مقالات وبحوث مميزة


 

سيادةُ الشريعةِ.. (الحدُّ الفاصلُ بينَ الإسلامِ والعَلمانيَّةِ)

الشيخ الدكتور عبدالرحيم بن صمايل السُّلَمي

الاثنين 25 من ذِي الحَجَّةِ 1432هـ

 

الحَمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وبعدُ:

فإنَّ من أعظَمِ مُحْكِماتِ الإيمانِ التسليمَ والخضوعَ (عِلمًا وعَملًا) لشريعةِ الإسلامِ في المَنشَطِ والمَكرَهِ، والرِّضا والغضَبِ، وعدمَ تقديمِ أيِّ أمرٍ منَ الأُمورِ على كلامِ اللهِ ورسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يقولُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، ومَعْنى ذلك أنَّه لا يُقدَّمُ على الشريعةِ أيُّ أمرٍ منَ الأمورِ مَهْما رآهُ صاحبُه أمرًا حسنًا، سواءٌ كان عَقلًا، أو حُريَّةً، أو أُمَّةً، أو غيرَ ذلك.

والإقرارُ بهَيمَنةِ الشريعةِ، وحاكِميَّتِها، وتَقديمِها، والقَبولِ بها قولًا وعَملًا دونَ أيِّ شرطٍ، أوِ استثناءٍ هو قاعدةُ الإيمانِ وأَصلُه، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

 

ومعَ وُضوحِ هذه الحقيقةِ الشرعيَّةِ وانعقادِ الإجماعِ عليها، فقد حاولَتِ التياراتُ العَلمانيَّةُ والتنويريَّةُ الانتقاصَ من ذلك، بجَعلِ السيادةِ للبشَرِ، وعدمِ القَبولِ بالشريعةِ حاكمةً بالفعلِ في حياةِ الناسِ إلَّا بشَرطِ التصويتِ عليها لتنالَ الشرعيَّةَ في التحكيمِ، ويَروْنَ التفريقَ بينَ الإيمانِ بالشريعةِ اعتقادًا قَلبيًّا، وتَحكيمِها واقعًا عَمليًّا، وهذا هو الفصلُ العَلمانيُّ الشهيرُ بينَ الدِّينِ القَلبيِّ الإيمانيِّ، والدِّينِ العَمليِّ الحاكمِ، والمُهَيمنِ على حياةِ الناسِ، وهي فكرةٌ خارجةٌ عنِ النَّسَقِ الإسلاميِّ ومخالِفةٌ لإجماعِ المسلِمينَ، ولم تُعرَفْ إلَّا بعدَ أزمنةِ الاستعمارِ على يدِ العَلمانيِّينَ.

ولا يَتعارَضُ -حسَبَ التصوُّرِ العَلمانيِّ- الاجتماعُ بينَ الاعتِقادِ الشخصيِّ بالحَلالِ والحَرامِ، والتشريعِ المُبدِّلِ لأحكامِ الشريعةِ؛ لأنَّ الأوَّلَ اختيارٌ شَخصيٌّ، والثانيَ حقٌّ من حقوقِ الأُمَّةِ، وعندَما تختارُ الأُمَّةُ الشريعةَ، فإنَّ شَرعيَّةَ تَطبيقِها وتَحكيمِها لم تَأتِ مِن كونِها ربَّانيَّةَ الأمرِ والنهْيِ، وإنَّما لكونِها تحقَّقَتْ فيها السيادةُ المُعتَبَرةُ، وهي سيادةُ الأُمَّةِ.

وهذا التصوُّرُ في غايةِ التناقُضِ، فما هي فائدةُ اعتقادِ الحَلالِ والحَرامِ إذا أَقرَّ بشرعيَّةِ تَبديلِه في حالِ حُصولِ ذلك منَ الأُمَّةِ؟ هذا اعتقادٌ لا قيمةَ له؛ لأنَّه مُعارَضٌ باعتقادٍ آخَرَ وهو شرعيَّةُ التبديلِ إذا تمَّ من خلالِ الأُمَّةِ!!

 

 مفهومُ السيادةِ

السيادةُ في اللغةِ والاصطِلاحِ مَرجِعُها واحدٌ، فهي مأخوذةٌ منَ السيِّدِ، وهو المتصَرِّفُ المطلَقُ، وصاحبُ الأمرِ والنهيِ، والذي تعودُ إليه كافَّةُ السُّلُطاتِ الثلاثةِ ، ومنها سُلطةُ التشريعِ، وقد ظهَرَتْ في الفِكرِ الغربيِّ لدى المدرسةِ القانونيَّةِ الفرنسيَّةِ المعَبِّرةِ عنِ العِقدِ الاجتماعيِّ كما يَراهُ جان جاك روسو، والسيادةُ هي المُعبِّرةُ عنِ الإرادةِ العامَّةِ عندَ روسو، وهي السُّلطةُ العُليا التي لا توجَدُ فوقَها، ولا تَحكُمُها ولا تُهيمِنُ عليها أيَّةُ سُلطةٍ مَهْما كانت.

و"سيادةُ الأُمَّةِ" في الفِكرِ السياسيِّ المعاصِرِ هي التعبيرُ القانونيُّ للنظامِ الديمقراطيِّ، فهو الوجهُ القانونيُّ، والمُبرِّرُ العَقلانيُّ لاستحقاقِ السُّلُطاتِ، وهو الذي يُعْطي الأُمَّةَ، أوِ الشعبَ السُّلطةَ العُليا في التشريعِ، فلا قانونَ إلَّا ما أقرَّتْه الأُمَّةُ، وما اتَّفقَتْ عليه الأُمَّةُ فهو القانونُ الشرعيُّ الذي يجِبُ الإذعانُ له؛ لأنَّه نابعٌ مِن سيادةِ الأُمَّةِ، واستحقاقِها للتشريعِ المطلَقِ.

 

وعليه، فلو أحلَّتِ الأُمَّةُ حَرامًا، أو حرَّمَتْ حلالًا فهذا ما يجِبُ القَبولُ به، ولا يجوزُ الخروجُ عن سيادتِها، وبهذا تكونُ الأُمَّةُ هي صاحبةَ التشريعِ والحاكمِيَّةِ لامتلاكِها السيادةَ المُطلَقةَ، وبغضِّ النظرِ عن نوعِ الاختيارِ الذي تختارُه الأُمَّةُ، ففكرةُ السيادةِ تجعَلُ المرجِعيَّةَ العُليا للأُمَّةِ، وليس للإسلامِ، والشريعةِ الربَّانيَّةِ.

وبهذا يتبيَّنُ أنَّ سيادةَ الأُمَّةِ تجاوَزَتِ اختيارَ الأفرادِ للحُكمِ كآليَّةٍ من خلالِ الانتخابِ، إلى أنْ أصبحَتِ السُّلطةَ العُليا التي بيَدِها السيادةُ المُطلَقةُ، ومنها تشريعُ القوانينِ، وهذا هو جَوهَرُ الفَلسفةِ الديمقراطيَّةِ التي كان يرفُضُها بعضُ التنويريِّينَ قديمًا؛ لأنَّها تُعْطي حقَّ التشريعِ لغيرِ اللهِ تعالى.

ومنَ الخِداعِ والمُغالَطةِ تَسميةُ اختيارِ الناسِ لمَن يَحكُمُهم من خلالِ الانتخاباتِ "سيادةً"، وتقديمُها على الشريعةِ، ثم حكايةُ كلامِ مَن يُبيحُها على أنَّه يَرى "السيادةَ للأُمَّةِ"!! لأنَّه يمكِنُ أنْ يَتمَّ اختيارُ مَن يَحكُمُهم معَ كونِ الشريعةِ هي صاحبةَ السيادةِ، والهَيْمَنةِ، والحاكِميَّةِ، فالأوَّلُ عملٌ إجرائيٌّ تَنظيميٌّ مجرَّدٌ، له صورٌ مختلِفةٌ منها الصحيحُ، ومنها الزائفُ، أمَّا منازَعةُ سيادةِ الشريعةِ، وحاكِمِيَّتِها فهي مناقِضةٌ لأصلِ الإيمانِ.

 

كما أنَّ منَ المُغالَطةِ قولُ القائلِ: "سيادةُ الأُمَّةِ بمَرجِعيَّةِ الشريعةِ"، فالسيادةُ هي المَرجِعيَّةُ العُليا للسُّلُطاتِ الثلاثِ (التشريعيَّةِ، والقضائيَّةِ، والتنفيذيَّةِ)، فكيف تكونُ سيادةً بمَرجِعيَّةٍ، وهي ذاتُها المَرجِعيَّةُ؟! وبهذا يتَميَّزُ مَن يجعَلُ المَرجِعيَّةَ للشريعةِ ممَّن يجعَلُ المَرجِعيَّةَ للأُمَّةِ.

ومَن يجعَلُ السيادةَ للأُمَّةِ لا يُمانِعُ منَ الإيمانِ القَلبيِّ والنظريِّ بأحكامِ الشريعةِ، ولكنَّها لا تكونُ نافذةً إلَّا من خلالِ مَرجِعيَّةِ الأُمَّةِ، وهو يَرى أنَّ من حقِّ الأُمَّةِ أنْ تَختارَ ما تَشاءُ، فهذا حقُّها وهذه حُريَّتُها، وعليه فلو اختارَتِ الأُمَّةُ إباحةَ المُحرَّماتِ الظاهرةِ، وعدمَ الالتزامِ بالواجباتِ الظاهرةِ فهو حقٌّ مشروعٌ لها؛ لأنَّها صاحبةُ السيادةِ، وهذا التأسيسُ لاستحقاقِ الأُمَّةِ السيادةَ المُطلَقةَ هو الحُكمُ بالطاغوتِ؛ لأنَّه استحلالٌ للمُحرَّماتِ الظاهرةِ، وتَركٌ للواجباتِ الظاهرةِ حتى لو لم يَفعَلْها، وهذا هو الحُكمُ بغيرِ ما أنزَلَ اللهُ، واستحلالُ القوانينِ الوضعيَّةِ، وهي الإشكاليَّةُ الكُبرى بينَ الإسلامِ والعَلمانيَّةِ في العصرِ الحديثِ.

 

يقولُ الدكتورُ عبدُ الرزاقِ السَّنْهوريُّ (وهو أحدُ كِبارِ القانونيِّينَ العربِ، وغيرُ محسوبٍ على التيارِ السلَفيِّ): "رُوحُ التشريعِ الإسلاميِّ يَفترِضُ أنَّ السيادةَ بمَعْنى السُّلطةِ غيرِ المحدودةِ لا يملِكُها أحدٌ منَ البشَرِ، فكلُّ سُلطةٍ إنسانيَّةٍ محدودةٌ بالحدودِ التي فرَضَها اللهُ، فهو وحْدَه صاحبُ السيادةِ العُليا، ومالكُ المُلكِ، وإرادتُه هي شريعتُنا التي لها السيادةُ في كلِّ المجتمَعِ، ومَصدرُها والتعبيرُ عنها هو كلامُ اللهِ المُنزَّلُ في القُرآنِ، وسُنَّةُ رسولِه المعصومِ المُلهَمِ، ثم إجماعُ الأُمَّةِ"، ( فِقهُ الخِلافةِ وتطورُها ص 70).
 

 سيادةُ الشريعةِ وهَيمَنَتُها أصلُ الإسلامِ

تأمَّلْ قولَ اللهِ تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49].

 فلو قارَنَّا بينَ هذه الآيةِ وفكرةِ تقديمِ سيادةِ الأُمَّةِ على تحكيمِ الشريعةِ، فإنَّنا سنَجِدُ أنَّ دَعْوى سيادةِ الأُمَّةِ المقابِلةِ للشريعةِ هي المُعَبَّرُ عنها في قولِه: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}،  وقولِه عنهم: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، وهذا يدُلُّ على أنَّ مَن قدَّمَ أهواءَ الناسِ على شريعةِ ربِّ العالَمينَ فقد عرَّضَ إيمانَه للتلَفِ وإسلامَه للبُطلانِ.

فالمناقِضُ لأصلِ الإسلامِ أنْ تكونَ الشريعةُ مَرهونةً بأهواءِ الناسِ قَبولًا، أو ردًّا، وتكونَ آراءُ الناسِ هي الحاكمةَ بشرعيَّةِ النظامِ الذي يَحكُمُهم، ويَقْضي بينَهم.

 

وحاكميَّةُ الشريعةِ والقَبولُ بالإسلامِ والتسليمُ له لا يجوزُ أنْ تكونَ مُرتهَنةً لأحدٍ، بل وجوبُ العملِ بها مُتقدِّمٌ على الحقوقِ الفِطريَّةِ والإنسانيَّةِ كافَّةً، وحاجةُ الإنسانِ إليها أكبَرُ من حاجتِه إلى الطعامِ والشرابِ والهواءِ.

 وحقيقةُ الإسلامِ الاستسلامُ، والقَبولُ، والتسليمُ لخبرِ اللهِ وأمرِه، ومَن جعَلَ تحكيمَ شريعةِ اللهِ مَشروطًا بالأُمَّةِ فهو كمَن جعَلَ تصديقَ خَبرِه مَشروطًا بالأُمَّةِ، وهذا التعليقُ يدُلُّ على عدمِ التسليمِ والتصديقِ للأمرِ والخَبرِ.

يقولُ أبو حامدٍ الغَزاليُّ في المُستَصفى: "وأمَّا استحقاقُ نُفوذِ الحُكمِ فليس إلَّا لمَن له الخَلقُ والأمرُ، فإنَّما النافذُ حُكمُ المالِكِ على مملوكِه، ولا مالكَ إلَّا الخالِقُ، فلا حُكمَ ولا أمرَ إلَّا له، أمَّا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والسُّلطانُ، والسيِّدُ، والأبُ، والزوجُ فإذا أَمَروا وأَوْجَبوا لم يجِبْ شيءٌ بإيجابِهم، بل بإيجابِ اللهِ تعالى طاعتَهم".

 فالغزاليُّ هُنا لا يتحدَّثُ عنِ اعتقادِ وُجوبِ الواجباتِ، وتحريمِ المُحرَّماتِ، بل يتحدَّثُ عن "نُفوذِ الحُكمِ"، وهو "تطبيقُ" و"تحكيمُ" الشريعةِ، وهذا أمرٌ مُتقرِّرٌ عندَ عُلماءِ الإسلامِ كافَّةً بكلِّ طوائفِهم وفِرَقِهم.

 

 يقولُ ابنُ تيميةَ: "والإنسانُ متى حلَّلَ الحرامَ المُجمَعَ عليه، وحرَّمَ الحَلالَ المُجمَعَ عليه، أو بدَّلَ الشرعَ المُجمَعَ عليه كان كافرًا ومُرتدًّا باتِّفاقِ الفُقهاءِ، وفي مِثلِ هذا نزَلَ قولُه -على أحدِ القولَيْنِ-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، أيْ هو المستَحِلُّ للحُكمِ بغيرِ ما أنزَلَ اللهُ" (الفتاوى 3/ 267)، والنصوص في هذا كثيرةٌ جدًّا.

وقد أجمَعَ العُلماءُ على كُفرِ مَن سوَّغَ وأجازَ الخروجَ على الشرعِ، ومن قواعِدِ الإسلامِ الكُبرى أنَّه لا طاعةَ لمخلوقٍ في مَعصيةِ الخالِقِ، واتَّفقَ العُلماءُ على أنَّه لا طاعةَ للوالدَيْنِ إذا كان في ذلك مخالَفةٌ لشريعةِ اللهِ، فكيف يُقالُ بجوازِ أنْ يختارَ الناسُ ما يُحكَمونَ به، ولو مخالِفًا للشرعِ، حتى ولو كان ذلك أمرًا مُفتَرَضًا، فالافتراضُ هو تجويزُ الشيءِ إذا وُجِدَ، وليس بالضرورةِ أنْ يوجَدَ.

 

وقد أجمَعَ عُلماءُ الإسلامِ على أنَّ الشورى لا تكونُ إلَّا في المُباحاتِ، أمَّا الواجباتُ والمُحرَّماتُ فلا شورى ولا اختيارَ فيها، وهذا هو مُقْتَضى العُبوديَّةِ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. فكيف تُجعَلُ الشريعةُ كلُّها بكلِّ واجباتِها ومُحرَّماتِها لا تَحكُمُ حتى تُجازَ مِن قِبَلِ الأُمَّةِ، وإذا لم تُجَزْ فلا يجوزُ تَطبيقُها وتحكيمُها؟!

يقولُ ابنُ كثيرٍ: "والآيةُ عامَّةٌ في جميعِ الأُمورِ، وذلك أنَّه إذا حكَمَ اللهُ ورسولُه بشيءٍ فليس لأحدٍ مخالَفتُه، ولا اختيارَ لأحدٍ هنا، ولا رَأيَ ولا قولَ".

 

 سيادةُ الأُمَّةِ بينَ العَلمانيِّينَ والتنويريِّينَ

لم يَعُدْ هُناك فَرقٌ جَوهَريٌّ بينَ الفِكرِ العَلمانيِّ والتنويريِّ حولَ الموقِفِ من سيادةِ الشريعةِ، فالأمرُ المِحوريُّ بينَهما أنَّ السيادةَ ترجِعُ للأُمَّةِ، وليست للشريعةِ، وهي السُّلطةُ العُليا التي تعودُ إليها جميعُ السُّلُطاتِ الثلاثِ، وبهذا فهي تملِكُ حقَّ التشريعِ، والجِهةُ المُخوَّلةُ في إصدارِ القوانينِ، سواءٌ وافقَتِ الشرعَ أو خالَفَتْه، وهذا يشمَلُ التشريعاتِ الإداريَّةَ التنظيميَّةَ، كما يشمَلُ التشريعاتِ القَضائيَّةَ التي تشمَلُ التشريعاتِ الجِنائيَّةَ، والشخصيَّةَ، والماليَّةَ، وكافَّةَ أنواعِ التشريعاتِ التي تخُصُّ الحُكمَ بينَ الناسِ، كما تشمَلُ السياساتِ العامَّةَ التي تعودُ إليها أنشطةُ الدولةِ كافَّةً.. وهذه التشريعاتُ صاحبُ السُّلطةِ والسيادةِ فيها هو اللهُ جلَّ جلالُه، وإعطاءُ الأُمَّةِ حقَّ التشريعِ فيها هو الحُكمُ بغيرِ ما أنزَلَ اللهُ، وهو التحاكُمُ إلى الطاغوتِ؛ لأنَّ الحُكمَ للهِ تعالى، وتحقيقَه منَ العبادةِ للهِ تعالى، يقولُ تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40]، ويقولُ تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وهذه النصوصُ هي في الحُكمِ بينَ الناسِ، وليس في العقائدِ الإيمانيَّةِ القَلبيَّةِ، وهي في التطبيقِ للشريعةِ، وليس في اعتقادِ الشريعةِ.

 

وقد كان الخِلافُ معَ التنويريِّينَ أوَّلَ الأمرِ حَولَ آلياتِ الديمقراطيَّةِ، ومدى موافَقَتِها للمقاصِدِ الشرعيَّةِ، ولكنَّهم تجاوَزوا ذلك إلى المُطابَقةِ التامَّةِ للعَلمانيِّينَ في جَعلِ السيادةِ للأُمَّةِ وهي الجِهةُ العُليا التي تُعطي الشرعيَّةَ للشريعةِ أو غيرِها، وبهذا لم يَعُدْ هُناك فَرقٌ بينَهم وبينَ العَلمانيِّينَ إلَّا في الاسمِ، وهذه نتيجةٌ طبيعيَّةٌ لمَن يَجعَلُ المفاهيمَ الوضعيَّةَ حاكمةً على الشريعةِ، ثم يقومُ بتحريفِ الشريعةِ لتتوافَقَ معَها، وهذا مُخالِفٌ للمنهجِ الإسلاميِّ الذي يجعَلُ الشريعةَ هي الحاكمةَ، ثم يحكُمُ من خلالِها على المفاهيمِ الوضعيَّةِ، كما أنَّها نتيجةٌ طبيعيَّةٌ لمَن جعَلَ زادَه الثقافيَّ دراساتِ العَلمانيِّينَ العربِ، بل يُروِّجُها، ويَبيعُها، ويَنصَحُ بها باسمِ الانفتاحِ!!

 

وقد هالَني تمدُّحُ بعضِهم وافتخارُه بالانتقالِ الجديدِ في الخطابِ التنويريِّ منَ الكلامِ حولَ آليَّاتِ الديمقراطيَّةِ إلى الجدلِ حولَ سيادةِ الشريعةِ، وظنُّه أنَّهم أحْدَثوا نَقلةً في الخطابِ السلَفيِّ حسَبَ زَعمِه، وما دَرى أنَّها انتكاسةٌ فِكريَّةٌ، وسُقوطٌ منهجيٌّ، وتحوُّلٌ خطيرٌ نحوَ العَلمَنةِ!! فأيُّ فَخرٍ للانتقالِ إلى الأسوإِ، وأيُّ مَدحٍ في الحطِّ مِن سيادةِ الشريعةِ؟!!

 

وهذه المنهجيَّةُ المنحَرِفةُ هي التي جعَلَتِ التنويريِّينَ يَنطَلِقونَ من مُنطَلَقٍ عَلمانيٍّ في أغلَبِ المفاهيمِ السياسيَّةِ الجديدةِ كمفهومِ المواطَنةِ، والحُريَّةِ، والطائفيَّةِ وغيرِها، ففي هذه المفاهيمِ وغيرِها يتِمُّ شرحُها بما يَتطابَقُ معَ الفِكرِ العَلمانيِّ تمامًا، فالمواطَنةُ هي التعامُلُ معَ المكوِّناتِ المجتمَعيَّةِ على أساسٍ وطنيٍّ مَصلَحيٍّ، وليس على أساسٍ دينيٍّ، والحريَّةُ هي عدمُ المنعِ للاختياراتِ الشخصيَّةِ للأفرادِ، ولو كانت مُحرَّماتٍ ظاهرةً، ويحِقُّ للفردِ أنْ يُعبِّرَ عن رأيِه ومُعتَقَدِه، ويَدْعوَ إليه، ولو كان كُفرًا صريحًا (حُريَّةُ المنافِقينَ)، والطائفيَّةُ هي التعامُلُ معَ التيَّاراتِ الفِكريَّةِ، والفِرَقِ المُخالِفةِ للسُّنَّةِ من مُنطَلَقٍ عَقَديٍّ، وهذه المفاهيمُ المُنحَرِفةُ يَجمَعُها استبعادُ المُنطَلَقِ الدينيِّ، وتحجيمُ المنهجِ الإسلاميِّ في التعامُلِ الاجتماعيِّ، وجَعلُه اختيارًا خاصًّا لا يَتحرَّكُ في الحياةِ ولا يَحكُمُها، وأخصُّ مُكوِّناتِ الفِكرِ اللِّيبراليِّ العَلمانيِّ نَزعُ الإلزامِ في الشريعةِ الرَّبَّانيَّةِ، ولهذا فأخصَرُ تعريفٍ لليبراليَّةِ (مَنعُ المَنعِ)، فماذا أَبْقى هذا التيَّارُ للفِكرِ العَلمانيِّ والليبراليِّ؟!

 

الأُمَّةُ بينَ اختيارِ الحاكمِ والسيادةِ المُطلَقةِ

يُصِرُّ بعضُ التنويريِّينَ ممَّن لم يُحدِّدْ خيارَه العَلمانيَّ بعدُ على الخَلطِ بينَ السيادةِ للأُمَّةِ المُتضمِّنةِ لحقِّ التشريعِ المُطلَقِ كما قدَّمْناه، وبينَ رَفضِ الاستبدادِ والتغلُّبِ والتوريثِ، فيَجعَلُ مَن يَرفُضُ إرجاعَ تحكيمِ الشريعةِ إلى موافَقةِ الأُمَّةِ، وعدمِ استحقاقِها للهَيمَنةِ على المجتمَعِ إلَّا بعدَ إجازتِها منَ الأُمَّةِ.. يَجعَلُ ذلك في صفِّ الاستبدادِ والتغلُّبِ والتوريثِ، وهذه مُغالَطةٌ؛ لأنَّ مَن يَجعَلُ اختيارَ الحاكمِ حقًّا للأُمَّةِ يَجعَلُ أيضًا الحاكمَ والأُمَّةَ التي اختارَتْه تحتَ سيادةِ الشريعةِ وحُكمِها، فالحاكمُ وكيلٌ ونائبٌ عنِ الأُمَّةِ في إقامةِ الدِّينِ، وتحكيمِ الشريعةِ في الناسِ، ومِعيارُ تحقيقِه لمُقتَضى الوَكالةِ هو التزامُه بحُكمِ الشرعِ في شُؤونِهمُ العامَّةِ والخاصَّةِ، وإذا لم يَفعَلْ ذلك يجِبُ عزلُه، وفَسخُ حُكمِه، وهذه قضيَّةٌ في غايةِ الوُضوحِ في المنهجِ الإسلاميِّ، وهي الفارِقُ المنهجيُّ بينَ دَورِ الأُمَّةِ في المنهجِ الإسلاميِّ، والمنهجِ العَلمانيِّ.