موسوعة الأخلاق والسلوك

عاشِرًا: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


ميزانُ الشَّرعِ هو معيارُ الاحترامِ والتَّوقيرِ.
إنَّ الميزانَ عِندَ اللَّهِ سُبحانَه يختَلِفُ عن موازينِ النَّاسِ؛ فكثيرًا ما يقيسُ النَّاسُ بعضُهم بعضًا بموازينِ الدُّنيا من الجاهِ والمالِ والسُّلطانِ، حتَّى قيل في المثَلِ: (إنَّ الرِّقِينَ [113] الرِّقِينَ: جَمعُ رِقةٍ، وهي الفِضَّةُ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 254). تُغَطِّي أَفْنَ الأفينِ [114] أي: تُغَطِّي حُمقَ الأحمَقِ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (34/ 182). . والمعنى أنَّ التَّوقيرَ والإجلالَ يُكتَسَبُ بوِجدانِ المالِ؛ فإنَّ المالَ يُحَلِّي المرءَ بحِليةِ الكَمالِ، ويَستُرُ ما فيه من ذميمِ الخِصالِ، ويُحَبِّبُه إلى قلوبِ الرِّجالِ، حتَّى يَرَوه بعينِ التَّوقيرِ والإجلالِ، وإن كان من أحمَقِ الحمقى وأجهَلِ الجُهَّالِ [115] يُنظَر: ((زهر الأكم في الأمثال والحكم)) لنور الدين اليوسي (1/ 109). .
أمَّا الميزانُ عِندَ اللَّهِ سُبحانَه فهو بتحقيقِ العبدِ للتَّقوى وقُربِه مِن رَبِّه. قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] .
وعن سَهلٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: مرَّ رَجُلٌ على رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ((ما تقولونَ في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إن خطَبَ أن يُنكَحَ، وإن شَفَع أن يُشفَعَ، وإن قال أن يُستَمَعَ، قال: ثمَّ سَكَت، فمَرَّ رجُلٌ من فقراءِ المُسلِمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حَريٌّ إن خَطَب ألَّا يُنكَحَ، وإن شَفَع ألَّا يُشفَعَ، وإن قال ألَّا يُستَمَعَ، فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا خيرٌ مِن مِلءِ الأرضِ مِثلَ هذا!)) [116] أخرجه البخاري (5091). .
احترامُ غيرِ المُسلِمينَ:
قال اللَّه تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة: 8] ، أي: لا ينهاكم اللَّهُ -أيُّها المُؤمِنون- عن الكافِرين الذين لم يقاتِلوكم من أجْلِ دينِكم من أقارِبِكم وغَيرِهم من الكُفَّارِ، ولم يُخرِجوكم من بلادِكم كما أخرجَكم كُفَّارُ مكَّةَ؛ أن تحسِنوا إليهم وتُكرِموهم، وتعدِلوا في تعامُلِكم معهم عدلًا تامًّا [117] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (22/571، 574)، ((تفسير ابن كثير)) (8/90)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/508)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/153). .
قال القَرافيُّ: (وأمَّا ما أمَر به من بِرِّهم ومن غيرِ مودَّةٍ باطنيَّةٍ، فالرِّفقُ بضعيفِهم، وسَدِّ خَلَّةِ فقيرِهم، وإطعامِ جائِعِهم، وإكساءِ عاريهم، ولِينِ القَولِ لهم -على سبيلِ اللُّطفِ لهم والرَّحمةِ لا على سبيلِ الخَوفِ والذِّلَّةِ- واحتمالِ إذايتِهم في الجوارِ مع القُدرةِ على إزالتِه -لُطفًا منَّا بهم لا خوفًا وتعظيمًا- والدُّعاءِ لهم بالهدايةِ وأن يُجعَلوا من أهلِ السَّعادةِ، ونصيحتِهم في جميعِ أمورِهم في دينِهم ودُنياهم، وحِفظِ غَيبتِهم إذا تعرَّض أحدٌ لأذيَّتِهم، وصَونِ أموالِهم وعيالِهم وأعراضِهم وجميعِ حُقوقِهم ومصالِحِهم، وأن يُعانوا على دَفعِ الظُّلمِ عنهم وإيصالِهم لجميِع حقوقِهم، وكُلِّ خيرٍ يَحسُنُ من الأعلى مع الأسفَلِ أن يفعَلَه، ومن العَدُوِّ أن يفعَلَه مع عَدُوِّه؛ فإن ذلك من مكارِمِ الأخلاقِ، فجَميعُ ما نفعَلُه معهم من ذلك ينبغي أن يكونَ من هذا القبيلِ لا على وَجهِ العِزَّةِ والجلالةِ مِنَّا، ولا على وجهِ التَّعظيمِ لهم وتحقيرِ أنفُسِنا بذلك الصَّنيعِ لهم... نعامِلُهم ... بما تقدَّم ذِكرُه امتثالًا لأمرِ رَبِّنا عزَّ وجَلَّ، وأمرِ نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا محبَّةً فيهم ولا تعظيمًا لهم) [118] ((الفروق)) للقرافي (3/ 15). .
بعضُ الأمورِ التي لا تتنافى مع الاحترامِ:
- إن استأذَنَ أحدٌ من أهلِ البُيوتِ في دُخولِ بُيوتِهم، فلم يأذَنوا، وقالوا له: انصَرِفْ، فلينصَرِفْ بلا غَضَبٍ، ومِثلُ هذا لا يتنافى مع الاحترامِ؛ فاللَّهُ تعالى يقولُ: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا [النور: 28] قال السَّعديُّ: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي: فلا تمتَنِعوا من الرُّجوعِ، ولا تغضَبوا منه؛ فإنَّ صاحِبَ المنزِلِ لم يمنَعْكم حقًّا واجبًا لكم، وإنَّما هو مُتبرِّعٌ، فإن شاء أذِن أو مَنَع، فأنتم لا يأخُذْ أحَدَكم الكِبرُ والاشمئزازُ من هذه الحالِ) [119] ((تفسير السعدي)) (ص: 565). .
- إن أُذِن للصَّغيرِ أن يتكَلَّمَ بحَضرةِ الكبيرِ بعِلمٍ، فلا يتنافى هذا مع احترامِ الكبيرِ وتوقيرِه؛ فعن ابنِ عباس، رَضِيَ اللَّهُ عنهما، قال: (كان عُمَرُ يدخِلُني مع أشياخِ بَدرٍ، فكأنَّ بعضَهم وجَدَ في نفسِه، فقال: لمَ تُدخِلُ هذا معنا ولنا أبناءٌ مِثلُه؟! فقال عُمَرُ: إنَّه من حيثُ عَلِمْتُم، فدعا ذاتَ ليلةٍ فأدخله معهم، فما رُئِيتُ أنَّه دعاني يومَئذٍ إلَّا ليُريَهم، قال: ما تقولون في قَولِ اللهِ تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1] ؟ فقال بعضُهم: أُمِرْنا أن نحمَدَ اللهَ ونستغفِرَه إذا نُصِرْنا وفُتِحَ علينا. وسكت بعضُهم فلم يقُلْ شيئًا، فقال لي: أكذاك تقولُ يا ابنَ عبَّاسٍ؟ فقُلتُ: لا، قال: فما تقولُ؟ قُلتُ: هو أجَلُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعلَمَه له، قال: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فتحُ مَكَّةَ، وذلك علامةُ أجَلِك؛ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 3] فقال عُمَرُ: ما أعلَمُ منها إلَّا ما تقولُ) [120] أخرجه البخاري (4294). .

انظر أيضا: