مقالات وبحوث مميزة


خـارطةُ الإسلامِ.. هل هي قابلةٌ للتعديلِ؟!

سلطان بن عبدالرحمن العميري

 

 

الإسلامُ ليس مُجرَّدَ أحكامٍ مُبعثَرةٍ يُطلَبُ من الناسِ الالتزامُ بها, ولا هو مُجرَّدُ قِطعٍ مُتناثرةٍ على الأرضِ يُمكِنُ للإنسانِ أنْ يُحرِّكَها كيف يشاءُ، وليس هو عبارةً عن طوابقَ يُمكِنُ أنْ يُفصَلَ بعضُها عن بعضٍ، وإنما هو عِبارةٌ عن بُنيانٍ مرصوصٍ، ومتكاملٍ ومتناسِقٍ في أجزائِه، وكِيانٍ مُتداخِلٍ في مُكوِّناتِه، وكلُّ لَبِنةٍ فيه موضوعةٌ في موضِعِها الأكمَلِ بحِكمةٍ وعِنايةٍ، فالمُشرِّعُ الحَكيمُ في بِنائِه للمنظومةِ الإسلاميةِ لم يكتفِ بمُجرَّدِ تقريرِ الأحكامِ التشريعيَّةِ فحسْبُ، وإنما اهتمَّ أيضًا برسمِ صورةٍ دقيقةٍ لخارِطةِ تلك الأحكامِ، بحيثُ تكونُ كلُّ قطعةٍ فيها متواضعةً في المكانِ الأتقَنِ والأجمَلِ.

فاللهُ سبحانَه الذي أبدَعَ في خلقِ الكونِ، وأتقَنَ صَنعةَ كُلِّ جُزءٍ منه، وقدَّرَ فيه كلَّ شيءٍ تقديرًا، هو الذي أتقَنَ بُنيانَ خارِطةِ الإسلامِ، وأحكَمَ ترتيبَ صورتِه الهَرَميَّةِ، وقدَّرَ فيها كلَّ شيءٍ تقديرًا.

إنَّ قوةَ الإسلامِ وجَمالَه وتميُّزَه ليستْ في أحكامِه التشريعيَّةِ فحسْبُ؛ وإنما هي في بُنيانِه الجميلِ، وخارِطتِه المرسومةِ بإتقانٍ، فأصبَحَ لها رونَقٌ وجمالٌ لامعٌ.

فنحن مع الإسلامِ لسنا أمامَ موادَّ قانونيَّةٍ مُنفصِلٍ بعضُها عن بعضٍ، وإنما أمامَ خارطةٍ ضخمةٍ، أُمِرْنا بالإبقاءِ على معالِمِها، والالتزامِ بحُدودِها وإشاراتِها، فكما أنَّه يجِبُ علينا -نحن المسلمينَ- التمسُّكُ بأحكامِ الشريعةِ؛ فإنَّه يجِبُ علينا الاحتفاظُ بخارطةِ الإسلامِ كما رسَمَها الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلا نُضيفُ إليها شيئًا، ولا نُلغي منها جُزءًا، ولا نُغيِّرُ من أماكنِ أجزائِها.

وفَهمُ خارِطةِ الإسلامِ مبنيٌّ بشكلٍ أساسيٍّ على تحديدِ الهدفِ الأوَّليِّ من رسالةِ الدِّينِ، وهو -بلا شَكٍّ- تحقيقُ العُبوديةِ للهِ في الأرضِ، كما تضافرَتِ الأدلَّةُ الكثيرةُ على ذلك، وعلى ترتيبِ أولويَّاتِ الدِّينِ التشريعيَّةِ، ومعرفةِ مَرتَبةِ كلِّ واحدةٍ منها، ومتى ما وقَعَ الخلَلُ في فَهمِ الغايةِ الأوَّليَّةِ من رسالةِ الإسلامِ، أو الخَلَلُ في ترتيبِ أولويَّاتِه التشريعيَّةِ؛ فإنَّ الخلَلَ سيقَعُ لا مَحالةَ في صورةِ الخريطةِ التي رسَمَها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.

 

إنَّ عمليَّةَ فَهمِ الإسلامِ وفَهمِ الحقيقةِ الكلِّيَّةِ الجامعةِ لتعاليمِه بالغةُ الأهميَّةِ والضرورةِ، ولكنه في الوقتِ نفسِه خَطَرٌ جِدًّا، إنه عمَلٌ كبيرٌ وعظيمٌ، ولكنَّه في غايةِ الحساسيَّةِ ؛ إذ صِحَّةُ هذا التصوُّرِ وخطَؤُه لها أبعادٌ على أجزاءِ الدِّينِ وطبيعةِ العَلاقةِ بينها، فإذا كان هذا التصوُّرُ خطأً فستكونُ النظرةُ إلى خارطةِ الإسلامِ وبُنيانِه الهَرَميِّ خطأً[1].

ومع أنَّ الشريعةَ بيَّنتِ الهدفَ الأوَّليَّ منها بشكلٍ ظاهرٍ جِدًّا، ورسمَتِ الترتيبَ الهَرميَّ لأولويَّاتِها بوضوحٍ؛ إلا أنَّ الخطأَ في تحديدِ ذلك قد حصَلَ من بعضِ الباحثينَ، وذلك راجعٌ إلى أسبابٍ كثيرةٍ، ومن أهمِّها: الدُّخولُ إلى فَهمِ الإسلامِ من نافذةِ إصلاحِ الخطَأِ الجُزئيِّ والاستغراقِ فيه، أو الدُّخولُ من نافذةِ الدفاعِ عن الإسلامِ ضِدَّ تُهَمِ مُخالفيه له، أو الدُّخولُ من نافذةِ ضغْطِ اللحظةِ الراهنةِ، أو الدُّخولُ من نافذةِ التأثُّرِ بمَنظوماتٍ لها أولويَّاتٌ مغايرةٌ لأولويَّاتِ المنظومةِ الإسلاميَّةِ.

فهذه الأسبابُ -أو بعضُها- تجعَلُ الذِّهنَ يتوجَّهُ إلى ما يُناسِبُها في خارطةِ الإسلامِ، وتُعطي له الأولويَّةَ، وتُؤدِّي إلى صِياغةِ مفهومٍ للإسلامِ وأهدافِه وترتيبِ أولويَّاتِه على النسَقِ الذي ينسجِمُ معها.

ولا يكادُ يجِدُ المرءُ صُعوبةً في الوقوفِ على الأمثلةِ الواقعيَّةِ التي تكشِفُ عن بعضِ معالمِ الخطأِ في فَهمِ رسالةِ الإسلامِ وتحديدِ معالِمِ خارِطتِه، وقد تميَّزَ عصرُنا الحاضرُ بكَثرةِ الكتاباتِ التي تتحدَّثُ عن فَهمِ حقيقةِ الإسلامِ، وعن رسالتِه في الوجودِ، وعن مقوِّماتِه وخصائصِه وأولويَّاتِه، واشترَكَ في ذلك أطيافٌ مختلِفةٌ من الإسلاميِّينَ والمُستشرِقينَ وغيرِهم، وقُدِّمتْ رُؤًى وأفكارٌ مختلفةٌ حولَ الموضوعِ، وحصَلَ ما يُمكِنُ أنْ يُسمَّى "فَوْضى تفسيرِ الإسلامِ".

فحين رأى بعضُ الإسلاميينَ ما يُعانيه العالَمُ الإسلاميُّ من التخلُّفِ الحضاريِّ والانحطاطِ النهضَويِّ، وأرادَ إصلاحَ ذلك، ذهَبَ إلى قضيَّةِ عِمارةِ الأرضِ، وجعَلَها تمثِّلُ الهدَفَ الأوَّليَّ لرسالةِ الإسلامِ، وأنَّ وظيفةَ الإنسانِ الأولى في الحياةِ التي وُجِدَ من أجلِها هي إنشاءُ الحضارةِ فيها، وأنَّ مُهمَّةَ الإسلامِ الأولى هي صناعةُ الإنسانِ.

وحين وقَفَ بعضُ الإسلاميينَ على حجمِ الرُّكونِ المَعرفيِّ والحَضاريِّ والاجتماعيِّ، وأرادَ تخليصَ أمَّتِه ممَّا تُعانيه، توجَّهَ إلى قضيَّةِ التغييرِ، وأعلى من مَنزلَتِها، وكأنها هي الغايةُ الأولى لرسالةِ الإسلامِ، وأنَّ اللهَ إنما بعَثَ رسولَه من أجلِ إحداثِ التغييرِ في المجتمَعاتِ المُختلفةِ.

وحين واجَهَ بعضُ المفكِّرينَ الإسلاميينَ بِنيةً جامدةً في العالَمِ الإسلاميِّ أغلقَتْ بابَ الاجتهادِ، وضيَّقتْ طرُقَ العِلْمِ والمعرفةِ، وأنكرَتْ على العقلِ دَورَه في فَهمِ الدِّينِ واستنباطِ الأحكامِ، وأرادَ حَلَّ هذه المُعضِلةِ، لم يقِفْ بالعقلِ عند حُدودِه المعقولةِ، وإنما تجاوَزَ به مَنزِلتَه وبوَّأَه درَجةً عاليةً من الحُجِّيَّةِ تفوقُ حُجيَّةَ نُصوصِ الشريعةِ.

وحين وقَفَ بعضُ المُصلِحينَ على حجمِ الانحرافِ السياسيِّ الذي عشَّشَ في المجتمَعاتِ الإسلاميةِ وفتَكَ بها، وأرادَ تخليصَ أمَّتِه مما هي فيه؛ أخَذَ يقولُ: إنَّ الغايةَ الأولى من رسالةِ الإسلامِ هي الثورةُ على الأنظمةِ السياسيَّةِ الظالمةِ، وإرجاعُ الحقوقِ إلى أهلِها، وتأسيسُ نظامٍ إسلاميٍّ رشيدٍ.

ومن أكثَرِ الشواهدِ الواقعيَّةِ بُروزًا واكتمالًا: التصوُّرُ الذي قامتْ عليه الجماعةُ الإسلاميَّةُ في الهندِ بقيادةِ الأستاذِ: أبي الأعلى المَوْدوديِّ، فإنَّه أكَّدَ في كثيرٍ من كُتبِه على أنَّ الهدفَ الأوَّليَّ من رسالةِ الإسلامِ هو إقامةُ الحكومةِ الإسلاميَّةِ في الأرضِ، وأنَّ هدَفَ المؤمنِ فيها تنفيذُ القوانينِ التشريعيَّةِ فيها، ولهذا جعَلَ في بعضِ كلامِه جَوْهَرَ الألوهيَّةِ يرجِعُ إلى السلطةِ والحاكميَّةِ، وترتَّبَ على ذلك أنْ جعَلَ العباداتِ العمليَّةَ وسائلَ لتحقيقِ تلك الغايةِ، فالصلاةُ والزَّكاةُ والصيامُ والحَجُّ تحوَّلتْ عندَه إلى مُقرَّراتٍ تدريبيةٍ لتُعِدَّ الإنسانَ للقيامِ بمُهمَّةِ إقامةِ الحكومةِ الإسلاميَّةِ على الأرضِ!![2].

والأساسُ المُشترَكُ بين كلِّ تلك التصوُّراتِ هو محاولةُ تفسيرِ رسالةِ الإسلامِ الأوَّليَّةِ بأمرٍ صحيحٍ شَرعًا، ولكنَّه لا يُمثِّلُ الهدَفَ الأوَّليَّ للإسلامِ، وليس هو الميزانَ الذي تُحكَمُ به خارِطتُه، وليس هو الفِكرَ الجامعَ لها.

فليس هناك من شَكٍّ في أنَّ عِمارةَ الأرضِ، أو ضرورةَ التغييرِ، أو اعتبارَ العقلِ في المعرفةِ، أو أهميَّةَ النظامِ السياسيِّ؛ أمورٌ مُرادةٌ للشريعةِ، وهي داخلةٌ ضِمْنَ نِطاقِ خارِطتِه، ولكنها لا تمثِّلُ الغايةَ الأوَّليَّةَ لرسالةِ الإسلامِ، وليست هي حِكمتَه الجامعةَ، ولا تُعَدُّ القَصْدَ الأوَّليَّ للمسلِمِ في الحياةِ.

فموضِعُ الإشكالِ إذن في تلك التفاسيرِ ليس في كَونِها صحيحةً في نفسِها، ولا في كونِها جُزءًا مُهمًّا من خارطةِ الإسلامِ، ولا في ضرورةِ التركيزِ عليها والاهتمامِ بها وتسليطِ الأضواءِ عليها، وحَثِّ الهِمَمِ على مُعالجتِها، ولا في استعمالِ الألفاظِ القويَّةِ في الدعوةِ إليها، كلُّ هذه الأمورُ ليستْ هي مَحِلَّ الإشكالِ، وإنما مَحِلُّه في وَضعِها في غيرِ مَوضِعِها من خارطةِ الإسلامِ، وجَعْلِها في منزلةٍ أعلى مما هي عليه، وفي استعمالِ الألفاظِ التي توهِمُ بكونِها تتبوَّأُ رأسَ الهَرَمِ في الإسلامِ.

وخُطورةُ تلك التفاسيرِ ترجِعُ إلى أنَّها تتعلَّقُ بالحقيقةِ الكُلِّيَّةِ الجامعةِ لرسالةِ الإسلامِ، وليستْ هي كالخطأِ في فَهمِ جُزئيَّةٍ من الجزئيَّاتِ، كمِثْلِ الخطأِ في حُكمِ تاركِ الصلاةِ، أو في حكمِ تحيَّةِ المسجِدِ، وإنما هي خَطأٌ كُلِّيٌّ يتعلَّقُ بتحديدِ البِنيةِ الهرميَّةِ لهيكَلِ الدِّينِ وروحِه، ومعلومٌ أنَّه إذا تغيَّرَت وِجهةُ النظَرِ في تصوُّرِ الحقيقةِ الكليَّةِ؛ فإنَّ ذلك يؤثِّرُ في حيثيَّةِ الأجزاءِ وترتيبِ درَجاتِها [3]، فتصبِحُ بعضُ الأجزاءِ في غيرِ مَحِلِّها من الخارطةِ، إما صُعودًا إلى أعلى إذا كانت منسجمة مع الهدف الأوَّليِّ المقترَحِ, وإما نُزولًا إلى أسفَلَ إذا لم تكن كذلك، وفي كلتا الحالينِ لن تبقَى صورةُ خارطةِ الإسلامِ كما هي، فلو عَمَدَ شخصٌ ما إلى هيكلٍ عظميٍّ - ولْيكنْ هيكلَ فيلٍ مَثلًا- فلم يُضِفْ إليه شيئًا ولم يُلغِ منه جزءًا، ولكنه غيَّرَ مواضعَ أجزائِه، فهل تَبقى صورةُ الفيلِ كما هي، أم تتغيَّرُ ويحصُلُ الاضطرابُ في شَكلِه؟!

فكذلك الحالُ فيمَن غيَّرَ ترتيبَ خارطةِ الإسلامِ، ورفَعَ بعضَ أجزائِها حتى جعَلَها تتبوَّأُ رأسَ الهَرَمِ، أو أنزَلَ بعضَ الأجزاءِ عن مَكانِها المُحدَّدِ؛ فإنَّ ذلك سيغيِّرُ من صورةِ خارطةِ الإسلامِ وشَكلِها لا مَحالةَ.

فتلك التفاسيرُ تُقدِّمُ تصوُّرًا للدِّينِ يحتوي على جميعِ أجزائِه، ولكنها قد انحرفَتْ عن مكانِها الأصليِّ، ورَتَّبَتْ فيه جوانبَ الدينِ ترتيبًا خاضعًا لظروفٍ استثنائيةٍ وليستْ هي الظروفَ المُطلَقةَ التي بنَتْ عليها الشريعةُ رُؤيتَها وترتيبَها.

وليس هناك من رَيبٍ في أننا في هذا العصرِ نحتاجُ احتياجًا ضروريًّا إلى تحديدِ التصوُّراتِ الإسلاميةِ بشَكلِها الصحيحِ، ومُضطرُّونَ إلى الكَشفِ عن خارطةِ الإسلامِ كما رسَمَها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإزالةِ كلِّ ما عَلِقَ بها من شوائبَ عبرَ التاريخِ، فهي طوقُ النجاةِ الذي يُخلِّصُنا من أمواجِ الفِكرِ الإنسانيِّ العاتيةِ، وهي البوصلةُ التي تَدُلُّنا على المساراتِ الصحيحةِ في متاهاتِ التيهِ الإنسانيِّ، ولكننا نحتاجُ مع ذلك أنْ نتخلَّصَ من كلِّ النوافذِ التي تؤدِّي بنا إلى الوُقوعِ في خطأِ فَهمِ الحقيقةِ الكلِّيَّةِ الجامعةِ للإسلامِ.

وقد نبَّهَ الأستاذُ سيد قطب على ضرورةِ هذا الأمرِ، وأكَّدَ على أننا في عمليةِ الكَشفِ عن خارطةِ الإسلامِ يجِبُ علينا ألَّا "نستحضِرَ أمامَنا انحرافًا مُعيَّنًا من انحرافاتِ الفكرِ الإسلاميِّ أو الواقعِ الإسلاميِّ، ثم ندَعَه يستغرقُ اهتمامَنا كلَّه، بحيثُ يُصبِحُ الردُّ عليه وتصحيحُه هو المُحرِّكَ الكلِّيَّ لنا فيما نبذُلُه من جُهدٍ في تقريرِ خصائصِ التصوُّرِ الإسلاميِّ ومُقوِّماتِه... إنما نحن نحاولُ تقريرَ حقائقِ هذا التصوُّرِ في ذاتها، كما جاءَ بها القرآنُ الكريمُ، كاملةً شاملةً متوازِنةً متناسِقةً تناسُقَ هذا الكونِ وتوازُنَه...

ذلك أنَّ استحضارَ انحرافٍ معيَّنٍ، أو نقصٍ معيَّنٍ، والاستغراقَ في دَفعِه وصياغةَ حقائقِ الإسلامِ للردِّ عليه، مَنهجٌ شديدُ الخطَرِ، وله مُعقِّباتُه في إنشاءِ انحرافٍ جديدٍ في التصوُّرِ الإسلاميِّ لدَفعِ انحرافٍ قديمٍ، والانحرافُ انحرافٌ في كلِّ الأحوالِ"[4].

وسواءٌ اتَّفقْنا على أنَّ سيد قطب نفسَه استطاعَ النجاحَ في تحقيقِ هذه المنهجيَّةِ أو أنه وقَعَ ضَحيَّةَ ما حذَّرَ منه، إلا أنَّ ما نبَّهَ عليه يبقى قضيةً مِحوريَّةً بالغةَ الأهميَّةِ والخطورةِ.

إنَّ أوَّلَ قضيةٍ يجِبُ أنْ نلتزِمَ بها في الكَشفِ عن خارطةِ الإسلامِ هي التفريقُ بين حقيقةِ الهدَفِ الذي جاءَ الإسلامُ لتحقيقِه، والذي هو روحُ رسالةِ الإسلامِ وفكرتُه الجامعةُ، وبين مُقتَضياتِ ذلك الهدفِ ومُستلزماتِه، وقد تضافرَتِ النصوصُ الشرعيَّةُ كثرةً على أنَّ الهدفَ الأوَّليَّ -والتعبيرُ بالأوَّليِّ يَعني أنَّ هناك أهدافًا أُخرى ولكنها ليستْ أوَّليَّةً- هو تحقيقُ العُبوديَّةِ للهِ تعالى في الأرضِ، وتصحيحُ العَلاقةِ بين الإنسانِ ورَبِّه، وليس من شكٍّ في أنَّ هذه الرسالةَ تقتضي بالضرورةِ إصلاحَ حياةِ الإنسانِ في الأرضِ، وضَبطَ عَلاقتِه بالكونِ، ودَعوتَه إلى عِمارةِ الأرضِ والتغييرِ من الأحوالِ الفاسدةِ، ونحوَ ذلك، لكنَّ هذه الأمورَ كلَّها تبقى مُقتَضياتٍ للهدَفِ الأوَّليِّ، وتُعَدُّ أهدافًا أُخرى تابعةً له، وليستْ أعلى ولا مساويةً له.

إنَّ الإحساسَ بأهميَّةِ الفكرةِ وضَخامةِ الانحرافِ فيها وسَعةِ الآثارِ المُترتِّبةِ عليها لا يبرِّرُ لنا في محاولةِ إصلاحِها أنْ نرفَعَها فوقَ المنزلةِ التي لها في الشريعةِ، ولا يبرِّرُ لنا أنْ نُغيِّرَ مكانَها من خارطةِ الإسلامِ، فلو افترضْنا أنَّ زمنًا من الأزمانِ شاعَ فيه الزِّنا مَثلًا، فأرادتْ طائفةٌ إصلاحَ هذا الخلَلِ وجعلَتْ ذلك من أولويَّاتِها.. فلها الحقُّ أنْ تجعَلَ ذلك هدفًا أولويًّا لها، بل قد يجِبُ عليها ذلك، ولكن لا يحِقُّ لها أنْ تُصوِّرَ للمُتلقِّينَ أنَّ الهدفَ الرئيسَ لدعوةِ الرسولِ هو محاربةُ الزِّنا، وأنَّ اللهَ تعالى إنما أرسَلَ الرُّسُلَ لتحقيقِ هذا الهدفِ؛ لأنَّ ذلك مخالفٌ لدَلالاتٍ شرعيَّةٍ ظاهرةٍ.

وأساسُ الخلَلِ المنهجيِّ في تلك الدعوةِ يرجِعُ إلى عدَمِ التفريقِ بين الحالةِ الاستثنائيَّةِ وبين الحالةِ الأصليَّةِ في الشريعةِ، ففي حالِ الانحرافِ والابتعادِ عن الحقِّ يجِبُ أنْ تقومَ خِطاباتٌ تجعَلُ من أولويَّاتِها إصلاحَ الخلَلِ الواقعِ، ومحارَبةَ السبُلِ المؤدِّيةِ إلى حُدوثِه مرَّةً أخرى، ولكنَّ ذلك يختلِفُ عن الحالةِ الأصليَّةِ التي يجِبُ فيها مُراعاةُ دَلالاتِ الشريعةِ نفسِها من غيرِ اعتبارِ شيءٍ آخَرَ.

وهذا راجعٌ إلى أنَّ البعضَ لا يفرِّقُ بين الأولويَّاتِ التي يجعَلُها هو لمَشروعِه الخاضِعِ لظروفٍ تاريخيَّةٍ واجتماعيَّةٍ مُحدَّدةٍ وبين الأولويَّاتِ التي جاءَتِ الشريعةُ نفسُها لتحقيقِها في الوجودِ، فيجعَلُ أولويَّاتِ مَشروعِه الزمَنيِّ هي أولوياتِ الإسلامِ! وهنا يكمُنُ الخطَرُ والتجاوُزُ في فَهمِ خارطةِ الإسلامِ.

لا حَجْرَ على أنَّ مَن أرادَ مِن المصلحينَ تحديدَ الأولويَّاتِ التي يراها أحَقَّ بالاهتمامِ والإصلاحِ في العالَمِ الإسلاميِّ من حيثُ الأصلُ، سواءٌ كانتْ تلك الأولويَّاتُ دَعَويَّةً أو فِكريَّةً أو عقَديَّةً أو اجتماعيَّةً، وينبغي على العاملينَ في حُقولِ الفكرِ الإسلاميِّ تفهُّمُ هذا التنوُّعِ، بل تأييدُه ودَعمُه، وسيكونُ الحوارُ مُقتصِرًا حولَ الحديثِ عن صِحَّةِ ما تمَّ تحديدُه من الأولويَّاتِ، وهل هي فِعلًا كذلك فقَطْ؟ ولكن لا يحِقُّ أنْ تُرفَعَ تلك الأولويَّاتُ لتُصبِحَ هي أولويَّاتِ رسالةِ الإسلامِ من حيثُ هو.

 

____________________________

الهوامشُ:

 

[1] انظُرْ: خطَأٌ في التفسيرِ، وحيد الدين خان (256).

[2] انظُرْ في شرحِ فِكرةِ المَودوديِّ: التفسيرُ السياسيُّ للإسلامِ، أبو الحسنِ الندويُّ، وخطَأٌ في التفسيرِ، وحيد الدين خان، فقد تتبَّعا كلامَ المَودوديِّ وجمَعَا مُفترِقَه وبيَّنا ما فيه من خلَلٍ، وقد قام تيَّارٌ آخَرُ يدافِعُ عن مواقفِ المودوديِّ، ولكنَّ أتباعَ هذا التيَّارِ اختلفوا إلى موقفَينِ، منهم: مَن يرى أنَّ الفكرةَ التي نُسبَتْ إلى المودوديِّ صحيحةٌ، وقد قالَها بالفِعلِ، وهي صائبةٌ، ومنهم: مَن يرى أنَّ الفكرةَ التي نُسبَتْ إلى المودوديِّ غيرُ صحيحةٍ في نَفسِها، وأنَّ كلامَه لم يُفهَمْ على وجهِه... وتُعَدُّ التجربةُ الهِنديَّةُ في فَهمِ خارطةِ الإسلامِ من أكثَرِ التاريخِ المعاصِرِ ثراءً وحيويَّةً، وهي بحَقٍّ تحتاجُ إلى دِراسةٍ مُوسَّعةٍ ومُعمَّقةٍ.

[3] انظُرْ: خطأٌ في التفسيرِ، وحيد الدين خان (234).

[4] خصائصُ التصوُّرِ الإسلاميِّ ومُقوِّماتُه (17).