موسوعة اللغة العربية

الفَصلُ الحادي والأربعون: أبو سُلَيمانَ الخَطَّابيُّ (ت: 388هـ)


أبو سُلَيمانَ حَمدُ -وقيل: أحمد، وهو خطأ- بنُ مُحَمَّدِ بنِ إبراهيمَ بنِ خَطَّابِ البُستيُّ، الخطَّابيُّ، الإمامُ، العلَّامُة، الحافِظُ، الفَقيهُ، الأديبُ، اللُّغَويُّ.
مَوْلِدُه:
وُلِد ببُسْت [396] وهي مدينة من بلاد كابل بين هراة وغزنة، كثيرة الأشجار والأنهار، يُنظر: ((معجم البلدان)) لياقوت الحموي (1/ 414). سَنةَ بضع عَشْرةَ وثلاثِ مِائة.
مِن مَشَايِخِه:
أبو بَكرٍ القَفَّالُ الشَّاشي، وأبو علي بنُ أبي هُرَيرةَ، وأبو سعيدِ بنُ الأعرابيِّ، وإسماعيلُ بنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، وأبو بكرِ بنُ داسةَ، وأبو العبَّاسِ الأصَمُّ، وأبو عَمرِو بنُ السَّمَّاكِ، ومُكرَم القاضي، وأبو عُمَرَ غُلامُ ثَعلَبٍ، وحمزةُ بنُ مُحَمَّدٍ العَقَبي، وأبو بكرٍ النَّجَّادُ، وجعفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ الخلديُّ.
ومِن تَلَامِذَتِه:
أبو عبدِ اللهِ الحاكِمُ، وأبو حامدٍ الإسفرايينيُّ، وأبو عَمرٍو مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ الرَّزجاهيُّ، والعلَّامةُ أبو عُبَيدٍ أحمدُ بنُ مُحَمَّدٍ الهَرَويُّ، وأبو مسعودٍ الحُسَينُ بنُ مُحَمَّدٍ الكرابيسيُّ، وأبو ذرٍّ عبدُ بنُ أحمَدَ، وأبو نَصرٍ مُحَمَّدُ بنُ أحمَدَ البَلخيُّ الغَزنويُّ.
عَقِيدتُه:
قال عنه أبو المُظَفَّرِ السَّمْعانيُّ: ((كان مِنَ العِلْمِ بمكانٍ عظيمٍ، وهو إمامٌ من أئمَّةِ السُّنَّةِ، صالِحٌ للاقتِداءِ به والإصدارِ عنه)) [397] ينظر: ((قواطع الأدلة في الأصول)) للسمعاني (2/ 273). .
وقد انتَشَرت في كتُبِه قواعِدُ مَنهَجِ أهل السُّنَّةِ، والرَّدُّ على المبتَدِعةِ. فمِن ذلك قَولُه: ((ثمَّ إنِّي تدَّبَرْتُ هذا الشَّأنَ، فوجَدْتُ عُظْمَ السَّبَبِ فيه أنَّ الشَّيطانَ صار اليَومَ بلطيفِ حيلَتِه يُسَوِّلُ لكُلِّ مَن أحسَّ مِن نَفْسِه بزيادةِ فَهْمٍ وفَضْلِ ذَكاءٍ وذِهنٍ، ويُوهِمُه أنَّه إن رَضِيَ في عمَلِه ومذهَبِه بظاهرٍ مِنَ السُّنَّةِ واقتَصَر على واضِحِ بيانٍ منها، كان أُسوةً للعامَّةِ، وعُدَّ واحدًا من الجُمهورِ والكافَّةِ، فإنَّه قد ضَلَّ فَهْمُه واضمَحَلَّ لُطْفُه وذِهْنُه، فحَرَّكهم بذلك على التنَطُّعِ في النَّظَرِ، والتبَدُّعِ لمخالَفةِ السُّنَّةِ والأثَرِ؛ لِيَبِينوا بذلك من طَبَقةِ الدَّهماءِ، ويتمَيَّزوا في الرُّتبةِ عمَّن يَرَونَه دونَهم في الفَهْمِ والذَّكاءِ، فاختَدَعَهم بهذه الحُجَّةِ حتى استَزَلَّهم عن واضِحِ المحَجَّةِ، وأورَطَهم في شُبُهاتٍ تعَلَّقوا بزَخارِفِها وتاهوا عن حَقائِقِها، فلم يَخلُصوا منها إلى شِفاءِ نَفسٍ ولا قَبِلوها بيَقينِ عِلمٍ.
ولَمَّا رأوا كِتابَ اللهِ تعالى ينطِقُ بخِلافِ ما انتَحَلوه، ويَشهَدُ عليهم بباطِلِ ما اعتَقَدوه، ضَرَبوا بَعْضَ آياتِه ببَعضٍ، وتأوَّلوها على ما سَنَح لهم في عُقولِهم، واستوى عِندَهم على ما وَضَعوه من أصولِهم، ونَصَبوا العَداوةَ لأخبارِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولسُنَّتِه المأثورةِ عنه ورَدُّوها على وُجوبِها، وأساؤُوا في نَقَلَتِها القالةَ، ووَجَّهوا عليهم الظُّنونَ، ورَمَوهم بالتزَنْدُقِ، ونَسَبوهم إلى ضَعْفِ الْمُنَّةِ وسُوءِ المَعرِفةِ لِمعاني ما يَرْوُونَه من الأحاديثِ والجَهْلِ بتأويلِه))
[398] ينظر: ((الغنية عن الكلام وأهله)) للخطابي (ص: 26). .
وقال أيضًا: ((فإن قال هؤلاء القَومُ: فإنَّكم قد أنكَرْتُم الكَلامَ ومنَعْتُم استِعمالَ أدِلَّةِ العُقولِ، فما الذي تعتَمِدون عليه في صِحَّةِ أُصولِ دينِكم؟ ومِن أيِّ طريقٍ تتوصَّلون إلى مَعرِفةِ حقائِقِها؟ وقد عَلِمْتُم أنَّ الكِتابَ لم يُعْلَمْ حَقُّه، وأنَّ الرَّسولَ لم يَثْبُتْ صِدْقُه إلَّا بأدِلَّةِ العُقولِ، وأنتم قد نفَيْتُموها!
قُلْنا: إنَّا لا نُنكِرُ أدِلَّةَ العُقولِ والتوصُّلَ بها إلى المعارِفِ، ولكِنَّا لا نَذهَبُ في استِعمالِها إلى الطَّريقةِ التي سلَكْتُموها في الاستِدلالِ بالأعراضِ وتعَلُّقِها بالجواهِرِ وانقِلابِها فيها على حُدوثِ العالَمِ وإثباتِ الصَّانِعِ، ونرغَبُ عنها إلى ما هو أوضَحُ بيانًا وأصَحُّ برهانًا، وإنَّما هو الشَّيءُ أخَذْتُموه عن الفَلاسِفةِ وتابَعْتُموهم عليه، وإنَّما سلَكَت الفلاسِفةُ هذه الطَّريقةَ؛ لأنَّهم لا يُثْبِتون النبُوَّاتِ، ولا يَرَونَ لها حقيقةً؛ فكان أقوى شَيءٍ عِندَهم في الدَّلالةِ على إثباتِ هذه الأُمورِ ما تعَلَّقوا به مِنَ الاستِدلالِ بهذه الأشياءِ، فأمَّا مُثْبِتو النبُوَّاتِ فقد أغناهم اللهُ تعالى عن ذلك، وكفاهم كُلْفةَ المَؤُونةِ في رُكوبِ هذه الطَّريقةِ المُنعَرِجةِ التي لا يُؤْمَنُ العَنَتُ على راكِبِها، والانقِطاعُ على سالِكِها))
[399] ينظر: ((الغنية عن الكلام وأهله)) للخطابي (ص: 29). .
وقال أيضًا: ((وفي هذا الحديثِ بَيانُ أنَّ الإيمانَ الشَّرعيَّ اسمٌ لمعنًى ذي شُعَبٍ وأجزاءٍ، له أعلى وأدنى؛ فالاسمُ يتعَلَّقُ ببَعْضِها كما يتعَلَّقُ بكُلِّها، والحقيقةُ تَقْتَضي جميعَ شُعَبِها وتستوفي جملةَ أَجْزائِها، كالصَّلاةِ الشَّرعيَّةِ لها شُعَبٌ وأجزاءٌ، والاسمُ يتعَلَّقُ ببَعْضِها كما يتعَلَّقُ بكُلِّها، والحَقيقةُ تَقْتَضي جميعَ أجزائِها وتستوفيها. ويدُلُّ على ذلك قَولُه: ((الحَياءُ شُعبةٌ مِن الإيمانِ )) فأخبر أنَّ الحياءَ إِحْدى تلك الشُّعَبِ. وفي هذا البابِ إثباتُ التفاضُلِ في الإيمانِ وتبايُنِ المؤمِنينَ في دَرَجاتِه. ومعنى قَولِه: ((الحياءُ شُعبةٌ مِنَ الإيمانِ )) أنَّ الحياءَ يَقطَعُ صاحِبَه عن المعاصي ويَحجُزُه عنها، فصار بذلك من الإيمانِ؛ إذ الإيمانُ بمجموعِه ينقَسِمُ إلى ائتِمارٍ لِما أمر اللهُ به وانتِهاءٍ عمَّا نهى عنه)) [401] ينظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/ 312). .
إلَّا أنَّه ابتَدَع لنفسِه مَنهجًا في إثباتِ الصِّفاتِ وتأويلِها؛ فما جاء منها في كِتابِ اللهِ تعالى أو مِن طَريقِ التَّواتُرِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أثبَتَها وقال بها، وما جاء مِن طَريقِ الآحادِ أَوَّلَه؛ يقولُ: (الأصلُ في هذا وما أشبَهَه مِن أحاديثِ الصِّفاتِ والأسماءِ أنَّه لا يَجوزُ ذلك إلَّا أنْ يكونَ بكِتابٍ ناطقٍ أو خَبرٍ مَقطوعٍ بصِحَّتِه، فإنْ لم يَكونا، فبِما يَثبُتُ مِن أخبارِ الآحادِ المستنِدةِ إلى أصلٍ في الكتابِ أو في السُّنةِ المقطوعِ بصِحَّتِها، أو بمُوافَقةِ مَعانيها، وما كان بخلافِ ذلك، فالتَّوقُّفُ عن إطلاقِ الاسمِ به هو الواجبُ، ويُتأوَّلُ حينئذٍ على ما يَلِيقُ بمَعاني الأصولِ المتَّفَقِ عليها مِن أقاويلِ أهلِ الدِّينِ والعلمِ مع نَفيِ التَّشبيهِ فيه.
هذا هو الأصلُ الَّذي نَبْني عليه الكلامَ ونَعتمِدُه في هذا البابِ، وذِكرُ الأصابعِ لم يُوجَدْ في شَيءٍ مِن الكتابِ، ولا مِن السُّنَّةِ التي شَرْطُهَا في الثُّبوتِ ما وَصفناهُ، وليس مَعنى اليدِ في الصِّفاتِ بمعنى الجارحةِ حتى يُتوهَّمَ بثُبوتِها ثُبوتُ الأصابعِ، بل هو تَوقيفٌ شَرعيٌّ أطلَقْنا الاسمَ فيه على ما جاء به الكتابُ مِن غيرِ تَكييفٍ ولا تَشبيهٍ، فخَرَج بذلك عن أنْ يكونَ له أصلٌ في الكتابِ أو في السُّنَّةِ أو أنْ يكونَ على شَيءٍ مِن مَعانِيها) [402] ينظر: ((أعلام الحديث = شرح صحيح البخاري)) (3/ 1898). .
ولهذا أنكَرَ الكثيرَ مِن الصِّفاتِ، وتَأوَّلَها على غيرِ حَقيقتِها، كما فَعَل مع صِفاتِ الفرَحِ والضَّحِكِ والعُجبِ واليمينِ والقدَمِ والرِّجلِ، بل أدَّاه ذلك إلى مُخالَفةِ مَنهجِه؛ فذَهَبَ إلى تَأويلِ صِفةِ النُّزولِ والمَجيءِ الَّتي وَرَدت في الكتابِ وتَواتَرَت الأخبارُ بها، فقال: (وإنَّما يُنكِرُ هذا وما أشبَهَه مِن الحديثِ مَن يَقِيسُ الأمورَ في ذلك بما شاهَدَه مِن النُّزولِ الَّذي هو تَدَلٍّ مِن أعلى إلى أسفَلَ، وانتقالٌ مِن فوْقٍ إلى تحْتٍ، وهذه صِفةُ الأجسامِ والأشباحِ، فأمَّا نُزولُ مَن لا تَسْتولي عليه صِفاتُ الأجسامِ، فإنَّ هذه المعانيَ غيرُ مُتوهَّمةٍ فيه، وإنَّما هو خبرٌ عن قُدرتِه ورَأفتُه بعِبادِه، وعَطفُه عليهم، واستجابتُه دُعاءَهم، ومَغفرتُه لهم، يَفعَلُ ما يشاءُ، لا يَتوجَّهُ على صِفاتِه كَيفيَّةٌ، ولا على أفعالِه لمِّيَّةٌ، سُبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ) [403] ينظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 639). .
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:
كان من العِلمِ بمكانٍ عَظيمٍ، صالحٌ للاقتداءِ به والإصدارِ عنه، رحل في الحديثِ وقِراءةِ العُلومِ، وطَوَّف، ثم ألَّف في فُنونٍ مِنَ العِلمِ، وصَنَّف وفي شُيوخِه كَثرةٌ. وإذا وقف مُنصِفٌ على مُصَنَّفاتِه، واطَّلع على بديعِ تصَرُّفاتِه في مؤلَّفاتِه، تحقَّق إمامتَه وديانَتَه فيما يورِدُه وأمانَتَه.
ومن شِعْرِه:
وما غُربةُ الإنسانِ في شقَّةِ النَّوى
ولكِنَّها واللهِ في عَدَمِ الشكْلِ
وإني غريبٌ بين بُسْتٍ وأهْلِها
وإنْ كان فيها أُسْرَتي وبها أهْلِي [404] ينظر: ((يتيمة الدهر)) للثعالبي (4/383)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (3/1207).
ومن جَيِّدِه أيضًا:
فسامِحْ ولا تَستَوْفِ حَقَّك كُلَّه
وأبْقِ فلم يَستَقْصِ قَطُّ كَريمُ
ولا تَغْلُ في شَيءٍ مِنَ الأمرِ واقتَصِدْ
كِلا طَرَفَيْ قَصْدِ الأُمورِ ذَميمُ [405] ينظر: ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (2/215). .
مُصنَّفاتُه:
مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((مَعالِمُ السُّنَن))، وكتاب: ((غريب الحديث))، وكتاب: ((الشِّجاج))، وكتاب: ((شأنُ الدُّعاء))، وكتاب: ((إصلاح غَلَط المحَدِّثين))، وكتاب: ((شَرْح أسماءِ اللهِ الحُسنى))، وكتاب: ((الغنية عن الكلامِ وأهْلِه)).
وَفَاتُه:
تُوفِّي سَنةَ ثمانٍ وثَمانينَ وثلاثِ مِائة [406] يُنظر: ((قواطع الأدلة في الأصول)) لأبي المظفر السمعاني (2/ 273)، ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقفطي (1/ 160)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (17/ 23)، ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (3/ 282)، ((طبقات الشافعيين)) (ص: 307)، ((الروض الباسم في تراجم شيوخ الحاكم)) (1/ 470). .

انظر أيضا: