موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: مظاهِرُ وصُوَرُ خُلْفِ الوَعْدِ


لخُلْفِ الوَعْدِ مظاهِرُ وصُوَرٌ كثيرةٌ يَجِبُ على المُسلِمِ الحِرصُ على ألَّا يقَعَ في صورةٍ منها؛ فالمُسلِمُ مُلتَزِمٌ بتعاليمِ دينِه النَّاهيةِ عن خُلْفِ الوَعْدِ، الآمِرةِ بالوفاءِ وحُسنِ العَهدِ، ومِن صُوَرِ خُلْفِ الوَعْدِ التي ينبغي تجنُّبُها:
1- خُلْفُ الوَعْدِ مع اللَّهِ سُبحانَه، وهو حالُ المُنافِقين الذي يَكذِبون في أقوالِهم، ولا يتورَّعون عن إخلافِ وُعودِهم ولو كانت مع رَبِّهم.
قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة: 75 - 77] .
قال ابنُ زيدٍ: (هؤلاء صِنفٌ من المُنافِقين، فلمَّا آتاهم ذلك بَخِلوا به، فلمَّا بَخِلوا بذلك أعقَبَهم بذلك نفاقًا إلى يومِ يَلقَونَه، ليس لهم منه توبةٌ ولا مغفرةٌ ولا عَفوٌ، كما أصاب إبليسَ حينَ منَعَه التَّوبةَ) [3181] ((جامع البيان)) لابن جرير الطبري (11/ 583). .
وقال الطَّبَريُّ: (في هذه الآيةِ الإبانةُ من اللَّهِ جَلَّ ثناؤه عن علامةِ أهلِ النِّفاقِ) [3182] ((جامع البيان)) (11/ 583). .
وقال الواحِديُّ: (قَولُه: إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ دليلٌ على أنَّه مات مُنافِقًا بإخلافِه وَعدَ اللَّهِ، وكَذِبِه في عَهدِه، وهو قَولُه: بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [3183] ((الوسيط)) (2/514). .
(فلْيَحذَرِ العبدُ من هذا الوَصفِ الشَّنيعِ؛ أن يعاهِدَ رَبَّه على عَمَلٍ صالحٍ ثمَّ لا يفيَ بذلك، فإنَّه رُبَّما عاقبه اللَّهُ بالنِّفاقِ كما عاقَب هؤلاء، فهذا المُنافِقُ الذي عاهَد اللَّهَ لَئِنْ أعطاه اللَّهُ مِن فَضلِه ليَصَّدَّقَنَّ وليَكونَنَّ من الصَّالحينَ، عاهَد فغَدَر، ووَعَد فأخلَفَ، وحَدَّث فكَذَب، وتلك علاماتُ المُنافِقِ) [3184] ((موسوعة فقه القلوب)) لمحمد بن إبراهيم التويجري (4/3297). .
2- خُلْفُ الحليفِ وَعدَه مع حليفِه، والإخلالُ بما جرى من معاهَداتٍ، ومن ذلك ما وَقَع من ثقيفٍ حُلَفاءِ بني عَقيلٍ في خُلفِهم الوَعْدَ مع رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: ((كانت ثَقيفٌ حُلَفاءَ لبني عُقَيلٍ، فأسَرَت ثَقيفٌ رَجُلينِ من أصحابِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأسَر أصحابُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجُلًا من بني عُقَيلٍ، وأصابوا معه العَضباءَ، فأتى عليه رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو في الوَثاقِ، قال: يا محمَّدُ، فأتاه، فقال: ما شأنُك؟ فقال: بمَ أخَذْتَني، وبم أخَذْتَ سابقةَ الحاجِّ؟ فقال إعظامًا لذلك: أخَذْتُك بجَريرةِ حُلَفائِك ثقيفٍ)) [3185] أخرجه مسلم (1641). .
قال القُرطبيُّ: («أخَذْتُك بجَريرةِ حُلَفائِك ثَقيفٍ» أي: بما فعلَتْه ثَقيفٌ من الجنايةِ التي نَقَضوا بها ما كان بَيْنَهم وبينَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من العهدِ، وكانت بنو عُقَيلٍ دخلوا معهم في ذلك... والظَّاهِرُ أنَّهم دخلوا معهم بحُكمِ الحِلفِ الذي كان بَيْنَهم؛ ولذلك ذَكَر حِلْفَهم في الحديثِ، ولمَّا سَمِع الرَّجُلُ ذلك لم يجِدْ جَوابًا، فسَكَت) [3186] ((المفهم)) (4/ 610). .
وقال الطِّيبيُّ: (الجَريرةُ: الجنايةُ والذَّنبُ، وذلك أنَّه كان بَيْنَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبينَ ثَقيفٍ موادَعةٌ، فلمَّا نقضوها ولم ينكِرْ عليهم بنو عُقيلٍ وكانوا معهم في العَهدِ، صاروا مِثْلَهم في نقضِ العَهدِ، فأخَذَه بجَريرتِهم) [3187] ((الكاشف عن حقائق السنن)) (9/ 2746). .
وقال تعالى عن المُنافِقين: وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [الأحزاب: 15] .
(أي: ولقد كان هؤلاء المُنافِقون قد حلَفوا من قَبلِ غَزوةِ الأحزابِ أنَّهم سيكونون معكم في الدِّفاعِ عن الحَقِّ وعن المدينةِ المنَوَّرةِ التي يساكِنونَكم فيها، ولكِنَّهم لم يفوا بعهودِهم.
وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا أي: مسئولًا عنه صاحِبُه الذي عاهَد اللَّهَ تعالى على الوفاءِ، وسيُجازي سُبحانَه كُلَّ ناقضٍ لعَهدِه بما يستحِقُّه من عقابٍ) [3188] ((التفسير الوسيط)) لطنطاوي (11/ 186). .
3- خُلْفُ الوَعْدِ مع العَدُوِّ ومباغتتُه دونَ إعلامٍ بذلك، وهذا لا يجوزُ؛ فالمُسلِمون لا يَعرِفون الخيانةَ ولا يَنقُضون عهدًا ولا يخلِفون وعدًا، حتَّى لو كان ذلك العهدُ أو الوَعْدُ مع عَدُوِّهم.
قال تعالى: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال: 58] .
(يقولُ تعالى لنبيِّه صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ قد عاهَدْتَهم خِيَانَةً أي: نقضًا لِما بينك وبَيْنَهم من المواثيقِ والعهودِ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أي: عهدَهم عَلَى سَوَاءٍ أي: أعلِمْهم بأنَّك قد نقَضْتَ عَهدَهم حتَّى يبقى عِلمُك وعِلمُهم بأنَّك حَربٌ لهم وهم حربٌ لك، وأنَّه لا عهدَ بينك وبَيْنَهم- على السَّواءِ، أي: تستوي أنت وهم في ذلك) [3189] ((تفسير ابن كثير)) (4/ 79). .
عن سُلَيمِ بنِ عامِرٍ قال: كان بَينَ مُعاوِيةَ والرُّومِ عَهدٌ، وكان يَسيرُ نَحوَ بِلادِهم ليَقرُبَ، حتَّى إذا انقَضى العَهدُ غَزاهم، فجاءَ رَجُلٌ على فَرَسٍ أو بِرْذَونٍ [3190] البِرذَونُ: الدَّابَّةُ. يُنظَر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 1180). وهو يَقولُ: اللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ، وفاءً لا غَدرَ، فنَظَروا فإذا عَمرُو بنُ عَبَسةَ، فأرسَلَ إليه مُعاوِيةُ فسَألَه، فقالَ: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقولُ: ((مَن كانَ بَينَه وبَينَ قَومٍ عَهدٌ فلا يَشُدَّ عُقدةً ولا يَحُلَّها حتَّى يَنقَضيَ أمَدُها، أو يَنبِذَ إليهم على سَواءٍ)) فرَجَع معاويةُ [3191] أخرجه أبو داود (2759) واللفظ له، والترمذي (1580)، وأحمد (19436). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (4871)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (120)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2759)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2759). .
قال الشَّوكانيُّ: («فلا يَحُلَّنَّ عُقدةً» استعار عُقدةَ الحبلِ لِما يقعُ بَيْنَ المُسلِمين من المعاهَدةِ، ونهى عن حَلِّها، أي: نَقضِها وشَدِّها، أي: تأكيدِها بشيءٍ لم يقَعِ التَّصالحُ عليه، بل الواجِبُ الوفاءُ بها على الصِّفةِ التي كان وقوعُها عليها بلا زيادةٍ ولا نُقصانٍ) [3192] ((نيل الأوطار)) (8/61). .
وعن حُذَيفةَ بنِ اليَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، قال: ((ما منَعَني أن أشهَدَ بَدرًا إلَّا أني خرَجتُ أنا وأبي حُسَيلٌ [3193] حُسَيلٌ: هو اسمُ اليَمانِ والِدِ حُذَيفةَ. يُنظَر: ((تقريب التهذيب)) لابن حجر (ص: 154). ، قال: فأخَذَنا كُفَّارُ قُرَيشٍ، قالوا: إنَّكم تريدون محمَّدًا، فقُلْنا: ما نريدُه، ما نريدُ إلَّا المدينةَ، فأخذوا منا عَهدَ اللهِ وميثاقَه لننصَرِفَنَّ إلى المدينةِ، ولا نقاتِلُ معه، فأتينا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرْناه الخبرَ، فقال: انصَرِفا، نَفِي لهم بعَهْدِهم، ونستعينُ اللهَ عليهم!)) [3194] أخرجه مسلم (1787). .
قال النَّوويُّ: (اتَّفَقَ العُلَماءُ على جوازِ خِداعِ الكُفَّارِ في الحَربِ، وكيف أمكَن الخِداعُ، إلَّا أن يكونَ فيه نَقضُ عَهدٍ أو أمانٍ، فلا يَحِلُّ) [3195] ((شرح مسلم)) (12/ 45). .
4- خُلْفُ الوَعْدِ على عَطيَّةٍ أو هبةٍ مُسَمَّاةٍ، ولا شَكَّ أنَّ ذلك قادِحٌ في صاحِبِه إن فعَلَ ذلك عن قَصدٍ وعَمدٍ، أو كان عازِمًا على الخُلْفِ ابتداءً، أمَّا إن وَقَع الخُلْفُ منه عن سَهوٍ أو نسيانٍ واستدركه بالوفاءِ فلا يُعَدُّ خُلفًا للوَعدِ.
قيل: ماتت للهُذَليِّ أمُّ وَلَدٍ، فأمَر المنصورُ الرَّبيعَ أن يُعَزِّيَه ويقولَ له: إنَّ أميرَ المُؤمِنين موجِّهٌ إليك جاريةً نفيسةً لها أدَبٌ وظَرفٌ يُسَلِّيك بها، وأمَر لك معها بفَرَسٍ وكِسوةٍ وصِلةٍ، فلم يَزَلِ الهُذَليُّ يتوقَّعُ وَعدَ أميرِ المُؤمِنين، ونَسِيَه المنصورُ، فحَجَّ المنصورُ ومعه الهُذَليُّ، فقال المنصورُ وهو بالمدينةِ: إنِّي أحِبُّ أن أطوفَ اللَّيلةَ المدينةَ فاطلُبْ لي مَن يطوفُ بي. فقال الهُذَليُّ: أنا لها يا أميرَ المُؤمِنينَ، فطاف به حتَّى وصَلَ بيتَ عاتكةَ، فقال: يا أميرَ المُؤمِنينَ، وهذا بيتُ عاتِكةَ الذي يقولُ فيه الأحوصُ:
يا بيتَ عاتِكةَ الذي أتعَزَّلُ [3196] أتعَزَّلُ: أي: أتجنَّبُه وأكونُ عنه بمَعزِلٍ. يُنظَر: ((خزانة الأدب)) للبغدادي (2/ 50).
حَذَرَ العِدا وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ [3197] وبه الفؤادُ مُوَكَّلٌ، من وكَّلْتُه بأمرِ كذا: فوَّضْتُه إليه. يُنظَر: ((خزانة الأدب)) للبغدادي (2/ 50).
إنِّي لأمنَحُك الصُّدودَ وإنَّني
قَسَمًا إليك مع الصُّدودِ لأَمْيَلُ
فكَرِهَ المنصورُ ذِكرَ بَيتِ عاتِكةَ من غيرِ أن يسألَه عنه، فلمَّا رجع المنصورُ أمَرَّ القصيدةَ على قَلبِه فإذا فيها:
وأراكَ تَفعَلُ ما تقولُ وبعضُهم
مَذِقُ اللِّسانِ [3198] مَذِقُ اللِّسانِ: أي: كاذِبٌ يقولُ ولا يفعَلُ. يُنظَر: ((نجعة الرائد)) لليازجي (2/ 159). يقولُ ما لا يَفعَلُ
فذَكَر المنصورُ الوَعْدَ الذي كان وَعَد به الهُذَليَّ، فأنجزَه له واعتَذَر إليه [3199] ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (3/ 285، 286)، ((المستطرف في كل فن مستطرف)) للأبشيهي (ص: 207). .
5- خُلْفُ الوَعْدِ بَيْنَ الزَّوجين أو مِن أحَدِهما، فإذا تواعَد الزَّوجانِ على أمرٍ، فينبغي عليهما الوفاءُ به وعَدَمُ إخلافِه:
 وممَّا يُذكَرُ أنَّه تزَوَّج رجلٌ بابنةِ عَمٍّ له يُقالُ لها ربابٌ، وتعاهدا على ألَّا يتزوَّجَ أحدُهما بعدَ مَوتِ الآخَرِ، فهلك الرَّجُلُ، فلم تلبَثِ المرأةُ أن تزوَّجَت، فلمَّا كان ليلةَ البناءِ بها نامت في أوَّلِ اللَّيلِ، فأتاها آتٍ في المنامِ، فقال:
حَيَّيتُ ساكِنَ هذا البيتِ كُلَّهم
إلَّا الرَّبابَ فإنِّي لا أُحَيِّيها
قد كنتُ أحسَبُها للعَهدِ حافِظةً
حتَّى تهونَ وما جَفَّت مآقيها [3200] جمعُ مأقًى، ومأقى العينِ ومُؤقُها: طَرَفُها ممَّا يلي الأنَفَ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (4/ 1553).
استبدَلَت بدَلًا غيري وقد عَلِمَت
أنَّ القبورَ تُواري مَن ثوى فيها
أمسَت عَروسًا وأمسى منزلي جَدَثًا [3201] الجَدَثُ: القَبرُ. يُنظَر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/ 414).
تحتَ التُّرابِ وإنِّي لا أُلاقيها
فقامت المرأةُ فَزِعةً فقالت: لا يجتَمِعُ رأسي ورأسُ هذا أبدًا، فاختلَعَت مِن زَوجِها ودفَعَت إليه كُلَّ قليلٍ وكثيرٍ هو لها [3202] يُنظَر: ((اعتلال القلوب)) للخرائطي (447)، ((محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء)) للراغب (2/ 241). !
6- خُلْفُ الوَعْدِ في المعاملاتِ والعُقودِ التي لا محظورَ فيها، سواءٌ كانت هذه العقودُ مُبرَمةً بَيْنَ المُسلِمين، أو بَيْنَ المُسلِمِ وغيرِ المُسلِم، أو كانت معاملاتٍ ماليَّةً أو غيرَ ماليَّةٍ، فالمُسلِمُ مأمورٌ بالوفاءِ في وُعودِه وعَدَمِ الإخلافِ.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] .
قال السَّعديُّ: (هذا أمرٌ من اللَّهِ تعالى لعبادِه المُؤمِنين بما يقتضيه الإيمانُ بالوفاءِ بالعُقودِ، أي: بإكمالِها وإتمامِها وعدَمِ نَقضِها ونَقصِها. وهذا شامِلٌ للعقودِ التي بَيْنَ العبدِ وبينَ رَبِّه من التِزامِ عُبوديَّتِه، والقيامِ بها أتَمَّ قيامٍ، وعَدَمِ الانتقاصِ من حقوقِها شيئًا، والتي بينَه وبينَ الرَّسولِ بطاعتِه واتِّباعِه، والتي بينَه وبينَ الوالِدَينِ والأقارِبِ، ببِرِّهم وصِلَتِهم، وعَدَمِ قطيعتِهم، والتي بينَه وبينَ أصحابِه من القيامِ بحقوقِ الصُّحبةِ في الغِنى والفَقرِ، واليُسرِ والعُسرِ، والتي بينَه وبينَ الخَلقِ من عُقودِ المعاملاتِ، كالبيعِ والإجارةِ ونحوِهما، وعقودِ التَّبَرُّعاتِ كالهِبةِ ونحوِها، بل والقيامِ بحقوقِ المُسلِمين التي عقَدَها اللَّهُ بَيْنَهم في قولِه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ بالتَّناصُرِ على الحَقِّ، والتَّعاوُنِ عليه، والتَّآلُفِ بَيْنَ المُسلِمين وعَدَمِ التَّقاطُعِ) [3203] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 218). .
7- خُلْفُ الوَعْدِ فيما اشتَرَطه الإنسانُ على نفسِه؛ فإنَّ مَن اشترط على نفسِه لغيرِه شَرطًا وَجَب عليه الوفاءُ به.
