شتى، ومناهج متعدِّدة في التفسير، وكلها يخدم المعنى القرآني ويوضِّحه من زاوية معيَّنة؛ فمنهم مَن عُني بتوضيح المعنى وذِكر مَن قال به مِن السَّلف والأئمَّة كالطبري، ومنهم مَن عُني بتوضيح الأحكام والمسائل كالقرطبي، ومنهم مَن عُني ببيان وجوه البلاغة والإعجاز كالزمخشري...إلخ، ممَّا هو معروف في كتُب مناهج المفسِّرين، ويطول المقام بذِكره، على أنَّ ذكرهم لأفكار مذاهبهم هو من باب توضيح ما ورَد في القرآن وربط مذهبهم به، والتدليل على أنَّ مذهبهم إنما هو مُستقًى من القرآن؛ فهو أيضًا اهتمامٌ بالقرآن وما ورد فيه، وتوضيحٌ له. وأيضًا فإنَّ كثيرًا من المفسِّرين لا يفصِّلون في بعض الأمور؛ لخروجها عن حدِّ التفسير، ودخولها في أبواب أخرى من علوم الشريعة كالفِقه مثلًا، وهذا شيء لا يعيب، بل المعيب هو ذِكر أشياء كثيرة طويلة، لا حاجة بها في علم التفسير، كما ذكَر ذلك الإمام أبو حيَّان في تفسيره (1/ 26، 55، 547)، وحتى إن سلَّمنا بوجود ظاهرة الاهتمام بالأفكار المذهبيَّة، فإنَّما هي عند بعض المفسِّرين فقط، ولا يصحُّ تعميمها على المفسِّرين كلهم كما ذكر المؤلِّف.

ومن المؤاخذات عليه أيضًا:
زعْمُه بأنَّ الحديث النبوي لم يَكفِ في هذا الموضوع، وقد ذكر المؤلِّف عددًا قليلًا جدًّا من الأحاديث، وترك جمًّا غفيرًا من النصوص التي توضِّح هذا الأمر؛ فقط لأنَّها ليس فيها كلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومِن تلك الأحاديث المهمَّة التي ترَكها المؤلِّف ولم يتعرَّض لها: قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَثَلُ القائمِ في حدود الله والواقِع فيها كمَثَل قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلها إذا استَقَوا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نُؤذِ مَن فوقنا، فإنْ يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإنْ أَخَذوا على أيديهم نجَوْا، ونجَوْا جميعًا))، وهو حديث مشهور أخرجه البخاري (2493، 2686) وغيره، وهو أيضًا عمدة في الباب، ومع ذلك لم يتطرَّق له المؤلِّف ولم يُشِر إليه، ولم يذكر كلام شرَّاح الحديث ولا الفقهاء عليه، مع أنَّ فيه بيانَ استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه أيضًا كثير مِن فِقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! [ينظر: شرح صحيح البخارى لابن بطال (7/ 13 - 14)، التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (16/ 82 - 83)، وينظر كذلك: الاستذكار لابن عب البر (8/ 583 وما بعدها)، في "باب ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة"، وكذا ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)) له أيضًا (24/ 311 وما بعدها)؛ فقد ذكر كثيرًا من الأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يتطرق إليها المؤلِّف أيضًا.. وغير ذلك كثير ممَّا يطول المقام بذكره جدًّا].
- وهذا الأمر نفْسه ينطبق على قصوره في استخلاص النتائج عن كيفية إنكار النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حيث يقول (ص: 105 - 106): (لا جرم أنَّ الرسول ( صلَّى الله عليه وسلَّم) نفسه أمَر بالمعروف ونهى المنكر، وقدْ وُصِف بذلك في الآية (7: 157)... نجد أخبار [أخبارًا] متفرِّقة عن نشاطه في هذا المجال... مع ذلك لا توجد إشارات كثيرة في السيرة النبويَّة إلى أحداث من ذلك النوع. مثلًا، نكاد لا نجد شيئًا في سيرة ابن إسحاق (ت 150/ 767) أو الواقدي (ت 207/ 823). إنَّ الواقعة الوحيدة الواضحة الدَّلالة هي الصيغة التي جاءت بها، عند بعض الأخباريِّين: بيعة العقبة الثانية، حيث عاهده أهلُ المدينة على النهي عن المنكر).

التعقيب:
كما تقدَّم أنَّ هذه النتيجة الخاطئة والمخالفة للواقِع، جاءت بناءً على قصور المؤلِّف في البحث، أو خطئه في التصوُّر، هذا إذا استبعدْنا سوء القَصد، واتباع الهوى، وإرادة الطَّعن والتشويه، مع أنها أمور ليست بعيدة! والصَّحيح: أنَّ حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم كلَّها كانتِ احتسابًا (أمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر) على الناس أجمعين في المجالات المختلفة؛ مِن ذلك: تصحيح العقائد والعبادات، وضبط أمور المعاملاتِ، وتصحيح مسار أمور السياسة، وسائر الاجتماعات، وتهذيب الأخلاق والسُّلوكيات، ودَلالة الناس إلى كل ما ينفعهم الدُّنيا والآخرة؛ فما من مجالٍ من مجالات حياة الناس، ولا شأن من شؤونهم إلَّا واحتسب فيه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمَرَهم فيه بالمعروف ونهاهم فيه عن المنكر، مُصوِّبًا خطأهم ومقوِّمًا لاعوجاجهم، ودالًّا لهم على الصواب. كما أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم ونهى جميعَ الناس، واحتسب على شرائح المجتمع المختلفة، فكما أمَر ونهى المشركين والكتابيِّين والمنافقين، كذلك أمر ونهى المؤمنين والمؤمنات واحتسب عليهم، وكذلك الكبار والصِّغار، وأشراف الناس وسوقتهم، والأحرار والعبيد. كما تعدَّدت طرق أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فاحتسب بيده، وبلسانه، وبقلبه، وكل ذلك مذكور في محله، والأمثلة على ذلك لا حصرَ لها، وهي متكاثرة في كتُب السنن والسِّير، لا كما ذكر المؤلِّف، ولو خشية الإطالة لذكرنا أمثلة كثيرة على ذلك.

- ومن المؤاخذات على المؤلِّف: اتهاماته لرُواة الأحاديث، ولأئمَّة السُّنة:
من ذلك: قوله (ص: 100): (خلاصة: يثير أمران الاهتمامَ فيما يتعلَّق بالحديث. الأول: هو مصدر تلك المادة الجغرافي... الكوفة مصدر أغلبية الأحاديث التي لا تَنزع إلى تقليص دور الفَريضة. دور الشَّام البارز في نقْل الأحاديث التي تنزع إلى تقليص مجاله... يعكس هذا التبايُنُ بين محدِّثي الكوفة والشام بالتأكيد الجغرافيَّةَ السياسيَّة للعصر الأُموي، حيث كانت الكوفة مركزًا لقيادة المعارضة الإقليميَّة، بينما كانت الشام مركزَ الخلافة. وهذا يُوحي بأنَّ المادَّة غالبًا ذات أبعاد سياسية ضمنية إنْ لم تكن صريحة).
ويعني بالمادَّة هنا نصوص الأحاديث، ويقصد أنَّ الرواة والمحدِّثين إنَّما انتقَوْا من الأحاديث ما يتناسب مع الأحداث السياسيَّة، وليس أداءً لحقِّ العِلم، أو تبليغًا لِمَا اؤتمنوا عليه، وهو اتهامٌ خطير لرواة الإسلام؛ فهل يُقال: إنهم كتموا الأحاديث التي لا تتناسب مع الأحداث السياسيَّة؟!
- ومن المؤاخذات قوله (ص: 153): (إلى جانب تلك الحالة النسائية الوحيدة التي لا تخلو مع ذلك من لبس، يمكننا تقديم حالة كلب، كان صاحبه سليمان بن مهران الأعمش (ت 148/ 7654) محدثًا شيعيًّا، عاش في الكوفة وعرف بعسر معاملته. ومن مظاهر تعسيره على أصحاب الحديث الذين يقصدونه طلبًا للحديث، أنه إذا سمع همهمتهم أطلق عليهم كلبًا. دخلوا عليه يومًا وإذا بالكلب غير موجود. فلما رآهم بكى ولما سألوه: ما يبكيك؟ قال: "مات من كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر").

التعقيب:
جزْم المؤلِّف بأنَّ الإمام الأعمش محدِّث شيعي، خَطأ، والصَّحيح أنَّه صاحبُ سُنَّة، وغاية ما وُصِف به أنَّه (كان فيه تشيُّع) كما في الثِّقات للعجلي (ص: 205)، وتاريخ بغداد للخطيب (10/ 5)، وفرْقٌ كبيرٌ بين عبارة (فيه تشيُّع)، وبين جزم المؤلِّف بقوله: (كان... محدِّثًا شيعيًّا)، على أنَّ الإمام الذهبيَّ قد ردَّ على العجلي وخطَّأه في هذه العبارة بعد أنْ نقَلَها عنه، حيث قال متعقِّبًا عليه: (كذا قال، وليس هذا بصحيح عنه؛ كان صاحبَ سُنَّة) تاريخ الإسلام للذهبي (3/ 884).
وأيضًا مِن العجيب أنَّ المؤلِّف يذكُر أيَّ نص وقَع عليه، وكان فيه ذكر للأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، حتى يذكر من ضِمن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر الحيوان، وهو (كلب الإمام الأعمش)! وهذا لأنَّه لم يُحسِن فَهم دَلالات اللَّفظ، ولا سِرَّ هذه العبارة التي خرجَتْ مخرج الدُّعابة والتهكُّم، وقد اشتهر بذلك الإمامُ الأعمش رحمه الله تعالى كما في الثقات لابن حبان (4/ 302).
وهذا يدلُّ على صِحَّة ما تقدَّم مِن كلام العلامة محمود شاكر، وصدقه على الواقع مِن أنَّ مَن لم يفهم أسرار اللغة العربية، ولم يتشبع بثقافتها، لا يُوصَف بحثُه فيها بأنَّه بحثٌ عِلمي منهجي، إضافة إلى ما يحويه مع عدم دِقَّة البحث من سوء قصد أحيانًا.
فظهَر بهذا أنَّ منهج المؤلِّف في الحصر والاستقصاء مبنيٌّ على القصور أصلًا، وعلى السطحيَّة كذلك، وعلى محدوديَّته في الثقافة ودَلالات الألفاظ، فبالرغم من ضخامة حَجم الكتاب، حتى اعتذر المؤلِّف عن ذلك! وبالرغم من كثرة المصادر التي رجَع إليها المؤلِّف، إلَّا أنَّ الحصر والسبر جاء هزيلًا جدًّا، ومخالفًا للواقع؛ فأتتِ النتائجُ ضعيفةً، وغير صحيحةٍ، بناء على هذا الحصْر.

- ومن المؤاخذات على المؤلِّف:
محاولة تطويع المادَّة التاريخيَّة لتتناسب مع النتائج التي يُريدها، وهو أمرٌ غاية في الخطورة على التراث..، وبهذا يظهر التناقُض من حيث ادِّعاء العلميَّة في البحث وبين الحقيقة المتَّبعة من قِبَله. كما يظهر من خلال كتابه خواء المنهج وانتقائيته، وتعبير واضح عن سيطرة الأفكار الخاطئة المسبَقة على عمله في البحث، حيث لا يتورَّع كوك عن إلصاق التقييمات السلبيَّة والذاتيَّة بالمسلمين - وخصوصًا أهل السُّنة - وبالثقافة العربيَّة التي نشأ الإسلام في فضائها، [وينظر للفائدة كتاب آمنة الجبلاوي ((الاستشراق الأنجلوسكسوني الجديد - مقالة في الإسلام المبكّر، باتريسيا كرون ومايكل كوك نموذجًا))، ومقال: الاستشراق وما بعد الحداثة أو جدل النقد والفوضى، لحمود حمود].
- ومن المؤاخذات عليه كذلك: قوله (ص: 108): (المعلومات التي استخدمناها في هذا الفصل مستمدَّة من محدِّثي أهل السُّنة، وهم يمثِّلون - كما رأينا - مجموعةً لديها نزعة إلى تقليص تلك الفريضة. فحتى الأحكام المناهضة التي تعزو إلى (الحشوية) - أي: المحدِّثين الذين ينزعون إلى التشبيه كما يُسمِّيهم خصومهم - نفْي وجوب النهي عن المنكر، لها في الواقع أساس تاريخي. طبعًا، لم تكن لجميع المحدِّثين نظرة واحدة إلى المسألة. مثلًا، لما سئل إبراهيم بن موسى الرازي (ت230/ 844)، من هم (الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر)، مثلًا في الآية (9: 112) أجاب: نحن هم، يعني: المحدِّثين؛ لأنَّهم ينقلون ما أمر به النبي وما نهى عنه. لكن لوحظ كذلك أنَّ العقائد التي صاغها أهل الحديث تكاد لا تَذكُر النهي عن المنكر. باختصار، هناك ما يدعو إلى توقُّع أن يُظهر كتَّاب السير من أهل السُّنة اهتمامًا محدودًا بالنهي عن المنكر؛ إذ يحمل ذلك المبدأ نبرةً من المعارضة السياسية النشيطة، تُخالف نظرتهم).

التعقيب:
هذا الكلام فيه اتِّهام لمحدِّثي أهل السُّنَّة بأنَّ لديهم نزعة لتقليص فريضة الأمر بالمعروف، وهو اتهام باطل، ومخالف للواقع؛ لأنَّ المحدِّثين حفظوا نصوص السُّنة كلها، وأدُّوها بأمانة قلَّ نظيرها أو انعدم، واشتهر كثير من المحدِّثين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على عكس ما يذكر المؤلِّف، ثم إنَّ نقْله عن المحدث إبراهيم الرازي أنَّ المحدثين هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، هذا النقل فيه ردٌّ على كلام المؤلِّف السابق وعبارته (طبعًا، لم تكن لجميع المحدِّثين نظرة واحدة إلى المسألة)؛ لأنَّ المحدث إبراهيم الرازي لم يُخبر عن نفسه أو طائفة معيَّنة من المحديثن، وإنما أخبر أنَّ المحدثين - الذي هو منهم - هم الآمرون بالمعروف والناهن عن المنكر.
- كما أنَّ قوله: (العقائد التي صاغها أهل الحديث تكاد لا تذكر النهي عن المنكر) ليس صحيحًا، وهذه كتُب السُّنَّة المشهورة لا يكاد يخلو منها مصنَّف من ذِكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن كتُب المحدِّثين المتخصِّصة في العقيدة كتاب (عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني)، وقد نصَّ فيه على أنَّ أصحاب الحديث: (يتواصون بقيام اللَّيل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام... والاهتمام بأمور المسلمين... والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،... ويجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات). وفي السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 559): (عن الشعبي، قال: «أَرجِئ الأمور إلى الله تعالى ولا تكن مرجئًا، وأْمُرْ بالمعروف وانهَ عن المنكر ولا تكن حروريًّا...»). وفي شرح السنة للبربهاري (ص: 108) عدَّ من أمور الاعتقاد: (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، إلَّا مَن خِفتَ سيفَه أو عصاه)... إلى غير ذلك ممَّا هو مبسوط في مظانه، ويظهر بهذا خطأُ المؤلف وافتراؤه على المحدِّثين.

ومن المؤاخذات: اتهاماته العديدة لأئمَّة الإسلام، وافتراؤه عليهم بالباطل، ووصْفه لهم بأوصاف لا تليق، مع كونها مخالفة للواقِع:
من ذلك: تعريضه بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، حيث يقول (ص: 151): (وأبلغ من كل الأسئلة قصة تروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو خليفة عظيم القدر عند أهل السنة، لكن فيه نزعة إلى الشِّدَّة).
ومعلومٌ أنَّ شِدَّة عمر رضي الله عنه كانتْ في الحقِّ؛ فهذا ممَّا يُمدح به، لا أن يذم عليه!
ومن ذلك: لمزه للإمام أبي حنيفة بالروغان، حيث يقول (ص: 47): (ولا غرابة إذًا في روغان أبي حنيفة لَمَّا أراد مخاطباه استخلاص نتائج ذلك المبدأ).
ومن ذلك: اتِّهامه للحنابلة الأوائل بالتقصير في الإنكار على السُّلطان، بينما يتَّهم حنابلة بغداد والحنابلة المتأخِّرين بالعُنف والإرهاب الناجِم عن التعصُّب!
يقول (ص: 175) عن الحنابلة الأوائل: (ويغيب بنحو صريح السلطان؛ فَهُم لا يرغبون في التصادُم ولا التعاون معه. وأوضحت الفتاوى، من دون أدنى لبس، أنه ينبغي عدمُ استهداف السلطات بالنهي عن المنكر، على الرغم من منكراتها الكثيرة البيِّنة للعيان. صرَّح ابن حنبل أنه ينبغي عدم التعرض للسلطان، "فإن سيفه مسلول").
ويقول (ص: 196) عن متأخِّريهم: (لكن مع بداية العنف الحنبلي، هذه انتباه غولدتسيهر الذي تحدَّث بعبارة لاذعة، لكن بصواب عن تطوُّر الجماعي من فِرقة مستكينة إلى فرقة مناضلة مع ميل إلى "الإرهاب الناجم عن التعصُّب". ويرتبط الأسلوب الجديد لسياسة الحنابلة بالأخصِّ، بحسب ما يتضح من مصادرنا، بنشاطِ الداعية والخطيب الغوغائي البربهاري "ت 329/9419"). ويقول (ص: 203): (لكن من الواضح أنَّ الحنابلة باتوا أكثرَ عددًا وعُنفًا).
ومن ذلك: اتهاماته ﳊﻨﺎﺑﻠﺔ ﺑﻐﺪﺍﺩ ﺑﺈﺛﺎﺭﺓ ﺍﻟﺸﻐﺐ (ص: 193)، ومن ذلك: اتِّهامه ﻟﻺﻣﺎﻡ ﺍﻟﱪبهاﺭيِّ ﺑﺘﺰﻋُّﻢ ﺛﻮﺭﺓ ﺷﻌﺒﻴﺔ، ﻭﻭﺻﻔﻪ ﺑﺎﻟﻐﻮﻏﺎﺋﻲ (ص: 196) و(ص: 236).

التعقيب:
في هذا الكلام ترديدٌ لدعاوى غولدتسيهر المعروف بحِقده على الإسلام وأهله، وتصحيح المؤلِّف لتلك الشبه والدعاوى الباطلة، مع اعترافه أنَّها عبارة لاذِعة، ولكنَّه في الوقت ذاته يصوِّبها! عن التطور الجماعي للحنابلة من فرقة مستكينة إلى فرقة مناضلة مع ميل إلى "الإرهاب الناجم عن التعصُّب". ثم إنَّه أراد من هذا أيضًا الزعم بأنَّ الحنابلة المتأخرين قد خالفوا إمام المذهب والحنابلة المتقدِّمين؛ ليقطع الصلة بينهم، ويُشكِّك من طرْف خفيٍّ في صِحَّة ما قاموا به من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد صرَّح بذلك في:
قوله (ص: 211): (إنَّه تحول كبير عن نزعة الموادعة التي اتَّصف بها أحمد بن حنبل، وعن حركة الشغب التي تزعَّمها البربهاري معًا).
وفي قوله (ص: 225): (أجوبة ابن حنبل لا تُقدِّم أفكاره بوصفها مذهبًا صالحًا لاستخدام مثيري الشَّغَب، ولا المتنفذين لأغراضهم؛ لذلك فإنَّ ما أُثر عن مؤسِّس المذهب لا يتوافَق حقًّا مع ممارسة حنابلة بغداد من عصر البربهاريِّ إلى نهاية الخلافة العباسيَّة).
وكل هذه الاتِّهامات والدعاوى باطلة، مخالفةٌ لِمَا عليه الحنابلةُ المتقدِّمون منهم والمتأخِّرون، ويشهد بذلك كتُب التراجم، وخصوصًا كتب طبقات الحنابلة ولولا خشيةُ الإطالة لنقلنا من أخبارهم ما يردُّ عليه، وسنكتفي فقط بذِكر ترجمة لواحد من أئمَّة الحنابلة ممَّن شنَّع عليهم المؤلِّف واتَّهمهم بالباطل، وهو الإمام البربهاري.
فيكفي في الردِّ على افتراءات المؤلِّف واتهامه للإمام البربهاريِّ بالغوغائيَّة وإثارة الشغب: نقْلُ ترجمته مختصرةً، حيث جاء فيها: أنَّ الإمام البربهاري: شيخ الحنابلة، القدوة، الإمام، الفقيه. كان قوَّالًا بالحقِّ، داعية إلى الأثَر، لا يخاف في الله لومة لائم... وأنَّه كان له مجاهدات ومقامات في الدِّين، وكان شديدًا على أهل البِدع والمعاصي، وكان كبيرَ القَدْر عند الخاصَّة والعامَّة، وكان المخالفون يغلظون قلب السلطان عليه؛ ففي سنة إحدى وعشرين وثلاث مائة أرادوا حبسَه، فاختفى، وأُخِذ كبار أصحابه، وحُمِلوا إلى البصرة، فعاقب الله الوزيرَ ابن مقلة، وأعاد الله البربهاريَّ إلى حشمته، وزادتْ، وكثر أصحابه. وثمَّة أخبار تُشير إلى منزلة البربهاري الرفيعة في قلوب الناس، ففي حادثة القرامطة قال البربهاريُّ: يا قومِ، إن كان [الخليفة المقتدر بالله] يحتاج إلى معونة مائة ألف دينار، ومائة ألف دينار، ومائة ألف دينار - خمس مرات - عاونتُه. قال ابن بطة معقِّبًا: لو أرادها لحصَّلها من الناس! وورد كذلك أنَّه اجتاز بالجانب الغربي، فعطس فشمَّته أصحابُه، فارتفعتْ ضجَّتهم، حتى سمعَها الخليفة! فأُخبر بالحال، فاستهولها، ثم لم تزلِ المبتدعة تُوحِش قلبَ الراضي، حتى نُودِي في بغداد: لا يجتمع اثنان من أصحاب البربهاري، فاختفى، وتُوفِّي مستترًا. وفي (تاريخ محمد بن مهدي) أنَّ في سنة ثلاث وعشرين أوقع بأصحاب البربهاري فاستتر، وتتبع أصحابه ونُهبت منازلهم. [ينظر: سير أعلام النبلاء (15/ 90 - 93)، طبقات الحنابلة: (2 / 18 - 45)، البداية والنهاية: (15 / 137)، الوافي بالوفيات: (12 / 146 - 147)، شذرات الذهب: (2 / 319)].
فهل يصحُّ وصْفُ إمامٍ بهذه المنزلة الرفيعة، مع ما كتَب الله تعالى له من القَبول في قلوب الخَلْق، والمهابة؛ هل يصح وصفُه واتهامه بما ذكر المؤلِّف؟! إلَّا أن يكونَ هذا الوصف للمبتدعة والواشين الحاقدين الذين كانوا يُوغِرون عليه صدور الخليفة، وكذلك يفعل المؤلِّف بوصفه واتهامه له (بحسب ما يتَّضح له من مصادره) التي لم يذكُر لنا عنها شيئًا! وهذا مثالٌ على الذين يطعن فيهم المؤلِّف، ويتهمهم بما لا يَليق من الأوصاف، ويقاس عليه غيره ممن يطعن فيهم.
وقد تتعدَّدت اتهاماته لعلماء أهل السُّنة والأئمَّة كما سبَق بعضها، وفيما يلي أيضًا سرْدٌ لبعض اتهاماته لهم دون التفصيل في التعقيب عليها؛ لوضوح خطأ هذه الاتهامات:
فمن ذلك: اتهامه للإمام أحمد؛ بقوله (ص: 182): (إنَّ ما يبرز في تلك الصورة هو المستوى المتواضِع لتلك الفريضة في مفهوم أحمد بن حنبل عنها. وهو يُحبِّذ - كما رأينا - النَّأيَ عن سبيل الدولة؛ فلا مواجهة للسلطان، ولا تعاون معه. ويبدو مذهبه، بهذا المعنى، بعيدًا كل البُعد من السياسة. وهو في الوقت نفسه مدنيٌّ بنحو مميَّز؛ فلا يرى استخدام السلاح، كما أشرنا، ولا مواجهته. ونلاحظ كذلك عنده نزعة إلى ترْك فاعل المنكر وشأنه، إذا لم يمتثل، والاكتفاء بإنكار معصيته في القلب. ولهذه السِّمات ما يوازيها في مذاهب أخرى، لكن قلَّما صِيغت بمثل ذلك الوضوح والتماسك)، ثم وصَفَه أنَّه على استعداد أن يدَعَ ما لقيصر لقيصر فقال (ص: 191): (أيد ابن حنبل طاعة السلطان إلَّا في معصية الله، ولكنَّها طاعة لا حماسة فيها ولا ودادة، لم يكُن معارضًا نشيطًا للخلفاء ولا مفرطَ الولاء لهم، كان مستعدًّا لكي يعطي لقيصر ما لقيصر)!
ومن ذلك: اتهامه لإسحاق بن حنبل - عم الإمام أحمد - بالحرص على الدُّنيا؛ حيث يقول (ص: 189): (وقد استغلَّ عمُّه إسحاق، الأحرص منه على الدنيا، هذه الصِّلة في محاولاته لإنقاذ ابن أخيه من المحنة).
ويتَّهمه وبقيةَ أقارب الإمام أحمد بالفساد والغش! يقول (ص: 190): (فقد أفسد تكريم الدولة وجوائزها أقاربه). ثم قال في الهامش: (والتفاصيل الممضة التي قدَّمها صالح عن أمورٍ، كغشِّ إسحق لابن أخيه، وعودته إلى سيرته الأولى بعد فترة من النزاهة، تُذكِّر بقصص تدمير بعض الأُسر بسبب إدمان أحد أفرادها على المخدِّرات في أيامنا)!
وهو هنا يُحاكم تراثنا، وهؤلاء القوم الأفاضل بما يتصوَّره في ذِهنه، وما عاشه في واقعه البعيد عن الإسلام. ويُسقِط ﺛﻘﺎﻓﺘﻪ ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ على التراث الإسلامي ﻋﻨﺪ ﻗﻴﺎﻣﻪ ﺑﺎﻟﺘﻮﺻﻴﻒ، وهو خطأٌ منهجيٌّ وعلميٌّ كبير.
ومن ذلك: ﺍﺩﻋﺎؤه أنَّ ﺍﳊﻨﺎﺑﻠﺔ الأوائل ﻻ ﻳﺴﺘﻬﺪﻓﻮﻥ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺑﺎﻷﻣﺮ ﻭﺍﻟﻨﻬﻲ (ص: 175 - 176)، واتِّهامه ﻟﻠﺤﻨﺎﺑﻠﺔ المتأخِّرين ﺑﺎﻟﻌُﻨﻒ والتعصُّب (ص: 192، 196)، وقد سبق الكلام عن ذلك.
ومن ذلك: ﻭﺻْﻒ عصور الإسلام الأولى بالكلاسيكية، ولم يوضِّح المؤلِّف ماذا يعني بهذا المصطلح، مع أنَّ مصطلح (الكلاسيكية) يُطلق على عدة معانٍ؛ منها: الاعتدال والبساطة؛ وعليه فلا يجوز قَبوله حتى يُعلم مقصود قائله؛ فإن كان يقصد المعنى المتداول من البساطة، فلا شكَّ أنَّه يحمل ذمًّا لعصور الإسلام الأولى، وقد يحمل ذمًّا لعصور الإسلام الآتية بعد تلك الحِقبة، وهو ما يُوصف بالراديكاليَّة، وكل هذه أوصاف غير مقبولة، كما في قوله (ص: 47) - مع ما في كلامه من مؤاخذات أيضًا -: (نرى هنا وجود مبدأ راديكالي بدرجة لافتة -إن لم نقل مقلقة- في الفكر الإسلامي بتياره الأكثري، هو أنَّ كل مسلم أُوتي حق تنفيذ شريعة الله. بحيث لا يجوز فقط للمؤمن الفرد، وفق هذا التصور، بل يجب عليه كذلك، الصدع بأوامر لتطبيق الشريعة وفِعل ما يستطيع لتنفيذها. بل قد يوجه تلك الأوامر إلى مَن هم أعلى منه رتبةً في سُلَّم النفوذ الاجتماعي والسياسي القائم).
ومن ذلك: اتهاماته للسَّلَف بالتناقض، وتشكيكه في التراث:
يقول (ص: 131): (خلال هذا العرض لمواقف وممارسات المسلمين الأوائل في مجال مواجهة السلطة، ربما لاحظ القارئُ مفارقةً تسترعي الانتباه، حيثما بلغتْنا عن الشخص نفسه أقوالٌ وأفعال في باب النهي عن المنكر، نجِد عضَّه أوجعَ من نُباحه. وسفيان الثوري مثالٌ بيِّن على ذلك؛ فمِن جِهة، لَمَّا سُئل: لماذا لا يدخل على السلطان، فيأمره وينهاه؟ أجاب بالعبارة المجازية التي ذكرنا (إذا انفتق البحر فمَن يَسدُّه/ يشده)؟ لكنَّنا من جهة أخرى نجده يدخل على الخليفة ولا يَخشى أن يشبهه (ضمنًا) بفرعون... تدعو هذه الاختلافاتُ إلى التساؤل عمَّا يجب تصديقه عن أولئك الأشخاص: أقوالهم أم أفعالهم، أم كلتيهما، أم لا هذه ولا تلك. ستدفعنا أيُّ محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات، بنحو مطلق، إلى متاهاتِ البحوث التاريخيَّة التي لتشعُّبها ولقلة الوثائق اللازمة لإجرائها لا تستحقُّ عناءَ الخوض فيها ضِمنَ إطار هذا البحث... لا يستبعد أنَّ الرواة لم يستطيعوا مقاومةَ إغراء الجمْع بين سفيان الثوري والخليفة؛ ليواجهه ويُشبِّهه بفرعون).
ويقول (ص: 193): (إذ لدينا من جِهة تحاليل نظرية متسقة، بل ومنهجية، للنهي عن المنكر بأقلام كِبار علماء المذهب، تَسعَى، ويا للعجب، إلى سدِّ الفجوة بين التقليد الموروث عنه ممثلًا في الفتاوى، وأسلوب أقرَّه ذوقُ العصر، يقوم على صياغة نسق نظري متكامل؛ إنَّ ما نفقده هنا هو ذلك الانطباع الأصلي بوجود علاقة مباشرة بين المبدأ والتطبيق. والنافذة الثانية تاريخيَّة، فبعد فترة ظلَّ طوالها دور الحنابلة في تاريخ بغداد ضئيلًا، اكتسبوا فجأةً شهرة بصفتهم مثيري شغَب من خلال أنشطة البربهاري (ت 329/ 941) ومعاصريه. لدينا إذًا بالأساس عرض لمبادئ ذات طابع نظري مجرد من جهة، ورواية سلسلة من الأحداث التاريخيَّة العاصفة من جهة أخرى).
ومن ذلك: تعريضه بالإمام عبد الغني المقدسي، وشيخ الإسلام ابن تيميَّة بالتَّبَع، بعدما اتَّهم الإمام البربهاري بالغوغائيَّة، حيث يقول (ص: 239 - 240): (ولو أمكن أن تقدم دمشق جموعًا هائجة كالتي حشَدَها البربهاريُّ في بغداد، وحُكَّامًا ضعاف [كذا، والصواب: ضعافًا] كحكام زمانه، لتحوَّل عبد الغني إلى زعيم غوغائي دمشقي، لكن الوضع الذي عاش فيه جعَلَه أشبهَ بالذئب المتوحِّد). ثم يقول (ص: 241): (يبدو العالم الحنبلي الشهير ابن تيمية (ت728/1328) للوهلة الأولى في غير محلِّه داخلَ الوسط التاريخي الذي عاش فيه، وهو باستمساكه بالنهي عن المنكر مهما كلَّفه بمثابة نُسخة من سلفه عبد الغني، وكثيرًا ما وضعتْه في المآزق صرامتُه وشِدَّتُه التي لا تَقبل المصالحة والتسوية). ثم قال في الهامش: (أوحى للِتل بأن في عقل ابن تيمية فكة [ Loose screw، أي: شيئًا من الشذوذ عن المألوف في تفكيره وسلوكه] معاصره الرحالة ابن بطوطة (ت 770/1368ت). )
ومن ذلك: تعريضه (ص: 242) بشيخ الإسلام ابن تيميَّة، وبأن شعبيته عند العامَّة كأنها شعبوية جديدة، حيث يقول: (فإذا زِدْنا إلى ذلك شعبيته في أوساط العامَّة في دِمشق وإقدامه في بِضْع مناسبات على العمل المباشِر، بدا لنا كأنَّنا نشهد ابنعاثَ الشعبوية من جديد).
ومن ذلك: اتهامه لشيخ الإسلام ابن تيميَّة بعدَم الرِّفق في وعظه، حيث ينقل (ص: 245) عنه بأنَّه لا بد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر من الرِّفق، ثم يعلِّق قائلًا: ( وهي خُلَّة لم يُعرَف بها ابن تيمية نفسُه في وعظه). ففيه اتهامٌ لشيخ الإسلام بأنَّ قوله يخالف فِعله، وهو خطأ، ومخالف للحقيقة التي عُرِف بها شيخ الإسلام، وهو أشهرُ من أن يُنبه عليه.
ومن ذلك: اتهامه (ص: 208) للإمام محمد التميمي (ت 488/ 1095) الذي يصفه بأنَّه قد حظِيَ بمنزلة رفيعة، باعتباره أحدَ المقرَّبين من قصر الخلافة، ومبعوثا رسميَّا... ثم قال: (وقد وصفه لاوست بصواب ممثلًا «لحنبلية حكوميَّة تتسم بمزيد من المرونة والانتهازية»).
ومن ذلك: نَبزُه لأهل السُّنَّة بالألقاب السيِّئة، وهو أحيانًا ينقل هذه الألقاب على أنَّها من تلقيب مخالفيهم لهم - كما سبق في قوله: ("الحشوية" - أي: المحدِّثين الذين ينزعون إلى التشبيه كما يُسمِّيهم خصومهم)- وأحيانًا يُعبِّر بها استقلالًا من عند نفسه؛ فمن ذلك:
قوله (ص: 350) عن إمام الهادوية الهادي إلى الحق الزيدي: (إنَّ جدَلَه هنا موجَّه إلى المجبِّرة المشبِّهة (أي السُّنة) القائلين بأنَّ الله قدَّر عليهم الظلمَ الذي نزل بهم، ولو عرَفوا الله حقَّ معرفته (ونفوا عنه عباده كما نفاه عزَّ وجلَّ عن نفسه) إذًا لاستجاب لهم دعوتهم، وكشف ما بهم من الظلم والجور).
ويقول (ص: 372 - 373): (باختصار: لم ينضمَّ الشوكاني إلى الحشوية...).

- ومن المؤاخذات عليه: الثناء على فرقة الإماميَّة، ووصفها بما هو مخالِفٌ للواقع، بناءً على تصوُّره القاصر: حيث يقول (ص: 416): (يمتاز الفكرُ الإماميُّ خلال الحقبة الممتدة طوال القرون 8-14/14 -20 بنزعة محافظة لافتة في بعض المجالات، لكنَّه يُبدي في أخرى رُوحَ إبداع لا مثيلَ لها عند الفِرَق والمدارس الأخرى في ذلك العصر).
وقد قال ذلك في (ص: 375): (تُقدِّم الإمامية توثيقًا لنظرية النهي عن المنكر، يفوق في ثرائه واتِّصاله ما عند أيِّ فرقة أو مدرسة أخرى، ولئن كانتْ كتابات الإماميَّة، في طورها المبكِّر أقلَّ غزارة ممَّا خلَّف أهلُ الحديث من السُّنة أو الفقهاء الحنابلة في الفترة نفسها، فإنَّها أوفرُ من الشذرات التي بلغَتْنا عن المعتزلة والزيدية، ومن بعد، نجِد عندهم مناقشات متتالية ومتصلة من دون انقطاع تقريبًا منذ القرن 5هـ/ 11هـ إلى يومنا هذا).
وبغضِّ النظر عن كونِ المؤلِّف مدَح فرقةً ضالَّة، مخالِفةً للحقِّ، ومخالفة للإسلام الذي جاء به محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، وسار عليه أصحابُه وتابعوهم من بعدهم، وبغضِّ النظر عن أنَّ حقيقةَ ما تأمُر به هذه الفرقة - ممَّا تزعمه معروفًا - هو المنكَرُ بعينه، وأنَّ حقيقة ما تنهى عنه - ممَّا تدعيه منكرًا - هو المعروف بعينه؛ بغضِّ النظر عن هذا كله، فكلامُ المؤلِّف مخالفٌ للموضوعيَّة والحياديَّة العلميَّة التي يُتشدق بها، خصوصًا وأنَّه أكثرَ من الاتهامات والغمز واللمز لأهل السُّنة، وأئمَّتهم من المفسِّرين والمحدثين والفقهاء - كما سبق.
ثم إنَّ كلامه هذا ليس صوابًا، مع ما فيه من التناقُض؛ فكيف تُقدِّم الإمامية توثيقًا للقضية يفوق ما عند أيِّ فرقة أو مدرسة أخرى، بينما تراثهم وكتاباتهم في طورها المبكِّر أقل غزارةً ممَّا خلَّف أهل الحديث من السنة أو الفقهاء الحنابلة في الفترة نفسها؟! فالمفترض أنَّ مَن كثُر تراثه هو الذي تكثُر مناقشاته، ولكن المؤلِّف لقلَّة اطلاعه على مناقشات أهل السُّنَّة والفقهاء الحنابلة لهذه القضية، أو لغفلته عنها، أو لإغفاله إيَّاها متعمدًا، يرى أنَّ مناقشات الإمامية - التي أكثر من الاطلاع عليها، وأُعجب بها فيما يظهر من عَرْضه - يرى أنَّها تفوق في الثراء والاتصال ما عند بقيَّة الفرق!
فلا غرابة إذن أن يُحتفَى به في إيران، ويُدعَى في أحد أكاديمياتها ويُكرَّم، ويُعرِّف به مديرُ الحفل بقوله: (مايكل كوك هو أحد المتخصِّصين في الدِّراسات الإسلاميَّة في الولايات المتحدة، وقد صدَر له حتى الآن عددٌ من المؤلَّفات والبحوث المهمَّة، من جملتها كتاب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وقد تُرجِم الكتاب إلى اللُّغة الفارسية قبل الترجمة العربيَّة هذه!
ومن ذلك: اتهامه للإمام ابن الجوزي بالتملُّق مع وصْف البربهاري بما سبَق، واتِّهام الحنابلة بالتناقُض على مرِّ العصور؛ يقول (ص: 260): (هناك من جِهة غوغائية البربهاري وإثارته للشَّغَب، ومن جهة أُخرى نزعة ابن الجوزي إلى التمثيل والتفخيم وحتى التملُّق، يُشكِّل هذان القطبان والتحول من الأول إلى الثاني طورًا في تاريخ المذهب الحنبلي، لا تتماشى صِبغتُه مع الإرث الأصلي للمذهب).
ومن ذلك: اتهاماته العديدة للإمام محمد بن عبد الوهاب ودعوته الإصلاحيَّة، حيث يَصِفُها بالتشدُّد والعنف، والسعي إلى السيطرة بالقوة العسكريَّة، وينعتها بما ينعتها بها أعداءُ الدعوة، كما يُشكِّك في قِيام الدعوة على الأمْر بالمعروف والنهي عن المنكَر؛ يقول (ص: 267) عن شهادة ابن غنام: (واستمرَّ في تقديم النهي عن المنكر عنصرًا جوهريًّا في المشروع الوهابي إلى نهاية الدولة السعودية الأولى، وحتى بعدها). ثم يعقب قائلًا: (هناك مع ذلك ما يدعو إلى الشكِّ في هذه الشهادة؛ حيث يمكننا بهذا الصَّدد أن نقارن أنَّ تقريره عن بدايات الدولة السعودية بآخر لمؤرِّخ معاصر لها، هو ابن عبد الوهاب ذكر قيامه به في العيينة، وذكر ذلك أيضًا في إشارة عابرة في مرثية. لا يُشكِّل النهي عن المنكر في الوقت نفسه، موضوعًا بارزًا في كتابات ابن عبد الوهاب، ذكر كُتَّاب أنَّه ألَّف فيه كتابًا مستقلًّا، لكن لا يبدو أنَّ لقولهم أساسًا متينًا). ثم يقول: (وكما يُتوقَّع، هناك إشاراتٌ متفرِّقة إليه في كتابته العديدة المحفوظة مثلًا، يضمنه اثنتين من العقائد التي كتَبَها، وقد جاء في كلتيهما باعتباره آخر بند يذكُره كذلك - لكن مجرَّد إشارة - ... لكن تلك الإشارات لا تُوحِي بأنَّ النهي عن المنكر كان من الأولويات في تصوُّره لمهمَّته).
ويقول (ص: 270): (... ابن عبد الوهاب، في حالة عملية، وقصد الحد من الضرر السياسي، لم يرَ حرَجًا في التقليل من مطالب الفريضة: وذلك يعني أنها لم تكُن ذاتَ دور حاسمٍ في مهمته). ويقول (ص: 273): (يتضح من هذه المقاطع، أنَّ النهي عن المنكر فريضة لها أهميَّة في حياة الجماعة، لكنَّها هنا أيضًا، لا تبدو أساسية بالنسبة إلى قضية الوهابيِّين). وكذا يقول (ص: 275): (لكن هذه الجوانب ليست حقًّا من صميم مشروع الوهابيِّين الذي جوهرُه السَّعي إلى السيطرة السياسيَّة على الانحراف بالقوة العسكريَّة)!
وكل هذا زعم باطل، تُكذِّبه سيرةُ الإمام محمَّد بن عبد الوهاب وجهاده، ورسائله وكتبه كلُّها؛ إذ دعوته كلها مبناها على الأمر بالمعروف، الذي أعظمه الأمر بتوحيد الله تعالى والدعوة إليه، والنهي عن المنكر، وأعظمه الشرك بالله جلَّ وعلا. ومِن هذا يتَّضح قصورُ فَهم المؤلِّف لحقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إضافةً إلى الاتهامات واللمز للإمام محمَّد بن عبد الوهاب ودعوته السلفيَّة الإصلاحيَّة.
ولا يفتأ المؤلِّف - مع هذا الزعم الباطل - يتَّهم الدعوة بالعنف والتشدُّد، ومن ذلك قوله (ص: 275): (كانت فكرة النهي عن المنكر في آنٍ واحد مُفرِطةً في عموميتها بوصفها نظريةً وُجِدت متواضعة على مستوى التطبيقات في الحياة اليوميَّة، بالنسبة إلى حركة لها برنامج بمِثل ذلك الطموح وتلك النزعة إلى العنف). وقوله: (ص: 285): (كان فتْح الحجاز مع التشدُّد الوهابي الذي صاحبه، والمواقف الأكثر تساهلًا في بقيَّة العالم الإسلامي وصفة (مثلى) للقلاقل).
ومن ذلك: انتقاصه (ص: 293 - 294) لكتاب الشَّيخ خالد السَّبت ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))، بوصْفه بأنَّه كتابٌ وهابيٌّ، وأنَّ أهميَّته فقط تكمن في أنَّه يجمع استشهادات مقتطفة من فتاوى أجاب بها محمد بن إبراهيم آل الشيخ - على حدِّ تعبيره - وتهكُّمه على الشَّيخ محمد بن إبراهيم وفتاويه، وطعنه أيضًا في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعوديَّة، وزعمه بأنَّ في التشريع ثغرات! حيث يقول: (... وما يلفت فيها بوجه خاص، من دون أن يُثير الاستغراب، هو الموقف المناهض الذي أثارته الهيئات. مثلًا، سمَح قاض مكي لرجل اتهمته الهيئة بالسكر بالطعن في شهادة أعضاء الهيئة، ولا يتردَّد محمَّد بن إبراهيم في تخطئة القاضي. وحيث أظهر أعضاء الهيئات حماسةً مفرِطة في القيام بوظيفتهم، أشار بالتسامُح معهم؛ فإنَّ لهم أعداءً بين أهل الفساد، سيشجِّعهم التعامُلُ بشدَّة مع تلك الهنات. وحيث يُخالف تصرُّف بعض الأعضاء آداب الاحتساب، لا ينبغي إعفاؤهم من مهامهم إلَّا إنْ أمكن تعويضُهم بآخرينَ أفضلَ منهم في التعامل مع الناس، تتضمَّن مخالفة خطيرة في السلوك الجنسي في حالة رجل من جدة، حيث اختفى المخبِر الرئيس تاركًا ثلاثة شهود من أعضاء الهيئة يقعون تحتَ طائلة حدِّ القذف، فوَجَد لهم إبراهيم مخرجًا بفضل ثغرة في التشريع؛ بحُجَّة أنَّ تنفيذ الحدِّ فيهم يَنقص قُدرتَهم على القيام بمهمَّاتهم، لا تقدم إلينا أجوبتُه الكثيرَ في ما عدا ذلك).

- كما يُلاحظ عمومًا على المؤلِّف اختلافُ عرضه للموضوع محلِّ البحث عند الطوائف المختلفة؛ فبينما نجده يعرض للموضوع في القرآن والتفسير والحديث وعند الحنابلة بقصور واختزالٍ شديدٍ، وطعنٍ واتِّهام، وغمْز ولمز للأئمَّة، مع وفرة المصادر وكثرتها، نجِدُه على النقيض من ذلك يَعرِض الموضوع بإسهابٍ وتنظيمٍ عن المعتزلة والشِّيعة، وخصوصًا الإماميَّة، ولا يطعن في أحد، ولا يتَّهم أحدًا، بل يُثني ويمدح أحيانًا! وجاء عرْضُه للموضوع عند المعتزلة (ص: 301 - 339) بشيءٍ يتَّسم بالدِّقَّة والتفصيل، والمدح من طرف غير خفيٍّ؛ فلا ينتقص ولا يتَّهم، ولا يلوِّح بالتناقض! فنراه يقول عن المعتزلة (ص: 337): (لكن الاتجاه التحليلي والتنظيري قويٌّ عند المعتزلة. إنَّ ما راق أبا الحسين في عرْضه لشروط النهي هو بلا شكٍّ ما يروقنا اليومَ: النتيجة بُنيان متماسك لا مجرَّد تعداد)! ونجده يصِف الخمينيَّ الهالكَ بالإمام، بينما يصِف الإمامَ البربهاريَّ بأنَّه غوغائي، وبأنَّه داعية إلى الشَّغب! وبهذا تنتفي عن المؤلِّف صِفةُ الموضوعيَّة والحياديَّة العلميَّة المزعومة.

ومن عيوب الكتاب: عدَم ذِكر نص الآيات، وإنَّما يكتفي فقط بذكر برقم السورة، ممَّا يحوج القارئ إلى الرجوع إلى المصحف والبحث فيه عن رقم السورة والآية المقصودة، أو محل الشاهد منها.
وختامًا:
فقدِ اتَّضح قصورُ فَهم المؤلِّف لقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك اتَّضح تقصيرُه واختزالُه الشَّديد في البحث، وقد انبنى على هذا الخطأُ في النتائج المستخلَصة. وأيضًا قد شاب الكتابَ كثيرٌ من الطعن والاتِّهام وعدم الموضوعيَّة والحياديَّة العلميَّة، خصوصًا مع أئمَّة أهل السُّنَّة والجماعة. واتَّضح أيضًا أنَّ هذا الكتاب لم يُقدِّم الرؤيةَ الكافيةَ الشاملة لموضوع الأمر بالمعروف في الفِكر الإسلامي كما هي في الواقِع. وكذلك ظهَر خطأُ المغترِّين بهذا الكتاب، وخطأُ وصفِهم له بالعدل والإنصاف والحياديَّة ... إلخ. وثمَّة مؤلَّفات ودراسات جيِّدة وكافية في هذا الموضوع ألَّفها علماءُ ومُتخصِّصون مسلمون قديمًا وحديثًا، مَن بحَث عنها وجدَها في مظانِّها.
والله الهادي إلى سواء السَّبيل،،

يتبع ... https://dorar.net/article/1768