موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نماذِجُ في الأمانةِ من الأُمَمِ الماضيةِ


- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اشترى رجلٌ مِن رجُلٍ عَقَارًا له، فوجَد الرَّجُلُ الذي اشترى العَقَارَ في عَقَارِه جَرَّةً فيها ذَهَبٌ، فقال له الذي اشتَرى العَقَارَ: خُذْ ذهَبَك مِنِّي؛ إنَّما اشتريتُ منك الأرضَ، ولم أبْتَعْ منك الذَّهَبَ! فقال الذي شَرى الأرضَ: إنَّما بِعتُك الأرضَ وما فيها! فتَحاكما إلى رجُلٍ، فقال الذي تَحاكَما إليه: ألَكُما وَلَدٌ؟ فقال أحدُهما: لي غلامٌ، وقال الآخَرُ: لي جاريةٌ، قال: أنْكِحوا الغُلامَ الجاريةَ، وأنْفِقوا على أنفُسِكما منه، وتَصدَّقا)) [876] أخرجه البخاري (3472)، ومسلم (1721) واللفظ له. .
فالرَّجُلُ الأوَّلُ اشترى عَقَارًا من الرَّجُلِ الثَّاني، والعَقَارُ هو الأرضُ وما يتَّصِلُ بها من البناءِ والأشجارِ، فلمَّا وجَد الذَّهبَ تورَّع عنه وعدَّه أمانةً، فرَدَّه إلى البائِعِ، لكِنَّ البائِعَ قال: إنَّما بِعتُك الأرضَ وما فيها، ولَمَّا رأى القاضي (صِدقَ نيَّتِهما ونصيحةَ كلِّ واحدٍ منهما لصاحِبِه، راعى جانِبَ كُلٍّ منهما في ذلك) [877] يُنظَر: ((لمعات التنقيح)) لعبد الحق بن سيف الدهلوي (5/ 584). ، فأمَرَهما أن يزَوِّجا ابنَ هذا لابنةِ ذاك.
- وعنه أيضًا، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّه ذَكرَ رَجُلًا من بني إسرائيلَ، سَأل بَعضَ بني إسرائيلَ أن يُسلِفَه ألْفَ دينارٍ، فقال: ائتِني بالشُّهداءِ أُشهِدْهم، فقال: كفى بالله شَهيدًا! قال: فأْتِني بالكفيلِ، قال: كفى باللهِ كفيلًا! قال: صَدَقْتَ، فدَفعَها إليه إلى أجلٍ مُسَمًّى، فخَرجَ في البَحرِ فقَضى حاجَتَه، ثُمَّ التمَسَ مركبًا يركبُها يَقدَمُ عليه للأجلِ الذي أجَّلَه، فلم يَجِد مركبًا، فأخذَ خَشَبةً فنَقَرَها، فأدخَلَ فيها ألْفَ دينارٍ وصَحيفةً منه إلى صاحِبِه، ثُمَّ زَجَّجَ [878] زجَّج: أي: سَوَّى موضِعَ النَّقرِ وأصلَحَه؛ مِن: تزجيجِ الحواجِبِ، وهو حَذفُ زوائدِ الشَّعرِ. انظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (2/287). مَوضِعَها، ثُمَّ أتى بها إلى البَحرِ، فقال: اللهُمَّ إنَّك تَعلمُ أنِّي كُنتُ تَسلَّفتُ فلانًا ألفَ دينارٍ، فسَألَني كفيلًا، فقُلتُ: كفى باللهِ كفيلًا، فرَضِيَ بك، وسألَني شهيدًا فقُلتُ: كفى بالله شَهيدًا، فرَضِيَ بك، وأنِّي جَهَدْتُ [879] الجُهدُ: بُلوغُك غايةَ الأمرِ الذي لا تألو على الجُهدِ فيه. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (3/133). أن أجِدَ مركبًا أبعَثُ إليه الذي له، فلمْ أقدِرْ، وإنِّي أستَودِعُكَها، فرمى بها في البَحرِ حَتى ولَجَت [880] الوُلوجُ: الدُّخولُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (2/399). فيه، ثُمَّ انصَرَف وهو في ذلك يلتَمِسُ مركَبًا يخرُجُ إلى بَلَدِه، فخَرجَ الرَّجُلُ الذي كانَ أسلَفَه يَنظُرُ لعَلَّ مركبًا قد جاءَ بمالِه، فإذا بالخَشَبةِ التي فيها المالُ، فأخذَها لأهلِه حَطَبًا، فلمَّا نَشَرها وجَدَ المالَ والصَّحيفةَ! ثُمَّ قدِمَ الذي كانَ أسلَفَه فأتى بالألفِ دينارٍ، فقال: واللهِ ما زِلْتُ جاهدًا في طَلَبِ مركبٍ لآتِيَك بمالِك فما وجَدْتُ مَركَبًا قبلَ الذي أتيتُ فيه، قال: هَل كُنتَ بَعَثْتَ إليَّ بشيءٍ؟ قال: أخبِرُك أنِّي لم أجِدْ مركبًا قَبلَ الذي جِئْتُ فيه، قال: فإنَّ اللهَ قد أدَّى عَنك الذي بَعَثْتَ في الخَشَبةِ! فانصَرِفْ بالألفِ الدِّينارِ راشِدًا)) [881] أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغةِ الجزمِ (3472) واللفظ له، ورواه موصولًا (2063) دونَ ذِكرِ لفظِه. .
ففي هذا الحديثِ يظهَرُ أنَّ الرَّجُلينِ رَضِيَا باللهِ كفيلًا بينهما وشاهِدًا على الدَّينِ، وأنَّ المَدينَ استفرغ جُهدَه في الرُّجوعِ إلى بلَدِه؛ ليَرُدَّ دَينَه الذي هو أمانةٌ عندَه، ثمَّ إنَّه لمَّا ألقى المالَ في البحرِ واستودعه اللهَ، تكفَّل اللهُ سُبحانَه به وأوصله إلى صاحِبِ الدَّينِ، دونَ أن يعرِفَ المدينُ أنَّه قد وصَله، ولمَّا تيسَّر للمَدينِ الرُّجوعُ إلى بلَدِه ذهَب ليدفَعَ الدَّينَ الذي عليه للدَّائِنِ، فكان الدَّائِنُ أيضًا أمينًا؛ حيثُ اعترف أنَّ مالَه قد وصَل إليه وأقرَّ به أمامَ المدينِ، وقال له: (فانصَرِفْ بالألفِ الدِّينارِ راشِدًا)، وهكذا ظهَرت أمانتُهما [882] يُنظَر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (7/299- 301)، ((الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري)) للكوراني (5/ 10)، ((منحة الباري بشرح صحيح البخاري)) لزكريا الأنصاري (5/ 48). .
وفيه: أنَّ اللهَ تعالى متكَفِّلٌ بعونِ من أراد أداءَ الأمانةِ، وأنَّ اللهَ يجازي أهلَ الإرفاقِ بالمالِ بحِفظِه عليهم مع أجرِ الآخِرةِ، كما حَفِظه على المُسلِفِ [883] ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) (9/ 99). .

انظر أيضا: