مقالات وبحوث مميزة


مُلاحظاتٌ على البيانِ الخِتاميِّ للمؤتمَرِ العالَميِّ لإثباتِ الشهورِ القمريَّةِ، عندَ عُلماءِ الشريعةِ، والحسابِ الفَلكيِّ المنعقِدِ بمقَرِّ رابطةِ العالَمِ الإسلاميِّ، بمكَّةَ المكرَّمةِ في المدَّةِ من 19-21/3/1433هـ

الشيخ الدكتور هيثم بن جواد الحداد

25 من شعبان 1433هـ

 

 

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ.

أمَّا بعدُ:

فهذه مُلاحظاتٌ على البيانِ الخِتاميِّ للمؤتمرِ العالَميِّ لإثباتِ الشهورِ القمريَّةِ، عندَ عُلماءِ الشريعةِ، والحسابِ الفَلكيِّ المنعقِدِ بمقَرِّ رابطةِ العالَمِ الإسلاميِّ، بمكَّةَ المكرَّمةِ، في المدَّةِ من 19-21/3/1433هـ.

 

الملاحظةُ الأُولى:

أيُّ آراءِ أهلِ العِلمِ أَوْلى بالأخذِ؟

لا يسَعُ الباحثَ المتابِعَ لحركةِ الفِقهِ الإسلاميِّ في السنواتِ العشْرِ الأخيرةِ، ولمواقفِ بعضِ المؤسَّساتِ العِلميَّةِ من هذه التطوراتِ، إلَّا أنْ يُسجِّلَ استهجانَه لهذا الاتجاهِ الذي بدَأَ ينخُرُ في بُنيانِ هذا الفقهِ الذي تتابَعَتِ الأُمَّةُ عليه جيلًا بعدَ جيلٍ في جميعِ أقطارِ الأرضِ، وهذا الاستهجانُ تَتلوهُ خَشيةٌ من أنْ يصِلَ هذا الاتجاهُ المشبوهُ إلى مجامِعِنا الفقهيَّةِ الشامخةِ، فهل قارَبَ أمْ لا؟ نسألُ اللهَ ألَّا يكونَ كذلك؛ فإنَّه سُبحانَه يقولُ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر : 9].

لقد عقَدَ المجمعُ الفقهيُّ الإسلاميُّ التابعُ لرابطةِ العالَمِ الإسلاميِّ دَوْرتَه الرابعةَ، في المدَّةِ ما بينَ السابعِ والسابعَ عشَرَ من شهر ربيعٍ الآخِرِ سنةَ 1401هـ، ودرَسَ السؤالَ الموجَّهَ من قِبَلِ الدعوةِ الإسلاميَّةِ في سِنغافورةَ، المؤرَّخَ في 16 من شوَّالٍ 1399هـ الموافِقِ 8 أغسطسَ 1979م، الموجَّهَ لسعادةِ القائمِ بأعمالِ سِفارةِ المملكةِ العربيَّةِ السعوديَّةِ هُناك، والذي يتضمَّنُ أنَّه حصَلَ خِلافٌ بينَ هذه الجمعيَّةِ، وبينَ المجلِسِ الإسلاميِّ في سِنغافورةَ في تحديدِ بدايةِ شَهرِ رَمضانَ ونهايتِه، سنةَ 1399هـ الموافِقَ 1979م، حيث رأتِ الجمعيَّةُ ابتداءَ شَهرِ رَمضانَ وانتهاءَه على أساسِ الرؤيةِ الشرعيَّةِ، وَفقًا لعُمومِ الأدلَّةِ الشرعيَّةِ، بينَما رَأى المجلِسُ الإسلاميُّ في سِنغافورةَ ابتداءَ رَمضانَ المذكورِ ونهايتَه بالحسابِ الفَلكيِّ، مُعلِّلًا ذلك بقولِه: (بالنسبةِ لدولِ مِنطقةِ آسْيا حيث كانت سماؤُها محجوبةً بالغَمامِ، وعلى وجهِ الخُصوصِ سِنغافورةُ، فالأماكنُ لرؤيةِ الهلالِ أكثرُها محجوبةٌ عنِ الرؤيةِ، وهذا يعتبر منَ الأعذارِ التي لا بُدَّ منها؛ لذا يجِبُ التقديرُ عن طريقِ الحسابِ)، وبعدَ مُداولاتٍ بينَ الأعضاءِ، وبحوثٍ مستفيضةٍ من قِبَلِ عَددٍ كبيرٍ منَ العُلماءِ، منشورٍ كثيرٌ منها، قرَّرَ مجلِسُ المجمَعِ الفقهيِّ الإسلاميِّ تأييدَه لجمعيَّةِ الدعوةِ الإسلاميَّةِ فيما ذهبَتْ إليه؛ لوضوحِ الأدلَّةِ الشرعيَّةِ في ذلك، كما يُقرِّرُ أنَّه: بالنسبةِ لهذا الوضعِ الذي يوجَدُ في أماكنَ مثلِ سِنغافورةَ، وبعضِ مَناطقِ آسْيا وغيرِها، حيث تكونُ سماؤُها محجوبةً بما يمنَعُ الرؤيةَ؛ فإنَّ للمسلِمينَ في تلك المناطقِ، وما شابَهها أنْ يأخُذوا بمَن يثِقونَ به منَ البلادِ الإسلاميَّةِ التي تعتمِدُ على الرؤيةِ البصريَّةِ للهلالِ، دونَ الحسابِ بأيِّ شَكلٍ منَ الأشكالِ، عَملًا بقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "صُوموا لرُؤيَتِهِ، وأَفْطِروا لرُؤيَتِهِ، فإنْ غُمَّ عليكم فأَكْمِلوا العِدَّةَ ثَلاثينَ"، وقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "لا تَصُوموا حتَّى تَرَوُا الهِلالَ، أو تُكْمِلوا العِدَّةَ، ولا تُفْطِروا حتَّى تَرَوُا الهِلالَ، أو تُكمِلوا العِدَّةَ)، وما جاءَ في مَعْناهما منَ الأحاديثِ.

ووقَّعَ على هذا البيانِ كلٌّ منَ الرئيسِ: عبد الله بن حميد، ونائبِ الرئيسِ: محمَّد علي الحركان، والأعضاءِ الآتيةِ أسماؤُهم: عبد العزيز بن باز، مصطفى الزرقا، محمَّد رشيدي، محمَّد بن عبد الله السبيل، حسنين مخلوف، محمَّد رشيد قباني، محمَّد بن صالح بن عثيمين، عبد المحسن العبَّاد، محمَّد الشاذلي النيفر، محمود الصوَّاف، عبد القدوس الهاشمي، مبروك العوادي، أبو الحسن الندوي.

إلَّا أنَّ المجمَعَ الموَقَّرَ -وبعدَ أنْ غيَّبَتِ الوفاةُ كلَّ أعضائِه أو جُلَّهم منَ الجيلِ الأوَّلِ رحمِهمُ اللهُ رحمةً واسعةً- يجتمِعُ اجتماعًا مخصَّصًا على غيرِ عادتِه في دراسةِ المسائلِ الفقهيَّةِ، تلك التي عادةً ما تُدرَجُ ضِمنَ دَوْراتِه الاعتياديَّةِ السنويَّةِ؛ لدراسةِ مسألةِ الأهِلَّةِ مرَّةً أُخْرى، ناسِفًا ما قرَّرَه هو، دون إشارةٍ في بيانِه الخِتاميِّ لمَا صدَرَ عنه سابقًا، وهو خلافُ ما يَجْري عليه العملُ في مِثلِ هذه المجامِعِ، بل قد نسَفَ بذلك ما استقَرَّ عليه إجماعُ المسلِمينَ وعَملُهم في شتَّى الأقطارِ جيلًا بعدَ جيلٍ، دون الإشارةِ إلى هذا الإجماع كذلك، وليتَ شِعْري بأيٍّ يأخُذُ المسلِمونَ؟ وقولَ مَن يُجِلُّونَ ويَعتمِدونَ؟ قولَ الآلافِ المؤلَّفةِ منَ الأجيالِ السابقةِ الفاضلةِ، أمْ قولَ ثُلَّةٍ محدودةِ العَددِ والعُدَّةِ؟!

سيقولُ إخوانٌ فُضلاءُ بأنَّ قرارَ المجمَعِ الأوَّلَ لم يتناوَلِ المسألةَ بالتفصيلِ، أو أنَّ ثمَّةَ مُستجدَّاتٍ أوجبَتْ إعادةَ النظرِ في المسألةِ، وهذا صحيحٌ جُزئيًّا، وليس كُليًّا؛ فإنَّ ثَمَّةَ قَراراتٍ أُخَرَ من مجامعَ مُشابِهةٍ، أو ذاتِ اتِّساعٍ أكبرَ، تؤيِّدُ القرارَ الأوَّلَ، منها قرارُ مجلِسِ مجمَعِ الفقهِ الإسلاميِّ الدوليِّ المنعقِدِ في دَوْرةِ مُؤتمرِه الثالثِ بعَمَّانَ عاصمةِ المملكةِ الأردُنِّيَّةِ الهاشميَّةِ من 8-13 صفرٍ 1407هـ، الموافقِ 11–16 تشرينَ الأوَّلِ (أكتوبرَ) 1986م؛ إذ جاء في قرارِه الذي صدَرَ بعدَ دراسةٍ مُستفيضةٍ: (أنَّه إذا ثبتَتِ الرؤيةُ في بلدٍ وجَبَ على المسلِمينَ الالتزامُ بها، ولا عِبرةَ لاختلافِ المطالِعِ؛ لعُمومِ الخِطابِ بالأمرِ بالصومِ والإفطارِ، وأنَّه يجِبُ الاعتمادُ على الرؤيةِ، ويُستعانُ بالحِسابِ الفَلكيِّ والمراصِدِ؛ مُراعاةً للأحاديثِ النبويَّةِ، والحقائقِ العِلميَّةِ)(1).

وهذا التشابُهُ بينَ القَراريْنِ منَ المجمَعَيْنِ، يُؤكِّدُ أنَّ كِلا المجمَعَيْنِ لم يُلقِ بالًا للحِسابِ الفَلكيِّ في دُخولِ الشهرِ نَفيًا أو إثباتًا؛ إذ إنَّ الحسابَ الفَلكيَّ -نَفيًا وإثباتًا- قَضيةٌ مُثارةٌ منذ زمنٍ، كما أنَّ كثيًرا منَ البُحوثِ المقدَّمةِ للمجمَعَيْنِ تعرَّضَتْ للحسابِ الفَلكيِّ بشِقَّيْه نَفيًا وإثباتًا، وكونُ مجمَعِ مُنظمةِ المؤتمرِ الإسلاميِّ يُشيرُ إلى الحسابِ الفَلكيِّ، والاستعانةِ به، فذلك يقطَعُ لنا بأنَّ الحسابَ الفَلكيَّ بجميعِ جَوانبِه كان حاضرًا في مُداولاتِ الحضورِ، وهذا يَنْفي وُقوعَ الغَفلةِ عن قَضيةِ الحسابِ الفَلكيِّ، فلا تَرْقى هذه الدَّعْوى إلى تسويغِ إعادةِ النظرِ فيها بهذه الطريقةِ.

 

الملاحظةُ الثانيةُ والأهمُّ:

لقد مرَّرَ المجلِسُ العَملَ بالحسابِ نَفيًا لا إثباتًا:

جاء في البَندِ الرابعِ من بيانِ المجمَعِ الفقهيِّ الإسلاميِّ في اجتماعِه الأخيرِ، الذي نرصُدُ الملاحظات  عليه ما يلي: (أنَّ الحسابَ الفَلكيَّ عِلمٌ قائمٌ بذاتِه، له أُصولُه وقواعدُه، وقد كان للمسلِمينَ فيه إسهامٌ مُتميِّزٌ، وكان محلَّ اهتمامٍ منَ الفُقهاءِ المسلِمينَ، وبعضُ نتائجِه يَنبَغي مُراعاتُها، ومن ذلك معرفةُ وقتِ الاقترانِ، ومعرفةُ غيابِ القمرِ قبلَ غيابِ قُرصِ الشمسِ أو بعدَه، وأنَّ ارتفاعَ القمرِ في الأُفقِ في الليلةِ التي تعقُبُ اقترانَه قد يكونُ بدرجةٍ، أو أقلَّ، أو أكثرَ.

ولذلك يلزَمُ لقَبولِ الشَّهادةِ برؤيةِ الهِلالِ ألَّا تكونَ الرؤيةُ مُستحيلةً، حسبَ حقائقِ العِلمِ الصحيحةِ، وحسبَ ما يصدُرُ مِنَ المؤسَّساتِ الفَلكيَّةِ المعتَمَدةِ، وذلك في مثلِ عدمِ حُدوثِ الاقترانِ، أو في حالةِ غُروبِ القمرِ قبلَ غيابِ الشمسِ).

وقبلَ التعقيبِ على هذا البَندِ، أوَدُّ أنْ أقولَ: إنَّه كم كان بوُدِّي لو أنَّ العُلماءَ الأفاضلَ زيَّنوا -على الأقلِّ- جميعَ بُنودِهم بشيءٍ منَ الاستدلالِ منَ الكتابِ والسُّنَّةِ، أو إجماعِ عُلماءِ الأُمَّةِ، ثم طرَّزوا ذلك بذِكرِ أهلِ العِلمِ الذين قرَّروا مثلَ تقريراتِهم تلك، صحيحٌ أنَّ صيغةَ البيانِ الخِتاميِّ تَأْتي مختصَرةً، لكنَّ هذا لا يمنَعُ تزيينَها على الأقلِّ بنصوصِ الوَحيَيْنِ، والإجماعِ المعصومِ، ثمَّ الإحالةِ على مَن وَافقَ من أهلِ العِلمِ حتى تطمَئنَّ النفسُ لذلك.

وهذا البَندُ مثالٌ واضحٌ على افتقارِ البيانِ لهذا النهجِ، فلستُ أَدْري: هل قال أحدٌ من أهلِ العِلمِ السابقينَ بمثلِ هذا القولِ؟ أيْ أنَّ الرؤيةَ الشرعيَّةَ لا تُقبَلُ إلَّا إذا أقرَّتْ بإمكانيَّتِها حقائقُ العِلمِ الصحيحةُ!

هؤلاء فُقهاءُ الإسلامِ على مدى أربعةَ عَشَرَ قرنًا، كان لهم فيه إسهامٌ مُتميِّزٌ، وكان محلَّ اهتمامِهم -حسَبَ تعبيرِ البيانِ- بل قد عايشوا عُلماءَ الفلَكِ جَنبًا إلى جَنبٍ، بل كان من عُلماءِ الإسلامِ مَن هُم من أهلِ الفَلكِ، ولم نرَ أحدًا منهم قال بهذا القولِ، لستُ أَدْري: كيف ساغَ لهؤلاء الأفاضلِ الأجِلَّاءِ "نسفُ" ما قرَّرَه آلافُ الفُقهاءِ من كلِّ المذاهبِ، والبلادِ، والعصورِ؟ ألَا يُعتبر هذا خَرقًا للإجماعِ الذي تداوَلَتْه الأُمَّةُ، في مسألةٍ مشهورةٍ مُتداوَلةٍ؟!

 

تسويغُ الابتداعِ بنقلِ خِلافٍ شاذٍّ:

المُطَّلِعُ على كتبِ الخِلافِ في الفقهِ الإسلاميِّ، لا يكادُ يقَعُ نظرُه على مسألةٍ إلَّا وقد نُقلَ عن بعضِ أهلِ العِلمِ الخِلافُ فيها، ولو أخَذْنا بكلِّ خِلافٍ ورَدَ، لم يَبقَ في الدِّينِ ثابتٌ، ولستُ هنا أُعوِّلُ على الدليلِ، كما عوَّلَ بعضُ إخوانِنا عليه في نَفيِ الآخَرِ، ولكنِّي أُعوِّلُ على النفيِ ذاتِه؛ إذ وجودُ واحدٍ، أوِ اثنيْنِ، أو حتى أفرادٍ عِدَّتُهم لا تتجاوَزُ الأصابعَ في خِضمِّ آلافٍ مؤلَّفةٍ من عُلماءِ الإسلامِ، من عصورٍ شتَّى، وبِلادٍ شتَّى، يجزِمُ بأنَّ ذلك القولَ شُذوذٌ أذِنَ اللهُ به حتى يُريَنا جميعَ الاحتمالاتِ في المسألةِ، بل إنَّه رحمةٌ لنا؛ لأنَّ وُجودَه يجعَلُنا نجزِمُ بأنْ قد خطَرَ على بالِ العُلماءِ في ذلك الوقتِ، ومع ذلك لم يأخُذوا به، الأمرُ الذي يَنْفي احتمالَ قولِ القائلِ: بأنَّ العُلماءَ القائلينَ بخلافِه ربما ذَهَلوا عنه.

 

أثَرُ شَهادةِ الشهودِ:

لم تتعرَّضْ بحوثُ المجمَعِ لهذه القضيةِ، فالأصلُ أنَّ الشَّهادةَ أمامَ القضاءِ في الشريعةِ مُلزِمةٌ، ولا يَخرِقُ ذلك الإلزامَ إلَّا شَهادةٌ أُخرى، أو دَليلٌ يُضاهيها، أو يَفوقُها قوةً، وتأمَّلْ قولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأُمِّ سَلَمةَ في الحديثِ الآتي، لِتَرى كيف أنَّ الشَّهادةَ لها أثرٌ لمجرَّدِها، بصرفِ النظرِ عن صحَّةِ الأمرِ في ذاتِه وعَيْنِه أمْ لا.

وكلُّ ما دلَّ على وُجوبِ العَملِ بالشَّهادةِ فهو دليلٌ لهذه القاعدةِ، ولا خِلافَ بينَ العُلماءِ في العَملِ بهذه القاعدةِ، فقدِ اتَّفقَ المسلِمونَ على وُجوبِ العَملِ بمُقتَضى الشَّهادةِ، ونَقلَ الإجماعَ على ذلك ابنُ قُدامةَ في المُغْني.

ويمكِنُنا أنْ نُميِّزَ بينَ نوعيْنِ منَ الشَّهادةِ: الشَّهادةِ في حقوقِ اللهِ، والشَّهادةِ في حقوقِ العِبادِ، فالشَّهادةُ على حقوقِ العِبادِ قد تُرَدُّ بأَدْنى الأدلَّةِ، فمثلًا: تُدرَأُ الحدودُ بالشبُهاتِ؛ لأنَّ فيها سَلبًا لحقوقِ العِبادِ، وكذا إنْ شهِدَ إنسانٌ على آخَرَ بما يتضمَّنُ سَلبَه حقَّه، فتُرَدُّ مثلُ هذه الشَّهادةِ، أو تُدفَعُ بأَدْنى ما يَنْفي ثبوتَ الحقِّ.

أمَّا الشَّهادةُ في حقوقِ اللهِ، فأمرُها مختلِفٌ، فإذا ما شهِدَ عَدْلانِ أنَّ نجاسةً سقَطَتْ في إناءٍ صغيرٍ، وأنَّ الماءَ تَغيَّرَ بها، وجَبَ على الإنسانِ الأخذُ بهذه الشَّهادةِ، ولَمَا ساغَ له تحليلُ الماءِ لِيتثبَّتَ من وُجودِ مُركَّباتِ النجاسةِ الكيميائيَّةِ، ولو شهِدَ عَدْلانِ أنَّ هذا الحيوانَ مات حَتفَ أنفِه، لم يجُزْ لأحدٍ أنْ يأكُلَ من لحمِه، ولا أنْ يَعمِدَ إلى تحليلِ لحمِه تحليلًا كيميائيًّا لِيتثبَّتَ من جَوازِ أكلِه أوْ لا.

ولو شهِدَ عَدْلانِ -(وعندَ بعضِ العُلماءِ يُكتَفى بشَهادةِ المرضِعِ)- بأنَّ هذا الرَّجلَ رضَعَ مع هذه المرأةِ، لَمَا جازَ له أنْ يتزوَّجَها بمجرَّدِ هذه الشَّهادةِ، وحديثُ صحيحِ البُخاريِّ من أشهرِ ما يُستدَلُّ به على هذا.

فعن عُقْبةَ بنِ الحارِثِ أنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنةً لأَبِي إهَابِ بنِ عَزِيزٍ، فأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فقالَت: إنَّي قد أرْضَعْتُ عُقْبةَ، والتي تَزَوَّجَ بها، فقالَ لها عُقْبةُ: ما أعلَمُ أنَّكِ أرضَعْتِني، ولا أخبَرْتِني، فرَكِبَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالمَدِينةِ فسَألَهُ، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (كيفَ وقد قِيلَ؟) ففَارَقَها عُقْبةُ، ونكَحَتْ زَوْجًا غَيرَهُ.

هذا مع أنَّ أكثرَ هذه الوقائعِ، لم تَرِدْ أدلَّةٌ صريحةٌ على أثَرِ الشَّهادةِ فيها، كما هو الحالُ في ثُبوتِ دُخولِ شَهرِ رَمضانَ!

وإنِّي لَأَعجَبُ: كيف يَسوغُ لحاكمٍ، أو قاضٍ أتاهُ اثنانِ منَ الشهودِ عَدْلانِ، يَشهدانِ عندَه بأنَّهم رأوُا الهلالَ، أنْ يحكُمَ بخلافِ هذه الشَّهادةِ الشرعيَّةِ الملزِمةِ؟

إنِّي لَأَتعجَّبُ من هؤلاء المشايخِ القائلينَ بالعَملِ بالحسابِ بالنَّفيِ! كيف يُسوِّغون لأنفُسِهم إفتاءَ الناسِ بوجوبِ صِيامِ يومٍ بدلَ اليومِ الذي ضاعَ من رَمضانَ لشَهادةِ الشهودِ بأنَّهم رأَوْا هلالَ شوَّالٍ، ولا يرَوْن حَرجًا باحتمالِ تَفويتِ يومٍ من بدايةِ رَمضانَ على الناسِ، إذا ما شهِدَ شهودٌ عدولٌ برؤيةِ هلالِ رَمضانَ؟

 

مُسوِّغاتُ رَدِّ شَهادةِ الشهودِ على الهلالِ:

يتداوَلُ كثيرٌ منَ القائلينَ بالعَملِ بالشَّهادةِ في النَّفيِ دون الإثباتِ بعضَ النُّقولِ التي مُفادُها ما جاء في البيانِ الخِتاميِّ، (ولذلك يلزَمُ لقَبولِ الشَّهادةِ برؤيةِ الهلالِ ألَّا تكونَ الرؤيةُ مُستحيلةً حسبَ حقائقِ العِلمِ...).

وهُنا نَقولُ: إنَّ ثَمَّةَ اختلافًا بينَ مَقصودِ بعضِ هذه النُّقولِ، وما ذهَبَ إليه بعضُ المعاصِرينَ؛ إذ أطلَقوا رَدَّ الشُّبْهةِ إذا خالَفَتِ الحسابَ، والحسابُ عندَهم هو حسابُ وقتِ ولادةِ القمرِ، وحسابُ إمكانيَّةِ الرؤيةِ، ويَبْدو لي أنَّ هُناك فَرقًا دقيقًا لكنَّه جِذريٌّ بينَ نَفيِ الرؤيةِ لمخالَفَتِها القَطعيَّاتِ، ونَفيِ الرؤيةِ لمخالَفَتِها الحسابَ.

فأمَّا نَفيُ الرؤيةِ لمخالَفَتِها القَطعيَّاتِ، فمِثلُ رَدِّ قَبولِ شَهادةِ مَن شهِدَ برؤيةِ الهلالِ في ليلةِ السادسِ والعِشرينَ، أوِ السابعِ والعِشرينَ، مع عدمِ تَطرُّقِ الخطإِ لدُخولِ الشهرِ، فمِثلُ هذه الشَّهادةِ لا يُلتَفَتُ لها أَصلًا لمخالَفَتِها لمَا هو مَقطوعٌ به من جهةِ الشرعِ، والحِسِّ المُشاهَدِ بأنَّ الشهرَ لا يكونُ أقلَّ من تِسعةٍ وعِشرينَ يومًا.

وأمَّا الحسابُ، فقد كنتُ نبَّهْتُ في مَقالٍ سابقٍ أنَّ ثَّمَةَ نوعَيْنِ منَ الحسابِ


النوعُ الأوَّلُ: هو من قَبيلِ تحصيلِ الحاصلِ، وهو قَطعيٌّ لا شكَّ فيه، فمجموعُ ثلاثةٍ وخمسةٍ يُساوي ثمانيةً، وهذا تحصيلُ حاصلٍ؛ فإنَّكَ إذا وضعْتَ ثلاثَ وَحَداتٍ، مع خَمسِ وَحَداتٍ، ثم عددْتَها مرَّةً أُخْرى، لكان المجموعُ ثمانيةً، لكنَّكَ اختصَرْتَ العَدَّ، وجمَعْتَ بطريقِ الحسابِ، فظهَرَ الجوابُ.

أمَّا النوعُ الثاني منَ الحسابِ: فهو توقُّعُ حُصولِ النتائجِ بناءً على مُقدِّماتِها، فأنتَ إذا قُلتَ بأنَّ المسافةَ بينَ المدينةِ الأُولى والثانيةِ 100 كلم، ولديكَ سيارةٌ تَسيرُ بسرعةِ 100 كلم في الساعةِ، فإذا انطلَقْتَ منَ المدينةِ الأُولى الساعةَ الثانيةَ؛ فإنَّها ستصِلُ للمدينةِ الثانيةِ الساعةَ الثالثةَ قَطعًا، أمَّا هذا مِنَ الناحيةٍ النظريَّةِ فصحيحٌ قَطعًا، لكنَّه منَ الناحيةٍ الواقعيَّةِ لا يمكِنُ أنْ يكونَ قَطعيًّا؛ إذ ثَمَّةَ عواملُ كثيرةٌ يمكِنُ أنْ تؤخِّرَ مَسيرةَ السيارةِ ولو لثوانٍ، أو أنَّ المسافةَ لم تكُنْ بتلك الدقَّةِ، ونحوُ ذلك.

فمِثلُ هذا الحسابِ لا يمكِنُ أنْ يُقالَ عنه: إنَّه قَطعيٌّ من ناحيةِ الوقوعِ، هذا إذا كانتِ المتغيِّراتُ محدودةً كما في هذا المثالِ، فكيف إذا كانتِ المتغيِّراتُ كثيرةً جدًّا كما هي الحالُ في القمرِ، وسُرعتِه، ومَدارِه، والمُناخِ، والرؤيةِ، وغيرِ ذلك؛ ولذلك فإنَّ المعروف أنَّ الفَلكيِّينَ يختَلِفونَ اختلافًا ليس بالقليلِ في إمكانيَّةِ الرؤيةِ، ويعرِفُ أهلُ الفَلكِ أنَّ ثَمَّةَ مدارسَ متعددة في هذه المسألةِ، ولستُ أَدْري: لماذا لم يقَعِ التركيزُ على هذا الاختلافِ في المؤتمرِ المشارِ إليه؟

والخَلطُ بينَ ما يمكِنُ أنْ يرُدَّ الشَّهادةَ، وبينَ ما لا يمكِنُ أنْ يَرُدَّها وقَعَ فيه كثيرٌ منَ الأكارِمِ، وقد خلَطَ الشيخُ ابنُ مَنيعٍ حفظَه اللهُ بينَ الحسابِ الذي ما هو إلَّا تحصيلُ حاصلٍ، وهو أمرٌ قَطعيٌّ لا شكَّ فيه كما في الحالة الأُولى المشارِ إليها، وبينَ الحسابِ الذي هو توقُّعٌ للحسابِ كما في الحالةِ الثانيةِ.

وعليه، فيُحمَلُ قولُ مَن قالَ من أهلِ العِلمِ المعتَبَرينَ (وهُم قِلَّةٌ قليلةٌ) بردِّ الشَّهادةِ إذا خالَفَتْ حقائقَ العِلمِ، على مِثلِ هذه الحقائقِ، لا على مِثلِ تلك الحساباتِ.

هلِ انعقَدَ الإجماعُ على وجوبِ العَملِ بالرؤيةِ بصرفِ النظرِ عن حقائقِ العِلمِ والفَلكِ نَفيًا وإثباتًا؟

لقدِ اشتُهِرَ عند أهلِ العِلمِ، والباحثينَ في هذه المسألةِ، وُجودُ إجماعٍ من أهلِ العِلمِ على العَملِ بالرؤيةِ مُطلقًا في النَّفيِ والإثباتِ، فاشتُهِرَ أنَّ عَددًا منَ العُلماءِ نقَلَ هذا الإجماعَ، منهمُ الجصَّاصُ الحنفيُّ(2)، والباجيُّ المالكيُّ(3)، وابنُ رُشدٍ القُرطبيُّ المالكيُّ(4)، والحطَّابُ الشافعيُّ(5)، وشيخ الإسلامِ ابنُ تيميةَ، وابنُ عابدينَ الحنفيُّ(6)، وغيرُهم، فكان منَ المفتَرَضِ منَ المؤتمرينَ أنْ يُحَرِّروا هذا الإجماعَ، لا سيَّما أنَّ المسألةَ هذه قد قُتلَتْ بحثًا، ومن أوسَعِ هذه البحوثِ المعاصرةِ، بحثٌ ماتعٌ أكمَلَ فيه الباحثُ الشيخُ أحمدُ بنُ عبدِ اللهِ الفريجُ مُتطلَّباتِ درجةِ الماجستيرِ في الفقهِ المقارَنِ منَ المعهَدِ العالي للقَضاءِ، بعُنوان: "أحكامُ الأهلَّةِ والآثارُ المترتِّبةُ عليها وتطبيقاتُها القضائيَّةُ"، حيث استَقْصى الباحثُ جميعَ مَن نقَلَ الإجماعَ على عدمِ اعتبارِ الحسابِ الفَلكيِّ، كما حصَرَ جميعَ مَن قالوا بالحسابِ الفَلكيِّ في إثباتِ دُخولِ الشهرِ، ثم بيَّنَ أنَّ القائلينَ بهذا القولِ إمَّا من غيرِ العُلماءِ الذين لا يُعتَدُّ بهم في خَرقِ الإجماعِ، أو أنَّ النقلَ عنهم مُضطرِبٌ لا يصِحُّ، فلم يَبقَ إلَّا واحدٌ أو اثنانِ، الأمرُ الذي يُحيلُ اجتهادَهم هذا شاذًّا مخالِفًا لإجماع الأُمَّةِ.

وإنَّني -على الرغمِ من تَبنِّي جميعِ ما نقَلَه الباحثُ، وجميعِ ما خلُصَ إليه- إلَّا أنِّي لا أُلزِمُ به ابتداءً المجتمِعينَ في هذا المؤتمرِ، ولكنِّي أُلزِمُهم بمنهجِ البحثِ في مِثلِ هذه المسائلِ، وأنَّه كان المفُترَضُ عليهم أنْ يُحَرِّروا الأقوالَ في هذه المسألةِ حتى يتبيَّنَ لهم ما إذا كانت هذه المسألةُ من مسائلِ الإجماعِ التي لا يجوزُ لأحَدٍ أنْ يقولَ فيها بخلافِ ما استقَرَّ عليه أمرُ الأُمَّةِ.

وقد طالَعْتُ جميعَ أبحاثِ المؤتمرِ المنشورةِ، والمتعلِّقةِ بهذه القضيَّةِ، فلم أرَ في أيٍّ منها تحريرًا للأقوالِ، ولا تحريرًا للإجماعِ، أو ما استقَرَّ عليه عَملُ الأُمَّةِ، خَلا بحثِ شيخِنا العلَّامةِ محمَّد تقي عثماني، وهو أمرٌ مؤسِفٌ أنْ يحدُثَ في مؤتمرٍ عِلميٍّ أُريدَ منه أنْ يتحدَّثَ باسمِ الإسلامِ والمسلِمينَ في هذه القضيَّةِ التي جَدَّ فيها الجدلُ وازدادَ، لا بسببٍ شرعيٍّ، بقَدرِ ما هو بسببِ ضُغوطاتٍ من أهلِ النظرِ للشريعةِ بعَينِ التنقُّصِ، استجابَ لها بعضُ عُلمائِنا، ووجَدوا في ثَنايا كتبِ الفقهِ ما يُبرِّرُها، وإلَّا فكيف للأُمَّةِ أنْ تجتمِعَ على أمرٍ، وتُطبِّقَه أكثرَ من ألفِ سنةٍ، ولم نسمَعْ أنَّ أحدًا منَ العُلماءِ في جميعِ أصقاعِ الأرضِ يومًا ما، شكَّكَ في صومِ المسلِمينَ الذين ما زالوا يَعتمِدونَ على الرؤيةِ مِن عُمومِ المسلِمينَ الذين شَهِدوا بها، وما سمِعْنا أنْ رُدَّتْ شَهادةُ الشهودِ (عُدولًا كانوا، أو غيرَ عُدولٍ) بناءً على الحسابِ، أو عِلمِ الهيْئةِ والفَلكِ، مع أنَّ عِلمَ الفَلكِ كان مُتقدِّمًا بدرجةٍ كبيرةٍ، منذ مُدةٍ ليست بالقصيرةِ، وحتى لو لم يكنْ مُتقدِّمًا، فإنَّ ما وصَلَ إليه كلُّ عَصرٍ في عِلمٍ منَ العُلومِ، يعتبر غايةَ التقدُّمِ، وأهلُ الفَلكِ في عصرِنا يعتبرون ما وَصَلوا إليه هو غايةَ التقدُّمِ، فلذلك تَجرَّؤوا به على نَقضِ حُكمٍ شَرعيٍّ مُستقِرٍّ، وما علِموا الغيبَ، وإلى أيِّ تَقدُّمٍ يمكِنُ أنْ يصِلَ إليه عِلمُ الفَلكِ بعدَ سنينَ، فإنْ كان التقدُّمُ لا يَأْتي بجديدٍ مخالِفٍ لحساباتِ السالِفينَ لأنَّها حقائقُ ثابتةٌ، فلا عِبرةَ عندَئذٍ بقولِنا: إنَّ عِلمَ الفَلكَ تقدَّمَ، وأصبَحَ في حُكمِ القَطعِ، وإنْ كان التقدُّمُ في عِلمِ الفَلكِ سيَأْتي بما ينقُضُ ما سبَقَ، وجَبَ علينا التوقُّفُ بالعَملِ به مُطلقًا؛ لأنَّنا لا نعرِفُ ما قد يَطرَأُ عليه في المستقبَلِ.

وإنَّ عَجَبي لا يَنقَضي يومَ أنْ يُطالِعَ الإنسانُ بعضَ أبحاثِ الفُضلاءِ، فيَرى إهمالَهم في نقلِ الإجماعِ في هذه المسألةِ وعرضِها، وكأنَّها مسألةٌ وقَعَ فيها الخلافُ، وكأنَّما كانتِ النتيجةُ لدى كثيرٍ منهم مُقرَّرةً سَلفًا، وإنَّما أرادوا تسويغَها ببعضِ الأبحاثِ، خُذْ مَثلًا قولَ الشيخِ الدكتورِ سعدٍ الخثلانِ: (وممَّا سبَقَ يتلخَّصُ أنَّ للفُقهاءِ في هذه المسألةِ ثلاثةَ آراءٍ:

 

(الأوَّلُ) أنَّه لا يُعتمَدُ على الحسابِ الفَلكيِّ مُطلقًا، لا في النَّفيِ، ولا في الإثباتِ.

(الثاني) أنَّه يُعتمَدُ عليه مُطلقًا في النَّفيِ والإثباتِ.

وهُناك رأيٌ ثالثٌ، وهو أنَّه يُعتمَدُ عليه في النَّفيِ دون الإثباتِ)(7).

 

أهكذا يكون العرضُ العِلميُّ الأكاديميُّ الأمينُ؟ تُجعَلُ هذه الأقوالُ نِدًّا لبعضِها البعضِ، ويُساوى بينَها ويُغفَلُ الإجماعُ، ولا يُشارُ إلى قِلَّةِ عددِ مَن قال بالأقوالِ الأُخرى التي نقَلَها هو بنفْسِه، تلك القِلَّةُ التي تُحيلُ القولَ إلى دائرةِ الشذوذِ؟!

أمَّا مُناقشةُ الإجماعِ، تَقريرًا، أو نَفيًا، فأمرٌ يَزيدُ الأسفَ على هذا المؤتمرِ ومَنهجِه، فكأنَّ إجماعَ الأُمَّةِ لا قيمةَ له، وإنَّما القيمةُ لمَا يُقرِّرُه هؤلاء المجتمِعونَ، وكأنَّ أفهامَ العُلماءِ قاطبةً قَرنًا بعدَ قَرنٍ، تحتاجُ إلى تقريرٍ منَ المعاصِرينَ حتى تكونَ حُجَّةً مُلزِمةً لنا! وهذا أمرٌ خطيرٌ أنْ يُصبحَ مَنهجًا للمؤتمراتِ العِلميَّةِ، وأبحاثِ المعاصِرينَ منَ العُلماءِ، والناشئةِ من طلبةِ العِلمِ.

لقد نقَلْنا من قبلُ مَنِ اشتُهِرَ عنه نقلُ الإجماعِ في هذه المسألةِ، ثم رأيْتُ الشيخَ أحمدَ بنَ عبدِ الله الفريجَ، صاحبَ كتابِ أحكامِ الأهلَّةِ السابقِ ذِكرُه، ينقُلُ الإجماعَ أيضًا عنِ الموَّاقِ صاحبِ "التاجُ والإكليلُ شَرحُ مختصَرِ خليلٍ"، والداوديِّ، وابنِ حَجرٍ، والعَيْنيِّ، و الشوكانيِّ، وصِدِّيق حسن خان.

بل إنَّ السُّبكيَّ نفْسَه، وهو أشهرُ مَن أحدَثَ القولَ بالحسابِ يقولُ: (وأجمعَ المسلمونَ -فيما أظُنُّ- على أنَّه لا حُكمَ لمَا يقولُه الحاسبُ من مُفارَقةِ الشمسِ، إذا كان غيرَ ممكنٍ الرؤيةُ؛ لقُربِه منها، سواءٌ كان ذلك وقتَ غروبِ الشمسِ أمْ قبلَه، أمْ بعدَه)(8).

وهذا أحمد شاكر، وهو الأشهَرُ في المعاصِرينَ الذين تبَنَّوْا هذا الرأيَ يُقِرُّ بهذا الإجماعِ، فيقولُ: (واتَّفقَتْ كلمتُهم، أو كادتْ، على أنَّ العِبرةَ في ثُبوتِ الشهرِ بالرؤيةِ وحْدَها، وأنَّه لا يُعتبَرُ حسابُ منازِلِ القمرِ، ولا حسابُ المنَجِّمِ..)(9).

بل إنَّ عددًا منَ العُلماءِ ردَّ على مَن نسَبَ إليه القولَ بالحسابِ بعِباراتٍ صارمةٍ، تدُلُّ على أنَّ الأمرَ لا يَحتمِلُ عندَهم أيَّ اجتهادٍ، وليس فيه مجالٌ للخلافِ، انظُرْ مثلًا للنوَويِّ وهو يقولُ: (فالصوابُ ما قالَه الجمهورُ، وما سِواه فاسدٌ مردودٌ بصرائحِ الأحاديثِ السابقةِ)(10).

وابنُ دقيقِ العيدِ الشافعيُّ يقولُ: (وعن بعضِ المتقدِّمينَ أنَّه رَأى العَملَ به، وركَنَ إليه بعضُ البغداديِّينَ مِنَ المالكيَّةِ، فقال به أكابرُ الشافعيَّةِ بالنسبةِ إلى صاحبِ الحسابِ، وقدِ استُشنِعَ هذا؛ لمَا حُكيَ عن مُطرِّفِ بنِ عبدِ اللهِ مِنَ المتقدِّمينَ، قـال بعضُهم: ليتَه لم يقُلْه، والذي أقولُ به: إنَّ الحسابَ لا يجوزُ أنْ يُعتمَدَ عليه، لمفارَقةِ القمرِ للشمسِ، على ما يَراه المنَجِّمونَ مِن تَقدُّمِ الشهرِ بالحسابِ على الشهرِ بالرؤيةِ بيومٍ أو يوميْنِ؛ فإنَّ ذلك إحداثٌ لسببٍ لم يُشرِّعْه اللهُ) (11).

وهذا الإجماعُ عامٌّ، يحتمِلُ النَّفيَ والإثباتَ، وأوَّلُ مَن فرَّقَ بينَ النَّفيِ والإثباتِ ممَّا يصِحُّ عنهم ذلك السُّبْكيُّ، تقيُّ الدِّينِ بنُ عبدِ الكافي السُّبْكيُّ (ت 756 هـ)، وقد أورَدَ كلامَه كاملًا شيخُنا محمَّد تقي عثماني، وحلَّلَه تحليلًا جيدًّا، وإنَّ إعادةَ هذا النقْلِ، ثم إعادةَ النظرِ فيه، وتقييمَ كلامِ الشيخِ عثماني، تطويلٌ بلا فائدةٍ في هذه المسألةِ التي قُتِلَتْ بحثًا، لكنَّ الدهشةَ تأخُذُني أنَّ شيخَنا العلَّامةَ -وكلَّ مَن سارَ على نهجِه- لم يَسأَلوا أنفُسَهم سُؤالًا واحدًا: هل يُعقَلُ أنَّ الأُمَّةَ ذَهَلتْ عنِ التفريقِ بينَ النَّفيِ والإثباتِ في هذه المسألةِ التي تتكَرَّرُ عليهم في السَّنةِ مراتٍ عديدة، في بَدءِ رَمضانَ وانتهائِه، وفي بَدءِ الحَجِّ، ثم لا يَهتَدي إليها إلَّا السُّبْكيُّ الشافعيُّ، ومعه عددٌ يَسيرٌ (إنْ صحَّ عنهم ذلك) لا يتجاوَزُ أصابعَ اليَدِ الواحدةِ؟!

لقد ذكَرْتُ في مَقالٍ سابقٍ أنَّ هذا المنهجَ سيُؤدِّي بنا إلى إعادةِ تَعريفِ الإسلامِ، واكتشافِ أحكامِه، فيومًا ما سيتبيَّنُ لنا أنَّ المرأةَ يجوزُ لها أنْ تؤُمَّ في الصلاةِ، ويومًا آخَرَ نكتشِفُ أنَّ الرِّبا الـمُحرَّمَ هو الأضعافُ الـمُضاعفةُ، ويومًا آخَرَ سيتبيَّنُ لنا أنَّ الخِلافةَ الإسلاميَّةَ أمرٌ إداريٌّ بحتٌ لم توجِبْه الشريعةُ، وربَّما اكتشَفْنا بعدَ ذلك أنَّ الإيمانَ باللهِ وحْدَه دون الإيمانِ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كافٍ لدخولُ الجَنَّةِ.. وهكذا، إنَّها مُصيبةٌ تُذَكِّرُني بذلك المستَفْتي الذي سأَلَني يومًا عن حُكمِ نِكاحِ العمَّةِ والخالةِ، فلمَّا أبدَيْتُ دَهشَتي واستِنْكاري، طالَبَني بالدليلِ على تحريمِ هذا النكاحِ!

نَعم، قد يظُنُّ البعضُ أنَّ ثَمَّةَ مُبالَغةً في هذا التصويرِ، لكنَّ الـمُراقِبَ لسيْرِ الفقهِ الإسلاميِّ في السنواتِ الأخيرةِ، يَسهُلُ عليه تصوُّرُ حُدوثِ مِثلِ هذا التدهورِ؛ إذ إنَّ بُنيانَ الفقهِ -بحثًا وتأصيلًا- أصابَتْه خَلخَلةٌ لا تتوقَّفُ إلَّا بموقِفٍ صُلبٍ صارمٍ.

 

الملاحظةُ الثالثةُ:

أين قولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (الصومُ يومَ تَصومونَ)(12)؟

لقد خَلا هذا البيانُ منَ الإشارةِ إلى حديثِ الترمِذيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ).

قال الترمِذيُّ: (هَذَا حَديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ هَذَا الحَدِيثَ، فَقَالَ: إنَّمَا مَعْنَى هَذَا أنَّ الصَّوْمَ وَالفِطْرَ مَعَ الجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ) (13)، وبصرفِ النظرِ عمَّا قيلَ في صحَّةِ هذا الحديثِ منَ الناحيةِ الحديثيَّةِ، إلَّا أنَّ العَملَ عليه عندَ أهلِ العِلمِ؛ إذ مِنَ المقرَّرِ عندَ العُلماءِ قاطبةً أنَّه لا يجوزُ لأهلِ البلدِ الواحِدِ إلَّا الاجتماعُ على يومِ صومِهم، ويومِ فِطرِهم، ولا يجوزُ لهم أنْ يَنقسِموا إلى قسمَيْنِ، وسيَأْتي في تضاعيفِ هذه الورقةِ ما يُؤكِّدُ على إجماعَ العُلماءِ على العَملِ بمدلولِ هذا الحديثِ.

وعليه، فلا بُدَّ لنا في إثباتِ الشهورِ القمريَّةِ أنْ نُميِّزَ بينَ نوعَيْنِ منَ المخاطَبينَ، أوَّلُهما: أهلُ الحَلِّ والعَقدِ، وعلى رأسِهم وليُّ الأمرِ، وثانيهما: عُمومُ الناسِ وآحادُهم، فأمَّا إثباتُه بالرؤيةِ، أو إكمالِ العِدَّةِ، فهذا شأنُ أولي الأمرِ، وأهلِ الحَلِّ والعَقدِ في أيِّ بلدٍ ما، بشرطِ اجتماعِ الناسِ عليهم، واستقرارِ الأمرِ لهم، وأمَّا عُمومُ الناسِ وآحادُهم فإنَّهم تبَعٌ لوليِّ الأمرِ، ولأهلِ الحَلِّ والعَقدِ في هذا الأمرِ، وليس لهم مخالَفَتُهم، بصرفِ النظرِ عمَّا اعتمَدَه وليُّ الأمرِ، أو مَن يقومُ مَقامَه في إثباتِ الشهرِ ودُخولِه، وذلك شريطةَ أنْ يستقِرَّ عليه عَملُ عُمومِ المسلِمينَ في تلك البلادِ.

وهذا الذي قرَّرْتُه هو ما أجمَعَ عليه أهلُ العِلمِ قاطبةً، بل لا أظُنُّ أنَّ أحدًا مِنَ العُلماءِ المشارِكينَ في هذه الندوةِ يخالِفُ فيه؛ إذ قد تقرَّرَ عندَ العُلماءِ قاطبةً أنَّ حُكمَ مَن رَأى هلالَ رَمضانَ وحْدَه، ورُدَّتْ شَهادتُه، مُتردِّدٌ بينَ أمريْنِ، إمَّا أنْ يَتبَعَ وليَّ الأمرِ الذي استقَرَّ له أمرُ الناسِ في ذلك القُطرِ، وإمَّا أنْ يَعمَلَ برُؤيتِه في نفْسِه، ولم يَقُلْ أحدٌ من أهلِ العِلمِ بجوازِ افْتِئاتِه على وليِّ الأمرِ، بحيث ينقَسِمُ الناسُ إلى قسمَيْنِ، قِسمٍ يَعمَلُ برُؤيتِه، وقِسمٍ يَبْقى مع وليِّ الأمرِ، أو أهلِ الحَلِّ والعَقدِ.

عن مُعاذِ بنِ عبدِ الرحمنِ التيْميِّ: (أنَّ رَجلًا جاء عُمرَ بنَ الخطَّابِ، فقال: رأيْتُ هِلالَ شَهرِ رَمضانَ، فقال: هل رآهُ معَكَ آخَرُ؟ قال: لا. قال: فكيف صنَعْتَ؟ قال: صُمْتُ بصيامِ الناسِ. فقال عُمَرُ: يا لكَ فِقهًا)، أخرَجَه عبدُ الرَّزَّاقِ، وقال البُخاريُّ في التاريخ في ترجمةِ مُعاذِ بنِ عبدِ الرحمنِ التيْميِّ: (قال بعضُهم: سمِعَ مُعاذٌ عُمرَ بنَ الخطَّابِ: ولا يصِحُّ).

وأمَّا مَن رَأى هِلالَ شوَّالٍ وحْدَه، فحُكمُه أيضًا مُتردِّدٌ بينَ الإمساكِ إمَّا مع الناسِ، أو تطوُّعًا، أوِ الفِطرُ في خاصَّةِ نفْسِه، وليس له أنْ يُعلِنَ ذلك، فَضلًا عن أنْ يجمعَ الناسَ لصلاةِ العيدِ، ويُتصوَّرُ ذلك فيما لو رأتْ جماعةٌ منَ الناسِ هِلالَ شوَّالٍ، ثم رُدَّتْ شَهادتُهم لأيِّ سببٍ ما، فإنَّه لا يجوزُ لهم أنْ يُقيموا صلاةَ العيدِ وحْدَهم، مخالِفينَ بذلك جماعةَ المسلِمينَ الذي استقَرَّ أمرُهم على اتِّباعِ مَن تولَّى أمرَهم، واستقَرَّ الأمرُ له، وعلى هذا اتَّفقَتْ كلمةُ جَمهرةِ العُلماءِ من شتَّى المذاهِبِ، ولولا الإطالةُ لأورَدْنا بعضَ النُّقولِ التي تؤيِّدُ هذا.

نَعم، لقد نصَّ البيانُ على أنَّه: "إذا ثبَتَ دُخولُ الشهرِ من جِهةٍ شرعيَّةٍ، واعتمَدَه وليُّ الأمرِ في الدولةِ الإسلاميَّةِ، فلا يجوزُ الخوضُ، أوِ التشكيكُ فيه بعدَ صُدورِه؛ لأنَّه منَ المسائلِ الاجتهاديَّةِ التي يُرفَعُ فيها الخِلافُ بحُكمِ الحاكمِ"، لكنَّ هذه الفِقرةَ التي جاءتْ متأخِّرةً وثانويَّةً لمَا تقدَّمَها، لا تحمِلُ إلَّا مجرَّدَ إشارةٍ إلى دَورِ وليِّ الأمرِ واستقرارِ عَملِ عُمومِ الناسِ، وليستْ تقريرًا لأصلِ كيفيَّةِ إثباتِ الشهرِ، وليستْ كافيةً في تقريرِ التفريقِ بينَ حُكمِ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ، وحُكمِ عُمومِ الناسِ، والأهمُّ من ذلك أنَّها أثبتَتْ دُخولَ الشهرِ، قبلَ أنْ يعتمِدَه وليُّ الأمرِ، مع أنَّ دُخولَ الشهرِ لا يثبُتُ إلَّا باعتمادِ وليِّ الأمرِ، أو عُمومِ الناسِ، وأهلِ الحَلِّ والعَقدِ منهم، فأمَّا قبلَ اعتمادِهم، فلا تُسمَّى رؤيةُ الواحِدِ أو الاثنيْنِ دُخولًا شرعيًّا للشهرِ، ولذلك فإنَّ ابنَ تيميةَ رحمَه اللهُ يُشيرُ إلى أنَّ الشهرَ في الشرعِ واللُّغةِ هو ما ظهَرَ واشتُهِرَ.

وممَّا يُبيِّنُ اجتماعَ كلمةِ عُلماءِ الإسلامِ على ما قرَّرْناه هُنا أنَّنا لم نسمَعْ أنَّ أحدًا منَ العُلماءِ أجازَ لمَن رَأى هلالَ ذي الحِجَّةِ، ورُدَّتْ شَهادتُه، أنْ يقِفَ بعَرَفةَ وحْدَه عَملًا برُؤيتِه، ولكنَّ كلمتَهمُ اتَّفقَتْ على أنَّ أمرَ دُخولِ شهرِ ذي الحِجَّةِ موكولٌ إلى أميرِ الحَجِّ، ومَن في حُكمِه، إذا استقَرَّ أمرُ عامَّةِ الناسِ على العَملِ به.

وعليه، فإنَّه يمكنُنا القولُ بأنَّ الأصلَ في إثباتِ دُخولِ شهرِ رَمضانَ، وذي الحِجَّةِ خاصَّةً، هو مدلولُ حديثِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (الصومُ يومَ تَصومونَ)، وهذا الصومُ يَنبَغي أنْ يكونَ مُستَنَدُه حديثَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (صُوموا لرُؤيَتِه، وأفْطِروا لرُؤيَتِه).

 

ثمرةُ الخِلافِ، وتَطبيقاتٌ عَمليَّةٌ:

الخِلافُ قد يكونُ صُوريًّا، وقد يكونُ حَقيقيًّا، وذلك إذا ظهَرَتْ له ثَمرةٌ، وكنتُ أتمنَّى لو أنَّ اجتماعًا كبيرًا لهذا العددِ من أهلِ العِلمِ أخرَجَ بيانًا يُعالجُ فيه مُشكلاتٍ واقعةً أوَّلًا في كثيرٍ من بلادِ المسلِمينَ، ثم في بلادِ الكفَّارِ التي تَعيشُ فيها أقليَّاتٌ مُسلمةٌ، لا سيَّما وأنَّ ما يُعرَفُ بالربيعِ العربيِّ أعادَ تَعريفَ العَلاقةِ بينَ الشعوبِ وحُكَّامِها، وقد شهِدَتْ بعضُ الدولِ الإسلاميَّةِ أثناءَ هذا الربيعِ صورًا مُتعلِّقةً بإثباتِ دخولِ شَهرِ رَمضانَ وخروجِه على وجهِ الخصوصِ، لا زالتْ تتكَرَّرُ في بعضِ البلادِ الإسلاميَّةِ.

ففي بعضِ الدولِ العربيَّةِ، جرَتْ عادةُ بعضِ الجماعاتِ أنْ يُخالِفوا قرارَ المؤسَّسةِ الرسميَّةِ للإفتاءِ، وينفَرِدوا بيومِ صومِهم، بل ويومِ عيدِهم في مرَّاتٍ مُتفرِّقةٍ، ومواطنَ مُتفرِّقةٍ، بحُجَّةِ أنَّ المؤسَّسةَ الرسميَّةَ لا تتَّبِعُ السُّنَّةَ في إثباتِ دُخولِ الشهرِ وخُروجِه تَبعًا للرؤيةِ، فأقامَ بعضُهم صَلاةَ العيدِ في بعضِ الميادينِ، في غيرِ يومِ العيدِ الذي أعلنَتْه المؤسَّسةُ الدِّينيَّةُ الرسميَّةُ المخَوَّلةُ من قِبَلِ حاكمِ تلك البلادِ بهذا الإعلانِ.

فهذا التصرُّفُ من هذه الجماعاتِ المجتهِدةِ في تطبيقِ ما يظنُّونَ أنَّه السُّنَّةُ خَطأٌ محضٌ، ليس له سابقةٌ في الإسلامِ، فلم نطَّلِعْ عليه في كتبِ التاريخِ، ولا في كتبِ الفقهِ، ممَّا يدُلُّ على أنَّ السُّنَّةَ هي العملُ بما استقَرَّ عليه أمرُ جُمهورِ المسلِمينَ في تلك البلادِ (الصومُ يومَ تَصومونَ)، ولا أظُنُّ أحدًا منَ العُلماءِ الأفاضلِ الموقِّعينَ على هذا البيانِ يؤيِّدُ تصرُّفَهم، لكنَّني كنتُ آمُلُ أنْ يتطرَّقَ بيانُ هذا العددِ الكبيرِ من خِيرةِ العُلماءِ لمعالَجةِ مِثلِ هذه الصورِ، دون أنْ يحصُرَ نفْسَه في قضيَّةٍ واحدةٍ ستُقرِّرُ صوابَ هذه الممارساتِ وبعضِها، التي يقومُ بها بعضُ المسلِمينَ في أماكنَ مُتناثِرةٍ منَ العالَمِ الإسلاميِّ وغيرِه.

وفي باكستانَ مَثلًا، هُناك حكومةٌ مركزيَّةٌ، وحُكوماتٌ إقليميَّةٌ، وممَّا يؤسَفُ له أنْ تجِدَ المسلِمينَ هُناك مُتفرِّقينَ شذَرَ مذَرَ، يَطْفو تفرُّقُهم على السطحِ، ويتَّخِذُ ذِروتَه في وقتٍ كان المؤمَّلُ فيه أنْ يخبُوَ ويختفيَ؛ وقتَ الصومِ، وعيدِ الفِطرِ؛ إذ تعمِدُ بعضُ الأقاليمِ لتُخالفَ الحُكومةِ المركزيَّةِ، فينشَطِرُ الناسُ هُناك إلى قِسمٍ يتَّبِعُ الحُكومةَ المركزيَّةَ، وقِسمٍ آخَرَ يتَّبِعُ الحُكومةَ الإقليميَّةَ، ويبلُغُ هذا التشطُّرُ عُنفوانَه حينَما نَرى قُرًى تزعُمُ أنَّها تتَّبِعُ السُّنَّةَ والأثَرَ، فتنشَقُّ عنِ الجميعِ، فلا الحُكومةَ المركزيَّةَ تبِعَتْ، ولا بالحُكومةِ الإقليميَّةِ رضِيَتْ، كلُّ ذلك بحُجَّةِ اتِّباعِ السُّنَّةِ في أنَّ إثباتَ الشهرِ مَنوطٌ بالرُّؤيةِ.

ومن ثمراتِ هذا التحريرِ لمسألةِ ثُبوتِ الشهرِ أنَّ عامَّةَ الناسِ عليهمُ اتِّباعُ الجمهورِ الأعظمِ منَ المسلِمينَ في دِيارِهم، والغالبُ أنَّ الجمهورَ الأعظمَ غالبًا ما يتَّبِعونَ المؤسَّسةَ الدينيَّةَ الرسميَّةَ، بصرفِ النظرِ عمَّا اعتمَدَتْه المؤسَّسةُ الدينيَّةُ الرسميَّةُ، أو وليُّ الأمرِ في إثباتِ الشهرِ، وبصرفِ النظرِ عن كونِ هذا المعتمَدِ صحيحًا أو خطأً، فالمسألةُ لها جِهتانِ؛ والخطأُ في مِعيارِ الثبوتِ لا يُبرِّرُ المخالَفةَ بعدَ استقرارِ الأمرِ.

 

من ثمراتِ الخِلافِ: حُكمُ الأقليَّاتِ المسلِمةِ:

ثمَّةَ ثمرةٌ أُخرى لتحريرِ مَناطِ إثباتِ بدايةِ دُخولِ شَهرِ رَمضانَ وخروجِه، تظهَرُ جليَّةً في فقهِ الأقليَّاتِ المسلِمةِ؛ إذ إنَّ أكثرَ هذه الأقليَّاتِ ليس لها قيادةٌ إسلاميَّةٌ موحَّدةٌ تُمثِّلُها، أو يُرجَعُ إليها في تقريرِ مِثلِ هذه الأُمورِ، ومن ثَمَّ فإنَّ آراءَهم تضطَرِبُ اضطرابًا شديدًا عندَ التطبيقِ الواقعيِّ لأيٍّ منَ الآراءِ، سواءٌ العملُ بالسُّنَّةِ، وهو الرؤيةُ الشرعيَّةُ، أو حتى الحسابُ الفَلكيُّ، فالرؤيةُ الشرعيَّةُ تُثيرُ أسئلةً أُخرى، أهي رُؤيةُ هذه الأقليَّاتِ -وما هي الجِهةُ المعتَمَدةُ في إثباتِ هذه الرؤيةِ؟- أمْ رؤيةُ بلدٍ آخَرَ؟ وما هو البلدُ؟ أهو أقربُ بلدٍ أمْ أقربُ بلدٍ إسلاميٍّ، أمْ أنَّ كلَّ جاليةٍ تَتبَعُ بلدَها؟ فالأتراكُ في ألمانيا يَتبَعونَ تُركيا، والجزائريُّونَ الأصلِ في فرنسا يَتبَعونَ الجزائرَ، والباكستانيُّونَ في بريطانيا يَتبَعونَ الباكستانَ، والمغاربةُ في هولندا يَتبَعونَ المغرِبَ، كلُّ هذه مشاكلُ واقعيَّةٌ نواجِهُها نحن الذين نعيشُ في بلادِ الأقليَّاتِ.

أمَّا العَملُ بالحسابِ، فمع تبَنِّي المجلِسِ الأروبيِّ للإفتاءِ له -وهو أمرٌ مؤسِفٌ- إلَّا أنَّ العَملَ به لم يستَقِرَّ، وسُبحانَ مَن وطَّأَ النفوسَ على قَبولِ سُنَّتِه، ورَفضِ ما عَداها.

فما هو الحلُّ الشرعيُّ العَمليُّ إذنْ؟

لقد نصَّ البيانُ الخِتاميُّ للمؤتمرِ الذي نرصُدُ الملاحظاتِ عليه أنْ (تكونَ رؤيةُ الهلالِ للأقليَّاتِ الإسلاميَّةِ في البلدِ الواحدِ في بعضِ المناطِقِ والأقاليمِ، رؤيةً لبَقيَّتِهم عَملًا على توحيدِ صومِهم وفِطرِهم)، ثم أضافَ البيانُ أنَّه (بالنسبةِ للبلادِ التي فيها أقليَّاتٌ إسلاميَّةٌ، ولا يمكنُهم رؤيةُ الهلالِ لسببٍ منَ الأسبابِ، فإنَّ عليهمُ الأخذُ برؤيةِ أقرَبِ بلدٍ إسلاميٍّ، أو أقربِ بلدٍ فيه جاليةٌ إسلاميَّةٌ، صدَرَ ثبوتُ الهلالِ فيه عمَّن يُمثِّلُها منَ المراكزِ الإسلاميَّةِ ونحوِها)، هذا لمَن لديه أَدْنى معرفةٍ بواقعِ المسلِمينَ في بلادِ الأقليَّاتِ لا يُعَدُّ حَلًّا عَمليًّا لمشكلاتِها، بل قد يَزيدُ الطينَ بلَّةً في بعضِ البلادِ.

فما هو الحلُّ إذنْ؟ الحلُّ كامنٌ في حديثِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (الصومُ يومَ تَصومونَ، والفِطرُ يومَ تُفطِرونَ)، فإنَّ أيَّ بلدٍ يحُلُّ فيه الإنسانُ، وفيه عددٌ منَ المسلِمينَ، فإنَّ الغالبَ أنَّ صيامَهم يستَقِرُّ على أمرٍ ما، بصرفِ النظرِ عن طريقةِ إثباتِهمُ الشهرَ، فبعضُهم يصومُ؛ لأنَّ أمرَهمُ استقَرَّ على اتِّباعِ وليِّ أمرِهم، وبعضُهمُ استقَرَّ أمرُهم على اتِّباعِ جهةِ الإفتاءِ عندَهم، وبعضُهمُ استقَرَّ أمرُهم على اتِّباعِ مكَّةَ، وبعضُهمُ استقَرَّ أمرُهم على اتِّباعِ أقربِ البلادِ لديهم.

فكان على البيانِ أنْ يُفرِّقَ بينَ حُكمِ العامَّةِ والخاصَّةِ، فأمَّا العامَّةُ وآحادُ الناسِ فليس لديهم إلَّا أنْ يتَّبِعوا ما يستقِرُّ عليه أمرُ الجمهورِ الأعظمِ منَ المسلِمينَ في بلادِهم تلك؛ عَملًا بحديثِ الترمِذيِّ السابقِ، وقد قرَّرْنا أنَّ هذا الحُكمَ كالـمُجمَعِ عليه بينَ أهلِ العِلمِ.

وأمَّا الخاصَّةُ، وأَعْني بهم أهلَ الحَلِّ والعَقدِ من عُلماءَ يُرجَعُ إليهم، وأئمَّةِ مساجِدَ، ورِجالاتٍ مسموعةٍ كلمتُهم، فإنِ اجتمَعَتْ كلمةُ الأُمَّةِ على العَملِ برؤيةِ بلدٍ مِنَ البلادِ، حتى وإنْ تباعدَتْ مَطالِعُه، فهذا هو المُتعَيَّنُ، وإنْ لم تجتمِعْ، فعلى أهلِ الحَلِّ والعَقدِ في كلِّ بلدٍ العَملُ برُؤيتِهم لأنفُسِهم؛ لأنَّ هذا مُقْتَضى الأحاديثِ المتآزِرةِ، فإنْ تعذَّرَتْ رؤيتُهم لأنفُسِهم فهم بالخيارِ، إمَّا أنْ يَعمَلوا بقاعدةِ (فإنْ غُمَّ عليكم فأكْمِلوا عِدَّةَ شَعبانَ ثلاثينَ)، وإمَّا أنْ يَعمَلوا برؤيةِ أقرَبِ البلادِ الإسلاميَّةِ لهم، أو برؤيةِ أقرَبِ الجالياتِ الإسلاميَّةِ لهم، هذا مع مُراعاتِهم لمَا استقَرَّ عليه أمرُ العامَّةِ عندَهم.

وخِتامًا: أسألُ اللهَ جلَّ وعَلا أنْ يوفِّقَنا للالتزامِ بشرعِه، وأنْ يوفِّقَنا للعَملِ بسُنَّتِه، وأنْ يوفِّقَ أهلَ العِلمِ على للثباتِ أمامَ مختلِفِ الضغوطِ التي تنحَدِرُ عليهم من كلِّ جهةٍ، حتى لا نُحدِثَ في دِينِ اللهِ ما ليس منه، لئلَّا يَبتليَنا اللهُ بما ليس لنا به طاقةٌ، وقدِ اشتَهَرَ قولُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ رحمَه اللهُ: (يحدُثُ للناسِ أقْضيةٌ، على قَدرِ ما أحْدَثوا منَ الفُجورِ).

واللهُ أعلَمُ.

 

----------------------

 

 

 

(1) انظر قرار رقم: 18 (6/3).

(2) أحكام القرآن (1/280)، والجصَّاص فقيهٌ أصوليٌّ مفسِّرٌ حنفيٌّ تُوفيَ عامَ 370هـ.

(3) المنْتَقى شرح الموطَّأ (2/ 38 ) للباجيِّ، وهو فقيهٌ أُصوليٌّ مالكيٌّ مُتوفَّى 471هـ.

(4) بدايةُ المجتهِد (1/ 283، 284 ) لابنِ رُشدٍ وهو فقيهٌ أُصوليٌّ، مالكيٌّ تُوفيَ سنةَ 595هـ

(5) مواهبُ الجليلِ (2/ 387 ) للحطَّابِ، وهو فقيهٌ مالكيٌّ تُوفيَ سنةَ 954هـ.

(6) حاشيةُ ابنِ عابدينَ (2/387 )، وابنُ عابدينَ فقيهٌ حنفيٌّ متأخِّرٌ مُتوفَّى سنةَ 1252هـ.

(7) ص 7 من بحثِه.

(8) العلمُ المنشورُ في إثباتِ الشهورِ ص (6).

(9) أوائلُ الشهورِ العربيَّةِ (4).

(10) المجموعُ (6/276).

(11) إحكامُ الأحكامِ (2/8).

(12) رواهُ الترمِذيُّ (2/ 72)، والدراقُطنيُّ (2/366).

قال الترمِذيُّ: حسنٌ غريبٌ، وصحَّحَه ابنُ العربيِّ في (عارضةِ الأحوذيِّ) (2/159)، وابنُ كثيرٍ في (إرشادِ الفقيهِ) (1/280)، وحسَّنَ إسنادَه النوويُّ في (المجموعِ) (6/283).

(13) سُننُ الترمِذيِّ -طبعة بشار، ومعها حواشي- (2/ 72).