(قال ابنُ عَونٍ عن ابنِ سِيرينَ، قال رجُلٌ لكَرِيِّهِ [3204] الكَرِيُّ: الأجيرُ والذي يَكريك دابَّتَه. يُنظَر: ((المعجم الوسيط)) (2/ 785). : أرحِلْ رِكابَك [3205] (أرحِلْ) أمرٌ من الإرحالِ. (رِكابَك): الإبِلُ التي يسارُ عليها، والمعنى: اجعَلْ عليها الرَّحْلَ لأرحَلَ معك يومَ كذا، ويروى (أدخِلْ) أمرٌ من الإدخالِ. يُنظَر: ((منحة الباري بشرح صحيح البخاري)) لزكريا الأنصاري (5/ 541). ، فإنْ لم أرحَلْ معك يومَ كذا وكذا فلك مائةُ دِرهَمٍ، فلم يخرُجْ، فقال شُرَيحٌ: مَن شَرَط على نفسِه طائعًا غيرَ مُكرَهٍ فهو عليه. وقال أيُّوبُ عن ابنِ سيرينَ: إنَّ رَجُلًا باع طعامًا، وقال: إنْ لم آتِك الأربِعاءَ فليس بيني وبينَك بَيعٌ، فلم يجئْ، فقال شُريحٌ للمُشتري: أنت أخلَفْتَ، فقضى عليه) [3206] ((صحيح البخاري)) (3/198). .
8- خُلْفُ الوَعْدِ مع الأولادِ؛ فكثيرٌ من الوالِدَين إذا أراد التَّحايُلَ على طِفلِه تجِدُه يَعِدُه بهَدِيَّةٍ أو حلوى أو نحوِ ذلك، ثمَّ يُخلِفُ ما وَعَد به، فهذا ممَّا يُعَوِّدُ الطِّفلَ إخلافَ الوَعْدِ، فينشَأُ وقد ألِفَ هذه الخَصلةَ السَّيِّئةَ.
9- خُلْفُ الوَعْدِ تحتَ مُسَمَّى المُزاحِ، فيحصُلُ أن يقومَ شَخصٌ بدَعوةِ أصحابِه في مكانٍ محدَّدٍ، وفي زمانٍ محدَّدٍ، ورُبَّما كان المكانُ بعيدًا، فيُخبِرُهم بأنَّه سيُحضِرُ لهم الطَّعامَ في ذلك المكانِ والزَّمانِ المحَدَّدينِ، مع أنَّه قد بَيَّت النِّيَّةَ بالخُلْفِ، فإذا ما جاؤوا لذلك المكانِ لم يجِدوا ما وُعِدوا به! وربَّما طال بهم الانتظارُ، فإذا أَيِسوا عادوا أدراجَهم، فهذا الرَّجُلُ جمَعَ بصنيعِه هذا عددًا من الأعمالِ القبيحةِ؛ فجمَعَ بَيْنَ الكَذِبِ، وقِلَّةِ الحياءِ، وإخلافِ الوَعْدِ، وأذيَّةِ المُسلِمين [3207] يُنظَر: ((سوء الخلق)) لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص: 42-43). .
10- خُلْفُ الوَعْدِ في إعطاءِ المواعيدِ، وهذا كثيرٌ في هذا الزَّمانِ، وكثيرٌ من النَّاسِ يتهاوَنُ فيه ولا يعبَأُ بضَرَرِه، فما أقَلَّ مَن يَضبِطُ مواعيدَه! وما أكثَرَ الآثارَ المترتِّبةَ على ذلك! فتأخُّرُك عن موعدٍ معناه ضياعُ وَقتِ مَن وعَدْتَه، وفي ذلك تَعَدٍّ على أوقاتٍ رُبَّما خُصِّصَت لواجباتٍ أُخرى، ويدخُلُ في ذلك التَّأخُّرُ في إرجاعِ الكُتُبِ المستعارةِ، فيَحصُلُ كثيرًا أن يأتيَ أحدٌ لصاحِبِ مكتبةٍ، أو طالِبِ عِلمٍ لديه مكتبةٌ، فيَطلُبُ منه أن يُعيرَه كِتابًا، ويَعِدُه بأن يُرجِعَه في أقرَبِ وَقتٍ، فإذا ما أخَذ الكتابَ وحصَل منه على الفائدةِ التي يرجوها تأخَّر في إرجاعِ الكِتابِ، وماطَل في ذلك كثيرًا، بل رُبَّما أضاعَه، حتَّى إنَّ صاحِبَ الكتابِ لَيَستحيي من كثرةِ التَّودُّدِ إليه، والتَّردُّدِ عليه؛ كي يَرجِعَ الكتابَ [3208] يُنظَر: ((سوء الخلق)) لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص: 42-43). !

انظر أيضا: