موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: الخَطابةُ


لمَّا كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُنزَّهًا عن قَوْلِ الشِّعْرِ، سَواءٌ أكانَ القَوْلُ تَأليفًا وإنْشاءً أم تَرْديدًا وحِكايةً عن أحَدِ الشُّعَراءِ، كانَ ظُهورُ الإسْلامِ إيذانًا بتَطوُّرٍ واسِعٍ في الخَطابةِ؛ إذ اتَّخَذَها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أداةً للدَّعْوةِ إلى الدِّينِ الحَنيفِ طَوالَ مُقامِه بمَكَّةَ قبْلَ الهِجرةِ؛ حيثُ ظَلَّ ثَلاثةَ عشَرَ عامًا يَعرِضُ على قَوْمِه مِن قُرَيشٍ وكلِّ مَن يَلقاه في الأسْواقِ آياتِ القُرآنِ الكَريمِ، ويَخطُبُ فيهم داعيًا إلى اللهِ تعالى، مُبيِّنًا أُصولَ الدِّينِ وما يَأمُرُ به مِن الأخْلاقِ والعَفافِ [383] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (2/106). .
فعن رَبيعةَ بنِ عِبادٍ الدِّيليِّ رَضيَ اللهُ عنه قالَ: (إنِّي لَمعَ أبي رَجُلٌ شابٌّ أنْظُرُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتبَعُ القَبائِلَ، ووَراءَه رَجُلٌ أحْوَلُ وَضِيءٌ ذُو جُمَّةٍ، يَقِفُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على القَبيلةِ فيَقولُ: «يا بَني فُلانٍ، إنِّي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليكم، آمُرُكم أنْ تَعبُدوا اللهَ، ولا تُشْرِكوا به شيئًا، وأنْ تُصَدِّقوني وتَمْنَعوني حتَّى أُنفِذَ عنِ اللهِ ما بَعَثَني» فإذا فَرَغَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن مَقالتِه، قالَ الآخَرُ مِن خَلْفِه: يا بَني فُلانٍ، إنَّ هذا يُريدُ مِنكم أن تَسْلَخوا اللَّاتَ والعُزَّى وحُلَفاءَكم مِن الحَيِّ مِن بَني مالِكِ بنِ أُقَيْشٍ إلى ما جاءَ به مِن البِدْعةِ والضَّلالةِ، فلا تَسْمَعوا له، ولا تَتَّبِعوه، فقلْتُ لأبي: مَن هذا؟ قالَ: هذا عَمُّه أبو لَهَبٍ) [384] أخرجه عبدالله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (16025) واللفظ له، والطبراني (5/63) (4589) باختلاف يسير، والحاكم (38) مختصراً. .
ومعَ هِجرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَدينةِ وإقامةِ دَوْلةِ الإسْلامِ فيها، تُفرَضُ عليهم صَلاةُ الجُمعةِ، فيَقومُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كلَّ أسْبوعٍ خَطيبًا في النَّاسِ، يَأمُرُهم بالمَعْروفِ ويَنْهاهم عنِ المُنكَرِ، ويَرسُمُ لهم مَلامِحَ الدِّينِ ومَعالِمَه، ويُحدِّثُهم في المُدْلَهِمَّاتِ والنَّوازِلِ، وما يَسْتَشكِلُ عليهم في عَصْرِهم، كما كانَ يَخطُبُ في المَواسِمِ والأعْيادِ والكُسوفِ والخُسوفِ ونَحْوِ ذلك.
وقد ذَكَرَتْ كُتُبُ السِّيرةِ أنَّ أوَّلَ خُطبةِ جُمعةٍ خَطبَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المَدينةِ كانَتْ في بَني سالِمِ بنِ عَمْرِو بنِ عَوْفٍ، وكانَ نَصُّها: ((الحَمْدُ للهِ أحْمَدُه وأسْتَعينُه، وأسْتَغفِرُه وأسْتَهْديه، وأؤْمِنُ به ولا أكْفُرُه، وأُعادي مَن يَكفُرُه، وأشْهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، وأنَّ مُحمَّدًا عبْدُه ورَسولُه، أرْسَلَه بالهُدى ودينِ الحَقِّ والنُّورِ والمَوْعِظةِ، على فَتْرةٍ مِن الرُّسُلِ، وقِلَّةٍ مِن العِلمِ، وضَلالةٍ مِن النَّاسِ، وانْقِطاعٍ مِن الزَّمانِ، ودُنُوٍّ مِن السَّاعةِ، وقُرْبٍ مِن الأجَلِ.
مَن يُطِعِ اللهَ ورَسولَه فقدْ رَشَدَ، ومَن يَعْصِهما فقدْ غَوى وفَرَّطَ وضَلَّ ضَلالًا بَعيدًا.
وأوصيكم بتَقوى اللهِ؛ فإنَّه خَيْرُ ما أوْصى به المُسلِمُ المُسلِمَ أن يَحُضَّه على الآخِرةِ، وأن يَأمُرَه بتَقوى اللهِ.
فاحْذَروا ما حَذَّرَكم اللهُ مِن نفْسِه، ولا أفْضَلَ مِن ذلك نَصيحةً ولا أفْضَلَ مِن ذلك ذِكْرى، وإنَّه تَقْوى لِمَن عَمِلَ به على وَجَلٍ ومَخافةٍ، وعَوْنُ صِدْقٍ على ما تَبْتَغون مِن أمْرِ الآخِرةِ.
ومَن يُصلِحِ الَّذي بيْنَه وبيْنَ اللهِ مِن أمْرِ السِّرِّ والعَلانيةِ لا يَنْوي بذلك إلَّا وَجْهَ اللهِ، يَكُنْ له ذِكْرًا في عاجِلِ أمْرِه وذُخْرًا فيما بعْدَ المَوْتِ، حيْنَ يَفْتقِرُ المَرْءُ إلى ما قَدَّمَ، وما كانَ مِن سِوى ذلك يَوَدُّ لو أنَّ بيْنَه وبيْنَه أمَدًا بَعيدًا، ويُحَذِّرُكم اللهُ نفْسَه واللهُ رَؤوفٌ بالعِبادِ.
والَّذي صَدَقَ قَوْلَه وأنْجَزَ وَعْدَه لا خُلْفَ لِذلك؛ فإنَّه يقولُ تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] .
واتَّقوا اللهَ في عاجِلِ أمْرِكم وآجِلِه في السِّرِّ والعَلانيةِ؛ فإنَّه مَن يَتَّقِ اللهَ يُكفِّرْ عنه سَيِّئاتِه ويُعْظِمْ له أجْرًا، ومَن يَتَّقِ اللهَ فقدْ فازَ فَوْزًا عَظيمًا، وإنَّ تَقْوى اللهِ تُوقِي مَقْتَه، وتُوقي عُقوبتَه، وتُوقي سَخَطَه، وإنَّ تَقْوى اللهِ تُبَيِّضُ الوَجْهَ، وتُرضي الرَّبَّ، وتَرفَعُ الدَّرَجةَ.
خُذوا بحَظِّكم ولا تُفرِّطوا في جَنْبِ اللهِ، قد علَّمَكم اللهُ كِتابَه، ونَهَجَ لكم سَبيلَه؛ ليَعلَمَ الَّذين صَدَقوا وليَعلَمَ الكاذِبينَ؛ فأحْسِنوا كما أحْسَنَ اللهُ إليكم، وعادُوا أعْداءَه، وجاهِدوا في اللهِ حَقَّ جِهادِه، هو اجْتَباكم وسمَّاكم المُسلِمينَ؛ ليَهلِكَ مَن هَلَكَ عن بَيِّنةٍ ويَحْيا مَن حَيَّ عن بَيِّنةٍ، ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ، فأكْثِروا ذِكْرَ اللهِ، واعْمَلوا لِما بعْدَ المَوْتِ؛ فإنَّه مَن أصْلَحَ ما بيْنَه وبيْنَ اللهِ يَكْفِه ما بيْنَه وبيْنَ النَّاسِ، ذلك بأنَّ اللهَ يَقْضي على النَّاسِ ولا يَقْضونَ عليه، ويَملِكُ مِن النَّاسِ ولا يَملِكونَ مِنه، اللهُ أكْبَرُ، ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ العَليِّ العَظيمِ))
[385] ((السيرة النبوية)) لابن كثير (2/ 299). .
وقد تَعدَّدَتْ أغْراضُ الخَطابةِ في حَياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقدْ كانَ يَخطُبُ في النَّاسِ كلَّما حَدَثَ أمْرٌ مِن الأُمورِ، فيَخطُبُ فيهم يَحُثُّهم على الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، ويَخطُبُ للحَثِّ على الصَّدَقاتِ والإنْفاقِ في سَبيلِ اللهِ، ويَخطُبُ إذا رأى شيئًا في أصْحابِه يَكرَهُه؛ فعنْ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها: ((أنَّ قُرَيشًا أهَمَّهم شَأنُ المَرأةِ المَخْزوميَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومنْ يُكَلِّمُ فيها رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أسامةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكَلَّمَه أسامةُ، فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أتَشفَعُ في حَدٍّ مِن حُدودِ اللهِ؟! ثُمَّ قامَ فاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهْلَكَ الَّذين قبْلَكم أنَّهم كانوا إذا سَرَقَ فيهم الشَّريفُ تَرَكوه، وإذا سَرَقَ فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللهِ لو أنَّ فاطِمةَ بِنْتَ مُحمَّدٍ سَرَقَتْ لَقطَعْتُ يَدَها )) [386] أخرجه البخاري (3475)، ومسلم (1688) من حديث عائشة رضي الله عنه. .
وعن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِديِّ: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اسْتَعمَلَ عامِلًا، فجاءَه العامِلُ حينَ فَرَغَ مِن عَمَلِه، فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، هذا لكم، وهذا أُهدِيَ لي، فقالَ له: أفلا قَعَدْتَ في بَيْتِ أبيك وأُمِّك، فنَظرْتَ أيُهْدَى لك أم لا؟! ثُمَّ قامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَشِيَّةً بعْدَ الصَّلاةِ، فتَشَهَّدَ وأثْنى على اللهِ بِما هو أهْلُه، ثُمَّ قالَ: أمَّا بعْدُ، فما بالُ العامِلِ نَسْتَعمِلُه، فيَأتينا فيَقولُ: هذا مِن عَمَلِكم، وهذا أُهدِيَ لي، أفلا قَعَدَ في بَيْتِ أبيه وأمِّه فنَظَرَ: هلْ يُهْدَى له أم لا، فوالَّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيَدِه، لا يَغُلُّ أحَدُكم مِنها شيئًا إلَّا جاءَ به يَوْمَ القِيامةِ يَحمِلُه على عُنُقِه؛ إن كانَ بَعيرًا جاءَ به له رُغاءٌ، وإن كانَتْ بَقَرةً جاءَ بها لها خُوارٌ، وإن كانَتْ شاةً جاءَ بها تَيعَرُ، فقدْ بَلَّغْتُ )) [387] أخرجه البخاري (6636) واللفظ له، ومسلم (1832) .
وبِهذا فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَعَلَ للخُطْبةِ أغْراضًا كَثيرةً لم تكُنْ مِن قبْلُ، وهي تلك الأغْراضُ الدِّينيَّةُ، كما أنَّه أبْقى على بعضِ الأغْراضِ المَوْروثةِ عن الجاهِليَّةِ، كخُطَبِ الجِهادِ والصُّلْحِ والنِّكاحِ ونَحْوِ ذلك، في حينِ اخْتَفتِ المُنافَراتُ والمُفاخَراتُ في ظِلِّ تَسْويةِ الإسْلامِ بيْنَ النَّاسِ جَميعًا، وأنَّه لا فَخْرَ لعَربيٍّ على أعْجَميٍّ إلَّا بالتَّقْوى.
ومِن ناحِيةِ الشَّكْلِ والصِّياغةِ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدِ ارْتَقى بألْفاظِها ومَعانيها، وهو الَّذي أُوتيَ جَوامِعَ الكَلِمِ؛ فهذَّبَ ألْفاظَها، وجاءَ بها سَهْلةً مَفْهومةً مُيَسَّرةً، وقوَّمَ أسْلوبَها، فرَبَطَ بيْنَ الجُمَلِ والمَعاني، وابْتَدَأها بالحَمْدِ للهِ تعالى، ثُمَّ الصَّلاةِ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعلى هذا النَّحْوِ سارَ الصَّحابةُ والتَّابِعونَ ومَن بَعْدَهم.
ولمَّا ماتَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَعاهَدَ الخُلَفاءُ الرَّاشِدونَ مَنهَجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الخَطابةِ، كما اسْتُحدِثَتْ في زَمانِهم مِن الفِتَنِ ما اضْطَرَّتْهم إلى الخُطْبةِ، كخُطْبةِ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنه يَوْمَ السَّقيفةِ، ثُمَّ خُطبتِه يَوْمَ وَلِيَ الخِلافةَ، وكذلك خُطَبُه في الجُيوشِ الَّتي يُسَيِّرُها لحَرْبِ المُرْتدِّينَ، يَبُثُّ فيهم القُوَّةَ والشَّجاعةَ والجَلَدَ، ويَذكُرُ لهم مَوْعودَ اللهِ تعالى لهم إن انْتَصروا أو اسْتُشْهِدوا، ثُمَّ خُطَبُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه في زَمانِ خِلافتِه، وكذلك سائِرُ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ [388] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (2/ 106)، ((الأدب في عصر النبوة والراشدين)) لصلاح الدين الهادي (ص: 166)، ((الأدب الإسلامي المفهوم والقضية)) لعلي صبح وعبد العزيز شرف وعبد المنعم خفاجي (ص: 133). .
وهذا فَضْلًا عن الخُطَباءِ الَّذين كانوا يَخطُبونَ بيْنَ يَدَيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، سَواءٌ مِن الوُفودِ الَّتي تَفِدُ عليه، أو مِن الصَّحابةِ حينَ يَقومُ خَطيبٌ مِنهم بأمْرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليَرُدَّ على خَطيبِ الوَفْدِ، وسيَأتي بَيانُ ذلك وأمْثِلتُه.

انظر أيضا: