مقالات وبحوث مميزة


 

مِن رِبْقةِ الحُريَّةِ إلى نِعمةِ العُبوديَّةِ

الشيخ الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي

السبت 23 مِن ذي الحجة 1432هـ

 

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرَفِ الأنبياءِ والمُرسَلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين.. أمَّا بعدُ:

 

السَّلفيَّةُ وأسْلَمةُ المُصطلَحاتِ:

 النهضةُ الإسلاميةُ السَّلَفيةُ الأخيرةُ، والتي بدأَتْ على يدِ الشيخِ محمدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ -رحِمَه اللهُ تعالى- ولا نزالُ نعيشُها حتى هذا اليومِ، تعرَّضَتْ منذُ النشأةِ للكثيرِ مِنَ التحدِّياتِ الفكريَّةِ في مواضيعَ مُهمَّةٍ ومَفصِليَّةٍ في الفِكْرِ الإسلاميِّ، مِن أمثالِ توحيدِ العبادةِ (الألوهيَّةِ)، وتوحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ومفهومِ البِدعةِ، وطُرُقِ الاستنباطِ مِنَ النصوصِ الشرعيَّةِ، وحُدودِ المُسلمِ والعَلاقةِ مع الآخرينَ، كُلُّ هذه التحدِّياتِ الفِكريَّةِ خاضَتْها الحركةُ السَّلفيَّةُ في كُلِّ مكانٍ وُجِدت فيه؛ ابتداءً مِنَ الدَّرعيَّةِ في وسَطِ الجَزيرةِ العَربيَّةِ، وانتهاءً بـ "كانوا" في وسَطِ الغَربِ الإفريقيِّ، و"مندناو" في وسَطِ جزائرِ الفلبِّينِ، مُرورًا بكُلِّ ما تعرِفُه مِن عواصمَ وبقاعٍ نزَلَ الفكرُ السَّلفيُّ بساحتِها.

 وفي الأغلبِ فإنَّ الحركةَ السَّلفيَّةَ تَخرُجُ مِن تلك النِّزاعاتِ مُنتصرةً ومتماسكةً وجالِبةً إليها المزيدَ مِنَ الأتباعِ مِن عِلْيةِ القومِ ودَهْمائِهم، ومِن أسبابِ ذلك أنَّ الحركةَ كانت ترجِعُ في كلِّ ما يَرِدُ عليها مِن أسئلةٍ حول تلك القضايا إلى رصيدٍ رَصينٍ مِنَ النصوصِ الشرعيَّةِ الواضحةِ، والتي تَسقُطُ أمامَ بَيانِها جميعُ الحُججِ العقليَّةِ، والأبعادِ التأويليَّةِ للمُحكَماتِ، كما تَرجِعُ إلى رصيدٍ وافرٍ مِن أقوالِ أعلامِ الأمَّةِ مِنَ السَّلَفِ ومَن مشى على نَهجِهم مِنَ الخَلَفِ، رضِيَ اللهُ عنهم، ورحِمَهم أجمعينَ.

 

 ولا يَخْفى على باحثٍ ما لمُدوَّناتِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيْميَّةَ وتِلميذِه ابنِ القيِّمِ مِنَ البَركةِ على هذه الحَركةِ، حيثُ حَرَّرتْ تلك المُدوَّناتُ مذهبَ السَّلَفِ في أكثَرِ القضايا التي تواجِهُ السَّلفيِّين تعقيدًا في كُلِّ مكانٍ يصِلُ إليه فِكْرُهم.

 ومع بوادِرِ ما يُعرَفُ بالنهضةِ الحديثةِ، جاء مع الفِكرِ الأُوربيِّ مُصطلَحاتٌ وقضايا جديدةٌ نشأَتْ في محاضِنِ الغَربِ وتاريخِه الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ والفكريِّ، مِن مِثلِ: الاقتصادِ، الرأسِماليَّةِ، الاشتراكيةِ، الديمقراطيَّةِ، النظامِ السِّياسيِّ، الحُريَّةِ، المساواةِ، الوَطنيَّةِ، القَوميَّةِ، الدولة المَدَنيَّةِ.

 

 تعامَلَ أكثَرُ المَعْنيِّين بالقضايا المُعاصِرةِ في ذلك الوقتِ مع أكثَرِ هذه القضايا بمبدَأِ الأسْلَمةِ، وهو مبدأٌ ناشئٌ عن مُقدِّمتَينِ ونتيجةٍ، وهي: أنَّ هذه الدَّعَواتِ خيرٌ، وأنَّ الإسلامَ سبَّاقٌ إلى كُلِّ خيرٍ، والنتيجةُ أنَّ أكثَرَ هذه المبادئِ موجودةٌ في الإسلامِ، وإنْ لم يكنْ ذلك بأسمائِها التي اصطلَحَ عليها الغربيُّون، ولذلك بذَلوا وُسعَهم في سبيلِ استخراجِها مِن تَعاليمِ الدِّينِ ومَقاصِدِه.

 وقد أصابَ هؤلاء العُلَماءُ في كثيرٍ مِنَ الأشياءِ، لكنَّ الاستطرادَ في هذا المُنطلَقِ أوقَعَ البعضَ منهم في مُشكِلاتٍ كُبْرى تستحِقُّ كثيرًا مِنَ المُراجَعةِ.

 

 لم يكنِ السَّلفيُّون بمَعزِلٍ عن هذه المُشكِلةِ، لكنهم كانوا أقَلَّ الناسِ إقبالًا على أسلَمةِ المُصطلَحاتِ، ولعلَّ المشكلةَ الكُبرى عندهم تكمُنُ في أنهم لم يجِدوا في رصيدِهم الفكريِّ الذي نوَّهْنا عنه قبلَ قليلٍ ما يُمكِنُ الاعتمادُ عليه كثيرًا في مُواجَهةِ نُظرائِهم مِنَ الإسلاميِّين الذين أصبحَتْ عندهم هذه القضايا المُؤسلَمةُ مُسلَّماتٍ لا تقبَلُ النِّقاشَ، ولا تَحتمِلُ إلا قَوْلًا واحدًا، أدَّى هذا إلى دَفْعٍ عظيمٍ في اتِّجاهِ القَولِ بإسلاميَّةِ هذه القضايا عند كَثيرٍ مِنَ السَّلفيِّين أنفُسِهم، بالرَّغْمِ مِن عدَمِ توفُّرِ رَصيدٍ مِن أقوالِ السَّلَفِ يُوضِّحُ المنهجَ الصحيحَ تِجاهَها، وإخالُ أنَّ تَبنِّيَهم لمشروعِ الأسلَمةِ جاء لكَونِهم وقَعوا بين خِيارَينِ: إمَّا أنْ يقبَلوا بها بثَوبِها المُؤسلَمِ، وإمَّا أنْ يُوصَموا بعدَمِ وُضوحِ الرُّؤيةِ، والبُعدِ عن الواقعِ، والافتقارِ إلى المشروعِ السَّلَفيِّ، ومِن أبرَزِ ما وقَعَ فيه الحديثُ مِن هذه القضايا: مَسألتا الحُريَّةِ والديمقراطيَّةِ.

 

 التدرُّجُ في شرحِ الحُريَّةِ:

 في التُّراثِ الإسلاميِّ لا تُعرَفُ الحُريَّةُ إلا في مُقابلِ الرِّقِّ، ويُطلَقُ الحُرُّ حقيقةً على غيرِ المُستَرَقِّ مِنَ الناسِ، ويُطلَقُ مَجازًا أو نَقلًا على المُتخلِّقِ بالإباءِ والشَّمَمِ، على اعتبارِ أنها بعيدةٌ مِن صِفاتِ الأرِقَّاءِ.

 لكنها لم تُعرَفْ كمُصطَلحٍ حُقوقيٍّ إلَّا في الفلسفةِ الأوربيَّةِ، وَرِثَها فلاسفةُ التنويرِ في مَطلَعِ العصرِ الحديثِ عن فلاسفةِ اليونانِ الأقدمينَ.

 

 ولا يَغُضُّ مِن ذلك ذِكرُها في بعضِ كُتُبِ علماءِ المسلمين، كالقُشَيريِّ في رسالَتِه، وابنِ تَيميَّةَ في رِسالةِ العُبوديَّةِ، والسَّخاويِّ في فَتحِ المُغيثِ؛ فإنهم يَعْنون بها الانفِلاتَ مِنَ استرقاقِ الخلقِ إلى عُبوديَّةِ اللهِ تعالى، وهذا بعيدٌ عن المعنى المُصطلَحيِّ لهذه الكَلِمةِ.

 أمَّا في الفِكرِ الإسلاميِّ المعاصِرِ، فلم أجِدْ مُصطلَحًا مِنَ المُصطلَحاتِ التي اشتُهِرَ القولُ بأسلَمَتِها أكثَرَ شُؤمًا على الفِكرِ الإسلاميِّ مِن هذا المُصطلَحِ، فقد بدأَتْ عَلاقةُ المُفكِّرين المُسلمين معَه في الدَّعْوةِ إلى نَبذِ الاستبدادِ السياسيِّ على يَدِ عبدِ الرحمنِ الكواكبِيِّ.

 

 ثم انتقلَتْ إلى أنْ تُعتبَرَ مَقصِدًا مِن مَقاصِدِ التشريعِ الإسلاميِّ على يَدِ الشيخِ الطَّاهرِ بنِ عاشور، ثم هو يُستخدَمُ الآنَ كوسيلةٍ مِن وسائلِ انتهاكِ التشريعِ الإسلاميِّ.

ومَن تتبَّعَ أقوالَ المُتحدِّثين عن الحريَّةِ مِنَ العُلماءِ والمُفكِّرين الإسلاميِّين المُعتدِلين في استخدامِه, يجِدُ أنهم يَعنون بها: ما يذهَبُ إليه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ مِن أنَّ للإنسانِ إرادةً وقُدرةً فيما يَختارُه مِن مُعتقَداتٍ، وما يقومُ به مِن أعمالٍ، وأنَّ ذلك لا يَخرُجُ عن قُدرةِ اللهِ تعالى ومَشيئتِه -سبحانَه- وعِلمِه، على ما فصَّلَه عُلَماءُ الإسلامِ في حَديثِهم عن القَدَرِ.

 كما يَعنون بها: ما مَنَّ اللهُ -تعالى- به على المسلمينَ مِن رَفعِ الحَرَجِ عن الأمَّةِ، والتيسيرِ عليها في التشريعِ وكَثرةِ المُباحاتِ في مُقابلِ قِلَّةِ المناهي.

 

 فهم يقولونَ: إنَّ الإسلامَ جاءَ بالحريَّةِ المُنضبِطةِ بضَوابطِ الشريعةِ الإسلاميَّةِ. وضوابِطُها: كُلُّ ما نهى اللهُ تعالى عنه، فمَن عمِلَ في نِطاقِ الواجباتِ والمُستحَبَّاتِ والمُباحاتِ والمكروهاتِ فهو مُستمتعٌ بالحُريَّةِ التي جاءَ بها الإسلامُ قبل الحَضارةِ الغَربيَّةِ والمواثيقِ الدَّوْليَّةِ بأكثَرَ مِنَ ألْفِ عامٍ.

هذا ما يُريدُه المُعتدِلون مِنَ الكُتَّابِ والمُفكِّرين حين يَتحدَّثون عن الحريَّةِ المُنضبِطةِ.

 وعند عَرضِ هذه النَّظْرةِ على الفِكرِ الغربيِّ؛ فإننا لا نجِدُ هناك ما يُقاربُها، فضلًا عن أنْ يَتطابقَ معَها.

 

 فالحريَّةُ هناك لا تحمِلُ معنًى واحدًا، بل ليس لها مَفهومٌ مُحدَّدٌ عند فلاسفتِهم ابتداءً مِن سُقراطَ، وانتهاءً بسارتر، وهذا ما يَجعَلُ استخدامَها كمُصطلَحٍ للتعبيرِ عن قيمةٍ إسلاميَّةٍ استخدامًا خَطَرًا، لكونِها كسائرِ المُصطلَحاتِ الناشئةِ في بيئةٍ مُختلِفةٍ تأتينا بكامِلِ أعبائِها التي تحمَّلَتْها عبْرَ تاريخِها الطويلِ الذي لا يَنتمي إلينا، ولا يُمكِنُ أنْ نَنتميَ إليه، ولا يُمكِنُ أيضًا أنْ نَفصِلَها عنه بحالٍ مِنَ الأحوالِ.

 

 ولهذا التبايُنِ بين مُرادِ المُفكِّرين المسلمين المُعتدِلين مِنَ الحريَّةِ المُنضبطةِ, وبين مُراداتِ مُفكِّري وطَنِ مَنشَأِ هذا المُصطلَحِ, لم يتوقَّفِ الواقعُ الثَّقافيُّ في عالَمِنا الإسلاميِّ عند استخدامِ هذا المُصطلَحِ كتعبيرٍ غيرِ مُعقَّدٍ عن قيمةٍ إسلاميَّةٍ، بل تجاوَزَ ذلك إلى انتهاكِ القيمةِ الإسلاميَّةِ لصالحِ المُصطلَحِ الوافدِ، حيثُ أدَّى القولُ بكونِها مَقصِدًا مِن مَقاصدِ الشَّرعِ إلى اعتبارِ أنَّ لها أحكامَ المَقاصدِ مِن حِفظ ِالدِّينِ والنفسِ والمالِ والعِرضِ والنَّسلِ، الثابتةِ باستقراءِ جميعِ أحكامِ الشَّريعةِ، ولا يَخفى أنَّ مراعاةَ المقاصدِ يَستعمِلُها الفقيهُ في فَهمِ النصوصِ، وتأويلِها وصَرفِها عن حقائِقِها إلى مَجازاتِها، كما تُستخدَمُ المقاصدُ في الاجتهادِ في أحكامِ النَّوازلِ عند تَعذُّرِ النصوصِ، على اعتبارِ أنَّ المقاصدَ ثابتةٌ بالنصِّ، وأصْلُ الاجتهادِ هو إعطاءُ غيرِ المَنصوصِ حُكمَ ما فيه نصٌّ، بل رُبَّما يستخدِمُها أهلُ صِناعةِ الحديثِ في ردِّ بعضِ الأحاديثِ دِرايةً.

 

 الحريَّةُ ومقاصِدُ الشريعةِ:

 فإذا وصَلْنا إلى أنْ نجعَلَ الحُريَّةَ مَقصِدًا مِن مقاصِدِ الشَّرعِ تعيَّنَ أنْ نُعطيَها كُلَّ هذه المَكانةِ، فنستعينَ بها على فَهمِ النصوصِ أو تأويلِها، ونَجعَلَها بمَثابةِ الدليلِ في أحكامِ النوازِلِ، ونرُدُّ بها ما لا يتَّفقُ معها مِن أحاديثَ، كجُزءٍ مِن علمِ الحديثِ دِرايةً.

 

وهذا ما لا يُمكِنُ؛ لأمرَينِ:

  أحدُهما: أنَّ اعتبارَ الحُريَّةَ مَقصِدًا للشارِعِ -كما يُقدِّمُها عددٌ مِنَ المُفكِّرين الإسلاميِّين- يَعني: أنَّ اللهَ أنزَلَ الشريعةَ كي يكونَ الإنسانُ مُريدًا، أو كي يَتمتَّعَ بالمُباحاتِ، وهذا ما لا يُمكِنُ أنْ يَستقيمَ؛ لأنَّ الشريعةَ إنما اختُصَّ بها الإنسانُ مِن بينِ سائرِ الكائناتِ؛ لكونِه أهلًا لحَملِ أمانةِ التكليفِ، وإنَّما أهَّلَه لذلك العَقلُ والإرادةُ، فكيف تكونُ الإرادةُ التي هي مُقتَضى التكليفِ بالشرائعِ مَقصِدًا لها، أي للإرادةِ أيضًا؟

 فهذا دورٌ لا يستقيمُ في المَنطقِ بحالٍ مِنَ الأحوالِ.

 

 الثاني: أنَّ المقاصدَ لا بُدَّ عليها مِن أدلَّةٍ خاصَّةٍ صريحةٍ قاطعةٍ في دَلالتِها، وهذا ما لا يوجَدُ للحريَّةِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، وسوف يأتي الكلامُ عن ذلك قريبًا.

المُهِمُّ أنْ نَمضيَ إلى أنَّ القولَ بمَقصِديَّةِ الحريَّةِ للتشريعِ أُنموذَجٌ للإشكالاتِ التي لا يُمكِنُ الانفكاكُ عنها حين نُصِرُّ على أسلَمةِ مُصطلَحٍ مُعَبَّأٍ بأثقالٍ لا تَمُتُّ لنا بصِلةٍ.

 

 قِمَّةُ الخَطَلِ في فَهمِ الحريَّةِ:

 وقد بلَغَ الخَطَلُ بالبعضِ إلى أنْ قال: إنَّ تحقيقَ الحُريَّةِ مُقَدَّمٌ على تطبيقِ الشريعةِ، ووجهُ الخَطَلِ في هذا القولِ -مع إجلالِنا الكبيرِ لِعَينِ قائلِه ولعِلمِه-: أنَّه بقولِه هذا لن يستطيعَ تعريفَ الحُريَّةِ التي يرى أنها مُقدَّمةٌ على تطبيقِ الشريعةِ؛ لأنه إنْ عرَّفَها بكونِها ما قرَّرَتْه الشريعةُ مِن إرادةٍ للإنسانِ، وما شَرَعَتْه مِن مُباحاتٍ، فهذه لا يُمكِنُ أنْ تكونَ إلا مع الشريعةِ، ولا يُمكِنُ أنْ تكونَ سابقةً لها، وإنْ أرادَ بها: الاختيارَ المُطلَقَ غيرَ المنضبطِ بضوابطِ الشريعةِ، فالإقرارُ عليه كُفرٌ باتِّفاقٍ، وإنْ أرادَ بها رَفْعَ الظُّلمِ، وتحقيقَ العَدْلِ، وإعادةَ توزيعِ الثَّروةِ؛ فهذه قِيَمٌ نبيلةٌ أخرى غيرُ الحُرِّيَّةِ.

 

والحاصِلُ: أنَّ كلِمةَ "تحقيقُ الحُريةِ مُقدَّمٌ على تطبيقِ الشريعةِ" كَلِمةٌ أنتَجَها غُلوٌّ في هذا المُصطلَحِ، ولم يُنتِجْها تحقيقٌ عِلميٌّ، بدليلِ أنَّ قائلَ هذه الكَلِمةِ قال بَعدَها: لا طاعةَ لحاكمٍ يَتجاهَلُ مَرجِعيَّةَ القرآنِ، هكذا قال، وعليه يكونُ الحاكِمُ الذي يُحقِّقُ الحُريَّةَ كأوْلويَّةٍ مُقدَّمةٍ على الشَّريعةِ لا طاعةَ له، وهذا تناقضٌ يُؤكِّدُ ما قَدَّمْتُه مِن أنَّ الغُلُوَّ في المُصطلَحِ هو الذي أنتَجَ مِثلَ هذه الكلِمةِ، وليس الرَّصيدُ العِلميُّ.

 

 يُؤكِّدُ ذلك: أنَّ صاحبَ هذا القولِ أورَدَه في سِياقٍ مِنَ الكلِماتِ الاستبداديَّةِ والمسيئةِ لمُخالِفيه، كوَصفِه مخالِفيه مِنَ السَّلَفيِّين بأنهم يُروِّجون لثَقافةٍ سامَّةٍ ومسمومةٍ ومُضلِّلةٍ ومُحرَّفةٍ تَربِطُ الفتنةَ بالخُروجِ على الحاكمِ, وأنهم أصحابُ ثَقافاتٍ مَيِّتةٍ، وهذا يَعني فَشَلًا ذَريعًا في أوَّلِ اختبارٍ له في تطبيقِ الحُريَّةِ التي يَدعو إليها.

 ومظاهِرُ الغُلوِّ في مُصطلَحِ الحريَّةِ كثيرةٌ لن أتتبَّعَها هنا، لكنني اخترتُ أقرَبَها عَهْدًا، لكونِه مِثالًا حاضرًا في الأذهانِ، وسوف أنتقِلُ منه إلى الموقِفِ الذي أراه صَوابًا مِن هذا المُصطلَحِ.

 

 الحُريَّةُ بينَ فَلاسفةِ الغربِ ودُعاةِ الإسلامِ:

 وبِدايةُ القولِ أنَّ فلاسفةَ الغربِ لا يتَّفِقون في مُرادِهم بالحريَّةِ، بل لا يتَّفِقون في مَدى إمكانيَّةِ تَطبيقِها، لكنهم لا يَختلِفون في أبرَزِ سِماتِها عندهم، وهي:

- أنَّ الفردَ ليس مَسؤولًا في أفكارِه أو تصرُّفاتِه إلَّا أمامَ القانونِ.

- ليس مِن حقِّ القانونِ أنْ يقِفَ في وجهِ الفردِ إلَّا لمَنعِ الإضرارِ بالآخرين أو بالمُجتمَعِ.

- ضوابطُ الإضرارِ بالآخرين أو بالمُجتمَعِ لا تُحدِّدُها اعتباراتٌ شخصيَّةٌ أو عُرْفيَّةٌ، بل تُحدِّدُها قواعدُ قانونيَّةٌ تَنطلِقُ مِن أنَّ الأصلَ عدَمُ مسؤوليَّةِ الفردِ.

 كلُّ مِن يختَلِفون في الحريَّةِ مِن فَلاسفةِ الغَربِ لا يَختلِفون في أنَّ هذه هي مَعالمُ الحُريَّةِ، سواءٌ وافَقوها أو خالفوها، والمُفكِّرون الإسلاميُّون المُناصِرون للحريَّةِ لا يُقِرُّون هذه المعالِمَ، بل جَميعُهم يرى أنَّ الفردَ مسؤولٌ أمامَ الشريعةِ في أفكارِه وأفعالِه، وأنَّ القانونَ لا يكونُ مُخالِفًا للشريعةِ، وأنَّ مِعيارَ الإضرارِ بالنفسِ أو بالغيرِ تُحدِّدُه نواميسُ إلهيَّةٌ قد تكونُ مَعلومةَ المعاني، وقد تكونُ تَعَبُّديَّةً، لكنَّ الالتزامَ بها واجبٌ.

 وهذا الاختلافُ بين الفريقينِ -أعني مُفكِّري الغَربِ والمُفكِّرين الإسلاميِّين المُعاصِرين- حَتَّمَ على كلِّ مَن ناصَرَ الحُريَّةَ مِن مُفكِّري الإسلامِ، أنْ يُضِيفَ اشتراطَ أنْ تكونَ الحُريَّةُ مُنضبطةً بضوابطِ الشرعِ.

 وحين نَرجِعُ إلى ضوابطِ الشرعِ نجِدُ أنها كثيرةٌ جدًّا، بحيثُ يَصعُبُ أو يَستحيلُ أنْ نُقنِعَ غربيًّا أو مُستغرِبًا بأنَّ مُصطلَحَ الحريَّةِ الذي وُلِدَ وتربَّى عندهم لا يتنافى مع دِينِنا، اللهمَّ إلَّا إذا قُمْنا بتقديمِ تَنازُلاتٍ كثيرةٍ مُتتابِعةٍ كي نُزَيِّنَ دِينَنا في أعيُنِهم، وهذا بالفِعلِ ما نراه مُشاهَدًا مِن كثيرٍ مِنَ الناشطين الإسلاميِّين، بل ومِن الفُقهاءِ المولَعين بهذا المُصطلَحِ، حتى وصَلَ الأمرُ إلى إنكارِ عدَدٍ مِنَ الحُدودِ والعُقوباتِ الشرعيَّةِ لا لشيءٍ سِوى أنَّها تَتنافى مع الحريَّةِ التي اعتبَروها مَقصِدًا يُحاكِمون إليه النصوصَ الشرعيَّةَ، كإنكارِ حدِّ الرِّدَّةِ، وعُقوبةِ المُجَدِّفِ والمُبتدِعِ، ورَجمِ الزاني، وتحكيمِ الأكثريَّةِ في مَرجعِيَّةِ الدينِ، والسَّماحِ للكافرين بالإعلانِ عن رُموزِ كُفرِهم في بِلادِ المسلِمين, بل وصَلَ الأمرُ بالبعضِ منهم إلى مُطابَقةِ الفِكرِ العِلمانيِّ، بحيثُ يَصعُبُ التفريقُ بين طَرحِهم السياسيِّ والطَّرحِ العِلمانيِّ مع رَفضِهم لهذه التَّسميةِ، وآخَرون منهم رَضُوا بما سمَّوْه عِلمانيَّةً جُزئيَّةً.

 

 بين مُصطلَحِ الحريَّةِ ومُصطلَحِ الاستعبادِ للهِ:

 إنَّني أدعو إلى رَفضِ هذا المُصطلَحِ، وإلقائِه عن ثَقافتِنا كُلِّيًّا، غيرَ مأسوفٍ عليه؛ فهو مُصطلَحٌ مُشَوَّهٌ مَشبوهٌ مُنهِكٌ لإرثِنا الدينيِّ؛ إذ لا يُمكِنُ تَطابُقُه معه إلَّا في أحَدِ حالَيْنِ:

إمَّا التكلُّفُ في مُحاولةِ استدعائِه، وإمَّا تقديمُ التنازُلاتِ التي تذهَبُ بخصائصِ الدينِ أدراجَ الرياحِ.

 وإذا كنَّا نُريدُ باستخدامِ هذا المُصطلَحِ دَعوةَ العالَمِ إلى دِينِنا وإبرازِ خَصائصِه ومُقوِّماتِه، فلن يكونَ هناك أَفضَلُ مِنَ الاقتصارِ على المُصطلَحاتِ الواضحةِ غيرِ الحمَّالةِ، وأفضَلُ هذه المُصطلَحاتِ ما قرَّرَه الشَّرعُ، وعبَّرَتْ عنه النُّصوصُ الشرعيَّةُ.

 فالحقُّ أنْ يُقالَ: إنَّ الإسلامَ دِينُ استعبادٍ للهِ تعالى، يُخرِجُ العِبادَ مِن عِبادةِ العِبادِ إلى عِبادةِ ربِّ العِبادِ.

 وقد يقولُ قائلٌ: وما المانعُ أنْ نُريدَ هذا الأمرَ باستخدامِنا مُصطلَحَ الحُريَّةِ؟

 والجوابُ: أنَّ المانعَ الحقيقيَّ هو ما قدَّمْتُه مِن أنَّ المُصطلَحاتِ بَناتُ بيئاتٍ، فلا يُمكِنُ أبدًا أنْ نَأتيَ بمُصطلَحٍ مِن بيئتِه ثم نَضَعَه بَينَنا إلَّا واستطاعَ هذا المُصطلَحُ مِن تِلقاءِ نَفسِه نَسْجَ بيئةٍ مُقارِبةٍ لبيئتِه التي نشَأَ فيها.

 

 وحين نَرجِعُ إلى واقعِ الحرَكةِ الفِكريَّةِ، اليومَ بَينَ الإسلاميِّين وأنفُسِهم، وبَينَ الإسلاميِّين والليبراليِّين، نجِدُ أنَّ مُصطلَحَ الحُريَّةِ واضحُ الأثَرِ فيما يَشجُرُ بينهم مِن مُشكِلاتٍ، وإنْ لم يكنْ هو المؤثِّرَ الوحيدَ فيها، إلَّا أنَّ استئصالَه مِنَ السَّاحةِ الفِكريَّةِ لا شَكَّ سيُؤدِّي إلى نتائجَ محمودةٍ، لا سِيَّما على وِحدةِ الصفِّ الإسلاميِّ.

أمَّا مُصطلَحُ الاستعبادِ للهِ ففَضلًا عن كونِه المُعبِّرَ عن حقيقةِ الخطابِ الشرعيِّ، فهو أيضًا أكثَرُ ألَقًا وجاذبيَّةً للإسلامِ حين نَدعو إليه غيرَ أهلِه، كيف لا، وهو دَعوةُ اللهِ تعالى، والاسمُ الذي ارتضاه لنا، والعمَلُ المُحدَّدُ الذي خلقَنا سُبحانَه وتعالى لأجلِه، المُصطلَحُ الذي حمَلَه آباؤنا إلى مَشارقِ الأرضِ ومَغاربِها ففتَحوا به القُلوبَ قبلَ البُلدانِ، وتقدَّمَ به رِبعِيُّ بنُ عامرٍ إلى الهُرْمُزانِ في شُموخٍ وإباءٍ وهو يقولُ: إنَّ اللهَ ابتعَثَنا لنُخرِجَ العِبادَ مِن عِبادةِ العِبادِ إلى عِبادةِ ربِّ العبادِ.

 وقبلَ الحَديثِ عن مَدى شُغْلِ العَبدِ في الإسلامِ بمَهامِّ عُبوديَّتِه وتناقُضِ هذه المَهامِّ مع مُصطلَحِ الحريَّةِ الرائجِ الآنَ على حِسابِ العُبوديَّةِ، استعرَضَ بعضَ ما يُقَدَّمُ على أنه نماذجُ مِنَ الدعوةِ إلى الحريةِ في القرآنِ:

 

 فمن ذلك الآياتُ التي تُقَرِّرُ مَنْحَ العَبدِ خاصِّيَّةَ المشيئةِ والإرادةِ، كقولِه تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقولِه سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28، 29]، وقولِه:  {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37]، وكقولِه سُبحانه:  {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، وغيرِ ذلك مِنَ الآياتِ التي تُثبِتُ للعبدِ قُدرةً واختيارًا، لا تخرُجُ عن مَشيئةِ اللهِ وقُدرتِه، كما هو مَذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ.

 

وحقيقةُ هذه الآياتِ أنها لا تُساعدُ أبدًا فيما يُريدونَه منها مِن إقرارِ مبدأِ الحُريَّةِ؛ لأنها لا تُثبِتُ وصفَ الكفرِ لمَن اختارَ غيرَ الإيمانِ وحَسْبُ، بل تُرتِّبُ على الاختيارِ الخاطئِ عِقابًا أُخرويًّا مُغلَّظًا.

 فالآيةُ الأُولى، وهي أكثَرُ الآياتِ انتشارًا في هذا السِّياقِ قَلَّما يَتْلونَها كاملةً؛ لأنَّ تِلاوتَها كاملةً يَضيعُ وَجْهَ الاستدلالِ منها: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]، كما أنَّ الآيةَ ليس فيها نَفيٌ للعقوبةِ الدُّنيويَّةِ عمَّن انتقَلَ إلى الكُفرِ بعد الإسلامِ.

 

 أمَّا قولُه تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37]، فقد وقعَتْ في سِياقٍ تفصيليٍّ لحوارٍ يدورُ بين أهلِ النارِ وأهلِ اليَمينِ، يدُلُّ على أنَّ الكافرين لا يُحاسَبون على كُفرِهم فقطْ، بل على تَركِهم لفرائضِ الإسلامِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 37 - 47].

 ولا أدري كيف يَسوغُ لمؤمنٍ أنْ يَزعُمَ أنَّ الإنسانَ حُرٌّ في اختيارِه وهو يُؤمِنُ أنَّ العِقابَ الأُخرويَّ له بالمِرصادِ؟

 وهناك مِن دُعاةِ الحريَّةِ مَن فهِمَ هذا التناقُضَ فلجَأَ إلى ما هو أسوَأُ، وهو الجُنوحُ إلى وِحدةِ الأديانِ وتَسميتِها كُلِّها إِسلامًا، وجعَلَ الفارِقَ بينها هو مسألةَ الاختيارِ المَحضِ وحَسْبُ.

 

 وقد يُجيبُ أحدُهم بأنَّ مُرادَنا أنه حُرٌّ في اختيارِه في الدُّنيا، فلا إكراهَ في الدِّينِ كما قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]، وهو جوابٌ لم يَنظُرْ صاحبُه فيه إلى تفسيرِ السَّلَفِ للآيةِ وهو: أنَّها تكليفٌ للمسلمين، وذلك بنَهيِهم عن إكراهِ مَن تحتَ أيديهم مِنَ اليهودِ والنَّصارى على الإسلامِ، وليست آيةَ تَخييرٍ بين الإسلامِ وغَيرِه، كما أنها مُتقدِّمةٌ على الآياتِ التي أمرَتْ بقِتالِ المشركين كافَّةً، وهو ما يُقوِّي القولَ بكونِها خاصَّةً فيمَن تحت أيدي المسلمين مِنَ اليهودِ والنَّصارى.

 

 ولا يُمكِنُ أنْ يَستقيمَ مَفهومُ الحريَّةِ في الذِّهنِ مع القولِ بعُقوبةِ المُرتَدِّ بالقتلِ، كما هو مُجمَعٌ عليه بين العُلَماءِ المُعتبَرينَ، سواءٌ أقُلنا إنَّ القتلَ عُقوبةٌ على الرِّدَّةِ باعتبارِها جُرْمًا، أو باعتبارِ هذه العُقوبةِ صِيانةً للمُجتمَعِ الإسلاميِّ مِنَ التفكُّكِ والانهيارِ العَقَديِّ، كما يَذهَبُ إليه بَعضُهم، فعلى كلا الاعتبارَينِ لا يستقيمُ أنْ نقولَ: إنَّ الإسلامَ أتى بالحريَّةِ وهو يَحكُمُ على مَن يَختارُ غَيرَه بالقَتلِ، وهذه الإشكاليَّةُ هي سَبَبُ ظهورِ القولِ بإنكارِ حَدِّ الرِّدَّةِ بين عددٍ مِنَ المُعاصرينَ، ومُحاولاتِهم تَضعيفَ ما ورَدَ فيه مِنَ الأحاديثِ أو تأويلَه.

 

أمَّا الاستدلالُ على تضمُّنِ الشريعةِ للحريَّةِ: بحُكمِ الإباحةِ، وأنها هي الأصلُ مِن بينِ الأحكامِ، فهو تَعسُّفٌ شديدٌ مِن وجوهٍ:

 أولُّها: أنَّ الإباحةَ هي الحُكمُ التخييريُّ الوحيدُ مِن خَمسةِ أحكامٍ ليس فيها تخييرٌ، بل هي عزائمُ، فالوجوبُ عزيمةٌ على الفِعلِ يَستحِقُّ تارِكُها الإثمَ، والاستحبابُ عزيمةٌ على الفعلِ أيضًا يَستحِقُّ فاعِلُها الأجرَ، والحرامُ عزيمةٌ على التركِ يَستحِقُّ فاعِلُه الوِزْرَ، والمَكروهُ عزيمةٌ على التركِ يَستحِقُّ تاركُه الأجرَ، فالقولُ بتضمُّنِ الشريعةِ للحريَّةِ اعتمادًا على حُكمٍ مِن خمسةِ أحكامِ تَغليبٍ لا مُستنَدَ له.

 

 الثاني: أنَّ الأشياءَ التي الأصلُ فيها الإباحةُ كثيرةٌ بأنواعِها، لا بأجناسِها، ومعنى ذلك: أنَّ أجناسَها يُمكِنُ حَصرُها في المَطعوماتِ والمشروباتِ والمَلبوساتِ، وكُلُّ منها يتنوَّعُ إلى ما لا نِهايةَ، ومع هذا التنوُّعِ الكبيرِ إلَّا أنَّ كُلَّ مُباحٍ منها تَطرَأُ عليه أحكامُ العزائمِ، فبَهيمةُ الأنعامِ حَلالٌ، إلَّا أنَّ الحُرمةَ تَطرَأُ عليها في أحوالٍ عديدةٍ جمَعَتْها آيةُ سورةِ المائدةِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، كما أنَّ جِنسَ المطعوماتِ يَدخُلُ فيه أجناسٌ مِنَ المخلوقاتِ يَحرُمُ أَكلُها؛ كجِنسِ السِّباعِ، وجنسِ المُستقذَراتِ، وكذلك المَشروباتُ يدخُلُ فيها أجناسٌ مُحرَّمةٌ أيضًا.

 أمَّا الأشياءُ التي الأصلُ فيها الحُرمةُ فكثيرةٌ بأجناسِها وأنواعِها، فجِنسُ الرجالِ حَرامٌ على النِّساءِ إلَّا ما كانَ بعَقدٍ صَحيحٍ، وجنسُ النِّساءِ حَرامٌ على الرجالِ إلَّا ما كان كذلك، وجِنسُ الأموالِ حَرامُ إلَّا ما مُلِكَ بعَقدٍ صحيحٍ, ومَناجِمُ مَعادِنِ الأرضِ حَرامٌ إلَّا ما لا يُؤدِّي الاستحواذُ عليه إلى مَضرَّةٍ بالمسلمين، وجِنسُ العُقودِ حَرامٌ إلا ما ثبَتَ حِلُّه.

 

 وكلُّ ذَريعةٍ باليقينِ أو بأغلبِ الظنِّ إلى هذه المُحرَّماتِ، فهي مُحرَّمةٌ، بعكسِ الذرائعِ إلى المُباحاتِ فقد تكونُ مُباحةً، وقد تكونُ مُحرَّمةً.

 والعباداتُ وهي تَشغَلُ حيِّزًا كبيرًا مِن وقتِ المُسلِمِ واجبةٌ أو مُستحبَّةٌ، وليس فيها مُباحٌ على الإطلاقِ، بل إنَّ المُباحاتِ مِنَ العاداتِ والطبائعِ الجِبِلِّيَّةِ تَنقلِبُ إلى مُستحبَّاتٍ بالنيَّةِ، ولا عَكْسَ، فلا تَنقَلِبُ العباداتُ إلى مُباحاتٍ.

 

الثالثُ: أنَّ حُكمَ المُجتهدِ بإباحةِ أمرٍ مرحلةٌ تاليةٌ للجَزمِ بعدَمِ دَليلٍ؛ أي أنَّ المُجتهدَ لا يَحكُمُ بالإباحةِ حتى يتحقَّقَ عنده عدَمُ دليلِ عزيمةٍ أو حَظْرٍ، قال إمامُ الحَرَمينِ: "فما لم يُعلَمْ فيه تحريمٌ يَجري على حُكمِ الحِلِّ؛ والسببُ فيه أنَّه لا يَثبُتُ للهِ حُكمٌ على المُكلَّفينَ غيرُ مُستنِدٍ إلى دليلٍ؛ فإذا انتفى دليلُ التحريمِ ثَمَّ، استحالَ الحُكمُ به" غِياثُ الأُمَمِ, 490.

 الرابعُ: أنَّ الصحيحَ في حكايةِ القاعدةِ الأصوليَّةِ: أنَّ الأصلَ في المنافعِ الإباحةُ، على ما قرَّرَه الرازيُّ في المحصولِ، وليس "الأصلُ في الأشياءِ الإباحةُ" كما هو شائعٌ، وهذا الأمرُ يُغيِّرُ كثيرًا في الحُكمِ على أمورٍ يظُنُّ الناسُ أنَّها مُباحةٌ، والحقيقةُ أنَّها مُحرَّمةٌ أو مَكروهةٌ، كإضاعةِ الوقتِ فيما لا نَفْعَ فيه مِن سَمَرٍ أو لَهوٍ أو غيرِه.

 فإذا كانتِ الإباحةُ تُعكِّرُ عليها هذه الأمورُ الأربَعةُ لم يصِحَّ الاعتمادُ عليها في نِسبةِ الحُريَّةِ إلى الشريعةِ.

 ومَحِلُّ التساؤلِ هنا: ما هو السِّرُّ في كونِ المسلمِ يشعُرُ مع هذه الشريعةِ بالسَّعةِ واليُسرِ، مع أنَّ المُباحاتِ ليسَتْ أكثَرَ مِن حيثُ الأجناسُ مِن بَقيَّةِ ما وردَتْ فيه العزائمُ، هذا إنْ لم نقلْ إنها أقَلُّ بكثيرٍ؟

 الجوابُ: أنَّ ذلك عائدٌ إلى أنَّ تكاليفَ الشريعةِ ومَنهيِّاتِها تأتي مُلبِّيةً لحاجاتِ الإنسانِ، فلا يَشعُرُ مع التزامِها بكثرةِ قُيودِها.

 

 مِنَ الآثارِ السلبيَّةِ لمُصطلَحِ الحريَّةِ:

 لكنَّ مُصطلَحَ الحريَّةِ الذي راجَ بين الناسِ في هذه الأيامِ، وكثُرَتْ نِسبتُه إلى الشريعةِ كان له أثَرٌ فيما يَشهَدُه العَصرُ مِن نُفرةٍ مِن تكاليفِ الشَّرعِ، وزُهدٍ في النصوصِ الشَّرعيَّةِ، إمَّا بإسقاطِها أو بتأويلِها أو بالاستعلاءِ عليها.

 وذلك أنَّ مُصطلَحَ الحُريَّةِ حَلَّ محَلَّ الاستعبادِ للهِ -عزَّ وجَلَّ- بحيثُ لم يُعَدَّ الإذعانُ للهِ تعالى هو شأنَ المسلمِ حينما يستمِعُ إلى النصِّ، بل أصبَحَ كُلُّ نَصٍّ يُخالِفُ الهوى أو مألوفَ الناسِ نصًّا فيه نَظَرٌ، الأمرُ الذي يُحقِّقُ الغربةَ الفِعليَّةَ للملتزمينَ بالنصوصِ في هذا العصرِ، ولعلَّ ذلك أحَدُ مظاهرِ الغُربةِ التي أخبَرَ عنها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بقولِه: ((بدَأَ الإسلامُ غَريبًا وسيَعودُ غَريبًا كما بدَأَ؛ فطوبى للغُرباءِ)).

 ومِن مَظاهرِ رَواجِ هذا المُصطلَحِ على حِسابِ العُبوديَّةِ أنَّك لا تكادُ تَجِدُ بابًا مِن أبوابِ التعامُلِ اليومَ إلَّا ولمُصطلَحِ الحُريَّةِ فيه النصيبُ الأوفَرُ.

 

 فالباحثون في الاقتصادِ الإسلاميِّ يَعُدُّون الحريَّةَ المُنضبِطةَ إحدى خَصائصِ النظامِ الاقتصاديِّ في الإسلامِ، بل إنَّ بعضَهم يَعُدُّ الحريَّةَ المُنضبِطةَ رُكنًا في هذا الاقتصادِ، مع أنَّ الحقيقةَ التي يَعرِفُها الفُقهاءُ أنَّ المُحرَّماتِ في أبوابِ المُعاملاتِ الإسلاميَّةِ أكثَرُ بكثيرٍ مِنَ المُباحاتِ، لدرَجةٍ جعَلَتْ تكييفَ المُعاملاتِ المُعاصِرةِ أو إيجادَ البديلِ لها مِنَ المُهِمَّاتِ الصعبةِ التي يَنبَري لها جَهابذةُ الفُقهاءِ والاقتصاديين، وكثيرًا ما تعذَّرَ عليهم ذلك.

 

 وكذلك يقولون: إنَّ الإسلامَ أعطى المرأةَ حُريَّةً مُنضبِطةً بضَوابطِ الشَّرعِ، الأمرُ الذي يتناقَضُ مع أحكامِ النِّساءِ في الوِلايةِ والسَّفَرِ وغيرِ ذلك، وهو ما أدَّى إلى الجُنوحِ إلى إنكارِ هذه الأحكامِ عند عددٍ ممَّن شعَرَ بالتناقُضِ بين القولِ بالحُريَّةِ وهذه الأحكامِ، فاتَّخَذَ الحريَّةَ دَليلًا لردِّ النصوصِ الثابتةِ أو تَأويلِها.

 ولا يَقِلُّ الكلامُ في هذينِ الأمرينِ عن الكلامِ في حريَّةِ الرأيِ والتعبيرِ والاعتقادِ، فقد أُلقِيَ مِن أجلِ الحريَّةِ بكثيرٍ مِنَ الأحكامِ الفِقهيَّةِ التي تُنظِّمُ الرأيَ والفِكرَ وتَحفَظُ المُجتمَعَ مِن مَظاهرِ التجديفِ والقولِ على اللهِ تعالى بغيرِ عِلمٍ.

 إذا استبْعَدْنا مُصطلَحَ الحريَّةِ؛ ماذا نكسِبُ؟

 وحين نُلقي عنَّا هذا المُصطلَحَ الدَّخيلَ جانبًا، ونَعودُ إلى القولِ بالاستعبادِ للهِ تعالى، فلن نخسَرَ شيئًا، بل سوف نُحقِّقُ مكاسبَ كثيرةً، منها:

 

  1- صِدقُ التوصيفِ لحالِ الشريعةِ مع الإنسانِ، فالإنسانُ عَبدٌ للهِ اضطرارًا، والشريعةُ تجعَلُ منه عبدًا للهِ اختيارًا أيضًا، فيكونُ بذلك عبدًا للهِ مرَّتينِ، الأولى باستسلامِه للهِ تعالى في قَضائِه وقَدَرِه، والثانيةُ باستسلامِه للهِ تعالى فيما أمَرَ ونهى، فالأولى يُعبِّر عنها مِثلُ قولِه تعالى في سورةِ البقرةِ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].

 

 والثانيةُ يُعبِّر عنها مِثلُ قولِه تعالى في سورةِ البقرةِ أيضًا: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111، 112]، ولذلك جاءتِ العبادةُ مالكةً لسائرِ يومِ الإنسانِ مِن يَقظتِه حيثُ تَبدأُ معه اليومَ بالصلاةِ الواجبةِ، وتَحكُمُ مفاصلَ يَومِه بصَلَواتٍ مَفروضةٍ, ثم تَحكُمُ على كلِّ تصرُّفٍ مِن تصرُّفاتِه في سائرِ يَومِه بأحدِ الأحكامِ الخَمسةِ، فلا يخرُجُ فِعلٌ مِن أفعالِ العبدِ عن أنْ يكونَ واجبًا أو مَندوبًا أو مكروهًا أو حرامًا أو مُباحًا، فحتى الإباحةُ التي يُنَظَّرُ لها على أنها مِثالُ الحريَّةِ في الشريعةِ؛ إنَّما هي جُزءٌ مِن أمثلةِ استعبادِ الإنسانِ للهِ تعالى في هذه الأرضِ.

 

  2- نَبذُ هذا المُصطلَحِ الوافدِ، والتركيزُ على مَبدأِ العبوديَّةِ للهِ يُكسِبُ الإنسانَ إيمانًا عظيمًا يَجعَلُه مُستبصِرًا لحقيقةِ الثوابِ والعِقابِ التي تَنطلِقُ منها أركانُ العبادةِ الثلاثةُ: الحُبُّ والخوفُ والرجاءُ، والتي تضمَّنَها قولُه تعالى مِن سورةِ الإسراءِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57].

 

  3- حينَ يتجرَّدُ الإنسانُ مِنَ الاغترارِ بالحُريَّةِ إلى الشُّعورِ بالاستعبادِ للهِ تعالى في كلِّ حَركاتِه وسَكَناتِه يكونُ أقرَبَ إلى الامتثالِ لأمرِ اللهِ تعالى لعبادِه بأنْ يكونوا ربانيِّين كما جاءَ في سورةِ آلِ عِمرانَ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، قال الرازيُّ في تعريفِ الربانيِّين: "أنْ يكونَ الداعي له إلى جميعِ الأفعالِ طَلَبَ مَرضاةِ اللهِ، والصارِفُ له عن كلِّ الأفعالِ الهَرَبَ عن عِقابِ اللهِ"، تفسيرُ الرازيِّ 4/274, وقال ابنُ عاشورٍ: "كونوا منسوبين للربِّ، وهو اللهُ تعالى؛ لأنَّ النسَبَ إلى الشيءِ إنَّما يكونُ لمَزيدِ اختصاصِ المنسوبِ بالمنسوبِ إليه. ومعناه أنْ يكونوا مُخلِصين للهِ دون غيرِه". تفسيرُ التحريرِ والتنويرِ 3/140.

 

4- كما أنَّ عودةَ المسلمِ لاستشعارِ استعبادِه للهِ تعالى يَجعَلُه أكثَرَ تعلُّقًا واستسلامًا للنصوصِ الشرعيَّةِ، على عكسِ مَن تشرَّبَ مبدأَ الحُريَّةِ؛ فإنه مع الوقتِ -ودون أنْ يَشعُرَ- يُصيبُه استكبارٌ على النصوصِ، وعدَمُ رُضوخٍ لها، وهذا ما رأيناه -للأسفِ- في كُلِّ مَن تحمَّسَ للقولِ باشتمالِ الشريعةِ على الحُريَّةِ، ومع كَثرةِ تأكيدِ هؤلاء على كونِها منضبطةً بضوابطِ الشرعِ، إلَّا أنَّ سِحرَ المُصطلَحِ وبُهرُجَه يُفقِدُ كثيرًا مِنَ الناسِ صَوابَهم، حين يَجِدون أنَّ هذه الحريَّةَ لا تتفِّقُ -حَسْبَ أفهامِهم- مع كثيرٍ مِنَ النصوصِ، فيَلجَؤون إلى إعلاءِ الحُريَّةِ على النصِّ، كما هو حاصلٌ الآنَ، وقد أمرَنا اللهُ تعالى أنْ نجعَلَ النصَّ حاكمًا على تصرُّفاتِنا وأذواقِنا وإراداتِنا.

 

 ولكنْ: ألَا يُمكِنُ القولُ: إنَّه لا تضارُبَ بين الاستعبادِ للهِ تعالى والقولِ باشتمالِ الشريعةِ على الحريَّةِ؟

ويُقالُ: إنَّ الحريَّةَ التي تُنادي بها الشريعةُ هي جُزءٌ مِنَ استعبادِ الإنسانِ للهِ تعالى.

 والجوابُ: أنَّه لا يُمكِنُ ذلك؛ إذْ إنَّنا حين نَزعُمُ اشتمالَ الشريعةِ على الحريَّةِ لا بُدَّ أنْ نُحدِّدَ مكانَ هذه الحريَّةِ؛ أي: مَكانَ التخييرِ المَحْضِ الخالي مِن أيِّ عُقوبةٍ أو زَجرٍ في كلِّ الخِياراتِ، وهذا ما لا يوجَدُ في الشريعةِ على الإطلاقِ، حتى في المُباحاتِ؛ إذْ إنَّه ما مِن مُباحٍ إلَّا وتَحُفُّ به ضوابطُ دقيقةٌ تجعَلُ فاعِلَه على خَطَرِ الوقوعِ في المحظورِ عند تخَطِّيها، وكأنه يسيرُ على جِسرٍ ضيِّقٍ قصيرٍ قريبِ البدايةِ والنهايةِ ولا يُمكِنُ الجُنوحُ عنه ذاتَ اليمينِ أو ذاتَ الشِّمالِ.

خُذْ مِثالًا لذلك أكْلَ الطيِّباتِ: أليس مُباحًا دونَ نِزاعِ، مَنصوصًا على إباحتِه بالدليلِ القَطعيِّ ثُبوتًا ودَلالةً؟

 

 ومع ذلكَ؛ فإنَّ شروطَ استمرارِ إباحتِه مَاثلةٌ دائمًا، بحيثُ لا يكادُ يُفلِتُ أحدٌ مِن وَشْكِ الخُروجِ منها، فكُلُّ الطيِّباتِ يُشترَطُ في حِلِّها عدَمُ الإسرافِ وعدَمُ التبذيرِ, وعدَمُ التذرُّعِ بها إلى المُحرَّمِ كأنْ يُتَّخَذَ وسيلةً للخُيَلاءِ والكِبْرِ وكَسرِ قُلوبِ الناسِ، إضافةً إلى ما يَختصُّ به كلُّ طيِّبٍ مِن شروطٍ للحِلِّ، كتَذْكيةِ الأنعامِ، وذِكرِ اسمِ اللهِ على الصَّيْدِ، وسَقْيِ الشَّجَرِ مِن طاهرٍ...

 

 وكذلك المالُ الذي يَملِكُه الإنسانُ، وهو بحُكمِ الشريعةِ مُسلَّطٌ عليه كما يقولُ الفقهاءُ، لكنَّ الحقيقةَ الشرعيَّةَ أنَّ تسليطَ الإنسانِ على المالِ إنما هو تسليطُ ائْتمانٍ على مالٍ هو في يَدِ فلانٍ مِنَ الناسِ، لكنَّه في حقيقةِ الأمرِ مالُ اللهِ تعالى، ومجعولٌ في يدِ هذا الفردِ لمنفعةِ الأمَّةِ لحكمةٍ إلهيَّةٍ في إعمارِ الكونِ، وتسخيرِ الناسِ بعضِهم لبعضٍ، ولهذا عندما يَؤولُ مِلكُ المالِ ظاهرًا إلى السَّفيهِ، فإنَّ الخطابَ القُرآنيَّ يُصَرِّحُ بنسبةِ المالِ للأمَّةِ؛ لأنَّ صَيرورةَ المالِ في يدِ السفيهِ تَحولُ دونَ انتفاعِ الأمَّةِ به على الوجهِ اللائقِ، يقولُ تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء: 5]، لكنْ حين يَرشُدُ هذا السفيهُ؛ فإنَّ الآيةَ التاليةَ تعودُ إلى نِسبةِ المالِ إليه نِسبةَ اختصاصٍ وائتمانٍ. يقولُ عزَّ وجلَّ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، ثم تمنَعُ الشريعةُ هذا الراشِدَ مِنَ التصرُّفِ بالمالِ أيَّ تصرُّفٍ لا يُحقِّقُ للمجتمَعِ مَصلحةً، وإنْ كانَ يُحقِّقُ لصاحبِه نَماءً آمنًا، فهو ممنوعٌ مِن كُلِّ صُورِ الإنماءِ الذاتيِّ للمالِ وهو الرِّبا بجميعِ أنواعِه والحِيَلِ إليه، كما أنه مَمنوعٌ مِنَ الوصيَّةِ فيه بأكثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وممنوعٌ مِن حِرمانِ ورَثَتِه منه أو اختصاصِ بعضِهم بالوصيَّةِ دون الآخَرِ، وممنوعٌ مِنَ الإسرافِ فيه والتبذيرِ، ومُكلَّفٌ فيه مِنَ الزكاةِ، ومندوبٌ إليه الصدقَةُ منه.. إلى غيرِ ذلك ممَّا يُؤكِّدُ أنَّ المباحاتِ مَحفوفةٌ أيضًا بكثيرٍ مِنَ التكاليفِ التي تَمنَعُ مِن إطلاقِ لقَبِ مصطلحِ الحريَّةِ على الشريعةِ بسببِ تضمُّنِها لها.

 

 لكنَّ الواقعَ والتاريخَ يُشيرانِ إلى أنَّ هذه المُباحاتِ التي جعَلَها اللهُ تعالى فُسحةً للمسلِمِ، بل والعِباداتِ التي أوجبَها اللهُ أو ندَبَه إليها يقَعُ حَظرُها على المسلم أو على الإنسانِ بشكلٍ عامٍّ مِنَ الطُّغاةِ والطواغيتِ الذين تُبتَلى بهم الأُمَمُ كثيرًا في كلِّ زمانٍ ومَكانٍ.

 

 فيَحرِمون الإنسانَ مِن حقِّه الشرعيِّ في الارتزاقِ والعمَلِ، وحَقِّه -بل واجبِه- في اللباسِ الشرعيِّ والصلاةِ مع الجماعةِ، كما يُحاصِرونه في زَكاتِه وصَدَقاتِه وأَمرِه بالمعروفِ ونَهيِه عن المُنكَرِ، ويُسلِّطون عليه الحرامَ والمُنكَرَ حتى تُصبِحَ الموبقاتُ جُزءًا مِن حياةِ المُسلمِ لا انفكاكَ له منها.

 

 ولا شَكَّ أنَّ المجتمعَ حين يَقَعُ تحتَ سُلطةِ مِثلِ هذه الحكوماتِ يَبقى مُبتلًى بأبشَعِ أنواعِ الاستعبادِ، ومُطاوعةِ حاكمٍ يَفرِضُ الحرامَ ويَمنَعُ الحلالَ هي مِن اتخاذِه رَبًّا بنصِّ القرآنِ الكريمِ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].

 

 لكنَّ البديلَ عنِ استعبادِ الحكَّامِ أو العبوديَّةِ لهم يجِبُ ألَّا يكونَ الهوى، وهو ما تَقتضيه المطالبةُ بالحريَّةِ حالًا أو مآلًا.

 أمَّا حالًا، فكمطالبةِ دُعاةِ الليبراليَّةِ والعِلمانيَّةِ بها، فاستبعادُ هؤلاءِ لسلطةِ الشريعةِ إنَّما هو تسليمٌ لسُلطةِ النفسِ والهوى مُباشرةً، أو بوسيطٍ مِنَ الدساتيرِ البشَريَّةِ والقوانينِ الوضعيَّةِ.

 أمَّا مآلًا، فهو ما تَؤول إليه عاجِلًا أو آجِلًا مُطالباتُ الإسلاميِّين بالحريَّةِ.

 فالحريَّةُ باعتبارِها اليومَ مُصطلَحًا فَلسفيًّا لا يُمكِنُ أنْ نَغرِسَه في بُقعةٍ ما مِنَ العالَمِ إلا وذهبَتْ جُذورُه إلى الأعماقِ تَبحَثُ عن مَنابتِها الأصليَّةِ.